كتاب الاغتيال
الصورة بالأبيض والأسود، وعليها سيارة سوداء وسط الجليد. ثلاثة رجال بملابس بيضاء يحيُّون رجلين يرتديان ملابس داكنة اللون. كلهم بالزي الرسمي، هؤلاء في المعطف الأبيض للأطباء، وأولئك بمعطف الحزب والحزام. على رأس كلا الرجُلين اللذين يرتديان الملابس الداكنة البيريه المناسب للزي، أما الرجال بالملابس البيضاء فبِدُون غطاء رأس. في منتصف الصورة الرجل الثاني في الرايخ، معروف بكونه نائبًا للزعيم هتلر، وهو يصافح هنا أحد الطبيبين. خلفه يقف في الزاوية اليمنى للصورة — نظرات الضيف المهم مركزة عليه — طبيب شاب. في خلفية الصورة الصغيرة، ٦ × ٩، شجيرات عارية، وأشجار وبنايات ذات نوافذ.
في البيت، تحت مصباح المكتب، وبَعد النظرة الأولى السريعة في ضوء السيارة الواهن، رأيتُ ما هو أكثر. قد يقول قائل: آه، النازيون وأطباؤهم، القَتلة وشركاؤهم في خلوة، تلك الصورة النمطية التي كوَّنَّاها ونحكم بموجبها، إما بالأبيض أو بالأسود. الكتابة بالرصاص على ظهر الصورة تشي بالأسماء: رودولف هيس في مستشفى روبرت كوخ، موآبيت، إلى اليمين د. جروسكورت.
رجلان، الأول دخل كُتب التاريخ، والثاني — رغم أنه البطل الأعظم — ابتلعه النسيان.
على كل حال تَضمَّن المقال بعض الحقائق: ابن عائلة فلاحين من أونترهاون بالقرب من هيرسفيلد، لا تبعد كثيرًا عن فيردا، باع الأب قطعة أرض حتى يستطيع الابن أن يكمل تعليمه، صداقة مع هافَمان منذ ١٩٣٢م، طبيب ممتاز في مستشفى موآبيت ذي الشهرة الفائقة حيث لم يُرَقَّ إلى درجة «طبيب أول» إلا في عام ١٩٣٩م؛ وذلك لأنه لم يكن عضوًا في الحزب، مع هافَمان في مختبر الأبحاث في المستشفى، ملتقى المُعادِين للنازية، أحاديث سياسية صريحة، تكوين الجماعة مع الأصدقاء: طبيب الأسنان باول رِنتش والمهندس المعماري هربرت ريشتر، جيورج يمنحها اسم «الاتحاد الأوروبي».
كان من المسموح به في عام ١٩٦٢م أن يستشهد المرء بأقوال هافَمان فيما يخص المقاومة: المجموعة التي بدأت صغيرة ركَّزت في البداية نشاطها في تأمين وضع المُلاحَقِين من المناضلِين ضد الفاشية واليهود. كانت تهتم بأمر الرفاق الأحياء الهاربين من القانون، تُجهِّز لهم بطاقات الهوية المزوَّرة وجوازات السفر والبطاقات الشخصية وأوراق السماح بالسفر. بهذه الطريقة تم إضفاء السمة «الآرية» على عدد من اليهود الملاحَقِين، آخرون تم توفير الملجأ الآمن لهم وتزويدهم بالسلع الغذائية. كان جروسكورت ينصح الشبان الذين لا يريدون الذهاب إلى الجبهة بتناول وصفة خاصة كانت تجعلهم يبدون مصابين بمرض شديد انطلَى حتى على عتاة الأطباء في الجيش الذين كانوا يصدرون لهم شهادة عدم صلاحية للخدمة العسكرية، ولكنَّ المقالة لم تُبِح للقراء في شرق ألمانيا بمحتويات الوصفة.
أمدَّتْنِي المقالة ببعض المعلومات الجديدة التي تتناسب تمامًا مع صورة جروسكورت وهافَمان: بين أجهزة المختبر والأنابيب والزجاجات والقوارير ينظر الشابان إلى الكاميرا، كلٌّ يرتدي معطفه الأبيض، هافَمان أكثر نحافة، يقف مستندًا إلى الطاولة وفي يده سيجارة، أما جروسكورت الذي يبدو ممتلئًا بعض الشيء فيجلس على كرسي وفي يده فنجان قهوة. يسود التفاهم بينهما، هذا ما يلاحظه الرائي فورًا. تقاربهما لا يبدو متكلفًا. وهذا تحديدًا ما أشعل نار فضولي.
صديقان، الأول صعد السلم الوظيفي واشتهر، والثاني طواه النسيان. لماذا أُعدِم الأول الذي يمسك بفنجان القهوة؟ ولماذا عاش الآخر الذي يمسك بالسيجارة؟ لماذا حصل أحدهم في السجن على تكليفات بالقيام بأبحاث علمية بعد أن كان قد صدر ضده حكم بالإعدام؟ ولماذا لم يحصل الآخر على شيء؟ علماء عديدون، هكذا ذكرت مقالة «صحتك»، بذلوا جهدهم لإطلاق سراح جروسكورت، لماذا لم ينجحوا في مسعاهم، بينما أنقذوا هافَمان؟ هل كانت أفعاله أكثر؟ هل قدم اعترافات أكثر؟ هل عُذب؟ من هم الأعضاء الآخرون؟ ماذا حدث لهم؟ ماذا كتبوا في منشورات الاتحاد الأوروبي؟ أين كانت تلك المنشورات؟ لماذا انكشف سر المجموعة؟ وشاية، غباء، صدفة؟
وهكذا جرَفَتْني دوامة الأسئلة التي كانت سرعتها تزداد كلما وجهت نظري إلى صور هيس. لماذا لم يكتب الطبيب الألماني الشرقي كلمة واحدة عن رودلف هيس، رغم أنه تحدث مع زوجة جروسكورت وشاهَد الصور؟ هل كان ذلك أمرًا معيبًا في الشرق؟ هل لم يكونوا يستطيعون احتمال تلك الحقائق؟ وهيس نفسه، كم مرة أتى إلى المستشفى؟ وفي أي الأعوام؟ ولماذا اختار الدكتور جروسكورت بالذات؟ لماذا لم يذهب إلى واحد من آلاف الأطباء المتخصصين الآخَرِين في برلين؟ أي الأمراض كان يُعالج منها؟ وكيف كان جروسكورت يتحدث معه؟
وجدتُ نفسي مشتبكا مع مئات الأسئلة في الليل. ربما — هكذا أظن اليوم — أعارَتْني السيدة جروسكورت الصور حتى تختبر كيفية تعاملي مع هذه التناقضات: هيس العدو أمام السماعة الطبية، هافَمان الصديق بجانبه. لم يخطر على بالها أي شحنة متفجرة أعطتني. هذا المسافة التي لا تنتهي والتي لا تعقل بين رودلف هيس، وروبرت هافَمان، كلاهما يبدأ اسمه بالحرفين: «ر، ﻫ»، الصور والمقالة شحيحة المعلومات فجَّرَتا مئات الأسئلة التي لم أستطع إيقافها أو التهوين من شأنها أو تجاهلها. كانت الأسئلة تنفجر كالصواريخ النارية، براقة الألوان، سلسلة من الانفجارات، مئات من علامات الاستفهام المضيئة كانت تهطل فوق رأسي، أحكمَتْ حصارها علي، إلى أن وجدتُ الخلاص في الكتابة.
الكتابة، هذا هو الحل ببساطة.
البحث عن أسئلة وأجوبة، نبذ الأجوبة ومواصَلة طرح الأسئلة، البحث والتقصي والتمحيص؛ ليس إلا طريق واحد: الكتابة. مَن يعرف ما حدث، مَن لديه إجابات مقنعة، يمكنه أن يقف في الشارع أو أمام الميكروفون ويزأر بالشعارات، لا لوم عليه؛ ولكن مَن لا يعرف شيئًا أو لا يكاد يعرف شيئًا، من له نشأتي وتكويني، ليس أمامه إلا خيار واحد: الكتابة. إذا تكاثرت الأسئلة وألحَّت عليك إلى هذا الحد، إذا لم تستطع أن تتحمل المتناقضات، فليس هناك سوى وسيلة وحيدة: مواصلة التساؤل على الآلة الكاتبة، إلى أن تتفاقم المتناقضات.
ما قُلتُه لدى السيدة جروسكورت برعونة، أو كي أثير انطباعًا زائفًا، كان هو الشيء الصحيح الذي يتوافق مع فطرتي: أريد أن أكتب شيئًا عن المجموعة. في أذني كانت ترن الجملة التالية كأنها إهانة: عليك أولًا أن تأكل كيسًا من الملح، أيها الشاب! في نشوة النوايا الجديدة، وبمساعدَة زجاجتين من البيرة، استفزَّني كيس الملح للغاية، وبالذات الآن، عليك أن تريها إذن ما تستطيع!
أفضل ما في خطط الكتابة هو أنها لا تعوق خطط القتل. على العكس، إنهما يكملان بعضهما بعضًا. بهرني حَل توصَّلت إليه، أو فلنقل بتعبير تلك الأيام «استراتيجية مزدَوجة»: الإعداد لكتاب عن مجموعة جروسكورت-هافَمان، واغتيال القاضي الذي أصدر حكمًا بقطع رأسيهما. ينبغي أن يكون الأمران علنيين، الاغتيال سينفذ فور طرح الكتاب في الأسواق. الكتاب يشرح دوافع الاغتيال، والاغتيال هو النتيجة الحتمية للكتاب. وبذَا يتحد أخيرًا القول مع الفعل، وينتفي التناقض الذي طالما عذَّب أصحاب الكلمة. إذا قام كاتب شاب بمهاجمة القاتل «ر»، فإنه يعطي بذلك مثالًا لكل الحركة الطلابية، ما يُعلي من شأن الأدب، وينعش الشعور الجماعي، ويُوحِّد القوى التي تهددها الفُرقة، كانت هذه أكثر الخيالات جسارة. سيحصد الكتاب الإعجاب، وكذلك الفعل، ستتسابق الصفحات الثقافية في الكتابة عن موضوع «القول والفعل»، وبذلك سأُكافأ مكافأة عظيمة على كل الجهود التي بذلتُها.
لكن الخطط الطموحة ذبلت سريعًا تحت ضوء الصباح التالي. في حمى الحملات الخيالية التي شننتها ضد النازيين، وفي غمرة الجنون الذي سيطر علي وأشعرني بأني البطل الثائر، نسيتُ أني لست رجلًا حرًّا. كان علي — وإن بدت الجملة مبتذَلة — أن أنتهي من دراستي الجامعية، ١٢ فصلًا دراسيًّا. كان عليَّ تسليم بحث عن العقد الاجتماعي لروسو، كما كان يجب أن أقرأ كثيرًا لحلقات دراسية أخرى كنتُ قد نسيتُها تمامًا، كان عليَّ أن أنجز أطروحة دكتوراه، من أجل هذا الهدف كانت أمي تقتطع ٢٥٠ ماركًا كل شهر من معاشها كأرملة.
كيف أستطيع أن أخطط إلى جانب ذلك كله لتنفيذ الاغتيال على نحو مُتقَن؟ وأن أكتب الكتاب المُصاحِب لعملية الاغتيال؟ يجب عليَّ أن أقتنص محادثات كثيرة من السيدة جروسكورت، أن أسافر إلى فيردا وأونترهاون وأسأل الناس هناك عن كل كبيرة وصغيرة، لا بُدَّ من اختراق ما يشبه الحصار المفروض حول روبرت هافَمان، أن أسافر إلى جرونهايده، ثم — وهذا هو الأصعب — أن أذهب إلى شبانداو حتى أقابل رودلف هيس خلف أسوار السجن المخصَّص لمجرِمِي الحرب، عليَّ البحث والتقصِّي في مستشفى موآبيت وأن أصل إلى ملفات محكمة الشعب العليا، ثم أرتِّب كل ما جمعْتُه من معلومات وأحوله إلى كتاب، بالإضافة إلى ذلك، عليَّ مراقبة القاضي «ر»، وجمع معلومات عنه، ثم أخطط للهجوم كقاتل مُحترِف، أن أجهز سلاح الجريمة، وأحدِّد المكان والزمان.
ليس السجن هو ما جعلني أتورَّع عن تنفيذ خطتي، فأنا لم أكن أتوقع أكثر من سنوات قليلة. وليس الخوف من حياة فاشلة، فقد كنتُ أتوقع النقيض. كل التبريرات التي سُقتُها بزهو وخيلاء من أجل الكتاب والاغتيال بدت لي مقنعة. كل التشبيهات كانت صائبة، لم يضايقني سوى الشكوك التي ساورتْني بأن هذا كثير جدًّا على شخص واحد. سأعجز عن إنجاز المهمة.