لا بد للأمر من نهاية
تعنُّت ومضايَقات، أشياء متقادِمة لا تعلم عنها السيدة جروسكورت أي شيء. إنهم يريدون التنصت ومعرفة كل شيء، يريدون تخويفها، لا شيء غير ذلك.
ولكن كيف يكون ردُّ فعلها بعد أن خارت قواها تمامًا بسبب القضايا الأخرى؟ هل تجيب بأنها لا تستطيع إطلاقًا الإجابة على معظم الأسئلة المطروحة بخصوص اللجنة؟ وبذلك تجلب لنفسها الجرعة التالية من السُّم، أم سحب الدعوى؛ لأن القضايا الأخرى أكثر أهميةً، قضايا وجودية؟ هل تستسلم إذن، وهي المنهكة إنهاكًا تامًّا من جرَّاء تكرار الحُجج نفسها في كل مرة؟ ولأنها ستدفع هنا أيضًا مئات من الماركات؟ هل تستغني عن جواز السفر؟ عن السفر إلى الغرب؟
كلَّا، لم تَعُد قواها تتحمَّل ثلاث قضايا. تعرف المحامية طريقًا منقِذًا. لا تقوم بسحب الدعوى، لن تمنح رئيس الشرطة الفرصة ليشمت منتصرًا. يجب صدور الحكم في القضايا الأخرى أولًا التي تتعرض لنقاط الخلاف نفسها، ولهذا تَطلُب تعليق هذه القضية مؤقتًا.
ولكنها لا تنعم بالهدوء؛ في ديسمبر ١٩٥٧م كان قد مَر عام كامل على النزاع حول «الإضرار بالحياة والإضرار بالحرية»، الحجج تزداد وتتكرر.
وبينما راحت محكمة الولاية تفحص هذه الحجج، أو تدَّعي فحْصها، تحرَّرَت أناليزه من الخوف: لم يسبق لمذكرة قانونية من المذكرات الكثيرة التي قُدِّمت أن كانت بمثل هذه الموضوعية، وبمثل هذا الاتقان والوضوح والتفصيل والحماس، لن يستطيع أحد الآن أن يُشهِّر بها باعتبارها شيوعية شريرة.
عندئذٍ تبخ عليها أفعى مصلحة التعويض جرعة السم الجديدة القديمة: نازية! الرابطة النازية للنساء! كذابة!
تَمْرَض، لم تَعُد تستطيع؛ لقد مرَّت بثلاث قضايا، وأُجبرت على خوض قضيتين. القضيتان تُؤجَّلان، وملفها يتضخم مع الأيام. شرَحَت كل شيء مئات المرات، وعليها أن تشرحه مئات أخرى. ولكن أن تفتري عليها محكمة الولاية وتَصِفها بالنازية، فهذا شيء يصيبها في مَقتل ويجعلها تترنَّح ويُوقِف نبْض قلبها. طوال خريف ١٩٥٧م وحتى منتصف الشتاء كان عليها أن تُصارع وباء الإنفلونزا، ليلًا ونهارًا، غربًا وشرقًا. المَرضَى أولًا ثم القضايا، شعارٌ كثيرًا ما أثار غضب محاميتها النشيطة. والآن ها هي الأنفلونزا الرهيبة ترمي بها هي أيضًا على الفراش، طيلة شهر يناير، العيادة مُغلَقة، لا بُدَّ من البحث عن طبيب ينوب عنها. تُصارِع للبقاء على قيد الحياة. محمومةً ترى نفسها وسط أدغال آلاف الإهانات الوضيعة التي أصابتها من الأحكام القضائية والمُذكِّرات القانونية، خلال حرب الاتهامات، تعود بها الحُمَّى إلى إرهاب المكالَمات التليفونية الليلية، إلى الأيام التي كانت تسمع فيها سِباب الزملاء والمَرضى. تقذِف بها الحمى إلى سنوات الماضي الذي لم تكن تريد أن تَتذكَّره أبدًا، زنازين الانتظار الانفرادي قبل أن يحقق الجستابو معها في قبو «برنتس ألبرشت شتراسه»، الصَّمْت أثناء التحقيقات، الليالي التي قضَتْها وهي تسمع صفارات إنذار الغارات في الطابق الأعلى من سجن الشرطة، عندما سُمح لكل السجناء بالنزول إلى المخبأ، ولم يسمحوا لها. محمومةً تقف أمام محكمة الشعب العليا، وتسمع صوت فرايزلر، وترى المنشورات. لا، لا، لا تريد مرَّة أخرى أن تشعر بوخزات ألم تلك المنشورات السياسية. روبرت هو الوحيد الذي يستطيع مساعدتها اليوم، لا بُدَّ أن ينقذها روبرت.
أخيرًا استطاعَت الاتصال بالصديق. يكتب إقرارًا شارحًا لماذا كانت العضوية في الرابطة النازية للنساء ضرورية للتمويه آنذاك. يُوضِّح عمل المجموعة، يتحدَّث عن اليهود الذين خبَّأَهم آل جروسكورت في شقتهم، يمتدح — مبالِغًا بعض الشيء — المُساعَدة متنوعة الأوجه التي قامت بها أناليزه لدى تقديم المخبأ لليهود وإمدادهم بالمواد الغذائية، في الحصول على أموال وفي تزوير الجوازات واستخراج شهادات طبية مزوَّرة، وكذلك في توصيل المعلومات. يصف روبرت الأخطار التي عرَّضَت نفسها لها من أجل المجموعة. يشرح بالتفصيل الأسباب التي حملت المجموعة على الإلحاح عليها للانضمام إلى الرابطة النازية للنساء. ويعلن عن استعداده للشهادة بذلك.
تظن أن الإقرار هو خلاصها، لكن المحامية تطالب بالمزيد: هل هناك يهود نَجَوا من المُلاحَقة؟ أسماء؟ مَن زوَّر الجوازات؟ مَن وزَّع المواد الغذائية؟ مات الشهود، لم يقم أحد بالبحث والتقصِّي عن نشاط المجموعة، والشبكة التي اعتمدَت عليها، أفراد يمكن عَدُّهم على أصابع اليد الواحدة، هم الذين ما زالوا يعرفون مجموعة الاتحاد الأوروبي. رغمًا عنها تستكمل شرح روبرت، وتصف بالتفاصيل الوضع المأساوي الذي وجد جروسكورت فيه نفسه بعد أن طالبه هيس بالانضمام للحزب. كلما تَذكَّرَت تفصيلًا، وخَزَها الألم.
مثل هذا المنطق قد يتبناه محامي الخصم، وليس قضاة محكمة الولاية. القضاة، أين هم؟ ماذا يفعلون؟ فيمَ يفكرون؟ إنهم يتكئون باسترخاء على مَقاعدهم، طوال أشهر، يدرسون الأحكام الصادرة من محكمة العمل والمحكمة الإدارية، يَستقصون الأمر لدى المحكمة الإدارية العليا فيما يخص الجواز المُعلَّق، طوال أشهر كانت تنتظر خلالها تعويضًا هي في أَمسِّ الحاجة إليه.