متقاعد ومعه كلب في شليزفيج
عندما شققتُ طريقي في الملفات حتى وصلتُ إلى هذا الحكم، تَفتَّتتْ فجأة نيتي الطيبة في التَّخلِّي عن العنف. إذا كان قضاة برلين لا يستطيعون التفرقة — بعد عشر سنوات، بعد عشرين سنة من الديمقراطية — بين النازي وغير النازي، عندما يُبرِّئون القَتلة ويُدينون الضحية، فلا بد من أن يوضِّح أحد هذا الفارق على نحو مُدَوٍّ يَلفِت انتباه الجميع. لا بُدَّ عندئذٍ من الإشارة بالأصبع إلى الجاني الحقيقي، حتى لو كان الأصبع مسدسًا. وهكذا برزت خطط الاغتيال مجددًا. هل ينبغي عليَّ أن أتخلَّى عن فعلتي، وعن هذا التوضيح للأمور لا لشيء إلا لخوفي من النقد المحتمَل الذي سيوجهه آل جروسكورت لي، أو خوفًا من الصحافة التي قد تستهزئ بي باعتباري مَحض مقلد وراكبًا للموجة؟
كانت كاترين في لندن عندما سافرتُ إلى شليزفيج وهذه الأفكار تملأ رأسي؛ لم نستطع التوصُّل إلى حل وسط. وهكذا كلَّفتُ نفسي من جديد بالتكليف القديم: مراقَبة الضحية ووضع خطة دقيقة. بعنادٍ نادر أردتُ أن أبرهن لنفسي على أني لستُ كالمثقفين الذين يُؤجِّلون الفعل ويتهربون من الخطوات المحددة اللازمة لتنفيذه.
أتذكر فندقًا رخيصًا بالقرب من محطة السكك الحديدية، ولسببٍ ما سخيف، لا أزال أحتفظ في رأسي بثمن الغرفة، ٢٥ ماركًا. نظرة واحدة في دليل التليفون تكفي للعثور على العنوان المطلوب. عند الغروب تخفَّيتُ في هيئة مُتنزِّه ورحت أسير الهوينى في حي الفيلات؛ حيث يسكن — كما يُشاع — عديد من رجال القانون. عثرتُ على بيت «ر» سريعًا، وأثناء المرور عليه سجَّلتُ في ذهني: شجيرات متوسطة الارتفاع، ورود في الحديقة، منزل متَّسِع رحبٌ من مطلع القرن العشرين، السقف مغطًّى بالبوص كما هو شائع في مَنازل شمال ألمانيا، الضوء يسطع من وراء ثلاث نوافذ.
كانت حِسبَتي بسيطة: القاضي المتقاعِد له عاداته الثابتة. لو كانت كاترين معي لكنتُ راهنتها، وكسبت الرهان:
الإفطار في السابعة والنصف، بعدها بنصف ساعة يذهب للتمشية. في الثانية عشرة والنصف يتناول طعام الغداء، وبعدها يتمشى للمرة الثانية. في السابعة يحصل على عشائه، وربما قبله أو بعده يتمشى تمشية مسائية.
نحو السابعة والنصف صباحًا كنتُ في موقع المراقَبة، جالسًا في السيارة أمام عيادة طبيب أسنان، أقلب في صفحات الجريدة المحلية. لا يبعد منزل «ر» سوى مائة متر تقريبًا. لم يعد باستطاعة المرء أن يفعل ذلك في أيامنا هذه، الجلوس في حي الفيلات في سيارة ذات أرقام برلينية، عدة مرَّات خلال يومين، على الفور سيثير المرء شبهات الشرطة وسكان الحي، وسيوضع تحت المراقَبة. لم أكن أخشى شيئًا من الجيران في تلك الفترة البِكر قبل سنوات الإرهاب، وإلى ذلك في المناطق الريفية، وأمام عيادة طبيب أسنان.
في الواحدة والنصف، أمام بوابة حديقته، كاد «ر» أن يصطدم بي، لم تكن المسافة بيننا تزيد عن مترين أو ثلاثة، الزوجة يسارًا، والكلب يمينًا. واصلتُ سيري بخطوات ثابتة. وجه مريض مفزوع. في المساء — كنت في تلك الأثناء قد ذهبت لرؤية اللسان الممتد من بحر البلطيق في المدينة، كما تفرَّجت مرة أخرى على الفايكنج — بدأ «ر» جولتَه الثانية في السادسة والنصف. ليس بصحبته سوى الكلب. خلال مراقبتي له في اليوم التالي أيضًا جرى كل شيء كما توقعت، حافظ «ر» على برنامجه الثابت: الثامنة، الواحدة والنصف، السادسة والنصف، في كل مرة كان ينعطف يسارًا. كنتُ في غاية الحرص على ألا يكشفني.
إني أتساءل اليوم: هل شعرتُ بالتعاطف مع الرجل؟ لم يصل شعوري إلى هذا الحدِّ؛ لأن وجهه كان يبدو كاعترافٍ. تعارَض وجهه تمامًا مع ما قاله أمام المحاكم لتبرئة ساحته. أثبت الوجه أنه يشعر بانتهاكه القانون. نعم، رجل مُسِن، لماذا كل هذا الجهد؟ لماذا أُعلي من قيمته بالقتل؟ هذه الفكرة كانت تخطر على بالي كثيرًا، ولا سيَّما في دقائق الانتظار أثناء المراقَبة. غير أني أجهدتُ نفسي كي لا أرى في «ر» المتقاعِد الخواف، بل المنفذ، المجرم النازي، الشريك في ٢٥٠ جريمة قتل. جلاد جروسكورت الذي حصل منذ نهاية الحرب على معاش شهري بلغ حتى الآن ٢٧٠ ألف مارك ألماني، إلى أن تمَّت ترقيته ليشغل منصبًا قضائيًّا في شليزفيج الجميلة، حيث يعيش عديد من النازيين القدماء الذين عملوا في دولة القانون؛ حيث تَمَّت ترقية ممثل للنيابة العامة في المحكمة الشعبية العليا — وهو الذي رفض طلبا تقدم به جروسكورت يلتمس فيه الرحمة — إلى درجة نائب عام أول لدى محكمة الولاية العليا؛ حيث قام الأصدقاء القانونيون في شليزفيج بجمع مبلغ ٢٠٠ ألف مارك ألمانيًّا كفالةً حتى لا يُحبس «ر» خلال قضيته في أحد الزنازين. كان سِجِل الذنوب فظيعًا إلى درجة أن الرُّجَيْل الذي توارى خلفه بدَا نحيفًا، مكروبًا، بلا كرامة، دمية من دمى القانون. لقد أردت، هذا ما كنت سأعترف به أيضًا للمحلِّل النفسي في المحكمة، أن أشعر بنفسي بجانبه كمناضِل صغير من حركة المقاوَمة، فدائي لا يضيِّع ثانية في التفكير في وجوه أعدائه أو حالتهم الصحية. طلقة رعب في مدينة المومياوات!
كنتُ أُفضل بالتأكيد أن أُرديه قتيلًا أمام مبنى الولاية العليا في برلين، أو في قصر فخم آخر من قصور القضاء. في سكون حي الفيلات، نحو الثامنة صباحًا أو نحو السادسة والنصف مساءً. كانت الخطة تبدو فقيرة الخيال، غير أني لم أكن أستطيع أن أختار مكان ارتكاب الجريمة، ناهيكم عن الكواليس السياسية الرمزية المناسِبة التي يفضلها صنَّاع الأفلام. الخطة بسيطة: أن أقترب منه بالسيارة ومعي السلاح، ثم أنزل في اللحظة المناسبة، وثلاث طلقات، كل شيء يتوقف على الدِّقة.
أعرف، يبدو كلامي متزنًا وحكيمًا، غير أني بهذه الموضوعية التي أوحيت بها إلى نفسي، استطعتُ أن أسيطر على وخزات الضمير. الاغتيال الذي اعتقدتُ أني أُمِرتُ به من مذيع محطة القطاع الأمريكي ومن الأحكام الظالمة التي أصدرها القضاء، الاغتيال الذي كنتُ قد نبذْتُه وها أنا أفكر في تنفيذه مرة أخرى، هذا الاغتيال لا بُدَّ من أن يتم إعداده وتنفيذ كل دقائقه ببرودة وعقلانية.
خلال رحلة العودة، وسط الضجيج الرتيب الذي كان محرِّك السيارة «الفيات» يصدره على طريق الأتوستراد، لم أكن أفكر إلا في مزايا الخطة. وبينما كانت السيارات الأخرى تسبقني، كنتُ أنتشي بالتصفيق الذي سأجنيه والمكافآت التي سأحصل عليها. عليَّ تحمُّل المرحلة القاسية، السجن خمسة أو ستة أعوام، وربما تكون فرصة طيبة لكتابة الكوميديا الشيطانية. أنت على العموم — هكذا فكرت وسيارتي واقفة في زحام السير قبل مدينة «مارينبورن» — قد نجوتُ من الخدمة في الجيش، ووفرْت عامًا ونصف عام من عمرك بين الجنود، الآن ستقوم بالتعويض عن ذلك، إن ما تفعله خدمة للديمقراطية، لمدة خمسة أو ستة أعوام.