الثامن من مايو
اليوم الاثنين، الثامن من مايو، كتب جيورج على ورقة. هل هو اليوم
الأخير؟ لقد ازدادت الأحداث التي تشير إلى ذلك. يوم الاثنين الماضي جاءني استفسار مستعجل
من
الوزارة عن الأبحاث التي أقوم بها وأيُّها مُهمَّة للحرب. لماذا جاء الاستفسار متعجلًا
هكذا؟ هل
أراد أحد أن ينقذ رقبتي قبل التنفيذ بقليل؟ يوم الأربعاء كان ذلك المتعالِم المدرس ين
هنا،
وقال: إنه لا يرى في حالتنا أملًا. لم يتم العفو عن أحد منذ شهر فبراير. كما أنهم أعدموا
أشخاصًا كانوا يقومون بأعمال مهمة للحرب خلال فترة الحبس … يبدو أن ريحًا عاتيةً تكتسح
الوزارة.
ربما يعاملون هافَمان معاملة خاصة. زوجة ريشتر كانت هنا ومستبشِرة للغاية بخصوص الاعتراف
بأبحاث
زوجها. لقد حصلَتْ على الفور وبسهولة فائقة على تصريح بالزيارة. لماذا بهذه السهولة؟
هل يعرف
الموظَّف أنه التصريح الأخير؟ يوم الجمعة حضرت أناليزه إلى هنا، أرادتْ أن تحصل مرة أخرى
على
ورقة بها عناوين الأبحاث التي أخطط للقيام بها وذلك لتقديمها إلى مجلس البحوث في الرايخ
لتأكيد
مدى ضرورتها المُلِحَّة. إذن، لم تكفِ الأشياء التي قُدِّمَت إلى الوزارة! لم يقبلوا
طلبات
العفو، ولذلك لا يريدون الإبقاء علينا أحياء. في لحظةٍ ما بدت أناليزه حزينة حزنًا قاهرًا
لدرجة
أنني ارتعبت. ربما تكون كلمة الرعب مبالَغًا فيها؛ لأن الرعب لم يَعُد يعرف طريقه إليَّ
…
بالأمس استمع القاضي إلى أقوالي في قضية شومان. لماذا هم مُتعجِّلون هكذا، في يوم الأحد
الذي
عادةً ما تتعطَّل فيه المحاكم تمامًا (شومان محبوس منذ يناير وهو البريء تمامًا)؟ عصر
اليوم
سأعرف الرد.
نحو الواحدة والنصف يدخل الزنزانة المشرف على عملية التنفيذ، المدَّعِي العام كورت
من محكمة
الشعب العليا، وبصحبته طبيب السجن الدكتور مولر. يتم إخطار السجين بأن وزير العدل في
الرايخ لم
يستجب إلى التماس الرأفة، وأن الحكم سيُنفذ اليوم، الثامن من مايو، الساعة الثالثة عصرًا
تقريبًا.
تصرف المحكوم عليه بهدوء وتماسَك أثناء إعلان الخبر، هكذا
نقرأ في المحضر المطبوع الذي وقَّع عليه كورت لاحقًا ووضَع عليه ختمًا بالتاريخ، بعد
أن سجَّل اسم
المحكوم عليه والساعة.
يوثِّق موظف يديه. يجب منع المحكوم عليه بالإعدام من أن يفعل في نفسه شيئًا أثناء
اللحظات
الأخيرة. رغم القيود سمحوا له بكتابة رسائل. هل يريد راعيًا روحيًّا؟ بدلًا من قس السجن
الذي
ألِفَه جروسكورت يرسلون له رئيس الدائرة الكنسية في براندنبورج. يتفحص الجلاد روتجر المقصلة
التي
ركَّبوها في جراج السجن. الحديث الأخير، يوصي جيورج زوجته بأن عليها أن تكون قوية ومتماسكة، مثلما يسير هو قويًّا ومتماسكًا طريقه الأخير. البَلْطة
حادَّة النَّصل، والحبل مشدود. بقطعة قماش سوداء، يغطي أحد الموظَّفِين نوافذ الجراج
ذات
القضبان.
سأموت وأنا في سلام مع الناس، يكتب إلى والدته، ومع الله: لكِ الشكر الجزيل على كل ما قدمتِيه من حُب. أريد أن أكتب حتى النهاية.
ساعدوا أناليزه والطِّفلَين. إن المصير الذي كان ينتظرني منذ ١٢ عامًا قد اقترب من نهايته.
لذلك
فإني أموت في هدوء تام … وسيموت عديدون إلى أن ينتهي كل شيء. أريد أن أمنحكم كلكم
العزاء.
يكمل كورت، المشرف على التنفيذ، والدكتور مولر، طبيب السجن جولتهما على الذين تَقرَّر
إعدامهم
في هذا الاثنين، ثم يقضيان الوقت حتى الثالثة عصرًا في استراحة يتبادلان فيها الأحاديث
ويشربان
القهوة مع مدير السجن في مكتبه. من الحائط يُصوِّب الفوهرر نظرته الصارمة. ثم كأس عرق
في صحة
الجميع.
أيَّتُها الوفية الطيبة أناليزه، لقد حان الوقت إذن. في غضون نصف ساعة
سينفذون الحكم. إني متماسك تمامًا؛ لأني كنت أتوقَّع ذلك طوال الوقت (معذرة لخطي السيِّئ
ولكنَّ
يديَّ مقيدتان). كيف لي أن أشكرك على كل شيء؟ كيف لي أن أبوح لك بكل الحب الذي كنت دومًا
أشعر
به ناحيتك؟ حتى في أيام الحبس الصعبة منحتني فيضًا من الحنان والحب اللامتناهي، لقد شعرتُ
بعظمتك الإنسانية الكبيرة. ابقَي على ثباتك كما كنتِ دومًا. أنتِ تعلمين أن الأمر لم
يكن
مصادَفةً، إنه قدري. ليس لديَّ ما أندم عليه سوى الألم العظيم، الألم الذي كنتُ بسببه
حزينًا
طوال هذه الفترة هو أنك ستعيشين وحْدَك الآن. لا أستطيع طبعًا أن أُقدِّم لكِ نصيحة بشأن
مستقبلك، ربما إذا أُتيحت لكِ الفرصة تستطيعين أن تتزوجي. ولكن من فضلكِ افهميني: إنني
لا أقول
شيئًا كهذا وسط ما تشعرين به من آلام إلا لأن ساعتي قد حانت. سيكبر الطفلان بدوني أيضًا،
وسيساعدك كل من يحبني في ذلك؛ ولذلك فإني أموت هادئ النفس تمامًا.
إني أسمع الآن صليل المفاتيح! تحياتي إلى كل مَن وقف بجانبي، آل جروجر،
وفرنتسه، وأناليزه الصغيرة، والآنسة آدم، ومارتا، وكراوتفالد، والرئيس لاور، وماير، وبروموند،
والسيدة لاست، وأختي إيفا، ولويزه والآخَرِين. وتحياتي أيضًا إلى إيفا بلومبه وعائلتك.
وقُولي
للآنسة الدكتورة ماير إني فكَّرتُ فيها كثيرًا. وقدِّمِي الشكر لهندلر، وجروتر وكل الذي
حاولوا
أن يُقدِّموا لي يد العون. وكذلك السيدة هيلسباخ، والقس بارت.
أعانقك. ولا تَنسَي أننا نموت من أجل مستقبل أفضل، من أجل حياة بلا
كراهية. لقد أحببتُ الناس حبًّا جمًّا، ولو كان العمر قد امتدَّ بي لفعلتُ خيرًا كثيرًا.
ولكن
القدَر لم يُرِد ذلك. بين أوراقي تَجدِين وصية كَتبتُ فيها كل شيء باسمك. جهاز أشعة إكس
الخاص
بي موجود عند كولينج، ونورينج. وستحصل السيدة شومان على مبلغ قدره ٦٠٠ مارك.
أمامي خمس دقائق!
لا أستطيع الآن أن أكتب إلى كل أفراد العائلة. أبوكِ العزيز الطيب
وأمك، أتمنى لهما دوام الصحة والسعادة. يا أمي الحبيبة الوفية الطيبة، لا تَحمِلي الهم؛
إني
أموت مرفوع الهامَة وفخورًا بما فعلت. لقد أنجبتِ ابنًا مُشرِّفًا. أعانق فيلهلم، وكيته
جروسكورت في أونترهاون، وهيزل، ولويزه، وياكوب وكل أهل فيردا، وباشكيس، كانوا دائمًا
بَشوشِين
وودُودِين معي.
ولكِ قُبلاتي. أتمنَّى لكِ حياةً ملؤها البهجة مع الطفلين. ستحكين لهما
كل شيء، وستقولين لهما بأن والدهما لم يرتكبْ شيئًا مُشينًا. لا بُدَّ أن أنهي كلامي.
أيتها
الخيِّرة ذات القلب المحب النبيل، إنني متأكد من أنكِ ستفعلين الصواب. لا تقنطي أبدًا.
فَكِّري
فيما كنتُ سأفعله. أعانقك، وأعانق كل أحبائي. جيورج.
في الساعة الثالثة عصرًا يدخل موظَّفان، ينزعان القيود ويأمران: اخلع ملابسك، واترك
اللباس!
ثم يُقيِّدان الأيدِي خلْف الظَّهر، ويقودانه عبْر ممر سِرِّي إلى الفناء أمام الجراج.
شيئًا
فشيئًا يأتي عشرة رجال آخرون إلى الفناء، كلهم عراة، باستثناء اللباس القصير. نظرات خرساء
بين
جيورج، وباول، وهربرت. يقف المحكوم عليهم في صف واحد ويرتجفون بردًا. تُنزَع القيود.
ينتظر الجلاد
روتجر مع معاونيه الثلاثة في الجراج. لم يظهر أحد من المحامين.
كل دقيقتين يرسلون أحد المحكوم عليهم إلى الفناء. يلتزم المُدَّعِي العام بالترتيب
الأبجدي،
ويسأل: هل أنتَ فلان …؟ بعد أن يهز المحكوم عليه رأسه بالإيجاب يقرأ المدَّعي الجملة
المحورية في
الحكم: «العقوبة بالإعدام.» ثم: «أيُّها الجلَّاد، نَفِّذ مهمتك!» على المحكوم عليه أن
يخلع لباسه
خلف ستارة سوداء ويُطبِّقه ويضعه على كوم من السراويل الداخلية، ثم يسير عاريًا إلى المقصلة.
يمسك
المُعاوِنون به، يضعونه على اللوح، ويوثقونه. يشد الجلاد الحبل، فتهوي البلطة. ضربة مكتومة.
يتأكَّد الطبيب من الوفاة. يقوم المُعاوِنون بتنظيف المقصلة. في تلك الأثناء يكون التالي
قد
نُودِي عليه، يخلع لباسه، ويضعه مطويًّا على الكوم، ثم يُقاد إلى البلطة.
فيما بَعْد يُوقِّع المُدَّعي العام على المَحضَر المطبوع، نسخة منه تُرسَل بالبريد
المُسجَّل
إلى وزير العدل في الرايخ، وأخرى إلى المحامِين: بعد التأكد من تَطابُق
الشخص المُقاد مع المحكوم عليه، قام المشرف على الإعدام بتكليف الجلَّاد بالتنفيذ. المحكوم
عليه، الذي كان هادئًا متماسِكًا، رقد على المقصلة دون مقاوَمة، إثر ذلك قام الجلاد بتشغيل
البلطة وقطع الرأس، ثم أعلن تنفيذ الحكم.
استغرقَتْ عملية التنفيذ — منذ مجيء المحكوم عليه حتى الإعلان عن
التنفيذ — ثواني. تَركوا مكانًا شاغرًا للرقم الذي دوَّنه المدعي العام: ٩.