سبت طويل
عندما يتجمع الناس في مظاهرة علنية — قلت لنفسي بعد أن أخذتُ إجازة ساعتين من الفيلسوف روسو — فإنَّ تجمُّعهم يلفت أنظار العالم كله؛ الألمان لم يقبلوا الحكم ببراءة من هُم على شاكلة فرايزلر. بِسَيْري في الشارع كنتُ آمل في أن أشتري سلامي على المكتب: دع «ر» في حاله! يكفي أسبوع من الفوضى في الرأس!
في إحدى العلب الكرتونية التي تضم أوراقًا قديمة وجدت منشورًا من تلك الأيام: كفى! إننا نطالب قوات الحلفاء الأربعة، الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي وبريطانيا العظمى وفرنسا، أن تمارس حقها المباشر الممنوح لها كقوة احتلال في برلين الغربية، لتأمين تنفيذ قرارات مؤتمري يالطا وبوتسدام. إن هاتين الاتفاقيتين تلزمانِنَا بمكافحة النازية في ألمانيا واقتلاعها من الجذور. إننا نطالب قوات الاحتلال بأن تضع الاتفاقيتين أخيرًا موضع التنفيذ الجدي!
أما شباب المَاوِيِّين فَهُم أكثر المجموعات التي أثارت اشمئزازي. كانوا يطلقون على أنفسهم «الحرس الأحمر»، يرفعون صور ماو في الهواء ويزأرون بصوت جماعي متقطع: «ماو-تسي-تونج!» كانوا يُلوِّحون باللافتات التي علَّقوها على عيدان خشبية عالية، في كل مكان نفس الصورة التي تفوق الحجم الطبيعي، وعليها ابتسامة البروباجاندا الوديعة للزعيم الصيني. الصورة الوحيدة التي سمحوا بعرضها في التلفزيون يوم الاعتراض على تبرئة القاضي، مئات المرَّات، أثار ذلك أعصابي. ليس لرئيس الصينيين أي علاقة بالقضاة النازيِّين وضحاياهم، مطلقًا. بنظرته السلطوية يكسحهم من طريقه كسحًا، وبابتسامته يستهزئ بهم. وهو بذلك يساعد على تَناسي الماضي. إن الصور التي تظهر زعيم بكين في زيه الرسمي — هكذا شعرت — تقتل مُناضِلي المقاوَمة مرة أخرى.
ينبغي أن أنزع هذه الراية المقدَّسة من أحد تلاميذ ماو على الأقل، غير أني كنتُ أكثر جبنًا من أن أفعل ذلك. كل ما فكرت فيه: لماذا لا نحمل على الملأ صور النساء والرجال الذين لقوا مصرعهم شنقًا أو رميًا بالرصاص أو بقطع الرأس بعد أن أصدر «ر» أحكامًا قضائية بذلك؟ ٢٣٠ قتيلًا، حتى لو كان الأمر صعبًا، قلت لاحقًا لكاترين: إني سأجمع خلال أسبوع صورًا لهؤلاء، ليس عسيرًا العثور على عشر صور أو عشرين صورة، أنا نفسي عندي عدد منها في البيت، صورة جروسكورت وهافَمان.
لم تكن جملة كلارسفيلد وحدها هي ما جعلتْنِي أنحرف عن درب الفضيلة، وأن أهجر روسو وواجباتي الجامعية، لم تكن هي وحْدَها التي حرَّضتْنِي على مُعاوَدة التفكير في فعلتي، كلا، إنه السخط على أتباع ماو. أحد خطباء حزب الوحدة الاشتراكي في برلين الغربية وقف خلف الميكروفون، فاستقبله الجمهور بصيحات الاستهجان وصفارات الاستياء. عندما قال: إن «ر» حكم عليه شخصيًّا بالسجن مدى الحياة، رانَ الصَّمت بُرهة، ثم راح جناح ماو يصفق متهكمًا. حاول أن يقرأ جمله القصيرة الحادَّة، وكان عليه أن يناضل ضد الصفارات والصيحات الجماعية: «ماو تسي تونج!» أو «دوبتشك!»
قابلتُ أحد معارفي من سيمنار روسو، فقلت له: يجب أن نسمح له بالكلام!
فأجاب بلا اكتراث: ليس من حق أتباع مراجعة التاريخ أن يظهروا هنا.
كان يتميز بالذكاء في مناقشات السيمنار، يفوقني بمراحل في البلاغة والثقافة، والآن يَدَّعِي أنه من الخطأ أن نتوقع من القضاء البورجوازي الفاشي شيئًا آخَر غير أحكام بورجوازية فاشية. وأضاف: سيقولون: إنه كان علينا خدمة الشعب، وبالنسبة للشعب كانت مثل هذه الأحكام سواء؛ لأنه يعلم أنه ليس للقضاء البورجوازي الفاشي مهمة أخرى غير الدفاع عن الإمبريالية. بادرتُه بالقول: إننا نتحدث عن النازيِّين.
– يبدو أنك أيضًا من الأتباع السِّرِّيين لمراجعة التاريخ. لا يمكن إجراء قضايا ضد هؤلاء المجرمين إلا إذا قامت الجماهير بذلك، عندئذٍ فقط سيكون من المستحيل صدور أحكام بالبراءة كهذه.
كنا على وشك الوصول إلى محكمة الشعب العليا، فأعرضْتُ عن مواصلة السير. أحسستُ بغُصَّة في الحلق، وبحجر في أعماقي، في البداية شعرتُ بشيء كالبَحَّة في حلقي، ولم يكن السبب تلوث الهواء في شهر ديسمبر أو ضوء العصر الرمادي الثقيل العكر. عدوتُ، ربما وحيدًا، إلى محطة المترو، وكنتُ أعلم تمامًا: لن تجد هواء ولا مكانًا ولا كلمة بين الأحزاب القديمة والجديدة.
ما أثار امتعاضي كان ذلك التسابق الطفولي على التظاهر والمزايدة كما وصفته كاترين. كان خطباء التمرد، في صراعهم حول الأماكن المتقدمة في الحركة التقدمية، يزايدون على بعضهم بعضًا بعبارات وأفكار تزداد تطرفًا. ما أشادوا به بالأمس باعتباره الطريق الثوري الوحيد للخلاص، يلعنونه اليوم بلا خجل ويصمونه بأنه «إصلاحوي» و«مراجعوي». لم يكن في مقدروهم أن يبقوا على رأي واحد — هكذا بدا — لمدة شهر، كل وضع جديد، أو كل زعم بوضع جديد، كل نظرية يدرسونها تؤدِّي إلى تقديرات واستراتيجيات جديدة — وهو أفضل عذر كي لا يتم المرء أي مشروع على الوجه الصحيح. أسرع، أبعد، أعلى، وبقدر الإمكان بأعلى صوت … من يُتقِن هذه اللعبة، دانْت له الغلبة على المنصة. أما الأتباع المحدثون للأيديولوجية الماوية والأتباع المتعالمون للأيديولوجية الروسية فكانوا أسوأ من ذلك بكثير. لم يكن حكم براءة القاضي النازي بالنسبة لهم سوى ذريعة للبروباجاندا.
لقد وصلَت الحركة الطلابية إلى طريق مسدود — لم تخطر على بالي هذه الرؤية واضحةً كما حدث في تلك الدقائق. ركبت مترو الأنفاق حتى ميدان «فيتنبرج»، ثم صعدتُ إلى غسق ذلك العصر الديسمبري، شاعرًا بالأمر كأنه خَبطة على رأسي وسط الجماهير الغفيرة التي تموج بها شوارع التسوق. إنهم هنا، تلك الجماهير التي نبحث عنها، في يوم السبت، قبل أسبوعين من عيد الميلاد، مثقلون بأكياس التسوق، يركضون بتوتُّر رائع من متجر إلى آخر، ويتدافعون إلى أماكن وقوف السيارات ومحطات الباصات. لم أعد أرى وجوهًا، ليس سوى الأكياس والشنط، رجال متنكرون في زي بابا نويل يقفون أمام المتاجر ويبتسمون ابتسامتهم الصفراء، في واجهات الصيدليات غُصون من شجرة عيد الميلاد، كُريَّات حمراء مُعلَّقة في الشجرة أمام جدار من الورق المفضض في محلات مستحضرات التجميل، بين المَعاطِف والتَّنُّورات والبلوزات يتأرجح ملائكة ذَهَبِيُّو اللون على حبال ذهبية.
وهكذا عُدتُ إلى الصور السحرية الثلاث وإلى حكاية جروسكورت، وكلي عزم على أن أجعل الناس يرون على الأقل وجهًا أو وجهين أو أربعة من وجوه الرجال الذين قتلهم «ر».