الحركة الزبيرية
(١) الأسباب التي ساعَدَت ابْن الزبير على النجاح
كان للزعماء من الصحابة مطامِعُ سياسية عظيمة، فعَمِلَ أكابرهم على بَذْل الأموال والأرواح في سبيل الوصول إليها، ولم يَتَوَانَ ابن الزبير في السعي وراء تسنُّم عَرْش الخلافة؛ خصوصًا بعد وفاة معاوية بن أبي سفيان، لكن أنَّى له النجاح وقد تَطَلَّب الزعامةَ ابنُ بنت الرسول والْتَفَّ الناس حَوْلَه في الحجاز، أمَّا الأسباب التي جَعَلَتْه يلعب دورًا كبيرًا في التاريخ الأموي ويظهر بمظهر الزعيمِ القويِّ الشكيمةِ فهي كما يأتي:
(١-١) السبب الأول: فاجعة كربلاء ومقتل الحسين
أعلن عبد الله ابن الزبير دَعْوَتَه للناس وحقَّه في الخلافة بعد مقتل الحسين، وكان قبلًا لا يجرأ على التصريح بِطَلَبِها، فاستفاد من فاجعة كربلاء وأخذ يحمل الحملات الخطابية الواحدة إثر الأخرى ضد بني أمية، فعرَّض بيزيد ووصف استهتاره وتمتُّعه بملاذ الحياة الدنيا، ثم رجع فبكى حسينًا واستبكى الناس عليه، وعدَّد مزاياه الشريفة، فذَكَرَ وَرَعَه وتقاه وشجاعته وفَضْله وإحسانه، ولام أهل الكوفة وعاب عليهم غَدْرهم بالحسين ورياءهم وحماسهم الفارغ من أجل قضيته، فأثَّرَ على الحجازيين خاصة وعلى الأحزاب المعارضة الغاضبة عامة، فالتفوا حَوْلَه ورأوا به الزعيمَ القادر على أن يثأر للدم الزكي المسفوك ظلمًا وعدوانًا، فأنت ترى أن الرجلَ الذي كان يُشَجِّع الحسين على الرحيل إلى العراق ويمدح الكوفيين ويَرْفَع ذِكْرهم، هو الرجل نفسه الذي كان يقف يومذاك على منابر مكة ليُعَرِّض بهم ويغمز من قناتهم.
(١-٢) السبب الثاني: الصحابة لا تنازع ابن الزبير
(١-٣) السبب الثالث: ضعف الحامية الأموية وتعدُّد الولاة في الحجاز
(١-٤) السبب الرابع: فقر الحجازيين واغتصاب الأمويين لأملاكهم وأراضيهم
لا ريبَ أن لاقتصاديات الأمة الشأن الأكبر في مجاري حياتها السياسية، فإن كانت المشاريع التجارية والزراعية والمعدنية وغيرها سائرةً سيرًا حسنًا يضمن لأهلها ربحًا جزيلًا تظلُّ تلك الأمة ناعمةَ البال قريرةَ العين لا تفكر في الثورة ولا في العصيان، ولو دَرَسْنا طبيعة الوسط الحجازي لوجدناها فقيرة قاحلة إلا فيما ينتجه نخيلها من التمور التي يصدِّرونها للخارج فيعيشون عليها، وكان معاوية يسعى لإضعاف الحجاز وتقوية الشام، فلم يبذل للحجازيين في العطاء فأُجبِروا على بَيْع أملاكهم فاشتراها منهم بأبخس الأثمان، فلما قام ابنُ الزبيرِ عاضَدُوه آملين أن يُنْصِفَهم ويردَّ عليهم أموالهم وأملاكهم.
ويروي الفخري أنه استشهد بالبيت الآتي حينما بَلَغَتْه ثورة المدينة:
بينما كان الأمويون يحاصرون ابن الزبير ويضيِّقون عليه الخناق إذ جاءت الأخبار بوفاة يزيد في حوارين من أعمال حمص ١٤ ربيع الأول سنة ٦٤ﻫ/٦٨٣م، واختلاف الأحزاب الأموية فيما بينها من أجل العرش، فنشط ابن الزبير إذ ذاك وجَرَّبَ أن يفتح باب المفاوضات على مصراعيه آملًا أن يجتذب خصومَهُ المحاربِين إلى حزبه، فأفلح وكفَّ القومُ عن قتاله — بعد وفاة يزيد بأربعين يومًا — وسعى في عقد مؤتمر الأبطح، وإليك وصف المخابرات فيه ونتائجه.
كانت نقطة الخلاف والمشادة بين مندوبي الأمويين والزبيريين في مؤتمر الأبطح تنحصر فيما يلي: هل تكون الشام مركز الحركة الزبيرية أم الحجاز؟ وهل يظل الشاميون أصحاب الدولة والسيطرة والسلطان إذا انتقل ابن الزبير إلى دمشق ونَشَرَ دعوته هناك أم لا؟ تلك هي الأسئلة التي وجَّهها الحصين بن نمير إلى ابن الزبير فأبى الأخير الإجابة عليها والقبول بها؛ لأنه كان لا يَثِقُ بالشاميين وفيهم أبناء يزيد وآل مروان، ولأن الحجازيين ناصَرُوه فكانوا جنده الأمين ورجاله المخلصين؛ ولذا لا يعدل بهم احدًا، ولم يناصره أهل الحجاز إلا لتكون العاصمة عندهم فيستلمون زمام الأمور ويُدِيرون دفَّة الأحكام ويودِّعون الفقر الذي أحاق بهم وكاد يقضي عليهم، وقد شجَّع الحصينُ ابنَ الزبير على قبول آرائه ووَعَدَهُ بأخْذ البيعة له من وجوه أهل الشام في جيشه إن اتَّبع نصائحه فرَفَضَ، وإنَّا لنعتقد أن ابن الزبير ارتكب غلطًا فادحًا في عدم ثقته بالحصين؛ لأن الأمويين كانوا عازمين على بيعته لقيام القادة الشاميين في نصرته من أقصى فلسطين إلى أقصى قنسرين — كما سيأتي — معنا، وهاك ملخص المفاوضات والأحاديث التي دارت بين الحصين وابن الزبير.
الحصين يخاطب ابن الزبير: إن يكُ هذا الرجل قد هَلَكَ فأنت أحق الناس بهذا الأمر، هلم فلنبايعك ثم اخرج معي إلى الشام، فإن هذا الجند الذي معي هم وجوه أهل الشام وفرسانهم، فوالله لا يختلف عليك اثنان، وتُؤَمِّن الناس وتهدر هذه الدماء التي كانت بيننا وبينك والتي كانت بيننا وبين أهل الحرة.
(١-٥) السبب الخامس: تخاذُل الأمويين من أجل العرش
ومهما يكن من ضعف معاوية الثاني وعَجْزه عن استلام زمام الأحكام فإن تنازله عن العرش خَلَقَ مشاكل عظيمة كادت تفتُّ في ساعد بني أمية، فصحَّت عزيمة الزبيريين على مهاجمة صفوف أعدائهم في كل قُطْر، فقام زُفر بن عبد الله الكلابي والي قنسرين وبايع لعبد الله بن الزبير، كذلك فعل النعمان بن بشير الأنصاري بحمص، وكان الضحَّاك بن قيس الفهري حاكم دمشق يهوى هوى ابن الزبير ويدعو إليه سرًّا، وانتشرت دعوتهم بفلسطين فطَرَدُوا الأمويين منها، ولم يَبْقَ ثابتًا على ولائهم إلا الأردن، وهي تحت أمرة حسان بن مالك بن بحدل الكلبي، فترى مما تَقَدَّمَ أن الشام شَمالَها وجنوبها تقريبًا أخذ يدين لابن الزبير، هذا هو المشكل الأول في عرفنا.
ومما ساعد مروان على الانتصار اشتعال الثورة في دمشق بقيادة يزيد بن أبي النمس الغسَّاني، فغَلَبَ عليها ووضع يده على الخزائن وبيت المال، وبايع مروان وأمدَّه بالرجال والأموال والسلاح، فقطع على الضحاك سُبُل الإمداد والمخابرة مع العاصمة، ويقول المؤرخون: إن هذه الثورة فتَّت في عضد الزبيريين، وكانت أول فتْح فُتح على بني أمية.
أَكْثَرَ شعراء اليمن من التفاخر على قيس في هذه المعركة فأنشد الفرزدق:
لما رأى ابنُ الزبير ما أصابه من الانكسار في معركة مرج راهط أراد أن يُطْلِق آخر سهم في كنانته صوب الشام، فبعث أخاه مصعب بن الزبير نحو فلسطين، فسرح له مروان عَمْرو بن سعيد بن العاص في جيش، فصدَّه وهزمه وأرجعه على أعقابه، ففقد آماله في الشام.
(١-٦) السبب السادس: حركة التوَّابين، الثأر للحسين بن علي
كان اختلاف الأمويين بعضهم على بعض سببًا كبيرًا في نشاط الحركة الزبيرية كما أسهبنا في قولنا، لكن حركة التوَّابين التي قامت على أثر فاجعة الحسين بن علي أخذت تناوئ بني أمية وتسعى في إعدام من اشترك في التدبير على ابن بنت الرسول ﷺ، وتنشر الدعوة ضد سياسة الشدة التي اتبعها عبيد الله بن زياد وأمثاله. وقد استفاد ابن الزبير من هذه الحركة واستعان بأكابر الرجال على تشجيعها سرًّا وعلانيةً حتى يشغل الأمويين في الساحة العراقية وينال الفرصة الكافية لتثبيت مركزه وتقوية جيشه.
- السبب الأول: لتبرع الزعماء بالأموال الكثيرة لأجل الدعوة، فمكَّنهم هذا من استنفار الناس للجهاد وتشويقهم للقتال، فقدَّمَ خالدُ بن سعيد بن نفيل كلَّ أمواله وأملاكه ومزارعه في سبيل الحزب فقال: «أُشهِد اللهَ ومَنْ حضر من المسلمين أن كلَّ ما أَصْبَحْتُ أملكه — سوى سلاحي الذي أقاتل به عدوي — صدقةٌ على المسلمين أقوِّيهم به على قتال الفاسقين»،٤٦ وقال غيره مِثْل قوله.
- والسبب الثاني: لاستعمالهم البلغاء من الرجال في نشر دعوتهم، فمثَّلوا مقتل الحسين تمثيلًا محزنًا مبكيًا، فكانوا أينما حلُّوا ينالون من أعدائه الذين انتهكوا حُرْمته، فاحتزُّوا رأسه وداسوا بخيلهم على جسده، وحملوا على قتلته أولئك الذين لا تَعْرِفُ الشفقةُ قلوبهم ولا المرحمة نفوسهم، فكانوا يبكون ويستبكون الناس على القتيل حفيد رسول الله ﷺ.
واستمال حزبُّ التوَّابين سكانَ المدائن، فبثُّوا بينهم دعوتهم ورجوهم إلى قتال أعدائهم، فانتصروا لهم ووجَّهُوا قُواهم لتنشيط هذا الحزب … ولو دققنا في الأسباب التي جعلت أهل المدائن ينضمون إلى الكوفيين لتحقَّقْنا أنها مبنية على الأسس المالية، فسكان المدائن وأرباب الثروة فيها هم شركاء لأهل الكوفة في نخيلهم ودورهم وعطائهم؛ ولذا لم يكن بوسعهم أن يَتَخَلَّوْا عنهم ويناضلوهم، فلمَّا طلب إليهم سليمان بن صُرَد الالتحاق بالحزب في رسائله المشهورة إليهم سمعوا له وأجابوا، وإني موردٌ لك نص بعض الرسائل التي جرت بين الفريقين لِتَفَهُّم روح المفاوضة ومعناها إذ ذاك:
رسالة سليمان بن صرد لأهل المدائن
من رسائل أهل المدائن للتوَّابين
انتشرت دعوة التوَّابين انتشارًا عظيمًا بعد وفاة يزيد الأول، فأصبحوا عددًا رهيبًا يخاف الناسُ جانِبَهُم، وأخذت الدولة في دمشق تعدُّ عدَّتها لمُنَازَلَتِهم وإخماد ثورتهم، والناظر بعين بصيرة نقَّادة إلى حركتهم من أولها إلى منتهاها يرى أنها صارت إلى الانحلال لأسبابٍ خمسة هي كما يأتي:
المعركة
أقام التوَّابون يومًا وليلة بالقرب من قَبْر الحسين قبل زحفهم للقتال، يُثيرون أحقادهم ويُشْعِلون نار الضغائن في صدورهم ويستفزون هِمَمَهُمْ لطلب الثأر بالبكاء على الحسين، وقد ازدحموا حول قبره ازدحامًا شديدًا يترحَّمون عليه ويستغفرون له ولأنفسهم، فزادهم هذا حنقًا على حنقٍ وألمًا على ألمٍ، ثم ساروا لملاقاة عدوهم الزاحف إليهم من دمشق بطريق الرقة، فانتهوا إلى عين الوردة، ورَسَمَ لهم حاكم قرقيسيا الخطة الحربية التي يجب أن يسيروا بحسبها، وهي تأمرهم بالانتباه إلى حماية خط الرجعة لئلا يفقدوا الماء والمادة والذخيرة من أيديهم، وأن لا يُنَازِلوا أعداءهم في فضاءٍ وسيع يتم لهم به الالتفاف حولهم، وأن يشاغلوهم بالكتائب بدلًا من النزول إليهم دفعة واحدة في صفٍّ واحدٍ.
بعث عبيد الله بن زياد الحصين بن نمير على مقدمته في اثني عشر ألفًا لملاقاة التوَّابين، فاجتمع بهم في عين الوردة، فدارت المفاوضات بين مندوبي الفريقين لِحَقْن دماء المسلمين، فلم يَصِلُوا إلى نتيجة مُرْضية؛ لأن التوَّابين أصرُّوا على خَلْع عبد الملك بن مروان — وكان قد وُلِّيَ الخلافة — أولًا، وتسليم عبيد الله بن زياد لهم ثانيًا، ولم يتساهلوا إلَّا في طرد آل الزبير ودعاتهم من العراق على أن يكون حقُّ الخلافة لآل بيت النبي ﷺ.
(١-٧) السبب السابع: الأزارقة الخوارج يساعدون ابن الزبير
- أولًا: يكفِّرون عليًّا ويقولون: إن الله أَنْزَلَ في شأنه، وزادوا على ذلك تكفير عثمان وطلحة والزبير وعائشة وعبد الله بن عباس وسائر المسلمين معهم وتخليدهم في النار، ويَحْمِلون الحملات المنكرة على عثمان ويَصِمُونه بوصمات بعضها بعيدٌ عن الحق، ويبالغون في ذلك أَشَدَّ المبالَغة، فيقولون عنه: إنه «آثر القربى … ورفع الدرة ووضع السوط ومزَّق الكتاب وحقَّر المسلم وضرب منكري الجور وآوى طريد الرسول — الحكم … — وضرب السابقين بالفضل وسيَّرهم وحرمهم، ثم أخذ فيء الله الذي أفاءه عليهم فقَسَمَه بين فُسَّاق قريش ومُجَّان العرب، فسارت إليه طائفة من المسلمين أَخَذَ الله ميثاقهم على طاعته لا يبالون في الله لومة لائم، فقتلوه فنحن لهم أولياء ومن ابن عفان وأولياءه برآء.»٦٦
- ثانيًا: يوجبون على كُلِّ من ينضم إليهم أن لا يتأخر عن القدوم إلى ديار هجرتهم للذود عن بيعة دينهم، فهم يُكَفِّرون القَعَدَة من رجالهم عن قتال أعدائهم، ويُظْهرون البراءة منهم أينما كانوا وحيثما حلُّوا.
- ثالثًا: يأمرون بقتل نساء مخالفيهم وأطفالهم، وهذا غاية القسوة والهمجية، وهم يرون وجوب التخلص من أعدائهم باستعمال الشدة معهم وإعدام نسلهم.
- رابعًا: يُسْقطون الرجم عن الزاني إذ ليس في القرآن ذِكْره، ويسقطون حدَّ القذف عمَّن قذف المحصنين من الرجال، ويوجبون الحد على قاذف المحصنات من النساء.
- خامسًا: يأمرون بالتصريح في مبادئهم ونَشْرها، ويقولون: إن التقية غير جائزة في قول ولا عمل.
- سادسًا: يعتقدون أن جميع المشركين في النار.
- سابعًا: يجوِّزون أن يبعث الله تعالى نبيًّا يعلم أنه يكفر بعد نبوته أو كان كافرًا قبل البعثة.
- ثامنًا: يُجْمِعون على أن من ارتكب كبيرة من الكبائر كفر ويكون مخلَّدًا في النار.٦٧
حقًّا لقد جاء هذا التصريح سابقًا لأوانه؛ إذ جعل هذه الطائفة تناصبه العداء وتكيده، مع أنه كان في حاجة ماسة إلى مَنْ يُنَاصِره ويأخذ بيده أمام الحكومة الأموية.
بَلَغَت الحملةُ التي قادها المهلب لقتال الأزارقة نحوًا من عشرين ألفًا، فواقعهم في نهر «تُستر» فهزمهم، ثم في «نسلي» من أعمال الأهواز فهزمهم أيضًا، وقَتَلَ زعيمهم نافع بن الأزرق، وما زال يلاحقهم من بلدٍ إلى بلدٍ حتى ضَرَبَهُم في سابور من أرض فارس، وقد ضيَّق عليهم وسدَّ السبل دونهم بعد ذلك في أيام عبد الملك بن مروان حتى قال أحدهم:
والغريب أن هؤلاء الأزارقة كانوا يناضلون نضالًا هائلًا، وينتخبون الزعيم إثر الزعيم بعد مَقْتَلهم، فترى قائمة من أسماء قادتهم بعد مصرع ابن الأزرق أشهرهم عبد الله بن ماحوز وقُطْرِي ابن الفجاءة وعبد ربه وغيرهم، والحقيقة التي نُريد تأييدها من كلامنا هذا كله أن الأزارقة كانوا يدًا قوية في نجاح دعوة ابن الزبير في أول أَمْرها، وكان بوسعه أن يحتفظ بهم لو أحسن أساليب السياسة فأجَّل المناقَشَة معهم في مبادئهم أو غضَّ الطرف عنها، فيظلون جنده القوي في الساحة العراقية ومدَدَه العظيم في قتال بني أمية، لكنه أخطأ في مناقشتهم ومجادَلَتِهِم في آرائهم، فحملوه أحمالًا باهظة لا قِبَل له بها إذ أثاروا عليه حربًا ضروسًا في العراق وفارس كَلَّفَتْه دماءً غزيرةً وأموالًا كثيرةً كان بوسعه أن يتجنبها.
(١-٨) السبب الثامن: الحركة المختارية تنشط ابن الزبير
يتحقق الباحث عن الحركات الثورية التي قامت في صَدْر الإسلام أنها نهضت تدفعها عوامل سياسية جمَّة قد لا تظهرها في البدء إنما تجعل الدين ستارها، فتَضْرِب على وَتَرِه فتهز عاطفات التعصب الكامنة في النفوس، وتستهوي عامة الناس فتجعلهم آلة تسيِّرهم حسبما تشاء ونعاجًا تذبحهم على مذبح الجشع والمصلحة.
رأى المختار بن أبي عبيد الثقفي حَبْل الأمن مضطربًا في الأقطار العربية، ومَطَامِع الزعماء تقرض بمقراضها جِسْم المملكة الأموية، فغلب عبد الله بن الزبير على الحجاز والعراق، ونجدة الحروري على العروض، وعبد الله بن خازم على خراسان، فتحركت في نفسه محبة السيطرة والسيادة، فدعا القومَ في العراق إلى الثورة فأجابوه، وسنبيِّن لك الأسباب التي رَفَعَتْ شأنه وقدَّرَتْ لحركته النجاح نوعًا.
حياة المختار السياسية
أراد ابن الزبير أن ينتصر بالمختار، فرحَّب به وأوسع له وغَمَرَه بإحسانه وعطفه، فاشترى منه دينه على الشروط الآتية: أولًا: يبايع المختار ابن الزبير على أن لا يقضي الأمورَ دونه، ثانيًا: يكون المختارُ الوزيرَ الأول في دولته، فلا يأذن لأحد قَبْله ويوله على أحسن عمله، وقد أبلى المختار البلاء الحسن في أعداء ابن الزبير، وشهد الحصار الأول يوم أُحْرق البيت وخدم رئيسَه خدمةً صادقة، والظاهر أن المختار تألَّم ألمًا شديدًا من ابن الزبير، لأنه لم يوفِّ له بالعهود التي أخذها على نفسه فلم يستعمله، وجعل يُقَدِّم عليه مَنْ هم دونه منزلةً وكفاءةً، فأقام يستطلع أخبار الكوفة ويتزود بالمعلومات الكثيرة عنها إلى أن انتهز فرصة قيام حزب التوَّابين فرحل إليها، وجعل يدسُّ الدسائس بين أعضاء هذا الحزب حتى انشعبت إليه فرقةٌ تؤيده وتُعَظِّمه وتَبُثُّ دَعْوَته.
لقد كان المختارُ أعظمَ خطورةً في دعوته من سليمان بن صُرَد، إذ اجتمعَتْ فيه صفات الزعامة، فخافه ابن الزبير في الكوفة فقبضوا عليه وأَوْدَعُوه السجن، والحقيقة التي لا شبهة فيها أن المختار أراد الوثوب على العراق والتخلص من النفوذ الزبيري، بينما كان سليمان يسعى لقتال بني أمية أعداء ابن الزبير، فشتَّان بين الزعيمين، فإن لكل منهما مبدأ كما ترى.
اتفقت الشيعة على القيام بتأييده، فصار دعاتُه يبايعون له وهو مسجون إلى أن أُخليَ سبيله، ولا شكَّ في عرفنا أن المختار أَخَذَ يدعو لابن الحنفية، وابن الحنفية جاهلٌ تمامَ الجهل ما يَنْتَحِلُه باسمه، وذلك لضعفه وأثرته الخمول على الشهرة، إن هذا الضعف في زعماء آل البيت كان من أكبر المصائب على الإسلام، إذ جعل لأحزابهم وأصحاب النفوذ والمطامع من رجالاتهم الفرصَ الكافية لادِّعاء مبادئ باسمهم لم يفكِّروا بها ولم تخطر لهم على بال.
وللشعراء العرب قصائد جمة في وصف هذا الكرسي، وهي كلها تقريبًا تُظهر لنا كُفْرَهم به واستصغارهم إياه، قال أعشى همدان:
وقال المتوكل الليثي:
ذكرنا لك الأسباب التي وفَّقت المختار في حَرَكَتِهِ بعض التوفيق، وجَعَلَتْه يستقل بالكوفة استقلالًا لا شائبةَ عليه، ولقد كان بوسعه — لو أَحْسَنَ السياسة في هاتيك الربوع — أن يتمتع زمنًا طويلًا بسيادته وسلطانه، فارتكب سلسلة من الأغلاط الفادحة رَمَتْ به من شاهق مَجْده إلى الحضيض، فقُتِلَتْ حركته بعد أن كاد يقتطف ثمارها.
فترى أن الضعف الداخلي كان جليًّا كل الجلاء في الحركة المختارية، فالتجأ أشراف الكوفة إلى مصعب بن الزبير والي البصرة لأخيه عبد الله بن الزبير، وجعلوا يُعِينُون الزبيريين بكل ما لديهم من مالٍ وقوة، ويشجعونهم على تجهيز حملة ينتقمون بها لسيطرتهم المُضَاعَة وأملاكهم المفقودة، فتربَّص ابن الزبير ليرى ما سيكون بين بني أمية والمختار.
سَطَعَ نجم المختار في الديار العراقية بعد معركة الخازر وتشتيت شمل الجيش الأموي ومقتل قائده عبيد الله بن زياد، ولم يَبْقَ أمامه لتأمين استقلاله إلَّا طرد الزبيريين من البصرة، وكانوا أصحاب الحول والقوة في الجنوب، كذلك ابن الزبير؛ فإنه بعد انكسار الأمويين أمام المختار رأى أن مجابهته واقعة لا بدَّ منها، فأخذ كلٌّ من الفريقين يستعد للوثوب بصاحبه ولِضَرْبه ضربةً قاضية لا يرجو الحياة من بعدها، فأرسل ابن الزبير أخاه مصعبًا واليًا على البصرة ليناظر أعمال المختار ويراقبها مراقَبة شديدة، وقد كان الأشراف الكوفيون يستنجدون مُصْعبًا على قتال المختار ويهيِّئون له أسباب الفتح، ويبثون الدعوة ضد المبادئ الدينية الجديدة التي قام يؤيدها، ويقولون: إنه من الذين يودُّون القضاء على النفوذ العربي واستبداله بالنفوذ الفارسي، أمَّا يد الزبير البطاشة في قتال المختار فكان المهلب بن أبي صفرة صاحب الوقائع المشهورة مع الخوارج فاستقدمه من فارس ومعه الجموع العديدة والأموال الكثيرة، ويظهر لنا أن ابن الأشتر بعد فَتْحه الجزيرة أراد استثمار الأرباح التي وَعَدَهُ بها المختار في الموصل آنفًا، فتقاعد عن مساعدته وتهاوَنَ في أَمْره، فأُجْبِرَ على إسناد القيادة في جيشه لأحمر بن شُميط، فالتقى الجيشان في «المذار» وتزاحفا ثم اشتبكا في معركةٍ دموية قُتِل بها القائد ابن شميط وقسمٌ عظيمٌ من جموعه، وتراجعت البقية الباقية إلى الكوفة، ولو دققنا في الأسباب التي أدَّت إلى هذا الانكسار المريع لَتَحَقَّقْنا أنها ترجع للمنافَسة الشديدة بين العرب الأشراف أصحاب الإقطاعات الواسعة والموالي عبيدهم، فأحبَّ الكوفيون أن ينتقموا لأنفسهم فاستمالوا عبد الله بن وهب بن أنس أحد قادة المختار — وهو من أشراف الكوفة أيضًا — وأَوْعَزُوا إليه أن يوقع بالموالي والعبيد الفرس، فأشار على أحمر بن شميط أن لا يركب هؤلاء الخيل ليثبتوا في ساحة الوغي لدى اشتداد القتال، وليصابروا حين الأزمة فلا يولُّوا الأدبار على متونها، فعمل برأيه وكان لا يتَّهمه ففتكوا بهم فتكًا ذريعًا.
فلم يَبْقَ أمام المختار إلَّا التحصن في قَصْره ومناوشة أعدائه، ولكن كيف يتأتى له الفوز والثبات أمام مصعبٍ، وأهلُ الكوفة أنفسهم من أعظم أعدائه وأشدهم بلاءً عليه، فكانت لا تخرج فرقة من رجاله من القصر لقتال الزبيريين إلَّا رموهم بالحجارة وصبُّوا عليهم الماء القذر، ثم قَطَعَ مصعب عنهم الماء والمادة، أمَّا جيشه فكان يأتيه الإمداد بواسطة السفن في الفرات.
ثم استقتل المختار وخَرَجَ مِنْ قَصْره مع بعض جنده فخرَّ صريعًا، ونزلت بقية الجيش على حُكْم مُصعب فأَعْدَمَهَا وجلها من العجم، وكان يودُّ لو يُبْقِي على العرب ويُطْلِق لهم الحرية فتغلبت عليه العصبية الدينية دون العصبية الجنسية فساقهم جميعًا للموت، وكان مقتل المختار في ١٤ رمضان سنة ٦٤ﻫ/٦٨٣م، وذلك بعد أن ثبت في قَصْره نحوًا من أربعة أشهر.
والخلاصة أننا قد أَسْهَبْنا لك في وصف الأسباب التي دفعت ابن الزبير لمطاولة الأمويين وكفاحهم كفاحًا مستمرًّا، أمَّا سياسة الشدة التي اتَّبعوها فيما بعد فقد جَعَلَت ابن الزبير وأمثاله يسقطون أمامهم الواحد إثر الأخر، وسنأتيك في الفصل التالي على إيراد أشكال هذه السياسة وتطوراتها. ا.ﻫ.