الفتوح الأموية
قام الأمويون بفتوحهم العظيمة حينما استَتَبَّتْ لهم الأمور في البلاد، وهدأت نيران الثورات، واستظل الناس في بحبوحةِ العيش الرغيد، فأَقْدَمُوا على توسيع رقعة المملكة الأموية في ساحات ثلاث، هي الساحة البيزنطية والساحة الشرقية والساحة الإفريقية الأوروبية.
(١) الفتوح في الساحة البيزنطية
أطلقنا على الساحة الأناضولية اسم الساحة البيزنطية لأنها كانت تخضع للبيزنطيين في القسطنطينية، ويدعوهم العرب في مصنفاتهم بالروم، ولأن الأمويين أشعلوا لهم في هذه الديار حَرْبًا ضروسًا بقيت زمنًا طويلًا، ويمكننا أن نقول: إن هذه الحرب هي عبارة عن سلسلة من الغزوات المتقطعة امتدت من عهد معاوية الأول إلى سقوط الدولة الأموية في الشام، وقد تتابعت هذه السلسلة من الغزوات أيضًا على عهد العباسيين.
(١-١) ملطية، طرندة
فلما ولي معاوية الأول الشام فتح «ملطية» عنوة، ورتَّب فيها رابطة من المسلمين، وشحنها بالجنود الشامية والجزرية، وأكثر فيها العدة والسلاح، وكل همه من ذلك أن يجعلها محطة يضرب بها المسلمون الروم دائمًا، فتبقى طريقًا للصوائف العربية، وقد انتهز البيزنطيون الفرصة أيام الحركة الزبيرية فأغاروا عليها وشعثتها قواهم، وأنزلوها قومًا من الأرمن والنبط وغيرهم من النصارى، فبَذَلَت الجيوش الأموية جهدها في تثبيت أقدامها في الأناضول، فحصنت «طُرندة» سنة ٨٣ﻫ/٧٠٢م، وبنت بها المساكن وهي على بعد ثلاث مراحل من ملطية، وكانت الطوالع من جند الجزيرة والشام تقيم بها في الصيف، فإن نزل الشتاء وتساقطت الثلوج قفلوا عنها، ورحَّل عمر بن عبد العزيز أَهْل طرندة عنها وأباح لهم السكنى في ملطية، وحصَّنها وجهَّزها بالجند لاعتقاده أنها أكثر ثباتًا على مقاومة العدو، وذلك لمناعة موقعها الحربي، ولم يتهاون البيزنطيون في أَمْر ملطية، فخرج إليها منهم عشرون ألفًا سنة ١٢٣ﻫ/٧٤٠م فثبت العرب فيها واستقتلت النساء العربيات، فروى لنا البلاذري أنهن ظَهَرْنَ على السور وعليهن العمائم فقاتَلْنَ.
(٢) الثغور الشامية أو العواصم
والمهم من كل ما قدمناه أنه كان للمسلمين على الحدود الأناضولية السورية ثغور تُعْرَف بالثغور الشامية، وقد سمَّاها الرشيد العباسي فيما بعد «بالعواصم» وهي أنطاكية وما جاورها، فكانت الجيوش الأموية تسير منها إلى الحصون والمسالح البيزنطية فتنهبها وتُعمل فيها السيف والنار؛ خصوصًا في المنطقة الواقعة ما بين الإسكندرونة وطرسوس اليوم، وكان أهلها يخلونها بأيام الصوائف أو يصمدون للأمويين إن عاونتهم حكومة القسطنطينية وشحنتها بالمقاتِلة والذخيرة، وطالما كَمَنَ أهل هذه الديار للكتائب الأموية فأصابوا غرة المتخلفين والمنقطعين عنها، فخلف لذلك الولاة فيها الجند الكثيف إلى حين خروجهم.
(٢-١) معاملة الفاتحين لسكَّان سورية
- أولًا: يصالح المسلمون الجراجمة على أن يكونوا أعوانًا للمسلمين وعيونًا ومسالح في جبل اللكام.
- ثانيًا: لا يأخذ المسلمون الجزية من الجراجمة.
- ثالثًا: يَنْقِل الجراجمة أسلابَ من يقتلون من عدو المسلمين إذا حضروا معهم حربًا في مغازيهم.
- رابعًا: يدخل من كان في مدينتهم من تاجر وأجير وتابِع من الأنباط وغيرهم وأهل القرى في هذا الصلح. وقد سُمِّي هؤلاء بالرواديف لأنهم تلوهم وليسوا منهم.٣
فنرى أن هذا الصلح لا يعقده غالبٌ مع مغلوب لما هو عليه من التساهل وحُسْن المعاملة، ولا شبهةَ أن الجراجمة كانوا أقوياء الشكيمة شديدي المراس، فأحبَّ أبو عبيدة أن يستفيد من صداقتهم، فعَقَدَ معهم هذا الصلح الشريف الضامن نوعًا لاستقلالهم، غير أنهم كانوا لا يستقيمون للولاة الأمويين، فيثورون المرة تلو المرة، ويُكاتِبون البيزنطيين ويمالئونهم، وإذا غزت الصوائف قطعوا على اللاحق والمتخلف من المسلمين وأعملوا فيه السيف، فأُجْبِرَ معاوية الأول — اتقاءً لِشَرِّهِم — أن ينقل إلى السواحل السورية قومًا من زط البصرة سنة ٤٩-٥٠ﻫ/٦٦٩-٦٧٠م، وقد وَهَبَ لهم الأرضين وبذل لهم في العطاء كيما يكونوا شوكة في عين الجراجمة.
الجراجمة
لما استفحل أَمْر ابن الزبير ودانت له الحجاز والعراق، وقام عمرو بن سعيد يطلب الخلافة، هاجم البيزنطيون جبل اللكام، فحالفهم الجراجمة وراحوا يساعدونهم ويبثون دعوتهم، وقد تمَّ لهم الفوز والغلبة حتى أخضعوا لبنان لسلطانهم وكادوا يستولون على دمشق، فاضْطُرَّ عبد الملك بن مروان يومئذٍ إلى أن يؤدي للجراجمة ألف دينار في كل جمعة، وأن يصالح البيزنطيين على مالٍ يؤديه لهم مخافةَ أن يخرجوا إلى عاصمته فيغلبون عليها.
- أولًا: ينزل الجراجمة بحيث أحبوا من الشام ويجري على كل امرئ منهم ثمانية دنانير وعلى عيالاتهم القوت من القمح والزيت، وهو مُدْيان من قمح وقِسْطان من زيت.
- ثانيًا: لا يُكره الجراجمة ولا أحدٌ من أولادهم ونسائهم على تَرْك النصرانية.
- ثالثًا: يلبس الجراجمة لباس المسلمين.
- رابعًا: لا يؤخذ منهم ولا من أولادهم ونسائهم جزية.
- خامسًا: يغزون مع المسلمين فينقلون أسلاب من يقتلونه مُبَارَزَة.
- سادسًا: يؤخذ من تجاراتهم وأموال موسريهم ما يؤخذ من أموال المسلمين،٤ فسكن بعضهم حمص وغيرها من الأمكنة المجاورة لها، واستجلب الوليد بن عبد الملك أيضًا بعض الزط فبعث بهم الحجاج إليه ومعظمهم من الأسرى الذين قَبَضَ عليهم محمد بن القاسم في السند، فسار بذلك على خطة معاوية الأول، ولا ريب عندنا أن جماعات النصيرية في بلاد العلويين من أعمال سورية قد وَرِثُوا كثيرًا من العقائد النصرانية والهندية لاختلاط الجراجمة والزط بهم، وإنَّا لنوجِّه أنظار من يدرسون العقائد النصيرية إلى هذه النقطة في أبحاثهم.
اللبنانيون
كان اللبنانيون يحالفون الجراجمة ويكاتبون البيزنطيين، ويرجع ذلك في اعتقادنا للرابطة الدينية التي تربط هذه الجماعات بعضها ببعض، فعامَلَهم الأمويون بالرحمة والعدل، فأخلدوا للسكينة، فلما قامت الدولة العباسية أَجْلَت الفئة الثائرة منهم عن بلادها، وكادت تبطش بالبقية الباقية، لولا نصيحة الإمام الأوزاعي ووساطته في حمايتهم، والأوزاعي مدفون في ضاحية بيروت.
(٢-٢) الحملة على القسطنطينية
ومهما بالغ المؤرخون العرب في أَمْر هذه الحيلة، فالحقيقة كل الحقيقة أن البرد الشديد والثلوج الكثيفة والجوع وصعوبة المواصلات بين القيادة العامة للجيش والعاصمة دمشق والعصابات البلغارية التي استجاشها لاوون للفتك بالجند من ورائه والأسطول الذي سدَّ دونهم سبل البحار، كل هذه العوامل سببت فشل الحملة وأنهكت قواها، وقد نزل مسلمة بفِناء القسطنطينية ثلاثين شهرًا، فشتَّى وصاف.
ولم يفكر الأمويون بعد هذا الفشل بغزو القسطنطينية لما أصاب البلاد من الإحن الداخلية التي سَبَّبَتْ سقوطهم وأدَّت إلى زوال مُلْكِهم، وظلوا محافظين على ثغورهم في الساحة البيزنطية إلى أيامهم الأخيرة.
(٣) الفتوح في الساحة الشرقية
كان للأمويين القدح المعلَّى في الفتوح شرقًا، فهم الذين مهَّدوا السبل لنشر المدنية العربية والتعاليم الإسلامية بين الأمم الفارسية والتركستانية والهندية والصينية، فسيَّروا جيوشهم إلى الشرق الأوسط والشرق الأقصى، وبذلوا الضحايا الجسيمة في سبيل الاستيلاء على هذه الأقطار، وقد نجحوا في استجلابهم قسمًا كبيرًا من هذه الأمم إلى الحظيرة الإسلامية نجاحًا باهرًا، غير أنهم لم يتمكنوا من التغلب على لغاتها المختلفة المتباينة تغلُّبًا عظيمًا، فلم تمتصها اللغة العربية كليًّا، ولعل هذا ناشئ عن كثرة عددهم وارتحال قبائلهم وراء الماء والكلأ، وقيام الدولة العباسية على سيوف الأعاجم أخيرًا، فإنها اهتمت بنشر الإسلام أكثر من اهتمامها بنشر العربية وتعميمها، ولم يقم الأمويون بهذه الفتوح إلَّا حبًّا بالموارد الاقتصادية ودفعًا لخطر الثائرين العراقيين وإعلاءً لكلمة الله.
(٣-١) فتح طبرستان وجرجان
يزيد بن المهلب بن أبي صفرة
أمَّا يزيد بن المهلب بن أبي صفرة صاحِب هذه الفتوح فكان واليًا لخراسان بعد أبيه المهلب، وقد مَكَثَ فيها نحوًا من ست سنين، فعزله عبد الملك بن مروان برأي الحجاج لمنافَسة بين القائدين، وطالما خشيَ الحجاج من يزيد لما كان يرى فيه من النجابة والذكاء وعلو الهمة والكرم، وكيف لا يخافه وأهل العراق تميل إلى يزيد وتَرْغَب فيه وتوده لو يكون حاكمها وسَيِّدَها، فترصَّده بالمكروه فحبسه وعذَّبه، فتمكن من الهرب إلى الشام واستجار بسليمان بن عبد الملك فأجاره، وشفع له عند أخيه الوليد فأمَّنه وكفَّ عنه.
قال ابن خلكان يصف المهلب: «وكان كريمًا جوادًا، فقال فيه الأخطل الشاعر:
(٣-٢) فتح سجستان
(٣-٣) فتح خراسان
تشتمل خراسان على أمهات من البلاد أَشْهَرها نيسابور وهراة، ومرو — وكانت عاصمتها — وبلخ وطالقان ونسا وأبيورد وسرخَس وما يتخلل ذلك من المدن التي هي دون نهر جيحون، فلما انتشر الإسلام فيها رَغِبَ الناس في تعاليمه ومبادئه، فأَسْرَعُوا إليه ودخلوا في حظيرته وصالَحُوا عن بلادهم، فلم يَفْتَحْها العرب عنوة ولم يتكبَّد سكَّانها الخسائر الجمة التي تأتي بها الحروب عادة، ولم يصابوا بالويلات التي أصيب بها أهل جرجان وطبرستان، فخفَّ خراجهم ولم تُسفك دماؤهم.
وكان الصلح على وصائف ووصفاء ودواب ومتاع وأن يوسعوا للمسلمين في منازلهم … ولم يكن عند القوم يومئذٍ عين، ومضى بعد ذلك إلى طخارستان ومدينتها بلخ، ومرو الروذ فاحتلَّهما بعد قتال شديد ثم رمت الطالقان والفارياب والجورجان سلاحها وخضعت جميعها للمسلمين.
(٣-٤) فتح ما وراء النهر
أسهب الجغرافيون العرب في وَصْف بلاد ما وراء النهر، وذكروا شيئًا كثيرًا مِنْ محاسنها وجمالها وأخلاق سكَّانها وطُرُق معايشهم، وفصَّلوا لنا تفصيلًا تامًّا عن عمارة بلدانها وصادراتها، ولم أَرَ وَصْفًا دقيقًا لهذه البلاد كوصف ياقوت لها، قال: «… ما وراء النهر مِنْ أَنْزَه الأقاليم وأخصبها وأكثرها خيرًا، وأهلها يرجعون إلى رغبة في الخير والسخاء واستجابة مَنْ دعاهم إليه … مع شدة شوكةٍ ومنعةٍ وبأس وعدة وآلة وكراع وسلاح.
فأمَّا الخصب فيها فهو يزيد على الوصف، ويَتَعَاظَمُ عن أن يكون في جميع بلاد الإسلام وغيرها مثلُه، وليس في الدنيا إقليم أو ناحية إلَّا ويقحط أهلها مرارًا قبل أن يقحط ما وراء النهر، ثم إن أصيبوا في حرٍّ أو بردٍ أو آفةٍ تأتي على زروعهم ففي فَضْل ما يَسْلَم في عَرْض بلادهم ما يَقُوم بأودهم حتى يستغنوا عن نقل شيءٍ إليهم من بلد آخر، وليس بما وراء النهر من موضع يخلو من العمارة من مدينة أو قرى أو مياه أو زروع أو مراعٍ لسوائمهم، وليس شيءٌ لا بدَّ للناس منه إلَّا وعندهم منه ما يقوم بأودهم ويفضل عنهم لغيرهم.
وأمَّا مياههم فإنها أَعْذَب المياه وأخفُّها، فقد عمَّت المياه العذبة جبالها ونواحيَها ومدنها، وأمَّا الدواب ففيها من المباح ما فيه كفاية على كثرة ارتباطهم لها وكذلك الحمير والبغال، وأمَّا لحومهم فإن بها من الغنم ما يُجلب من نواحي التركمان الغربية.
وأمَّا الملبوس ففيها من الثياب القطن ما يَفْضُل عنهم فيُنْقَل إلى الآفاق، ولهم القز والصوف والوبر والإبريسم، وفي البلاد من معادن الحديد ما يَفْضُل عن حاجتهم في الأسلحة والأدوات، وبها معادن الذهب والفضة والزئبق، وأمَّا فواكههم فإنك إذا تبطنت الصغد وأشروسنة وفرغانة والشاش رأيْتَ من كثرتها ما يزيد على سائر الآفاق.
وأمَّا الرقيق فإنه يقع عليه من الأتراك المحيطة بهم ما يَفْضُل عن كفايتهم ويُنقل إلى الآفاق، وهو خير رقيق بالمشرق كله.
وبها من المسك والزعفران ما يُنقل إلى الأمصار الإسلامية وكذلك الأوبار من السمور والسنجاب والثعالب وغيرها.
وأمَّا سماحتهم فإن الناس في أكثر ما وراء النهر كأنهم في دار واحدة، ما ينزلُ أحدٌ بأحدٍ إلَّا كأنه دخل دار صديقه، لا يجد المضيف من طارقٍ في نفسه كراهة، بل يستفرغ مجهوده في غاية من إقامة أوده من غير معرفة تقدمت ولا توقع مكافأة، بل اعتقادًا للجود والسماحة في أموالهم.
والغالب على أهل ما وراء النهر صَرْف نفقاتهم إلى الرباطات وعمارة الطرق والوقوف على سبيل الجهاد ووجوه الخيرات، وبما وراء النهر زيادة على عشرة آلاف رباط في كثير منها إذا نزل الناس أُقيم لهم علف دوابهم وطعام أنفسهم.
وأمَّا بأسهم وشوكتهم فليس في الإسلام ناحية أكبر حظًّا في الجهاد منهم، وذلك أن جميع حدود ما وراء النهر دار حرب، فمن خُوارزم إلى أقصى فرغانة هم القاهرون للأعداء يمنعونهم من دار الإسلام.
وولَّى معاويةُ سعيدَ بن عثمان بن عفان خراسان، فقطع النهر سنة ٥٥ﻫ/٦٧٤م، وأقبل إليه أهل الصغد وكس ونسف في مائة وعشرين ألفًا، فهزمهم وأفشى فيهم الجراح بمعركة بخارى، ودخل مدينة بخارى نفسها ظافرًا كما دخلها عبيد الله بن زياد من قَبْله، وصالح أهلها على سبعمائة ألف درهم، وأخذ رهنًا من أبناء عظمائهم لئلا يَنْقُضوا عهودهم.
المهلب بن أبي صفرة، وقتيبة بن مسلم
لما تولَّى الحجاج العراقين وخراسان بَذَلَ جهدًا عظيمًا في إتمام الفتوح المشرقية، وكان المهلب بن أبي صفرة ومحمد بن القاسم وقتيبة بن مسلم الباهلي قوَّاده الكبار وسيوفه البتَّارة، فهم الذين نَشَرُوا لواء بني أمية حتى الصين، فغزا المهلب سنة ٩٩ﻫ/٧١٧م مغازِي كثيرةً، فأدَّت إليه الصغد الأتاوة وخضعت له كسْ ونَسف وخُجندة، وقد مات بزاغول من أعمال مرْو الروذ حزنًا على وفاة ابنه المغيرة، ولا نعلم تمامًا السنة التي وُلِدَ فيها، إنما يمكننا أن ندَّعي أن مولده كان قبل وفاة النبي بسنين، ولا شبهة أنك تذكر وقائعه مع الخوارج في البصرة والأهواز وما قام به من جليل الأعمال في الحركة الزبيرية، وأُسْنِدَتْ إليه ولاية خراسان قبل وفاته، ولم يزل واليًا بها إلى سنة ٨٣ﻫ/٧٠٢م، وهو من القادة المجرَّبين في الحرب، حتى إن ابن قتيبة في كتابه «المعارف» عابَهُ بالكذب، ولكن لنذكر أن الحرب خدعة كما قال الرسول ﷺ، وعُرِفَ بكلمات ووصايا تناقلها الأدباء من بعده؛ أَشْهَرُها:
ورثاه نهار بن توسعة الشاعر بقوله:
لمع نجم قتيبة بن مسلم الباهلي بعد وفاة المهلب، فولَّاه الحجاج خراسان، فأتى بخارى وبيكند وغزاهما مع أنهما صَالَحَا قبل ذلك، فأصاب فيهما كثيرًا من آنية الذهب والفضة، فقوي جيشه واغتنى جنده وتنافسوا بشراء الخيل وحسن الهيئة والعدة وغالوا بالسلاح، فقال الكميت:
- (١)
يقبض مسلم ألفَيْ ألف ومائتي ألف في كل عام (مليونَيْن ومائتي ألف).
- (٢)
يُعْطَى مسلم تلك السنة ثلاثون ألف رأس ليس فيهم صبي ولا شيخ ولا عيب.
- (٣)
يخلي الصغد مدينة سمرقند لقتيبة، فلا يكون لهم فيها مُقَاتِل، ويخلف فيها حامية من المسلمين.
- (٤)
يتخذ المسلمون بسمرقند مسجدًا.
- (٥) يقبض قتيبة على بيوت النيران وحلية الأصنام.٣١
ووصف الشعراء فتح سمرقند وما ناله المسلمون من الفوز فقال نهار الشاعر:
وقال كعب بن الأشعري — ويَنْسِبُ بعضُهم هذه الأبيات لغيره وهي:
ومنها الشاش، وهي الثغر الكبير في وَجْه الترك، وبها الرباطات القوية، وتمتاز بعمران قراها ووفرة مساجدها.
(٣-٥) فتح الصين
أسباب نجاح قتيبة بن مسلم
مهما يكن من أمر هذه الرواية فإن فتوح قتيبة بن مسلم تكلَّلَتْ بأكاليل النجاح للأسباب الآتية:
أغلاط القادة العرب
أمَّا الأغلاط التي وقع بها القادة العرب فأشدها فظاعة تشجيعهم روح العصبية بين القبائل، فطمع بها أهل البلاد المغلوبة على أَمْرها، وجعلوا يفرِّقون بين العرب ويوغرون صدور بعضهم على بعضٍ بالأحقاد، فتمكَّنوا بهذا من التضييق عليهم عندما تَضَعْضَعَتْ قواهم وتفرَّقت صفوفهم، ولو فرق القادة يوم افتتحوا هذه البلاد بطون القبائل في مختلف الأنحاء وشَجَّعُوها على الاختلاط لَمَا أُصيب العرب بما أُصيبوا به من التقتيل في أواخر الدولة الأموية في خراسان وما وراء النهر.
مأساة قتيبة بن مسلم
كان قتيبة سيفًا من سيوف الأمويين البتارة، فقضى عمره خوَّاضًا للمعارك رافعًا راية الجهاد حاملًا بذور المدنية الإسلامية شرقًا إلى الصين، فعقَّه جُنْدُه أخيرًا وقتلوه، وإليك تفصيل الحادث:
سعى الوليد بن عبد الملك في بيعة ابنه عبد العزيز من بعده، ودَفْع الخلافة عن أخيه سليمان بن عبد الملك، فدسَّ إلى القواد والشعراء وكبار الدولة لِيَنْشروا لعبد العزيز ذِكْرًا وليصفوا مَنَاقِبَه وما تحلَّى به من جميل الخصال، فأجابه الحجَّاج وقتيبة وغيرهما وجعلوا يبثُّون له الدعوة في البلاد، وقد طمع جريرٌ بالجوائز والهبات عند ذاك فقال يمدح عبد العزيز:
وقال يحضُّ الوليد على بيعة عبد العزيز:
(٣-٦) فتح الهند والسند
محمد بن القاسم
نَصَرَ محمد بن القاسم الوليد في دَعْوَتِه لابنه عبد العزيز، فعَزَلَه سليمان بن عبد الملك وعيَّن مكانه يزيد بن أبي كبشة السكسكي، وأَمَرَهُ بسجنه، فقَبَضَ عليه وعذَّبه ثم نَقَلَهُ إلى واسط العراق فأعدمه صالح بن عبد الرحمن والي المصرين، فقضى وهو يتمثل بهذا البيت:
وقال يتألم من سِجْنِهِ ويذكر ماضيه:
وقال:
وبكى الهنود محمدًا لسماحته وعَدْله وكَرَم خُلُقِه، ورثاه حمزة بن بيض الحنفي بقوله:
فترى أن ثلاثةً مِنْ قادة الفتوح المشرقية وهم يزيد بن المهلب وقتيبة بن مسلم ومحمد بن القاسم ذهبوا ضحيةَ المصالح السياسية، وهذا دليلٌ كافٍ لأن يبرهن لنا أن السياسة لا ترحم أحدًا.
(٤) الفتوح في الساحة الإفريقية، الأوروبية
(٤-١) إخضاع القبائل البربرية
كانت العراق هي المقر العام للفتوح المشرقية، أمَّا الثغور الشامية فظلت دومًا المحطةَ الرسمية للمغازي في الساحة البيزنطية، وأصبحت مصر بعد خضوعها للمسلمين المركزَ الحصين لجيشهم في اقتحام شمالي إفريقية.
فلما وُلِّيَ عبد الله بن أبي سرح مصر على عهد عثمان بن عفان كان يرسل جرائد الخيل ويبعث السرايا فيفرِّقها في الأطراف، فيغزو القبائل البربرية ويستاق مواشيها ويصيب أموالها، فلم يختط للمسلمين بها بلدًا بل كانت أعماله محصورة في الغزو والسلب، وكان ذلك بين سنة ٢٧ﻫ وسنة ٢٩ﻫ و(٦٤٧–٦٤٩م).
(٤-٢) القيروان
(٤-٣) فتح تونس وطنجة
موسى بن نصير
أسَّس موسى بن نصير في تونس دارًا لصناعة السفن، وأجرى البحر إليها مسيرة اثني عشر ميلًا، فأقحمه إياها فصارت ملجأ للمراكب إذا هبَّت الأنواء والرياح في فصل الشتاء، وكانت هذه المراكب خفرًا للسواحل الإفريقية، وبلغ عددها نحوًا من مائة مركب حوالي سنة ٨٤ﻫ/٧٠٣م، وغزا بها سرقوسة من أعمال صقلية وسردانية وافتتح جزيرة ميورقة.
فتحت الدولة الأموية هذه الأصقاع الشاسعة فأخذت في عمرانها ونشرت العدل في ربوعها، وسنَّت القوانين المختصة بالخراج والجزية، وجعلت للمجتهد نصيبًا طيِّبًا في استثمار الأرضين، وحرمت الكسول مِنْ تملُّكها كما لا تلعب يد الفساد والدمار فيها فتصبح قفراء لا تزدهي بالزروع النضرة ولا تزدهر بالثمار الشهية، وإليك أحكام أراضي الخراج في البلاد التي افتتحها العرب:
- (١)
إنما أرضٌ أخذت عنوة مثل السواد والشام وغيرهما، فإن قسَّمها الإمام بين من غلب عليها فهي أرض عُشْر وأهلها رقيق.
- (٢)
وإن لم يقسِّمها الإمام وردَّها للمسلمين عامة — كما فَعَلَ عمر بالسواد — فعلى رقاب أهلها الجزية وعلى الأرض الخراج وليسوا برقيق.
- (٣)
إذا أسلم كافر من أهل العنوة أُقِرَّت أرضُه في يده يعمرها ويؤدي الخراج عنها ولا اختلاف في ذلك.
- (٤)
إذا عَطَّلَ أرضه قيل له ازْرَعْها وأدِّ خراجها وإلَّا فادفعها إلى غيرك يزرعها، فأمَّا أَرْض العشر فإنه لا يقال له فيها شيء.
- (٥) وإذا أصابت الغلاتِ آفةٌ أو غَرَقٌ سَقَطَ الخراج عن صاحبها، وزاد على ذلك مَالِكٌ والشافعيُّ بقولهما: «إذا كان في البلاد سُنَّة أعجمية قديمة لم يغيِّرها الإسلام ولم يُبْطِلها فشكاها قومٌ إلى الإمام لما ينالهم مِنْ مَضَرَّتها يغيِّرها وإن قدمت؛ لأن عليه نفي كل سنَّة جائزة سنَّها أحدٌ من المسلمين فضلًا عمَّا سنَّ أهلُ الكفر.»٦٤