وابل من السِّباب ينهال على برلين
كان أبطال العالم في القتل أبطالًا للعالم أيضًا في التدوير. حتى في السجن، قبل قطع
الرأس
بالمقصلة، لم يكن مسموحًا بتبذير المنسوجات وتلويثها بقطرات الدم. كانت الدولة النازية
في حالة
بائسة لدرجة أنها لم تَستغنِ عن خرقة أو لباس. من زنزانته القريبة من جراج الموت كان
الرسام
أوسكار فيشر يراقب طقس الإعدام الذي يتكرَّر كل اثنين. كان فيشر يُزوِّر الأوراق لصالح
الاتحاد
الأوروبي ويطبع المنشورات، غير أنه استطاع إنكار كل شيء طوال فترة التحقيق التي استمرَّت
شهورًا.
أُفرج عنه، وعاد إلى دار النشر، وهناك أسرَّ بما عايشه لزميلته روت أندرياس فريدريش التي
قامت
بنقل تقريره في كتابها «رجل الظل»، وهو الكتاب الذي أَدين بالفضل في الحصول عليه لرحلة
كاترين إلى
لندن.
هالَتْنِي البشاعات التي ارتكبوها لدى إعدام جيورج جروسكورت وأصدقائه، وكأنِّي صبي
مراهِق
يكتشف خسة العالم للمرة الأولى. فاق الاستياء سخطي على سلسلة الأحكام الصادرة ضد أناليزه
جروسكورت، كما كان أعمق من الغضب الدائم الذي يشتعل في صدري بسبب حيثيات براءة «ر».
في بداية مايو مرَّت خمس وعشرون سنة على الإعدام، وما زِلتُ أتذكر كيف أن هذه العلاقة
المبتذَلة بين التاريخين — طويلة هي المدة، لا، بل قصيرة — أشعرَتْني بطَعم المرارة في
فمي
وبموجات جديدة من الاستياء والسخط التي راحت تضرب صدري. عندما يزدحم صدر الإنسان المُسالِم
بالكراهية، فإن ذلك يصيبه في الغالب بالفزع أكثر من غيره؛ لأنه لا يريد أن تكون له أي
علاقة بهذه
القوى الهدَّامة. لذلك لم أرغب في لفت الأنظار، ولم أجرؤ في تلك الأيام على رؤية السيدة
جروسكورت،
أو أكسل، أو كاترين.
لم أُردْ أن أبتلع غضبي في صمت كالمرضى؛ لذا أخذت سيارتي وانطلقتُ بها — ولا أعلم
لماذا — إلى
«جبل الشيطان». زِدتُ من سرعة السيارة، كانت تنهب الطريق نهبًا، أردتُ أن أعلو هذه السحابة
الرمادية القذرة، كنتُ في حاجة إلى الريح النقية والنظرة الطليقة وإلا اختنقت. فوق هامات
أشجار
غابة «جرونه» البعيدة حاولتُ أن أهدئ نفسي، وأن أتوحد مع أنفاس الطبيعة. رغم ذلك بقِيَت
الكراهية
تسكن رأسي، لم أستطع أن أطردها، ولا أن أوقف هذه الحمم المتقاذِفة. في دهاليز المخ اضطرمت
في نفسي
— وهو شيء أجده اليوم محرجًا، بل مضحكًا — عداوة طفولية ضد أشجار الصنوبر وهذه الغابة
الدائرية،
الغابة المهدِّئة للنفوس، المنتصبة في شموخ، غابة الجنود، الغابة البروسية المُعتنَى
بها، إلى
آخره. وتُلحُّ الفكرة مجددًا: قدامَى النازيين، الذين لم يتقدَّموا في السن بعد، البرابرة
المُعتَرف بهم من الدولة، عُشَّاق المقصلة، أثمان وأرباع وأثلاث الجلادين، جيوش الشركاء
في جرائم
القتل. لماذا لم يتم التخلص منهم؟ لماذا لم يُعيَّنوا تحت الاختبار في إدارة الغابات،
أو في
الدرجات الوسطى في مصلحة البريد، أو في أكشاك التحويلة لقطارات السكك الحديدية، بدلًا
من تقليدهم
مناصب في المصالح الحكومية والوزارات والمحاكم؟ لماذا لم يحدث ذلك؟
عندما استدرت لألقي نظرة على أسطُح المدينة من علٍ، تنفَّستُ عميقًا لأشرع في إطلاق
وابل من
السباب، وهو شيء لم أفعله إلى الآن حتى في أشد أحلامي رغبةً في تصفية الحسابات: مدينة
عبيد ملعونة
هذه التي تمتد تحتي، عبيد القيصر، عبيد هتلر وأمثاله، عبيد الرُّوس، بل وحتى عبيد الأمريكان،
يا
مَن تتواءمون وتتكيفون مع كل شيء بمحض إرادتكم، أيُّها المتزلِّفون، الجبناء، لماذا تنكمشون
وتتضاءلون تحت الأسقُف؟ وأنتم، نعم أنتم، يا منتهكي عِرض القانون، يا قراصنة البنود والفقرات
القانونية وترزية القوانين، أيها المحتالون على العدالة والمُدنِّسون للحرمات، أنتم أسوأ
أنواع
العبيد، بل إنكم تزدادون من جيل إلى جيل حيلةً ومهارةً ودناءةً، مع أن أحدًا لا يرغمكم
اليوم على
ذلك، ليس إلا حق القوة المُستمَد من شرف مهنتكم، تحكمون على الناس مستخدِمِين لغة بائسة،
تحكمون
على ألمانيا حتى الهلاك بعباراتكم المكرَّرة ودوافعكم الدنيئة، بأحكامكم المُسبقة الخسيسة،
وعندما
تجدون بندًا واحدًا، مريحًا ومطاطًا، فإنكم طوعًا تسجدون بخنوع أمام سُلطته. هل تعرفون
تلك الصورة
المُعلَّقة في مكان ما، في نورنبرج أو ميونيخ، القاضي المرتشي الذي سُلخ جلده بناءً على
أمر من
الملك قمبيز، بعد ذلك أمر الملك بكساء مقعد القاضي بجَلْد المرتشي قبل أن يُعيِّن الابن
خليفةً
له؟ ألم تجلسوا أبدًا على جلود آبائكم المرتَشين؟ ألم تُفسدْكم أبدًا أحكامكم المسبقة؟
ألم تفكروا
أبدًا في إمكانية تعذيبكم أنتم بمواد القانون؟ وأنكم رشوتم أنفسكم بأنفسكم؟ بِجلدكم الوظيفي
السليم؟ ماذا تعلَّمتُم من التاريخ ومن فترة الخدمة التي قضيتموها تحت إمرة عصابة من
المجرمين؟
ماذا تعلمتم من الموتى؟ من القنابل؟ لم تتعلموا شيئًا، ولا تَقبلون أن تتعلموا من الدروس
التي
ألقتها عليكم هذه المدينة، المدينة المدمَّرة الواقعة تحت قدمي، خلال خمسة عشر عامًا
تراكمَت
الأنقاض التي حملتها مئات الشاحنات، مكوِّنةً جبلًا يزداد اليوم ارتفاعًا، في كل يوم
تعلو تلك
القمة في الناحية الأخرى، بكل ما خلَّفتْه الحرب من نفايات وركام، الحرب التي كان من
الضروري أن
تُهزَّكم بعنف وتوقظكم من سُباتكم، وتُخلِّصكم من عجرفتكم، ولكن كلَّا، إنكم — بلونكم
الأسود —
باقون على كراسيكم، ولا حتى إعادة إعمار المدينة علمتكم شيئًا، إذا انفجر بركان، وتحوَّلت
برلين
الشبيهة بأثينا إلى مدينة مثل بومباي، ماذا يمكنكم أن تَعرِضوا على العالم بعد ألف سنة،
ماذا
يتبقى على الجدران سوى ورق الحائط المُزيَّن بالزهور، سوى قرون الأيائل الملتفة، وابتسامة
المُغنِّي هاينتشه البلهاء؟ ماذا استفدتم من الديمقراطية إذا كنتم لا تستخدمونها؟ ماذا
استفدتم من
الحرية إذا كنتم لا تستعملونها؟ ماذا استفدتم من القانون إذا كنتم تخنقونه؟ إن برلين
مريضة وراء
الدرع الذي تتحصن به وهي تقول: لا يستطيع أن يَمسَّني أحد! إنها
مدينة عمياء بجُمْلتها الشهيرة: برلين منورة، مُحاصَرة بشعارها:
برلين تبقى برلين، حمقاء منقسمة، برلين في سحابة الغبار، في
غبار الماضي، وسط الضباب، في ثلوج القطب الشمالي، وهي في حالة «النيرفانا»، حيث الصحافة
الحُرة
ليست حُرة، في بلد البطاطس حيث لا تهيج المشاعر إلا بسبب الشيوعية، وممارَسة الجنس بدون
ورقة
زواج، ومنع تقطيع البطاطس بالسكين، أما الإنجازات فلا يقدمها سوى حارس المرمَى سيب ماير
بحركاته
البهلوانية، بيكنباور بتمريراته العرضية، ومولر بأهدافه، هذا ما يقود مباشَرة إلى الفردوس
الأرضي؛
وحتى يظل كل شيء مُسالِمًا تحت الأسقف وتحت الهوائيات يغني هاينتشه أغنيته «ماما، لا
تبكي على
ابنك»، ولكن كل ذلك لن يفيدكم في شيء، ستبكون، نحن الأولاد سنغير بعض الأشياء، سنغير
كل شيء،
وأنتم ستبكون، ينبغي عليكم أن تَبكُوا على أولادكم، ولن يختلف الأمر.
بهذا الأسلوب، رُحت أسبُّ عصابة القانون، بصوت عالٍ أو شبه عالٍ، آخُذ استراحة ثم
أواصل. رحتُ
ألعن المدينة، بل البلد كلها، ولحسن الحظ لم يسمع أحد كلامي المثير للاستهزاء.