ثلاث أرامل في حديقة شِبه ظليلة يتحدَّثْن بوَلَع عن همفري بوجارت
صورة من ألبوم الذاكرة: ثلاث نساء بفساتين صيفية مزهرة أمام تعريشة وسط إحدى الحدائق البرلينية الصغيرة الخاصَّة والتي تسمح بها اللوائح القانونية. أشجار تفاح وكرز يمينًا ويسارًا إلى جانب سور من السلك الشبكي، وفي الخلفية نبات عِنَب الثعلب، وأحواض النباتات، وأدوات الفلاحة في الحديقة. أمام التعريشة المَطلِيَّة باللون الأخضر الداكن مائدة مفروشة، وكراسي في الظل الذي تنفذ إليه أشعة الشمس عبْر أوراق الشجر. أمام المائدة أرض مُعشَوشِبة لا يزيد عَرضها أو مساحتها عن غرفة معيشة برلينية. وكلبان يَروحان ويجيئان، كلب «دكل» بُنِّي، وكلب صغير من كلاب الصيد أسود اللون، إذا لم تَخنِّي الذاكرة. كانت السيدات الثلاث اللاتي يقتربْن من الستين يشربْن القهوة ويأكلْن جاتوه الفواكه مع الكريمة. تتعارض ألوان فساتينهن تعارضًا صارخًا. أناليزه مع صديقتيها هيلده وكليره، المزاج رائق، والجو دافئ في ذلك الأحد من شهر يوليو ١٩٦٩م.
عندما دخلْنَا — أكسل وأنا — عليهن، كنَّ يتحدَّثْن عن الرحلات. الْتَقطتْ أذني بعض الأماكن: بالي، المغرب، بحيرة جنيف. يأكُلْن الجاتوه بالكريمة باستمتاع ويشرَبْن القهوة، يملأْنَ لنا طبقين، ويُطعِمْن الكلبين. يُخطِّطنَ، ويحلمْنَ ببيت في سويسرا. طوال خمسة عشر عامًا كانت هيلده تكتب المذكرات القانونية لأناليزه خلال ساعات ليلية لا تنتهي، تبحث عن براهين وأدلة، وتشعر آلاف المَرَّات بالغضب من موكلتها الفوضوية، المشغولة للغاية، الموكِّلة التي سَئِمت القضايا. الآن تربط الصداقة بينهما. كانت كليره تعمل سائقة تاكسي، وقامتْ بإخفاء رجل يهودي لديها. بعد الحرب تزوَّجَا، وقبل خمسة أعوام تُوفِّي. لم يساعد أناليزه أحد على الصمود مثل المرأتين. كلٌّ من هيلده وكليره تشعر بالغيرة تجاه الأخرى، هيلده بطريقتها الراقية، وكليره بالطريقة البرلينية الشعبية، كلٌّ منهما تريد أن تكون أفضل صديقات أناليزه، وخزة هنا، عبارة مُتهكِّمة هناك، لعبة مكشوفة لهن جميعًا، ولذلك لا تتعكر الأجواء بينهن. تريد هيلده السفر إلى الدار البيضاء، أما كلير فهدفها فنلندا.
في تلك الفترة كانت أناليزه قد نجحتْ في الحصول على جواز سفر. لم تحصل عليه إلا في عام ١٩٦٣م عندما لم يَعُد السفر إلى دول أوروبية عديدة يتطلب جوازًا. عندئذٍ لانَ رئيس الشرطة؛ لأنها لم تنشط سياسيًّا خلال السنوات الأخيرة فهو لا يريد أن يكون عائقًا في طريق التوصُّل إلى تسوية، بشرط تَحمُّل مصاريف القضاء. ابتزاز مَرة أخرى، هذه المَرة عبْر المصاريف. مسألة سمعة وكرامة، فالشرطة لا ترتكب أبدًا أيَّ خطأ، ولا تتحمل أبدًا أيَّ ذنب. اعتبروا النزاع القضائي منتهيًا، وحصلتْ على الجواز وإشعار بالدفع. مسموح لها الآن أن تشارك في مباراة الدار البيضاء ضد فنلندا. تنحازُ إلى المغرب؛ لأنها أرخص. كليره تعترِض بسبب الحر. ولكن ليس في ديسمبر! تستمر اللعبة. لحظات من السعادة.
بالأسئلة التي تحوم في رأسي أشعر وكأني هادِم اللذات ومُفرِّق الجماعات. لحُسن الحظ تركتُ في السيارة الجريدة التي أحب قراءتها يوم الأحد، صحيفة «تاجيس-شبيجل». غير مسموح أن يقع نظر الأم على هذه الصحيفة، قال أكسل؛ إذا رأتْها تغلي المرارة في أعماقها مجدَّدًا بسبب ما حدث عام ١٩٥١م. بسبب الافتراء عليها تُفضِّل حتى اليوم قراءة «دي فيلت».
أُرسلُ البصر إلى أناليزه جروسكورت بين صديقتيها، مسترخِية كما لم أرها من قبل، مرتديةً فستانًا أصفر، امرأة جميلة، سريعة البديهة، في الستين من عمرها، بشوشة مع الجميع، امرأة مرحة تقوم بالتحكيم بين فنلندا والمغرب. متى تتحرر من الشعور بأنها تُعاقَب مدى الحياة بسبب الفترة القصيرة التي قاوَمت فيها النازية؟ إنها الآن — على الأقل — لا تكافِح وحدها، الآن حصل رولف، وأكسل على حق التعويض.
بعد المغرب و«كازابلانكا» كان لا بُدَّ أن يأخذَهُن الحديث إلى الفيلم المشهور. ثلاث أرامل يتحدَّثْن بولع عن همفري بوجارت، عن عينيه، ومشيته المسترخية، وسخريته، وقبعاته. في سلام وأُلفة رُحنَ يُعبِّرنَ عن إعجابهن بالرجل، مثلما عبَّرنَ عن إعجابهن ربما وهُن مراهِقات بالممثل فيلي فريتش. لقد لعبَتِ الدراما الألمانية بحياة النساء الثلاث كما حلَا لها، كلٌّ منهن تستطيع تقديم فيلمها في هوليوود. كم من حكايات في جعبة كليره بلوخ؟ المسلسل البوليسي مع الرجل الغريب في البداية، الذي أمسى الحبيب في الشقة المكوَّنة من غرفة واحدة، الحيل والأكاذيب حتى لا ينتبه حارس الوحدة السكنية، إنها بالتأكيد تنتظر شُبانًا راغبين في المعرفة كي يسألوها عن قصتها. وجعبة المحامية، كم فيها من حكايات؟ المحامية التي تقاضت أجرًا بائسًا عَطْشَى إلى التقدير، تقدير صبرها وحرصها على التوازن في صياغة الجمل، مُقابِل تلك اللغة الحربية الباردة التي يستخدمها القضاء. ولكن على مائدة القهوة، في ذلك الأحد الصيفي، بدا كل شيء له علاقة بالنازية مُحرمًا، منفيًّا، وكأن الصديقات اتفقن على عدم التحدث عن ذلك يوم الأحد أبدًا. في عصر ذلك اليوم لم أتجرَّأ على طرح أي سؤال، أو طلب أي شيء، فقط قطعة ثالثة من جاتوه الكرز.