مأساة الحسين
(١) العوامل لتحطيم العرش الأموي في الشام بعد وفاة معاوية
- فالعامل الأول: في عُرْفنا هو قيام الحزب العلوي برئاسة الحسين بن علي بن أبي طالب لاسترجاع ما فَقَدَهُ من السلطة في مؤتمر أذرح ونشاطه إلى ذلك نشاطًا عظيمًا.
- وأما العامل الثاني: فهو طَمَع الزعماء من الصحابة إلى التغلب والسيطرة كعبد الله بن الزبير وعبد الله بن عمر بن الخطاب وغيرهما.
- وأما العامل الثالث: فهو نفرة الحجازيين والعراقيين من الأمويين لاحتكارهم أعمال الدولة ومهامَّ الأمور فيها، فلم تكن للحجازي والعراقي يد فعَّالة في تسيير دفة الأحكام كما كان للشامي، ولا ريب أن انتقال العاصمة من المدينة إلى دمشق جَعَلَ زمام الأمور بطبيعة الحال تحت سيطرة النبلاء العرب الشاميين، ثم إن الْتجاء الزعماء الحجازيين إلى العراق وبثَّهم الدعوة ضد بني أمية حرَّك في صدور أبناء الرافدين أسباب الفتن التي أدَّت إلى المذابح الشائنة والحروب الأهلية بين أبناء الوطن الواحد، ففتك الشامي بالعراقي وأَعْمَلَ العراقي السيف بالشامي، وإذا تتبَّعْنا مصدر هذه الفتن لتحقَّقْنا أن محرِّكها الأكبر هو استثمار الزعماء والأحزاب للعاطفات الدينية في سبيل الوصول إلى غاياتهم السياسية كما سيتبيَّن معنا.
- وأما العامل الرابع: فهو قيام رجال من ولاة الأمويين الذين لجئوا إلى البطش وسياسة الدم والحديد، فنجحوا نجاحًا باهرًا في توطيد الأمن وتهدئة الثورات — مؤقتًا — ولكن لم يكد كابوسهم يرتفع عن الصدور حتى قذفت تلك الصدور نيرانًا وحممًا.
(٢) الحزب العلوي ومأساة الحسين بن علي
(٢-١) لعن يزيد
- أمَّا الفئة الأولى: فهي مخطئة في اعتقادنا؛ لأنها تُرْجع أسباب الحادثات إلى الملوك، وترى أنهم هم الذين يكوِّنون مجاري التاريخ، وما التاريخ إلا سلسلة حركات متصلة لا بدَّ أن تعمل عملها، سواء أكان يزيدُ مستوليًا على العرش أو غير يزيد، وسنفصِّل لك الأسباب التي دَعَتْ إلى مأساة الحسين تفصيلًا مُسْهَبًا يريك أن لكل حادث سببًا، وأن لكل سبب نتيجة هي مرهونة بأوقاتها، وأن اللعنة التي يلعنها المسلمون ليزيد هي ليست من الأهمية على شيء في نظر التاريخ العلمي الذي يستبصر بنور الحياد الصحيح ويترفع عن الحزبية وتعصباتها.
- وأما الفئة الثانية: فليس لها أن تحكم على شاب رُبِّيَ في محيط شامي يختلف تمامَ الاختلاف عن المحيط الحجازي الذي عاش في كنفه الخلفاء الراشدون، فالمحيط الحجازي هو مركز الزهد والتقشف والتمسك برابطة الدين وتعاليمه، بينما دمشق هي عاصمة البيزنطيين الشامية وفيها من أسباب مدنيتها ما أَدْهَشَ العرب وجعلهم مع الزمن ينسجون على منوالها ويقتبسون فوائدها، ومما لا ريب فيه أن المؤرخين يرتكبون خطأً فاحشًا إذا جعلوا مقياس حكمهم على يزيد هو المقياس الذي يقيسون به أعمال عمر بن الخطاب وغيره من الصحابة مثلًا، وإن لكل زمن مقياسًا، فلا يمكنك البتة أن تَحْكُم على ابن القرن الثاني وتزن أعماله بميزان ابن القرن الأول، ناهيك أيضًا باختلاف الأمكنة ومؤثراتها، فالشام هو غير الحجاز والحجاز هو غير العراق، وقِسْ على ذلك.
(٢-٢) وفاة معاوية، مراسم الدفن
(٢-٣) يزيد الشديد
يتأكَّد طالب التاريخ لدى دراسته أحوال يزيد أنه كان يميل إلى الشدة في تثبيت دعائم ملكه، فلم يَتَوَانَ ولم يكسل ولم يغضَّ النظر عن الزعماء الذين أرادوا الوثوب به والتنكيل بحزبه، فأرسل إلى الولاة في الأطراف يطلب منهم البيعة له دون إبطاء ولا مماطلة، يثبت لنا رأيَنا هذا رسالتُه إلى الوليد بن عتبة حاكم المدينة، فهو يأمره بها أن لا يتساهل البتة مع الحسين بن علي وعبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير، وأن يكون لهم بالمرصاد إذا أرادوا العصيان والثورة.
(٢-٤) مؤامرات الحزب العلوي في الكوفة
أبى الحسينُ البيعةَ ليزيد، فجمع أهْلَ بيته وشيعته وانطلق إلى مكة، فاختلف الناس إليه والتفوا حَوْلَه حلقات حلقات، واحتفلوا به وانتصروا له، فكَثُرَ رجاله وانتشرت دعوته بينهم، وقد اتصل هناك برسل الكوفيين من الشيعة الغاضبين على يزيد فشجَّعوه على القدوم إليهم لينادوا به أميرًا للمؤمنين بدلًا من يزيد بن معاوية المُغْتَصِب لعرش أبيه علي بن أبي طالب ابن عم الرسول.
(٢-٥) رسائل الكوفيين للحسين بن علي
الرسالة الأولى
بسم الله الرحمن الرحيم
الرسالة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم
الرسالة الثالثة
(٢-٦) رسائل الحسين للكوفيين
أمام هذه الجهود العظيمة التي بَذَلَهَا الكوفيون في بثِّ دعوته، وتلك المواعيد الجميلة الجذابة التي توارَدَتْ عليه في أيام قلائل، لم يرَ الحسين رأيًا أصوب من الالتحاق بهم، فمهَّد لذلك السبل، فأرسل مسلمَ بنَ عقيل بن أبي طالب — وهو ثقته — وطَلَبَ إليه المسير إلى الكوفة لنشر الدعوة وتنظيم الحركة العلوية تنظيمًا يدعو إلى النجاح، وأخذ البيعة وجمع الرجال والأموال، وبعث معه رسالة يدعوهم بها إلى التكاتف والتعاضد، وهي ترمي إلى معرفة أحوالهم تمامًا قبل الإقدام على استلام مهامِّ الزعامة فيهم، ووردت هذه الرسالة بنصوص عديدة، لكنها لا تختلف في مطالبها الجوهرية، وإليك نصَّين منها يُثْبتان دعوانا:
النص الأول
بسم الله الرحمن الرحيم
النص الثاني
بسم الله الرحمن الرحيم
من حسين بن علي إلى الملأ من المؤمنين والمسلمين.
(٢-٧) مسلم بن عقيل في الكوفة واجتماع الشيعة بحضرته
(٢-٨) ضعف النعمان بن بشير والي الكوفة
(٢-٩) ولاية عبيد الله بن زياد العراق
أسباب نجاحه في قمع الثورة
وإني لأميل إلى الاعتقاد أن عبيد الله بن زياد نجح في مهمته وقضى على أركان الحزب العلوي لسببين رئيسيين: الأول اتباعه سياسةَ الشدة والإرهاب والإعدام لمجرد الظن والتهمة، وإعلان الأحكام العرفية من أقصى البصرة إلى أقصى الكوفة، واعتماده على القساة في تنفيذ خططه وانتهازُه الفرص دون تردُّد ومراوغة، فثبَّت دعائم الخلافة الأموية بعد أن كادت تميد في أرض العراق، ثم إنه أحسن كل الإحسان إلى مريديه وأتباعه، فجعل منهم ألسنة شُكْر تسبِّح بحمده، وأولى مَنْ أطاعه نعمة الأمان على نفسه وأهله ومقتنياته، وأساء كلَّ الإساءة إلى عشائر الذين يَرَوْن خذل الأمويين ووجوبَ التخلُّص منهم مبدأً قويمًا، فاستقامت له الأمور واستقرت الأحوال، ولنا من بعض فقرات تلاها في خطبه في البصرة والكوفة ما يؤيد دعوانا، وهاك أهمها:
والخلاصة أن الجماعات التي أقامت النكير على بني أمية وراسلت الحسين وأكَّدت له إخلاصها وذرفت أمام مسلم أعز دموعها هي الجماعات التي ابتاعها عبيد الله بالدرهم والدينار.
(٢-١٠) فاجعة مسلم بن عروة المرادي
تأَلَّمَ مسلم تألمًا عميقًا لهذه المعاملة وتأثَّر تأثرًا بليغًا، فاندفع مع أصحابه — ويقدَّرون بأربعة آلاف — ونادى بشعاره، وقدَّم مقدِّمَته وعبَّأ ميمَنَته وميْسَرَته، وسار في القلب، وهاجم قصر عبيد الله بن زياد، فكاد ينتصر لولا أشراف الكوفة الذين غرَّهم المال فأخذوا يُرْهِبونهم تارة ويمنُّونهم الخير تارة أخرى إلى أن تَسَلَّل عنه جنده، وظل شريدًا طريدًا لا مأوى يأوي إليه، ولا قَلْبَ يعطف عليه سوى قلب امرأة عجوز فأَدْخَلَتْه إلى دارها، لكن ابنًا لها وشى به، فأحاطت الشرطة البيت وقبضت عليه بعد أن أَعْمَلَ فيها سيفه ودافَعَ دفاعًا مجيدًا، أما وَقَدْ وَقَعَ مسلم وهانئ في قبضة عبيد الله فما كان منه إلا أن أَمَرَ بإعدامهما، فأُصْعِد مسلم إلى أعلى القصر حيث ضُرِبت عنقه وأُلقِيَتْ جثته إلى الناس، وأخذ هانئ إلى سوق الكوفة فصُلِب فيه، وهكذا خُتِم الفصل الأول من هذه المأساة.
فرثاهما الشعراء، وأبلغ ما قرأت الأبيات المنسوبة إلى عبد الرحمن بن الزبير، وهي:
(٢-١١) الحسين في العراق
(٢-١٢) واقعة كربلاء
أصرَّ عمر بن سعد بن أبي وقاص على الحسين في البيعة ليزيد، والنزول على حُكْم ابن زياد فأبى، فاشتعلت نار الوقيعة بين الطرفين، فلم يزل أصحاب الحسين يقاتلون ويُقْتَلون ويتنافسون في الذود عنه حتى فنوا عن بكرة أبيهم، ولم يَبْقَ منهم أحد، وبقي الحسين يَنْتَظِر مَنِيَّتَه وكلٌّ يهاب قَتْل ابن بنت رسول الله إلى أن أَقْدَم شمر واحتزَّ رأسه، ثم داست الخيل ظَهْرَه وصَدْره، والحقيقة التي لا غبار عليها أن أصحاب الحسين قاتلوا أعداءهم قتال المستميت، وأظهروا من ضروب الشجاعة ما يفوق الوصف، وقد قُتِل من أصحاب عمر بن سعد ثمانية وثمانون رجلًا سوى الجرحى.
أسباب سقوط الحسين
- السبب الأول: هو اعتماد الحسين اعتمادًا كليًّا على الكوفيين الذين أَثْبَتَ التاريخ
تردُّدهم وشقاقهم وعبثهم بحقوق أبيه وأخيه من قبله، وعدم استعدادهم الاستعداد
الحربي الكافي لطرد الجيش الأموي القليل العدد من العراق، فهم من الجماعات الذين
يتهالكون في الحب والإخلاص — ولكن عن بُعْد، وفي عالَم النظريات — فلا يبذلون
درهمًا واحدًا في تهيئة خُطَّة منظمة يسيرون بحسبها ويجدُّون في تحقيقها، وكل ما
لديهم من السلاح خُطَبٌ حماسيةٌ وكلامٌ جذابٌ ودموعٌ سخيةٌ يذرفونها حينما يذكرون
آلامهم وبؤسهم وظلامتهم، ولنا من نصائح المخلصين للحسين أكْبر دليل على ما
قدَّمناه، قال أحد أعمامه ينصحه: «إني أنشدك الله لما انصرفْتَ، فوالله لا تقدم إلا
على الأسنة وحدِّ السيوف، فإن هؤلاء الذين بعثوا إليك لو كانوا كَفَوْك مئونة
القتال ووطَّئُوا لك الأشياء تقدَّمت عليهم كان ذلك رأيًا.»٣٢وقال عبد الله بن مطيع: «إذا أتيت مكة فإياك أن تقرب الكوفة فإنها بلدة مشئومة، بها قُتِل أبوك وخُذِل أخوك واُغتيل بطعنة كادت تأتي على نَفْسه، فإنك سيد العرب لا يَعْدِل بك — والله — أهْلُ الحجاز أحدًا، ويتداعى إليك الناس من كل جانب، لا تفارق الحرم فداك عمي وخالي، فوالله إن هَلَكْتَ لنُسْتَرَقَّنَّ بعدك.»٣٣وقال عبد الله بن عباس وهو يؤكد تنفُّذ الأمويين في العراق وضَعْف أخلاق الكوفيين — ويستشهد التاريخ على ذلك: «أرجف الناس أنك سائرٌ إلى العراق، فبيِّن لي ما أنت صانع … أتسير إلى قوم قد قَتَلُوا أميرهم وضبطوا بلادهم ونفوا عدوهم، فإن كانوا قد فعلوا ذلك فَسِرْ إليهم، وإن كانوا إنما دَعَوْك إليهم وأميرهم عليهم قاهرٌ لهم وعمَّاله تجبي بلادهم فإنهم إنما دعوك إلى الحرب والقتال، ولا آمن عليك أن يغرُّوك ويكذبوك ويخالفوك ويَخْذلوك وأن يستنفروا إليك، فيكونوا أشد الناس عليك.»٣٤ولابن عباس أيضًا في نصيحة الحسين: «إني أتخوف عليك في هذا الوجه الهلاك والاستئصال، إن أهل … قوم غدر فلا تَقْرَبَنَّهم، أَقِمْ بهذه البلد فإنك سيد أهل الحجاز، فإن كان … يريدونك فاكتب لهم فلينفوا عدوهم.»٣٥وقال أبو سعيد الخدري يرجو الحسين أن لا يستسلم لأهل الكوفة: «يا أبا عبد الله … إني لكم ناصح وإني عليكم مُشْفِق، وقد بَلَغَني أنه كاتَبَكُم قومٌ من شيعتكم بالكوفة يدعونك إلى الخروج إليهم، فلا تخرج فإني سمعت أباك بالكوفة يقول: والله لقد مللْتُهُم وأَبْغَضْتُهم وملُّوني وأَبْغَضُوني، وما بلوت منهم وفاء، ومن فاز بهم فاز بالسهم الأخيب، والله ما لهم ثبات ولا عَزْم على أَمْر ولا صَبْر على السيف.»٣٦ويظهر أن لمعاوية رأيُ الجماعات الذين تقدَّمَتْ آراؤهم في أهل الكوفة، فعرف تخاذلهم وانقسام بعضهم على بعض، فقال ليزيد حين أوصاه: «انظر إلى حسين بن علي ابن فاطمة بنت رسول الله، فإنه أَحَبُّ الناس إلى الناس، فَصِلْ رحمه وأرفق به يَصْلُح لك أَمْره، فإن يكُ منه شيء فإني أرجو أن يكفيه الله بمن قتل أباه وخذل أخاه (يعني بهم أهل الكوفة).»٣٧
- السبب الثاني: هو عدم اهتمام الحسين الاهتمام الكلي في تنظيم دَعْوته Propaganda ونَشْرها بين الناس، فظنَّ أن القوم سيُقْدِمون على بيعته
ويتهالكون في نُصْرته لانتسابه إلى رسول الله، وقد فاته أن الحياة جهاد، والقويُّ
القويُّ فيها هو السبَّاق إلى اكتساب ولاء الناس، إمَّا ببذل الأموال لهم وإشراكهم
في بعض المطامع الدنيوية، وإما بإسناد المناصب العالية لأشرافهم وزعمائهم كما فعل
الأمويون.
وقد نبَّهه أخوه محمد ابن الحنفية فأوصاه بقوله: «تنحَّ بتبعتك عن يزيد بن معاوية وعن الأمصار ما استطعت، ثم ابعث رُسلك إلى الناس فادعهم إلى نفسك، فإن بايعوا لك حمدت الله على ذلك، وإن أجمع الناس على غيرك لم يُنْقِص الله بذلك دينك ولا عقلك ولا يذهب به مروءتك ولا فضلك، إني أخاف أن تدخل مصرًا من هذه الأمصار وتأتي جماعة من الناس فيختلفون بينهم، فمنهم طائفةٌ معك وأخرى عليك فتكون لأول الأسنة، فإذا خيرُ هذه الأمة كلها نفسا وأبًا وأمًّا أضيعها دمًا وأذلُّها أهلًا، فانزل مكة فإن اطمأنَّتْ بك الدار فسبيل ذلك، وإن نَبَتْ بك لَحِقْتَ بالرمال وشعف الجبال وخرجت من بلدٍ إلى بلدٍ حتى تنظر إلى ما يصير أَمْرُ الناس، وتعرف عند ذلك الرأي فإنك أصوب ما يكون رأيًا وأحزمه عملًا حتى تستقبل الأمور استقبالًا، ولا تكون الأمور عليك أبدًا أشكل منها حين تستدبرها استدبارًا.»٣٨ونوَّه عبد الرحمن بن الحارث بن هشام إلى أهمية الدرهم والدينار وتأثيرها في النفوس، فقال للحسين: «قد بلغني أنك تريد المسير إلى العراق، وإني مشفق عليك من مسيرك، إنك تأتي بلدًا فيه عمالُه وأمراؤُه ومعهم بيوت الأموال، وإنما الناس عبيدٌ لهذا الدرهم والدينار، ولا آمَنُ عليك أن يقاتلك مَنْ وَعَدَكَ نصره ومن أنت أحب إليه ممن يقاتلك معه.»٣٩
- السبب الثالث: هو تخلي الحسين عن اليمن والحجاز وبهما أنصاره الحقيقيون وشيعة أبيه القوية المخلصة، وامتازت اليمن ببُعْدها عن مركز الخلافة ومناعة حصونها وكثرة شعابها، فكان بوسع الحسين أن يبثَّ دعاته في الأقطار وهو آمنٌ مطمئنٌ، فإن فشل في حملته الأولى تلافى أغلاطه في الحملة الثانية، وهكذا كان بإمكانه المطاوَلة ولديه الوقت الكافي لإثارة الخواطر ضد المغتصبين، فذكر له ذلك ابن عباس فقال: «… فإن أبيت إلا أن تخرج فَسِرْ إلى اليمن، فإن بها حصونًا وشعابًا، وهي أرضٌ عريضة طويلة ولأبيك بها شيعة، وأنت عن الناس في عزلة فتكتب إلى الناس وترسل وتبث دعاتك، فإني أرجو أن يأتيك عند ذلك الذي تحب في عافية.»٤٠
- السبب الرابع: هو تشجيع ابن الزبير للحسين من طرْفٍ خفيٍّ على الرحيل إلى العراق كيما
يَتَخَلَّص منه، فإنه استهوى الحجازِيِّين وتمكَّنَتْ محبته من قلوبهم، فما عادوا
ليهتموا بابن الزبير أو يجتمعوا حوله ويستمعوا له، والبرهان على ذلك أنه لما نزل
الحسين إلى مكة أقبل أهلها يختلفون إليه مع جميع المعتمرين والحجَّاج من آهل
الآفاق، فعلم حقَّ العلم أن الحجازيين لا يبايعونه ولا يتابعونه في طلب للخلافة،
والجهاد من أجلها، ما دام الحسين زعيمًا في البلد الحرام، فكان يُرْسِل رُسُلَه له
ليُقْنِعوه بأن الكوفيين هما مادةُ حزبه ونسيج قوته، ويَظْهَر أن هذه الدعوى كان
لها أَثَرُها في نفس الحسين، ولطالما نشط ابن الزبير لئن يَظْهَرَ بمظهر المخلص له
خيفة أن يتَّهِمَه بالنفاق وخشيةَ أن يُفْسِد عليه تدابيره، فصرَّح له مرة: «أما لو
كان لي بها (العراق) مثل شيعتك ما عدلت بها … أما إنك لو أقمت بالحجاز ثم أردت هذا
الأمر هنا ما خولف عليك إن شاء الله.»٤١وقال له أيضًا: «لو أَقَمْتَ بهذا الحرم وبثثْتَ رسلك في البلاد وكتبْتَ إلى شيعتك بالعراق أن يقدموا عليك، فإذا قويَ أمرك نفيت عمال يزيد عن هذا البلد، وعليَّ لك المكاتفة والمؤازرة، وإن عَمِلْتَ بمشورتي طلبت هذا الأمر بهذا الحرم، فإنه مجمع أهل الآفاق ومورد أهل الأقطار ولم يعدمك بإذن الله إدراكُ ما تريد ورجوت أن تناله.»٤٢وكان المسور بن مخرمة يُحذِّر الحسين من ابن الزبير ودعواه في تفاني الكوفيين في محبته فقال له: «إياك أن تغْتَرَّ بكتب أهل العراق، وبقول ابن الزبير لك الْحَقْ بهم فإنهم ناصروك، إياك أن تبرح الحرم، فإنهم إن كانت لهم بك حاجة فسيضربون آباط الإبل حتى يوافوك فتخرج في قوةٍ وعدةٍ.»٤٣ ولمَّا أزمع الحسين على مبارحة الحجاز إلى الكوفة تألَّمَ ابن عباس، ذلك الدماغ المفكر، وأنشد ابن الزبير الأبيات المشهورة الآتية:يا لَكِ من قنبرة بمعمرِخلا لكِ الجوُّ فبيضي واصفريونَقِّري ما شِئْتِ أن تُنَقِّرِي٤٤
- السبب الخامس: هو يقظة الأمويين وإرسالهم الأشدَّاء من ولاتهم إلى المِصْرَيْن، فسدَّ ابن زياد دون الحسين وشيعته المذاهبَ، فمنع الناس من الدخول إلى الحدود العراقية أو الخروج منها إلا بإذن خاص، واحتل احتلالًا عسكريًّا «ما بين واقصةَ إلى طريق الشام وطريق البصرة»، فضمن معرفةَ الصادرِ والواردِ من الدعاة معرفةً طيبةً، ووجَّه ابنُ زياد الجموع الكثيرة لقتال الحسين، وكان يحكم بالموت على كل من يتخلف أو يرتدع عن خوض المعركة، فخافه الناس وجهَّز لنزاله نحوًا من أربعة آلاف، بينا جنودُ الحسين — وهم أهله وأصدقاؤه — لا يتجاوزون المائة، فتأمَّلِ النسبةَ بين العددين، فهي كنسبة واحد إلى أربعين على وجه التقريب.٤٥
- السبب السادس: هو استيلاء الجيوش الأموية على الفرات ومواضع الماء في كربلاء، فمنعوا أنصار الحسين من الدنو منها، فكادوا يَهْلكون عطشًا، وكانت أوامر ابن زياد شديدةً بهذا الخصوص، فطلب إلى عمر بن سعد «أن امنع الحسينَ وأصحابه من الماء فلا يذوقوا منه حثوة»، فبعث خمسمائة فارس نزلوا على الشريعة وحالوا بين الحسين وأصحابه وبين الماء، فيُستنْتَج من ذلك أن الموقع الحربي كان في قبضة الأمويين دون العلويين، وأنه لا بدَّ للحسين من الهجوم إذا أراد الوصول إلى الماء، وهذا يعني ضرورة التضحية، وأنت تعلم قلة عدد جنوده وبؤسهم بعد رحلتهم الطويلة من الحجاز إلى العراق.٤٦
- السبب السابع: هو ارتياب الحسين في حَقِّه بالخلافة واعترافه اعترافًا صريحًا ليزيد بإمارة المؤمنين، وقوله لعمر بن سعد وشمر بن ذي الجوشن والحصين بن نمير أنه مستعدٌ لمبايعة يزيد في دمشق، فيروي لنا الطبري: «لقيَ الحسينُ الخيول بكربلاء فنزل يناشدهم الله والإسلام، وكان بعث «ابن زياد» إليه عمر بن سعد وشمر بن ذي الجوشن وحصين بن نمير فناشدهم الحسين الله والإسلام أن يُسيِّروه إلى أمير المؤمنين فيضع يده في يده فقالوا: لا، إلا على حكم ابن زياد.»٤٧
تألم يزيد لقتل الحسين
ولم يتأخر ابن زياد عن احترام نساء الحسين، فأجرى عليهن الرزق، وأَمَرَ لهن بالنفقة والكسوة وبعثهن إلى دمشق، فدخَلْنَ البلاط الأموي وبنات أعمامهن الأمويات تستقبلهن باكيات نائحات على صريع كربلاء، وأقَمْنَ عليه المناحةَ والحداد ثلاثًا.
لا شكَّ أن يزيدَ لم يفكر البتة بقتل الحسين، ولم يأمل أن تتطوَّرَ المسألة العلوية فتلعب هذا الدور المهيب، ويُقْدِم ابن زياد على الفتك به، لكنه خضع للنتائج التي لم يُحْسَب لها مثل هذا الحساب، فاستشهد قائلًا لما وُضِع رأس الحسين بين يديه:
رثاء الحسين
وبَكَتْهُ زوجته عاتكة بنت زيد بقولها:
التهاويل الغريبة في مأساة الحسين
ولا يَتَوَهَّمَنَّ بعض القراء أن العداء الشخصي كان متأصِّلًا بين يزيد والحسين كما يدَّعي البعض، فوفد الأخير على معاوية، وكان جنديًّا في الجيش الذي توجَّه لغزو القسطنطينية بإمرة يزيد.
هذا ما نظنه الحقيقة من أَمْرِ هذه المأساة، ولا تغرنَّك التهاويل والمبالغات التي يدعي بها البعض، فهي خلو من البراهين الثابتة.