تأسيس الدولة الأموية
(١) حياة معاوية
الرجال ذوو الشخصيات الكبيرة التي تطل على هذا العالم قليل، غير أن أنوارهم وضَّاءة فيَظَلُّون منارًا يُهتدى به، وباعثًا قويًّا يَدْفع أبناء الأجيال المقبلة على استثمار نتاج قرائحهم ومجهوداتهم كما يكون جوُّهم العقلي والأدبي والسياسي والديني جوًّا راقيًا صافيًا لا تشوبه غيوم الظلمة والجهالة، من هؤلاء الرجال شاب عاش منذ اثني عشر قرنًا ونيف، رُبِّيَ في سهول الحجاز المُقْفِرة وهو طفل، وأظلته سماء سورية وهو يانع، ذلك الشاب هو معاوية بن أبي سفيان.
حقًّا إن حياته السياسية الطويلة تُظْهِر لنا قوة الزعامة في الرجل وتمَكُّنه من منصبه والمحافظة عليه دون أن يعتريه اليأس فينقلب خاسرًا مدحورًا، ويعترف أعداؤه السياسيون بقوة شخصيته التي تَسْحَر النفوس فتجذبها، غير أنهم يتألمون منه لأنه جعل من الخلافة ملكًا ضخمًا فخمًا، وحطم أساس الشورى في الإسلام بقيامه على علي بن أبي طالب وإقراره الملك في أعقابه.
(١-١) لماذا ساعده أنصاره؟
(١-٢) أشهر قادته
(١-٣) اليمنيون والقيسيون
إن معاوية وإن كان قيسيًّا في انتسابه، فقد علم عِلم اليقين أن الاتفاق مع القبائل العربية المتوطنةِ سوريةَ منذ أجيال دعامة كبيرة في سبيل دعوته، وركنًا متينًا في توطيد العائلة المالكة الأموية، وكان اليمنيون — أولئك الذين اعتادوا النظام والحياة الهادئة في ظل الحكومة البيزنطية — من أكبر مساعدي معاوية على إدارة سورية.
أمَّا القيسيون فقد كانوا يسكنون التخوم في الجهة الشرقية من سورية وهم أقلية، نجد أغلبهم في قنسرين، والاعتماد عليهم دون سواهم غلط فادح لكثرة اليمانية، ويشهد بذلك أن معاوية حين ابتدأ في نزاعه مع علي أُشيرَ عليه باكتساب رضى اليمانية وعلى الأخص زعيمهم شرحبيل بن السمط.
إن اليمنيين والقيسيين بامتزاجهم مع سكان سورية رقَّتْ عقليتهم ونمت أفكارهم نوعًا ما، فنزعوا عنهم ثوب البداوة، ومِن المهم أن نُقَرِّر أن هؤلاء العرب — وخصوصًا أبناؤهم — أخذوا ينسون وطنهم الأول ويَرَوْن في سورية وطنًا ثانيًا، وقد كانوا ذوي ليونة ومران قابلين لكل تجدُّد.
(٢) الحرب الأهلية أو نزاع معاوية مع علي
(٢-١) المعتزلة
(٢-٢) العثمانية
أمَّا القبائل فكان قسم منها مع علي وقسم آخر مع معاوية، لكن باهلة وبكر القبيلتان العراقيتان الصميمتان كانتا مِنْ أخلص المخلصين لدعوة ابن أبي طالب، ثم انضمت إليه تغلب في الجزيرة واشتركت معه، كما اتحدت قبلًا مع غيره مُحَافِظةً على مصالحها لقربها من العراق، ولم يكن بنو تغلب من الذين يضحُّون بأنفسهم في سبيله؛ لأننا نراهم بعد ذلك في صفوف معاوية في الكوفة، إلا أن المتوطنين سورية منهم كانوا من حزب ابن أبي سفيان، وتَرَدُّد شاعرِهم الأخطل الشامي — كما يسميه الفرزدق — على بلاط الأمويين قدمًا كافٍ للدلالة على ذلك.
(٢-٣) معركة صفين
القتال بين جيش علي وجيش معاوية
بروتوكول صفين
- أولًا: ينزل الحكمان والفريقان عند حكم الله عز وجل وكتابه.
- ثانيًا: الحكمان هما: أبو موسى الأشعري عن أهل العراق وعمرو بن العاص القرشي مِن قِبَل أهل الشام.
- ثالثًا: يعتمد الحكمان على السُّنَّة العادلة الجامعة غير المفرقة فيما لم يجداه في كتاب الله.
- رابعًا: الأمن والاستقامة ووضْع السلاح جارٍ بين أفراد الحزبين أينما ساروا على أنفسهم وأهليهم وأموالهم وشاهدهم وغائبهم.
- خامسًا: الأمة لهما أنصار على ما يتقاضيان به، وليس لعلي ومعاوية أن ينقضا مما حُكِمَ به في كتاب الله وسنة نبيه، وهما آمنان في حكومتهما على دمائهما وأموالهما وأشعارهما وأبشارهما وأهليهما وأولادهما.
- سادسًا: مكان قضيتهما الذي يقضيان فيه مكان عدل بين أهل الكوفة (العراق) وأهل الشام، ويأخذ الحكمان من أرادا من الشهود.
- سابعًا: أجل القضاء إلى رمضان، وإن أحبَّا أن يؤخرا ذلك أخَّراه على تراضٍ منهما.
نقد بروتوكول صفين
حقًّا إن معاهدات السياسيين بها شيء من الإبهام وعدم التحديد، ولعلهم أنفسهم يودُّونها أن تكون كذلك كيما يعلقوا المسائل تعليقًا دون حلٍّ نهائي لها، إذ ربما تسنح الفرص بعد ذلك بتتميمها، ومن هذا القبيل نرى أن المادة الأولى من هذا الاتفاق غير محدودة، إذ ما معنى حكْم الله؟ وما هي التفصيلات الدقيقة التي يجب أن يبحث فيها أعضاء المؤتمر حين يضعون أيديهم على «حكم الله» إذا وجدوه ووصلوا إليه؟
(٢-٤) مؤتمر أذرح
دومة الجندل وأذرح
وقال الأسود بن هيثم في المؤتمر:
المقابلة بين حزب علي وحزب معاوية
لا بِدْع أن الحزبين لم يكونا متعادِلَيْن في المندوبَيْن السياسيَّيْن اللذين مثَّلاهما؛ لأن عمرًا ذلك الداهية المشهور يَعْلَم من أين تؤكل الكتف في الأمور السياسية الخطيرة، عدا ما اتصف به من فصاحة اللسان، ولما كان معاوية يشكُّ في حُسْن مقاصده فقد أرسل له أخاه عُتْبةَ مشيرًا.
أبو موسى الأشعري وعمرو بن العاص
أمَّا أبو موسى الأشعري فكان حاكمًا للكوفة يوم مُثِّلت مأساة المدينة، إلا أنه حين اشتعلت نار الحرب الأهلية اعتزل الفتنة، وهو من أصحاب رسول الله، له شَرَفٌ ونُبْل، لكنه لم يكن ليعدَّ من أنداد عمرو في أساليب السياسة والدهاء، ولقد كان خطيبًا ذا أُفُق عقلي محدود، ومهما يكن من أمرهما فإن المفاوَضات التي دارت بين الاثنين تُظْهر لنا شخصيَّتَهما وقواهما العقلية في الدفاع عن آرائهما.
إن الحزبين لم يقتتلا في سهل صفين إلا لأن عليًّا لم يَرْضَ بتسليم قتلة عثمان للقضاء، فأبى أهل الشام — العثمانية — الاعترافَ به خليفةً للمسلمين؛ ولذا عُقِدَ مؤتمر أذرح، وحضور العراقيين هذا المؤتمر لم يكن إلا مجاملة يقومون بها قَبْلَ أن يكون النصر حليف ابن أبي طالب، أمَّا السوريون فقد قَدِموا وفي أدمغتهم فكرة الشك في حقِّ علي بالخلافة وترشيح معاوية لها مع أنه لم يَدَّعِها علنًا، وودَّ ابن أبي سفيان من صميم القلب أن يُظْهِر مداخلةَ خَصْمِه في فاجعة المدينة كيما لا يكون لنصير القتلة حقٌّ بالخلافة.
الغلط الفادح الذي ارتكبه الأشعري
معاوية مؤسس الدولة الأموية في الشام
خرج معاوية من هذا المؤتمر خاسرًا حقًّا ليس له، ورابحًا عطف الناس، إذ إن عليًّا لم يعترف بما أقرَّ عليه الحكمان، وهو تخلِّيه عن المركز العظيم الذي تسنَّمه أعوامًا عديدة والرجوع إلى الشورى، وإن ظلَّ عليٌّ بعد ذلك متمكِّنًا من الحجاز والعراق وغيرهما من الأقطار، فقد بقي معاويةُ المُسَيْطرَ على الشام والرجلَ الذي بدأ يَرَى فيه العالَمُ الإسلامي الشخصيةَ الكبيرة القادرة على توطيد السلام؛ ولذا نقول: إن مفاوضات مؤتمر أذرح السياسية أدَّت إلى نتائج عظيمة لم تكن لتأتي عن طريق صفين وغيرها من المعارك التي تُسْفَك فيها الدماء الزكية.