سياسة الشدة ومَظَاهرها
(١) الأمويون والشدة
أقدم الأمويون على اتِّباع سياسة الشدة والاتهام على الظنة بعد أن سادت الفوضى في الأقطار العربية وعمَّت الثورة مختلف الساحات الشامية والعراقية والحجازية، فلو أَجَلْتَ نظرك في خارطة البلاد الإسلامية لرأيت أن الزعماء كانوا ينازعون المركزية الأموية نزاعًا عظيمًا، ويَسْعَوْن جهدهم للاستقلال والمحافَظة على نفوذهم، فوطَّد ابنُ الزبير أركان دولته في الحجاز والعراق، وساعد التوَّابين وأنصار المختار والأزارقة، فراح هؤلاء جميعًا يُلْقُون بذور الفتنة من أقصى فارس إلى أقصى مصر، ويحرِّضون الناس على خَلْع الأمويين واستئصالهم، ولطالما سَعَوْا لأن يضربوا آل أمية بعضهم ببعض، فأزهرت جهودهم وكادت تُثْمِر لولا سياسة الشدة التي اتبعها عبد الملك بن مروان وولاته.
(٢) مظاهر سياسة الشدة
تَظْهَر سياسة الشدة الأموية حسْب اعتقادنا في مظاهر أربعة لا بدَّ لنا من تفصيلها وبيان حقيقتها، فالمظهر الأول هو بطش عبد الملك بن مروان بالزعماء الشاميين وعلى رأسهم عمرو بن سعيد بن العاص، أولئك الذين أرادوا الاحتفاظ بحقوقهم السياسية وابتغَوْا تحطيم التاج المرواني بأية وسيلة ممكنة.
وأمَّا المظهر الثاني فهو الانتقام من الزبيريين وأحزابهم انتقامًا هائلًا يريك أن المصلحة السياسية لا ترحم صديقًا ولا تُشفق على خليل، بل تذبح كل من يقف عثرة في سبيلها.
وأمَّا المظهر الثالث فهو إخفات الثورات الداخلية — وأَشْهَرُها ثورة ابن الأشعث — بالدم والحديد.
وأمَّا المظهر الرابع فهو إخلاص الولاة الأمويين — وفي طليعتهم الحجاج بن يوسف — إخلاصًا تامًّا في تنفيذ هذه السياسة.
تسنَّم عبد الملك بن مروان عرش الخلافة سنة ٦٦ﻫ/٦٨٥م، فعوَّل على البطش بأعدائه حيثما كانوا، وباشر الأمور بنفسه فلم يُكِلْها إلى غيره، ومما لا ريب فيه أن اعتناء عبد الملك بمراقَبَةِ كُلِّ صغيرة وكبيرة من شئون دولته أَيْقَظَ النفوس الهاجعة وعرَّفها معنى التدبير والحزم.
(٢-١) عبد الملك وعمرو بن سعيد بن العاص
- المادة الأولى: يتفق عبد الملك بن مروان وعمرو بن سعيد أن يكونا مشتركين في الملك، فيكون مَعَ كُلِّ عاملٍ لعبد الملك شريكٌ لعمرو بن سعيد.
- المادة الثانية: يتسمى عبد الملك باسم الخلافة، فإن مات عبد الملك فالخليفة من بعده عمرو بن سعيد.
- المادة الثالثة: لا يَقْطَع عبد الملك شيئًا دون عمرو بن سعيد ولا يُنَفِّذ أمرًا إلَّا بمحضره.١
(٢-٢) القضاء على الحركة الزبيرية في العراق والحجاز
صَفَت الأحوال لعبد الملك في الشام واستقرَّت له الأمور بعد مَقْتَل عمرو بن سعيد وإعماله السيف في أَتْبَاعه، فوجَّه وَجْهَه نحو العراق المضطرب بنيران الفتن والفوضى، وكان مصعب واليًا عليه لأخيه عبد الله بن الزبير، فبَذَلَ جُهْدَه في تهدئة الثورات وإرضاء الزعماء، ولكن كان الخرق قد اتَّسَعَ فأصبح العراق مقرًّا لمختلف الشيع السياسية المتضاربة في آرائها ومبادئها، فتمكَّنت الأزارقة من بثِّ دعوتها في البصرة، ورتع أنصار المختار وفلول التوَّابين في الكوفة والمدائن، وقام الأمويون يَسْعَوْن لاستجلاب أحزاب تؤيدهم؛ ولذلك كان حُكمُ العراق على مصعب أمرًا عسيرًا، وقد أراد عبد الملك أن يَضْرِب مصعبًا ضَرْبة قاسية، وأن يستفيد من الاضطراب السائد في بلاد الرافدين، فجهَّز جيشًا قويًّا وسار به نحو العراق وناجز مصعبًا في معركة «دير الجاثليق» على الدجيل، ففاز عليه وقَتَلَه واحتزَّ رأسه سنة ٧١ﻫ/٦٩٠م.
- أولًا: انتهز عبد الملك الفرصة وهاجم الزبيريين في العراق قبل أن يَحْمِلوا عليه في عرينه الشام «فتعشى بهم قبل أن يتغدوا به»، ويكون لهم الوقت الكافي للاستعداد، وقد أكَّد لنا الدينوري ذلك فقال: «… ولما صفا الأمر لعبد الله بن الزبير ودانت له البلدان إلَّا أرض الشام، جمع عبد الملك بن مروان إخوته وعظماء أهل بيته فقال لهم: إن مصعب بن الزبير قد قَتَلَ المختار ودانت له أرض العراق وسائر البلدان ولست آمَنُه أن يَغْزُوكم في عقر داركم، وما من قوم غُزُوا في عُقْر دارهم إلَّا ذلُّوا، فما ترون؟ فتكلم بِشْر بن مروان فقال: يا أمير المؤمنين: أرى أن تجمع إليك أطرافك وتستجيش جنودك وتضم إليك قواصيك، وتسير إليه وتلف الخيل بالخيل والرجال بالرجال والنصر من عند الله، فوجَّه رسله إلى كُوَر الشام.»٧
- ثانيًا: استمال عبد الملك الكثيرين من أشياع مصعب، فوعدهم بالصلات الحسنة والمناصب السنية، فالْتَحَقَ قوم مِنْ جُنْده بعبد الملك يوم معركة دير الجاثليق، واعتزلت ربيعة عنه، ولم يثبت معه إلَّا أهل الحفاظ وإبراهيم بن الأشتر قائد المختار المشهور، وكان قد انضم إلى مصعب بعد أن اختلف مع المختار، وأسند هذا الأخير قيادة الجند المختارية لأحمد بن شميط، ولدينا من الوثائق التاريخية ما يؤكد لنا أن ابن الأشتر أحبَّ الانضمام إلى عبد الملك والتخلي عن مصعب إذْ وعده الأمويون بالعراق، وهاك اعترافه الصريح بهذا المعنى: «رأيي اتباع أهل الشام … ولكن ليس قبيلة تسكن الشام إلَّا وقد وترتها.»٨
- ثالثًا: أحب العراقيون الإخلاد إلى الراحة والسلام، خصوصًا بعد ما رأوا ضَعْف الزبيريين أمام القوى الأموية، وما حلَّ ببلادهم من الخراب والدمار حينما أَصْبَحَتْ ساحة للقتال، فهمُّوا بغدر مصعب والاستسلام لعبد الملك، يدلُّنا على ذلك ما قاله قيس بن الهيثم يحرِّضهم على الثبات ويحذِّرهم من الشاميين بقوله: «وَيْحَكم لا تُدْخلوا أهل الشام عليكم، فوالله تطمعوا بعيشكم … ليضيقن عليكم منازلكم، والله لقد رأيت سيد أهل الشام على باب الخليفة يفرح أن أَرْسَله في حاجة، ولقد رأيتنا في الصوائف واحدُنا على ألف بعير، وأن الرجل من وجوههم ليغزو على فرسه وزاده خلفه.»٩
- رابعًا: كان مصعب بطلًا، وقد شهد له بذلك عبد الملك نفسه، ولسنا بحاجة إلى إثبات شجاعته،
فقد روى الفخري أن عبد الملك قال يومًا لجلسائه: من أشجع الناس؟ قالوا: أنت، قال: لا،
لكن أشجع الناس من جَمَعَ في داره بين عائشة بنت طلحة وسكينة بنت الحسين (يعني مصعبًا)،١٠ ومع هذا كله فلم يستصحب معه القادة الأكفاء أصحاب البصر في الحروب
والدربة في قيادة الجند كالمهلب بن أبي صُفرة وغيره، فقد ذكر لنا الطبري أنه: أُخْبِر
ابن خازم بمسير مصعب إلى عبد الملك فقال: أَمَعَهُ عمر بن عُبيد الله بن معمر؟ قيل:
لا، استعمله على فارس. قال: أفَمَعَه المهلب بن أبي صُفرة؟ قيل: لا، استعمله على
الموصل. قال: أفمعه عباد بن الحصين؟ قيل: لا، استخلفه على البصرة. فقال: وأنا
بخراسان:
خُذيني فَجُرِّيني جعارِ وأبشريبلَحْمِ امرئٍ لم يَشْهَد اليومَ ناصِرُهْ١١
ولم يكن لمصعب علم بالفنون الحربية وإن رُبِّيَ في بيت شجاعة وفروسية، بينما كان عبد الملك شابًّا مدرَّبًا مارَسَ القتال وشَهِدَ المعارك وعَرَفَ أبواب الحيلة فيها على أنواعها.
- خامسًا: قادَ عبد الملك من الشاميين كل قادرٍ على حَمْل السلاح، وقد أُجبِر — في بعض
الأحيان — على استعمال القسوة مع الذين أرادوا التخلف عن القتال والانزواءَ في بيوتهم
حبًّا بالعافية والسلامة. فكان له جيش عديد، حتى إنه «لما نَظَرَ أصحابُ مصعب إلى
كثرة جموع عبد الملك تواكلوا وشملهم الرعب.»١٢أمَّا ساعِدُ عبد الملك القوي في تجنيد الجند وتجهيز الجيوش فكان الحجاج بن يوسف، فاستعمل هذا الشدة مع المتقاعسين عن القتال. وقد أكَّد لنا ذلك العقدُ الفريدُ فقال: «لما استقرت البيعة لعبد الملك أراد الخروج إلى مصعب، فجعل يستنفر أهل الشام فيُبْطئون عليه، فقال له الحجاج بن يوسف: سلِّطني عليهم، فوالله لأُخْرِجَنَّهم معك. قال له: قد سلطتك عليهم. فكان الحجَّاج لا يمرُّ على باب رجل من أهل الشام قد تَخَلَّفَ عن الخروج إلَّا أحرق عليه داره، فلما رأى ذلك أهل الشام خرجوا.»١٣
ولما تمَّ لعبد الملك الاستيلاءُ على العراق بَعَثَ عمَّاله على البلاد وأكْثَرَ الحامية في المصرين وبَذَلَ للناس في العطاء، وقد أقام حفلة كبرى في الخوَرْنق بعد استيلائه على الكوفة دعى إليها الأشراف والوجوه، فجلسوا معه وتحادثوا وإياه، ثم مُدَّت الموائد فأكلوا وشربوا، وطاف القصر يشاهد آثاره الباقية وأطلاله الدارسة. ويمكنَّا أن نَعُدَّ هذه الحفلة من الوجهة السياسية الفصلَ الأخير من فصول الحركة الزبيرية في العراق.
(أ) القضاء على الحركة الزبيرية في الحجاز
- العامل الأول: خضعت العراق لعبد الملك فأسقط في يد ابن الزبير إذ حرم منها الرجال والذخيرة والمادة، فأصبح جيشه في حال بائسة، لا سيما وكلنا يعلم فَقْر الحجاز ونضوب مواردها. وقد وَصَفَ مُشَاهِدٌ غنى الجند الأموي الذي وجَّهه عبد الملك إلى مكة فقال: «وأصحابه — للحجاج قائد الحملة — متسلحون، ورأيت الطعام عندهم كثيرًا، ورأيت العير تأتي من الشام تحمل الطعام والكعك والسويق والدقيق، فرأيت أصحابه مخاصيب. ولقد ابتعنا من بعضهم كعكًا بدِرْهَم فكفانا إلى أن بلَغْنَا — الجحفة — وإنَّا لَثلاثة نفر.»١٤
- العامل الثاني: أحبَّ الحجازيون — بحكم السابقة — الاستسلام للأمويين بعد أن هدأت العراق ورَضَخَ سكانها للحكم الأموي، فتخلُّوا عن ابن الزبير وأَعْلَمُوه أن مصيره للهلاك، إذ من العبث مقاومة عبد الملك وهم فقراء معدمون، فوصف لنا مُشَاهِدٌ عياني أيضًا كيفية خذلان الحجازيين لابن الزبير فقال: «رأيت ابن الزبير يوم قُتِل وقد تَفَرَّقَ عنه أصحابه، وخَذَلَهُ من معه خذلانًا شديدًا، وجعلوا يخرجون إلى الحجاج حتى خرج إليه نحوٌ من عشرة آلاف. وذَكَرَ أنه كان ممن فارقه وخَرَجَ إلى الحجاج ابناه حمزة وخُبيب فأخذا منه لأنفسهما أمانًا»،١٥ وعاجَلَ عبدُ الملك ابنَ الزبير ليُضْعف قوى الحجازيين المعنوية، فأرسل إليه الجيوش، وقد فَعَلَ ذلك عملًا برأي الحجاج، فقال له: «إنك يا أمير المؤمنين متى تدع ابن الزبير يُعْمِل فِكْرَه ويستجيش ويجمع أنصاره وتثوب إليه فلاله كان في ذلك قوةٌ له، فأْذَنْ في معاجَلَتِهِ لي.» فأَذِنَ له.١٦
- العامل الثالث: بُخْل ابن الزبير على أصحابه ورجاله، فتفرقوا عنه وتقربوا من الأمويين الذين
أسرفوا في شراء دِين الناس واجتذاب قلوبهم. وقد ذَكَرَ لنا عبدُ الملك أنه تغلَّب
على ابن الزبير لخصال ثلاث استحكمت فيه، وهي: «عجْبٌ قد ملأه واستغناءٌ برأيه وبخلٌ
التزمه، فلا يسود بها أبدًا.»١٧
والحقيقة التي نودُّ تقريرها أن بُخْل ابن الزبير جَعَلَ الأحزاب العراقية وغيرها تتخلى عنه وتنضم إلى الأمويين. وقد ذَكَرَ لنا العقد الفريد أن الوفود الكوفية كانت تقدم عليه ولا تحظى بشيءٍ من المال. قال: لما قَتَلَ المصعبُ بن الزبير المختارَ بن أبي عُبيد خَرَجَ حاجًّا فقَدِمَ على أخيه عبد الله بن الزبير بمكة ومعه وجوه أهل العراق، فقال له: يا أمير المؤمنين، جئتك بوجوه أهل العراق، لم أَدَعْ لهم بها نظيرًا لتعطيهم من هذا المال. قال: جئتني بعبيد أهل العراق لأعطيهم مال الله، والله لا فعلت. فلما دخلوا عليه وأخذوا مجالسهم قال لهم: يا أهل الكوفة، وددت والله أن لي بكم من أهل الشام صرف الدينار والدرهم بل لكل عشرة رجلًا. قال عبيد الله بن ظبيان: أتدري يا أمير المؤمنين ما مثلنا ومثلك فيما ذَكَرْت؟ قال: وما ذلك؟ قال: فإن مثلنا ومثلك ومثل أهل الشام كما قال أعشى بكر بن وائل:
علقتها عرضًا وعلقت رجلًاغيري وعلق أخرى ذلك الرجلُأحببناك نحن، وأحببْتَ أنت أهلَ الشام، وأحبَّ أهلُ الشام عبدَ الملك. ثم انصرف القوم من عنده خائبين، فكاتبوا عبدَ الملك ابن مروان وغدروا بمصعب بن الزبير.١٨
كانت هذه العوامل كلها تعمل للقضاء على الحركة الزبيرية، فبعث عبدُ الملك الحجاجَ بن يوسف قائدًا للحملة الحجازية وعددها سبعة آلاف، فسار من العراق حتى نزل بالطائف. وكانت رحى المعارك تدور على جبل عَرَفة بين الفريقين إلى أن تمَّ للحجاج حصر ابن الزبير في الكعبة، ثم تحصَّن الأمويون في جبل أبي قُبيس ورموا منه الكعبة بالمنجنيق، وجعلوا يدخلون عليه المسجد فيشد عليهم إلى أن قُتِل سنة ٧٣ﻫ/٦٩٢م، وكان حصر الحجاج لابن الزبير نحوًا من ثمانية أشهر.
وأظهر عبد الله بن الزبير من ضروب الشجاعة في ثباته على القتال ما ظلَّ حديثَ العرب بعد مماته زمنًا طويلًا. وأثبت المؤرخون مَوْقِفه في ساعاته الأخيرة واجتماعه بأمه أسماء بنت أبي بكر وتحريضها إياه على الثبات في سبيل المبادئ التي قضى لأجلها أتباعه، وتدلُّنا الأحاديث المؤثرة التي جَرَتْ بين الأم وولدها على البطولة النسوية المشبعة بروح العروبة وحرارة الإسلام، وهاك حديثهما:
وردَّدَ عبد الله بن الزبير في آخر أيامه هذا البيت:
(٢-٣) إخفات الثورة الأشعثية
كان العراق مَرْكَزَ المعارضة ومُحَرِّك الثورات ضد الأمويين، فالتجأ إليه زعماء الأحزاب الغاضبة من مختلف الجهات، ولا بدَّ لنا من القول إن العراقيين كانوا دومًا يَتُوقُون للاستقلال ويحنُّون إلى استلام زمام الأحكام، ويودُّون لو تنتقل الخلافة إلى مِصْرِهم ليصبحوا اليد العاملة في الحكومة العربية، فصادفوا من تشجيع الأحزاب المعارضة ما جعلهم ينتهزون الفرص للقيام في وجه الدولة الأموية كلما كانت تسنح الأيام بذلك، فعلم عبد الملك ذلك فيهم حقَّ العلم، فالتجأ إلى القوة في سياستهم وعزَّز الحامية الأموية في بلادهم وفَتَكَ بالمعارضين المشاغبين، إن هذه التدابير كلها لم تُجْدِه نفعًا؛ لأن للقوة تأثيرًا وقتيًّا لا بدَّ أن يزول حين يرتفع كابوسها.
(أ) الأسباب التي هيأت ثورة ابن الأشعث في العراق
إنَّا لنعتقد أن الأسباب التي دَعَت العراقيين للثورة ودَفَعَتْهم لنصرة عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث وغيره من الزعماء تنحصر في عوامل لا بدَّ لنا من دَرْسها وتدقيقها:
-
العامل الأول: «الأمويون يسوقون العراقيين دومًا
للقتال»: جنَّد الأمويون أهل المصرين ودفعوهم إلى مجاهل البلاد الفارسية
والتركستانية السحيقة لفتحها وإعلاء كلمة الإسلام فيها؛ كيما يأمنوا شرَّهم وقلاقلهم
في
بلادهم، فإنهم طالما التحقوا بالزعماء النافخين في بوق الانفصال عن المركزية الأموية
والداعين إلى نصرة آل البيت والمطالَبة بحقهم في الخلافة، وصرَّح لهم الحجاج — مندوب
عبد
الملك السامي في العراق — بهذه الحقيقة علنًا، فذكر لهم أن الدواء الناجع لقتل جرثومة
الفوضى والثورة هو إرسالهم للفتح والغزو، فتَسْتَثْمر الدولة قواهم الكامنة في الأعمال
الصالحة بدلًا من تحميلها ما لا قِبَلَ لها به من الفساد فقال: «يا أهل العراق إني لم
أجد
لكم دواء أدوأ لدائكم من هذه المغازي والبعوث، لولا طِيب ليلةِ الإياب وفرحة القفل فإنها
تُعَقِّب راحةً، وإني لا أريد أن أرى الفرح عندكم ولا الراحة بكم، وما أراكم إلَّا كارهين
لمَقَالَتِي، إنَّا والله لِرُؤيَتِكُمْ أكره، ولولا ما أُرِيدُ من تنفيذ طاعة أمير
المؤمنين فيكم ما حَمَّلْتُ نفسي مقاساتكم، والصبر على النظر إليكم، واللهَ أسأل حُسْنَ
العون عليكم.»٢١اتبع الحجاج هذه السياسة فجهز من العراقيين جيشًا قويٍّا يبلغ عشرين ألفًا لِفَتْح تركستان ومناجزة الأتراك، وقد أَسْنَدَ قيادةَ هذا الجيش لعبد الرحمن بن محمد بن الأشعث أحد الزعماء الطموحين، فسار إلى بلاد الترك وجعل يَفْتَتِح مُدُنَها ويضمَّها إليه ويبعث إليها عمَّاله ويضع الأرصاد على الشعاب والمسالح في الأمكنة المختلفة، وكان من رأيه أن لا يتقدم ويوغل في الفتح حتى يتعرف المسلمون إليها ويجترئون على طرقها، ثم يمعن فيها بعد ذلك غزوًا ويضربها ضربةً قاضية، فلا يجازف بأرواح المسلمين ولا يرمي بهم في التهلكة ولا يسوقهم إلى الموت، فغضب الحجاج لهذه الخطة التي سلكها ابن الأشعث فضعف رأيه وكتب له: «… إني لم أَعْدُدْ رأيك الذي زَعَمْتَ أنك رأيته رأيَ مكيدة، ولكني رأيت أنه لم يَحْمِلْكَ عليه إلَّا ضعفك والْتياث رأيك، فامضِ لما أَمَرْتُكَ به من الوغول في أرضهم والهدم لحصونهم وقتل مُقَاتِلَتِهِمْ وسبي ذراريهم.»٢٢ولم يبعث الحجاجَ على الكتابة لابن الأشعث بمثل هذه اللغة القاسية إلَّا السياسةُ التي تقول بالفتح مهما كلَّف هذا الفتح من الضحايا، لا سيما إن كانت «على حساب» العراقيين الغاضبين في عُرْف الحجاج، فعوَّل ابن الأشعث على رفع راية العصيان ورَمْي أوامر الحجاج عرض الحائط، فاعتلى منبر الخطابة في جيشه وصرَّح لهم أنه لم يدفعهم إلى المجاهل السحيقة في تركستان حبًّا بالمحافظة على أرواحهم، وأن خُطَّتَه التروي في دَرْس أحوال البلاد وجغرافيتها قبل الإقدام على فتحها دفعة واحدة، ثم استنهض هِمَمَهُمْ وَوَصَفَ لهم ما قاساه أسلافهم من المذلة والمهانة، وما أصابوه من الجوع والبؤس، فقال مِنْ خِطاب له: «يا أيها الناس، إني لكم ناصحٌ ولِصَلَاحِكم محبٌّ، ولكم في كل ما يحيط بكم نَفْعُه ناظرٌ، وقد كان من رأيي فيما بينكم وبين عدوكم رأي استشرت فيه ذوي أحلامكم وأولي التجربة للحرب منكم فرضوه لكم رأيًا، ورأوه لكم في العاجل والآجل صلاحًا، وقد كتبت إلى أميركم الحجاج فجاءني منه كتابٌ يعجزني ويضعفني ويأمرني بتعجيل الوغول بكم في أرض العدو وهي البلاد التي هَلَكَتْ إخوانُكُم فيها بالأمس، وإنما أنا رجلٌ منكم أمضي إذا مضيتم وآبى إذا أبيتم، فثار إليه الناس فقالوا: لا، بل نأبى على عدو الله ولا نسمع ولا نطيع.»٢٣وقام أحد المفوَّهين من الزعماء المقرَّبين لابن الأشعث وبيَّن للجند طَمَعَ الحجاج واهتمامه بالغنائم قبل اهتمامه بأرواح المسلمين، ووجوب بيعتهم لقائدهم الشجاع وجهاد الحجاج بدلًا من جهاد عدوِّهم، فقال: «… إن الحجاج — والله — ما يبالي أن يخاطر بكم فيقحمكم بلادًا كثيرة اللهوب واللصوب، فإن ظَفرْتُم فغَنِمْتُم أكل البلاد وحاز المال وكان ذلك زيادة في سلطانه، وإن ظفر عدوكم كنتم أنتم الأعداء الذي لا يبالي عنتهم ولا يبقي عليهم، اخلعوا عدو الله الحجاج وبايِعوا عبد الرحمن، فإني أُشْهِدُكُمْ أني أول خالع، فنادى الناسُ من كل جانب: فَعَلْنَا فعلنا، قد خَلَعْنَا عدو الله.»٢٤ والغريب أن ابن الأشعث لم يُقدم في البدء على خَلْع عبد الملك، بل ظلَّ مترددًا حتى قدِم فارس، ثم تمَّ رأيُه على خلعه أيضًا والمناداة بنفسه خليفةً للمسلمين، يدلُّنا هذا أن ابن الأشعث حينما اقترب من فارس والعراق لدى رجوعه وَجَدَ الأفكار مُهَيَّئة للثورة ولقبول زعيم نشيط يعرف كيف يقود الأمة في جهادها ضد الأمويين وولاتهم العتاة، وقد بايعه الناس على كتاب الله وسنة نبيه وخَلْع أئمة الضلالة وجهاد المحلين.
- العامل الثاني: «الولاة الأمويون في العراق وقسوتهم»: أسند الأمويون ولاية المصرين إلى رجالٍ قساةٍ لا يعرفون الرحمة ولا تتخلل الشفقة إلى قلوبهم، فاتَّبعوا سياسة الشدة بحذافيرها، وراحوا يتهمون الناس على الظنة، فجرَّدوا السيف على الرءوس وأَعْمَلوا السوط في الظهور، وجعلوا السجن مقبرةً للزعماء المعارضين، ولو تصفَّحنا تاريخ الولاة الأمويين في العراق أمثال زياد ابن أبيه وعبيد الله بن زياد والحجاج بن يوسف وغيرِهم لتحقَّقْنا أن ملك بني أمية لم يَقُمْ إلَّا على سيوفهم، ولا تتوطد أركانه إلَّا على أسنتهم، فمنعوا الشعب أن يَنْتَقِدَ سياسة الحكومة أو يندِّد بأعمال رجالها أو يسدِّد سهام غضبه إلى مبادئها، وكانوا يحرصون على ذلك حرصًا شديدًا، حتى إنهم أُجْبِروا مرارًا على ارتكاب كثير من الفظائع في سبيل تنفيذ هذه السياسة، وقطعًا لألسنة الناس المريرة، وسادت سياسة القسوة في الحجاز أيضًا فحرَّموا على الحجازيين إيواء العراقيين المعارضين للحكومة الأموية في بلادهم، وهددوا مَنْ يخالف هذه القوانين بالإعدام، وإني موردٌ لك أَشْهَرَ الخطب التي عَثَرْتُ عليها لهؤلاء الولاة لتتعرف تمامًا إلى ما نقصد بسياسة الشدة والإرهاب، ولتفهم معنى خَنْق الحرية الكلامية والسياسية خنقًا لا حياةَ لها من بعده.
أشهر خطبة لزياد ابن أبيه في البصرة وتُعْرَف بالبتراء
… أمَّا بعد … فإن الجهالة الجهلاء والضلالة العمياء والعمى الموفي بأهله على النار ما فيه سفهاؤكم، وتشتمل عليه حلماؤكم من الأمور العظام، يَنْبُت فيها الصغير ولا يتحاشى عنها الكبير … ولا تذكرون أنكم أَحْدَثْتُم في الإسلام الحدث الذي لم تُسْبَقُوا إليه، مِنْ تَرْككم هذه المواخير المنصوبة والصفقة المسلوبة في النهار المبصر والعدد غير قليل، ألم يكن منكم نهاةٌ تَمْنَع الغواة عن دلج الليل وغارة النهار … ما أنتم بالحلماء، ولقد اتبعتم السفهاء، فلم يزل بكم ما ترون من قيامكم دونهم حتى انتهكوا حرم الإسلام … إني رأيتُ آخِرَ هذا الأمر لا يصلح إلَّا بما صلح به أَوَّلُهُ، لينٌ في غير ضعف، وشدة في غير عنف، وإني لأقسم بالله لآخذن الولي بالمولي، والمقيم بالظاعن، والمقبل بالمدبر، والصحيح بالسقيم، حتى يلقى الرجلُ منكم أخاه فيقول انْجُ سعيد فقد هَلَكَ سعد، أو تستقيم لي قناتكم …
وإياي ودعوى الجاهلية، فإني لا أجد أحدًا دعا بها إلَّا قَطَعْتُ لسانه، وقد أحدثتم أحداثًا لم تكن، وقد أحدثنا لكل ذنب عقوبة، فمن غرَّق قومًا أغرقناه، ومن حرَّق قومًا أحرقناه، ومن نقَّب بيتًا نقَّبنا عن قلبه، ومن نَبَشَ قبرًا دفنَّاه فيه حيًّا، فكفُّوا عني ألسنتكم وأيديكم أكفَّ عنكم يدي ولساني، ولا يظهرن من أحدكم ريبةٌ بخلاف ما عليه عامتكم ضربت عنقه …
من خطاب لخالد بن عبد الله القسري والي مكة في عهد الوليد
من خطاب لعثمان بن حيان المري والي المدينة في عهد الوليد
ثم إن البلدان لما مصَّرها عمر بن الخطاب — وهو مجتهدٌ على ما يُصْلِح رَعِيَّتَه — جَعَلَ يمرُّ عليه من يريد الجهاد فيستشيره الشامُ أحب إليك أم العراق؟ فيقول: الشام أحب إليَّ، إني رأيت العراق داءً عضالًا وبها فرخ الشيطان، والله لقد أعضلوا بي، وإني لأراني سأفرقهم في البلدان، ثم أقول لو فَرَّقْتُهُم لأفسدوا مَنْ دَخَلُوا عليه بجَدَلٍ وحِجَاجٍ وكَيْفَ وَلِمَ … فإذا خُبِرُوا عند السيوف لم يُخْبَر منهم طائل، لم يصلحوا على عثمان فلقي منهم الأَمَرَّيْن، وكانوا أوَّلَ الناس فَتَقَ هذا الفتق العظيم، ونقضوا عرى الإسلام عروة عروة وانغلوا البلدان، والله إني لأتقَرَّب إلى الله بكل ما أَفْعَلُ بهم لِمَا أَعْرِف من رأيهم ومذاهبهم.
أشهر خُطَب الحجاج بن يوسف
وجَّه كَلِمَتَه هذه لبعض الثوار في العراق:
ومن خطب الحجاج في الكوفة
ومن خطب الحجاج في الكوفة
وقال الحجاج بعد معركة دير الجماجم في العراق — وسنأتي على وصفها: «يا أهل … إن الشيطان قد استبطنكم فخالط اللحم والدم والعصب والمسامع والأطراف، ثم أفضى إلى الأسماع، ثم ارتفع فعشَّشَ ثم باض وفرَّخَ، ثم دَبَّ ودرج فحشاكم نفاقًا وشقاقًا وأَسْعَرَكُمْ خلافًا، اتخذتموه دليلًا تَتَّبِعُونه وقائدًا تطيعون ومؤامرًا تُشَاوِرُونه، فكيف تنفعكم تجربة أو ينفعكم بيان، ألستم أصحابي بالأهواز حتى رمتم المكر وأَجْمَعْتُم على الكفر، وظننتم أن الله عز وجل يخذل دينه وخلافته، وأنا أرمقهم بطرفي وأنتم تَسَلَّلُون لِواذًا، وتنهزمون سراعًا، يوم الراوية ما كان من فَشَلِكم وتَنَازُعِكم وتخاذُلِكم، ويراه الله فيكم وقلوص وَلِيِّكُم إذا وليتم، كالإبل الشاردة على أوطانها النوازع، لا يسأل المرء عن أخيه ولا يلوي الشيخ على بنيه حين عضَّكم السلاح ونَخَسَتْكم الرماح، يوم دير الجماجم، وما يوم الجماجم، به كانت المعارك والملاحم.
نَفَرَت الناس إلى ابن الأشعث حينما اقترب من العراق، وهبَّ الغاضبون من كل صوبٍ إلى اللحاق به، فكَثُرَتْ جموعه حتى قاربت المائة ألف، إنه مهما يكن من المُبَالَغة في هذا العدد فلا شُبْهَة أن مركز الحجاج أَصْبَح مُزَعْزَعَ الأركان ضعيفًا لا يلبث أن يَسْقُطَ إن لم يتداركه الأمويون بالنجدات المتوالية. فعمد عبد الملك إلى مخابرة ابن الأشعث وسماع مطاليبه، وعَرَضَ عليه أولًا نَزْعَ الحجاج عن العراق وإجراء الدولة العطاء على العراقيين كما تُجْرِيه على أهل الشام، ثانيًا: الخيار لابن الأشعث في حكم أي مصر شاء من العراق ما دام حيًّا.
انسحب الحجاج من البصرة إلى الشمال بعد أن جَعَلَهَا مقرًّا لأعماله الحربية، وذلك حينما وَجَدَ جموعه قليلة نسبة للجموع الأشعثية، ولم تكد البصرة تسقط بأيدي الثوار حتى وَثَبَت الكوفة وطَرَدَتْ عامل الحجاج عنها فاحْتَلَّهَا ابن الأشعث، وقد طَاوَلَ الحجاجُ ابنَ الأشعث إلى أن أَتَتْهُ النجدات المتواصلة من الشام، ثم التقى به في «دير الجماجم» — موضع قريب من الكوفة — وأَخَذُوا يتزاحفون في كل يوم ويقتتلون، وقد دامت المعركة نحوًا من مائة يوم — ٢ ربيع الأول إلى ١٥ جمادى الأخرى سنة ٨٣ﻫ/٧٠٢م — حتى تمَّ الفوز للحجاج، فهرب ابن الأشعث إلى الفلوجة ومنها للبصرة، وبدأت فلوله تأتيه من الأطراف وتَجْتَمِع إليه من الجهات، وراح يستعد لمناجزة الحجاج الوقيعة، فاشتبك الفريقان في «مسكن» على دجيل، فانهزم العراقيون ومضى ابن الأشعث إلى سجستان حيث قضى مسلولًا، ويقال: إن رتبيل ملك تركستان احتزَّ رأسه وأرسله إلى الحجاج بشرط أن لا تُغزى بلادُه مدةَ عَشْر سنين، وأن يؤدي بعد العشر سنين في كل سنة تسعمائة ألف، والمهم أن حركة ابن الأشعث التي أيَّدَتْ لنا نفورُ العراقيين من الحكم الأموي أُخْمِدَتْ بالسيف، وتَتَبَّعَ الحجاج الزعماء الذين ناوءوه وجهدوا عليه الجهد كله، فأَعْدَمَ مُعْظَمَهُم، وكتب إلى عماله في الجهات أن لا يُبْقُوا على أحدٍ منهم.
(٣) إخلاص الولاة الأمويين في العراق وتفانيهم في تنفيذ سياسة الشدة
إذا أردنا أن يكون لنا صورة حية تمثِّلُ خضوعَ الولاة الأمويين في العراق لسادتهم الأمويين وإخلاصَهم لهم الإخلاصَ التامَّ في السر والعلن ومحافَظَتَهُم على طاعتهم مهما كَلَّفَهُم ذلك من التضحية؛ فلنأخذ الحجاج بن يوسف مثلًا صادقًا.
(٣-١) الحجاج بن يوسف: حياته، أعماله
- (١)
«ألا أيها الرجل، وكلكم ذلك الرجل، رجلٌ خطم نفسه وزَمَّهَا فقادها بخطامها إلى طاعة الله، وكبحها بزمامها عن معصية الله.»
- (٢)
«امرؤٌ زوَّد نفسه، امرؤٌ اتهم نفسه على نفسه، امرٌؤ اتخذ نفسه عدوة، امرؤٌ حاسب نفسه قبل أن يكون الحساب إلى غيره، امرؤٌ نظر إلى ميزانه، امرؤٌ نَظَرَ إلى حسابه.»
- (٣)
«أمَّا بعدُ، فإن الله كتب على الدنيا الفناء وعلى الآخرة البقاء، فلا فناء لما كُتِبَ عليه البقاء، ولا بقاء لما كُتِبَ عليه الفناء، فلا يغرنَّكم شاهد الدنيا على غائب الآخرة، وا قهراه، وأطول الأمل بقصر الأجل.»
- (٤) «امرؤٌ غفل عن الله تعالى، امرؤٌ أفاق واستفاق فأبغض المعاصي والنفاق وكان إلى عند الله بالأشواق، امرؤٌ ذَهَبَتْ ساعة من عمره لغير ما خُلِقَ لَحريٌّ أن تطول عليها حسرته إلى يوم القيامة.»٤٩
- (٥) «امرؤٌ زوَّد عمله، امرؤٌ حاسب نفسه، امرؤٌ فَكَّرَ فيما يقرؤه في صحيفته ويراه في ميزانه، امرؤٌ كان عند قلبه زاجرًا وعند هَمِّه ذاكرًا، امرؤٌ أخذ بعنان قلبه كما يأخذ الرجل بخطام جمله، فإن قاده إلى طاعة الله قَبِلَه وتَبِعَه وإن قاده إلى معصية الله كَفَّهُ.»٥٠
وغالى بعض الناس في قولهم: إنه لم يعتقد بالله ولا بالإسلام، ولعل ذلك ناتجٌ عن إسرافه في سَفْك الدماء حبًّا بتوطيد نفوذ الأمويين، والحقيقة أنه كان يرى في الإسلام بلسمًا وملجأً، نستشهد على رَأْيِنا هذا ببيتين من الشعر قالَهُمَا في أخيه محمد بن يوسف لما أتاه نَعْيُه:
وقال عمر بن عبد العزيز — وكان يبغض الحجاج: «ما حَسَدْتُ الحجاج عَدُوَّ الله على شيءٍ حسدي إياه على حبِّه للقرآن وإعطائه أهله، وقولِهِ حين حَضَرَتْه الوفاة: اللهم اغفر لي فإن الناس يقولون إنك لا تفعل»، وقال حين حضرته الوفاة:
وكان بدء حياته السياسية انخراطه في سلك الشرطة، فترقَّى فيها لنشاطه وجلادته حتى أصبح رئيسًا لِشُرْطة عبد الملك حينما خَرَجَ لقتال مصعب بن الزبير في العراق، وقد أبدى من المهارة والإخلاص والتضحية في خدمة الأمويين ما دعا عبدَ الملك إلى إسناد قيادة الحملة الحجازية لتأديب ابن الزبير إليه، فجرى على سياسة الشدة والإرهاب، فَأَعْدَمَ المتخلفين من الجند والزعماء، فهابوه ونفَّذوا أوامره بتمامها، وكان يُقَدِّم الشجعان والمخلصين ويَغْمُرهم بعطاياه، فصار له حزبٌ من الجند يأْتَمِر بأمره ويسعى لاكتساب رضاه، ووليَ بعد ذلك مندوبًا ساميًا للخليفة على الحجاز واليمامة، ثم انتقل لمثل منصبه في العراق، وبقيَ فيه نحوًا من عشرين عامًا، ساسَ خلالها البلاد بيدٍ من حديد، فأَخْفَتَ الثورات وأرسل الجيوش لفتح تركستان والهند — وسنصف الفتوح في حينها — وقد مات الحجاج سنة ٩٥ﻫ/٧١٣م وله من العمر أربعٌ وخمسون عامًا.
لم يخدم الحجاج الأمويين حبًّا بالثروة التي قد يجمعها من ورائهم، بل طاعةً لهم ومحبةً بهم، فقد مات ولم يترك إلَّا ثلاثمائة درهم ومضجعًا وسيفًا وسرجًا ورحلًا ومائة درع موقوفة. ا.ﻫ.