لم يتمكن عبد الملك بن مروان والوليد الأول وسليمان من بَسْط العدالة بسطًا تامًّا
ترتاح له
النفوس وتطمئن له القلوب، وكان ذلك لِقَسْوة الظروف أولًا، ولِتَغَلُّب بعض الصفات الرديئة
عليهم ثانيًا، فألمعنا إلى ما اشتهر به سليمان من الغيرة والحسد، وإلى ما عُرِف به الوليد
من
إراقة الدماء في سبيل المصلحة، وإلى ما تغلَّب على عبد الملك من طَبْع السيطرة على كل
صغيرة
وكبيرة، وهذا لا ينفي أننا نُنْكر على هؤلاء الرجال ما تحلَّوْا به من المزايا الشريفة
والخصال
الحميدة والمواهب العالية، والحق أن العدالة الأموية لم تَظْهَر بمظهرها الجليل الكبير
إلا في
عصر عمر بن عبد العزيز خليفة سليمان بن عبد الملك.
(٤-١) نشأته
نشأ عمر في المدينة وتأدَّب بها على أشهر أساتذتها المتضلعين بعلوم القرآن والحديث
والفقه
والشريعة كصالح بن كيسان وعبيد الله بن عبد الله، ودَرَسَ العربية وتفَرُّعاتها فأصاب
منها
سهمًا وافرًا، وكان شابًا ولوعًا بتزيين نفسه، فتأنَّق في ملبسه، وتغلبت عليه الخيلاء
فَزَهَا
واستكبر في بعض الأحايين على الناس، قال ابن الجوزي بإسناده: «حَدَّثَنِي علي بن جذيمة
قال:
رأيته في المدينة وهو أحسن الناس لباسًا، ومن أطيب الناس ريحًا، ومن أخيل الناس في مشيته»،
٢١ ثم لم تَطُلْ به الحال على هذا المنوال، فنراه قد خَلَعَ عنه ثَوْبَ الصلف وارتدى
رداء التواضع لَمَّا أُسْنِدَت إليه المناصب الإدارية، وقد وُلِّيَ الحجاز وهو ابن خمس
وعشرين
سنة، وكان ذلك في أيام الوليد الأول، فبَرْهَنَ على اقتداره في تدبير الأمور وتثبيت دعائم
الحق والانتصار للضعيف، وأَوْسَعَ المجال لعقلاء المدينة وفقهائها لأن ينبِّهوه على أغلاطه
وأن ينيروا سبيله في إحقاق الحق وإزهاق الباطل، فدعا مَرَّةً عشرة نَفَرٍ من علمائها
وقال
لهم: «إني دعوتكم لأمرٍ تؤجرون فيه وتكونون فيه أعوانًا على الحق، إن رأيتم أحدًا يتعدى
وبلغكم عن عامل لي ظلامة، فأحرج بالله على أَحَد بلغه ذلك إلا أَبْلَغَني.»
٢٢
ولم يقبل عمر بن عبد العزيز منصب الولاية على الحجاز إلا بعد أن أقرَّ له الوليد
السلطة
التامة ليقتص من أرباب العدوان وأهل الظلم وإن أُجبر ألا يرفع للخزينة درهمًا واحدًا،
قال ابن
الجوزي: «استعمل الوليدُ بن عبد الملك عُمَرَ بن عبد العزيز على الحجاز — المدينة ومكة
والطائف — فأبطأ عن الخروج، فقال الوليدُ لحاجبه: ويلك ما بالُ عمر لا يخرج إلى عمله؟
قال:
زعم أن له إليك ثلاث حوائج، قال: فعَجِّلْه عليَّ، فجاء به الوليد فقال له عمر: إنك
استَعْمَلْتَ من كان قبلي، فأنا أحب أن لا تأخذني بعمل أهل العدوان والظلم والجور، فقال
له
الوليد: اعمل بالحق وإن لم تَرْفَعْ إلينا درهمًا واحدًا.»
٢٣
(٤-٣) عمر صريح الآراء، لا يخاف من النقد لومة لائم
وكان من الذين يقدسون الحرية الفكرية ويَرَوْن وجوب تشجيعها والمحافظة عليها، فجادل
الخوارج من الحرورية وراسَلَهُم، وطلب إليهم أن يحجوه ويُقْنِعوه بالبراهين إن كانوا
— في
زعمهم ومبادئهم — صادقين، روى الطبري: «كتب عمر إلى بسطام بن يشكر وهو شوذب زعيم الحرورية
في
العراق يسأله عن سبب مَخْرَجه، فكان في كتاب عمر إليه: بلغني أنك خرجت غضبًا لله ولنبيه،
ولَسْتَ بأولى بذلك مني، فهلم أناظِرْكَ، فإن كان الحق بأيدينا دَخَلْتَ فيما دَخَلَ
فيه
الناس، وإن كان في يدك نَظَرْنَا في أمرنا»،
٢٥ فجاءه وَفْدٌ منهم إلى الشام فأمَّنهم وطيَّب قلوبهم وجَلَسَ وإياهم وجهًا لوجه
يتجادل معهم، ومما يَبْتَهِج له الخاطرُ أن المؤرخين حفظوا لنا أحاديثهم معه وهي كما
يأتي:
رسولا الحرورية
:
أَخْبِرْنا عن يزيد، لِمَ تُقِرُّه خليفةً بعدك (يزيد بن عبد الملك)؟
عمر
:
صَيَّرَه غيري.
رسولا الحرورية
:
أفرأيت لو وُلِّيتَ مالًا لغيرك ثم وكلته إلى غير مأمون عليه، أتراك كنت أَدَّيْتَ
الأمانة إلى مَن ائتمنك؟
عمر
:
أنظراني ثلاثًا.
وعلَّق الطبري على هذا الحديث بقوله: «خاف بنو مروان أن يُخْرِج ما عندهم وفي أيديهم
من
الأموال وأن يَخْلَع يزيدًا، فدسُّوا إليه من سقاه سمًّا.»
٢٦
تسنَّم عمر بن عبد العزيز عَرْش الخلافة بعد وفاة سليمان بن عبد الملك، فجمع الناس
في
المسجد الجامع بدمشق وصرَّح لهم أنه أُسْنِدَ إليه الأمر دون أن يستشيروه أو يستشيروا
الشعب
فيه؛ ولذا فهم أحرار في خَلْع بيعته وانتخاب سواه، فصاح الناس صيحة واحدة: «قد اخترناك
يا
أمير المؤمنين ورضينا بك»، فلما هدأت الأصوات ولم يَعْتَرِض أحد على ولايته الخلافة خَطَبَ
خطبته العرش، قال مِنْ جُمْلَتِها: أوصيكم بتقوى الله … وأصلحوا سرائركم يُصْلِحِ الله
الكريم
علانيتكم، وأكثروا ذِكْر الموت وأحسنوا الاستعداد قبل أن ينزل بكم، فإنه هادم اللذات
… وإني
والله لا أعطي أحدًا باطلًا ولا أمنع أحدًا حقًّا.
يا أيها الناس، من أطاع الله وجبت طاعته، ومن عصى الله فلا طاعة له، أطيعوني ما أَطَعْتُ
الله، فإذا عصيت الله فلا طاعة لي عليكم.
٢٧
(٤-٤) الاحتفال بتنصيب الخلفاء على العرش
ثم أرادت الحكومة الاحتفال بتنصيبه رسميًّا كما جَرَت العادة، فهيأت موكب الخلافة
وهو
يتألف من كبار رجال الدولة وعظمائها، وقد يَرْكَبون وراء الخليفة على البراذين والخيل
والبغال، ولكل دابة سائس، فلما رأى تلك الأبهة قال: ما هذا؟ قالوا: مركب الخلافة، قال:
دابتي
أوفق لي، وركب دابته وصرف تلك الدواب، ثم أقبل سائرًا فقيل: منزل الخلافة، فقال: فيه
عيال أبي
أيوب، وفي فسطاطي كفاية حتى يتحولوا، فأقام في منزله حتى فرغوه،
٢٨ نحن لا نرى دليلًا أكبر من الذي قدمناه على ديمقراطية عمر وشدة تواضعه واستخفافه
بمظاهر الحياة الفارغة.
ويُذْكر أن جاءه صاحب الشرطة يسير بين يديه بالحربة فقال: «تنحَّ عني ما لي ولك،
إنما أنا
رجلٌ من المسلمين»،
٢٩ ولم يكد يستلم زمام الأحكام حتى أَمَرَ بستور دار الخلافة فهُتِكت، والثياب التي
كانت تُبسط للخلفاء فحُمِلت، وأَمَرَ ببيعها وإدخال أثمانها في بيت مال المسلمين،
٣٠ وسرح عمر حرس الخلافة وكانوا حوالي ستمائة وقال لهم: إن بي عنكم لغنى، كفى
بالقَدَر حاجزًا، وبالأَجَلِ حارسًا، ولا أطرحكم من مراتبكم، من أقام منكم فله عشرة دنانير،
ومن شاء فليلحق بأهله،
٣١ وكان عمر يقعد للناس على الأرض فقيل له: لو أَمَرْتَ ببساطٍ يُبسط لك فتجلس ويجلس
الناس عليه كان ذلك أهيب لك في قلوب الناس، فتمثَّل:
قضى ما قضى فيما مضى ثم لا ترى
له صبوة إحدى الليالي الغوابرِ
ولولا التقى من خشية الموت والردى
لعاصيت في حب الصبا كلَّ زاجرِ
٣٢
(٤-٧) امتحان الحكَّام والولاة
وسعى لأن يمتحن نزاهة الرجال الذين أراد توليتهم حكَّامًا وولاةً على البلاد الإسلامية
ليطمئن ضميرُه وليتخلص من جور الطغاة وعسفهم، فذكر ابن الجوزي أنه لمَّا «ولي عمر الخلافة
وفد
عليه بلال بن أبي بردة فهنَّأه … فجزاه عمرُ خيرًا، ولزم بلال المسجدَ يصلِّي ويقرأ ليله
ونهاره، فهمَّ عمر أن يولِّيه العراق، ثم قال: هذا رجلٌ له فضل، فدسَّ إليه ثلة له فقال
له:
إن عملت لك في ولاية في العراق ما تعطيني؟ فضَمِنَ له مالًا جليلًا، فأُخبِر بذلك عُمَرُ
فنفاه وأخرجه»،
٣٦ وأَبْعَدَ الولاة القساة السفَّاكين عن استلام زمام البلاد لئلا يُفْسِدوا في
الأرض، فكَتَبَ عمر إلى الجرَّاح بن عبد الله عَامِلِهِ على خراسان: «بلغني أنك استعملت
عمارة، ولا حاجة لي بعمارة ولا بضرب عمارة، ولا بِرَجُل قد صبغ يده في دماء المسلمين
فاعزله.»
٣٧
وكان عمر لا يفتأ يذكِّر عمَّاله بواجباتهم، وما عليهم تجاه الله والأمة والبلاد
من
المسئولية الكبرى، فطلب إليهم أن يجمعوا الخراج الطيب الحلال، فلما كَتَبَ ميمون بن مهران
أحد
الولاة إلى عمر بن عبد العزيز أن يستعفيه من الخراج أجابه: «يا ابن مهران، إني لم أكلِّفك
بغيًا في حُكْمك ولا في جبايتك، فاجْبِ ما جَبَيْتَ من الحلال، ولا تجمع للمسلمين إلَّا
الحلال الطيب»،
٣٨ ثم أَمَرَهُم أن يلوا أرباب الخبرة وأهل الفضل في المناصب، وأن يرفعوا السنن
الخبيثة التي أنهكت العامل والفلَّاح، وأن لا يعجلوا في أحكام الإعدام والصلب قبل استئذانه،
وأن لا يستوفوا الضرائب التي لا يخوِّلهم القانون حقَّ استيفائها، وأن يسهِّلوا على التجَّار
والمسافرين مصالحهم فيبنون لهم الخانات ويضيِّفونهم،
٣٩ وإليك وثائق تثبت لك كل هذه الحقائق التي ذكرناها:
كتب عمر بن عبد العزيز إلى عبد الرحمن بن نعيم والي خراسان: «أمَّا بعد … فكن عبدًا
ناصحًا لله في عباده، ولا يأخُذْك في الله لومة لائم، فإن الله أولى بك من الناس، وحقُّه
عليك
أعظم، فلا تولين شيئًا من أمراء المسلمين إلَّا المعروف بالنصيحة لهم أو التوفير عليهم
وأداء
الأمانة فيما استرعى، وإياك أن يكون ميلك ميلًا إلى غير الحق فإن الله لا يخفى عليه خافية،
ولا تَذْهَبَنَّ عن الله مذهبًا فإنه لا مَلْجَأَ من الله إلَّا إليه.»
٤٠
وكتب إلى زرعة الكاوي وكان قد ولَّاه خراج خراسان: «إن للسلطان أركانًا لا يثبت إلَّا
بها، فالوالي ركنٌ، والقاضي ركنٌ، وصاحب بيت المال ركنٌ، والركن الرابع أنا، وليس من
ثغور
المسلمين ثغرٌ أهم إليَّ ولا أعظم عندي من ثغر خراسان، فاستوعب الخراج وأحرزه في غير
ظلم، فإن
يكُ كفافًا لأَعْطِيَاتِهِم فسبيل ذلك وإلَّا فاكتب إليَّ حتى أحمل إليك الأموال فتوفِّر
لهم أعطياتهم.»
٤١
وكتب رسالة إلى أمير الكوفة عبد الحميد … وهذا نصها: «من عبد الله عمر أمير المؤمنين
إلى
عبد الحميد … سلامٌ عليك … أمَّا بعد … فإن أهل الكوفة قد أصابهم بلاءٌ وشدةٌ وجورٌ في
أحكام
الله، وسُنَّة خبيثة سنَّها عليهم عمَّال السوء، وإن قوامَ الدين العدلُ والإحسان، فلا
يكونن
شيءٌ أهم إليك من نفسك فإنه لا قليل من الإثم، ولا تحمل خرابًا على عامرٍ ولا عامرًا
على
خرابٍ، انظر الخراب فخُذْ منه ما أُطْلِق وأصلحه حتى يعمر، ولا يؤخذ من العامر إلَّا
وظيفة
الخراج في رفق وتسكين لأهل الأرض، ولا تأخذن في الخراج … أجور الضرَّابين ولا هدية النيروز
والمهرجان ولا ثمن الصحف ولا أجور الفتوح ولا أجور البيوت ولا دراهم النكاح، ولا خراج
على
مَنْ أسلم من أهل الأرض فاتبع في ذلك أمري، فإني ولَّيتك من ذلك ما ولَّاني الله، ولا
تَعْجَل
دوني بقطع ولا صَلْب حتى تراجعني فيه …»
٤٢
(٤-٩) الاهتمام بمصالح الشعب
ونَصَبَ نَفْسَه للعدل فضرب على أيدي المغتصبين بيد حديدية، وجعل يضيِّق عليهم الخناق،
فبدأ ببني أمية أنفسهم وأخذ ما كان تحت سيطرتهم من الغصوب، فردَّها على أهلها دون إبطاء
ولا
تأخير، فحمده الناس وشكروا له سَعْيه إذْ سَتَرَ بيوتات كثيرة كان الظلم قد فضحها، وعائلات
عديدة كان الفقر قد أخذ ينال مِنْ شَرَفِها، وأطفال يتامى كان الجهل قد بدأ يهيئ لهم
مستقبلًا
مظلمًا، وتمادى في تحرِّي المغتصبين والظالمين والتفتيش عن سيئاتهم حتى خاف بعضُ خاصَّتِه
عليه من الاغتيال والاعتداء، فقالوا: «يا أمير المؤمنين … ألا تخاف غوائلَ قومك؟ فقال:
أبيوم
سوى يوم القيامة تخوفونني، فكل خوفٍ أتقيه قبل يوم القيامة لا وُقِيتُه»،
٤٤ وخاطَبَ مرةً أفراد الأسرة المالكة يؤنِّبهم على تمتعهم بالأموال الحرام والأملاك
المغتصَبة بلهجةٍ شديدةٍ فقال: «يا بني مروان، إنكم قد أُعطيتم حظًّا وشرفًا وأموالًا،
إني
لأحسب شَطْر أموال هذه الأمة أو ثُلُثَيْها في أيديكم.»
٤٥
وأصدر عمر قانونًا خوَّل به الموظفين البارعين الأوفياء حق الزيادة في رواتبهم إن
قاموا
بما يَفْرِضه عليهم الواجب خير قيام، وكان ذلك ليقطع دابر الرشوة ويجعل للمأمور مجالًا
للتقدم، فيعمل بنشاطٍ وهمة ويسعى لاكتساب رضى رؤسائه بالإحسان إلى أرباب المصالح وقضاء
حاجاتهم بسرعة ودقة، فانتقده أحد أخصائه على ما يتقاضاه عمَّاله من المعاشات الباهظة
بقوله:
«تَرْزُق الرجلَ من عمَّالك مائة دينار في الشهر ومائتي دينار في الشهر وأكثر من ذلك»،
فأجابه: «أراه لهم يسيرًا إن عملوا بكتاب الله وسُنَّة نبيه، وأحبُّ أن أُفَرِّغ قلوبهم
من
الهم بمعايشهم وأهليهم»،
٤٦ ولا ريبَ أنه متى كان المأمور مرتاحَ البال من جهة العيال فلا يفكر بخيانة
الحكومة، بل يُجَرِّب أن يحافِظَ على مركزه جهد الطاقة.
(٤-١١) محارَبة المسكرات
ثم وجَّه عمر وجهه إلى تقويم الأخلاق ومحارَبة العادات الفاسدة المبنية على التعصب
والرذيلة، فنهى شَعْبه عن تعاطي المسكرات، وأبان لهم ما يصيبهم من الآفات والنكبات بواسطتها،
وما يتكبدونه من الآلام والعذاب بما تَحْمِله إليهم من المضار والفضائح، فهي هتَّاكة
للأجسام
مضنكة للعقول مضيعة للأموال.
كتب عمر إلى عدي بن أرطاة وأهل البصرة: «أمَّا بعد … فإنه قد كان في الناس من هذا
الشراب
أمرٌ ساءت فيه رعيتهم، وغشوا فيه أمورًا انتهكوها عند ذهاب عقولهم وسفه أحلامهم بلغت
بهم الدم
الحرام والفرج الحرام والمال الحرام، وقد أصبح جلُّ من يصيب من ذلك الشراب يقول شربنا
شرابًا
لا بأس به، ولعمري إن ما حُمل على هذه الأمور وضارع الحرام لبأس شديد، وقد جَعَلَ الله
عنه
مندوحة وسعة من أشربة كثيرة طيبة ليس في الأنفس منها جائحة: الماء العذب الفرات واللبن
والعسل
والسويق … وقد بلغنا أن رسول الله
ﷺ نهى عن نبيذ الجر والدباء والظروف المزفتة، وكان
يقول: «كل مسكرٍ حرام»، فاستغنوا بما أحل الله عما حرَّم، فإنَّا من وجدناه يشرب شيئًا
من هذه
بعدما تقدمنا إليه أوجعناه عقوبة شديدة، ومن استخفى فالله أشد عقوبةً وأشد تنكيلًا، وقد
أردْتُ بكتابي هذا اتخاذ الحجة عليكم اليوم وفيما بعد اليوم، أسأل الله أن يزيد المهتدي
منَّا
ومنكم هُدًى، وأن يُراجع بالمسيء منَّا ومنكم التوبة في يسرٍ وعافيةٍ، والسلام.»
٤٨
(٤-١٤) العوامل التي دَفَعَتْ عمر للإصلاح والعدل
أمَّا وقد عَدَدْنَا لك ما قام به عمر من الإصلاحات الجمة فلنذكر العوامل التي دَفَعَتْه
للعمل الصالح واتِّباع سُنن الخير والعدل والإحسان.
أمَّا العامل الأول فهو تقريبه للعلماء والفقهاء أصحاب الورع والتقوى وأهل النصح
والغيرة
على العرب والإسلام، أمثال محمد بن كعب القرظي وميمون بن مهران والحسن البصري، وكان دائمًا
يُكَاتب رجال الفضل ويستشيرهم ويَطْلب معرفة آرائهم في المسائل الحقوقية والتشريعية
والسياسية، أرسل عمر إلى محمد بن كعب القُرَظي يسأله أن يَصِفَ له العدل فأجابه: «… كُنْ
لِصَغير المسلمين أبًا، ولكبيرهم ابنًا، ولِلْمِثْل منهم أخًا، وعاقِبِ الناسَ بِقَدْر
ذنوبهم
على قَدْر أجسامهم، ولا تضربن لفضلك سوطًا واحدًا فتتعدى فتكون عند الله عزَّ وجل من
العادين.»
٥٢
وقال القرظي ينصح عمر أيضًا: «لا تصحب من الأصحاب من خطرك عنده على قَدْر قضاء حاجته،
فإذا انقطعت حاجته انقطعت أسباب مودته، اصحب من الأصحاب ذا العلى في الخير والأناة في
الحق،
يُعِينك على نفسك ويَكْفيك مؤنته.»
٥٣
وقال عمر لميمون بن مهران: كيف لي بأعوانٍ على هذا الأمر أَثِقُ بهم وآمَنُهم، قال:
«يا
أمير المؤمنين لا تَشْغَلْ قلبك بهذا، فإنك سوق، وإنما يُحْمَل إلى كل سوق ما يُنْفَق
فيها،
فإذا عُرِفَ أن النافق عندك الصحيح لم يأتوك إلَّا بالصحيح.»
٥٤
ووَعَظَ الحسن البصري عمر فقال له: «أمَّا بعد … اعلم يا أمير المؤمنين أن الدنيا
دار
ظَعْن وليس بدار إقامة … ولها في كل حين صرعة … هي تُهِينُ مَنْ أَكْرَمها وتذلُّ مَنْ
أَعَزَّها … ولها في كل حين قتلى، فهي كالسم يأكله مَنْ لا يعرفه وفيه حتفه … فكن يا
أمير
المؤمنين كالمداوي جَرْحَه بصيرًا على شدة الدواء مخافةَ طول البلاد، يحتمي قليلًا مخافةَ
ما
يَكْرَه طويلًا، فإن أهل الفضائل كان منطقهم فيها بالصواب ومشيهم بالتواضع، ومطعمهم الطيب
من
الرزق، مغمضين أبصارهم عن المحارم، فخَوْفُهم في البَرِّ كخَوْفِهم في البحر، دعاؤهم
في
السرَّاء كدعائهم في الضرَّاء … واعلم يا أمير المؤمنين أن التفكر يدعو إلى الخير والعمل
به،
وأن الندم على الشر يدعو إلى تَرْكه، وليس ما يُغْني — وإن كان كثيرًا — بأهلٍ أن يُؤْثَر
على
ما يَبْقَى — وإن كان طلبه عزيزًا — واحتمال المئونة المنقطعة التي تَعْقُب الراحة الطويلة
خيرٌ من تعجيل راحة منقطعة تَعْقُب مئونة باقية وندامة طويلة … وانظر يا أمير المؤمنين
الدنيا
نَظَرَ الزاهد المفارق، ولا تنظر نَظَرَ المبتلى العاشق …»
٥٥
وقل له أيضًا: «يا أمير المؤمنين إن استقمت استقاموا، وإن مِلْتَ مالوا، يا أمير
المؤمنين
لو أن لك عُمْرَ نوح وسلطان سليمان ويقين إبراهيم وحِكْمة لقمان ما كان لك بدٌّ من أن
تَقْتَحِم العقبة، ومن وراء العقبة الجنة والنار، ومَنْ أخْطَأَتْه هذه دَخَلَ هذه.»
٥٦
وأمَّا العامل الثاني فيرجع إلى فلسفة عمر في الحياة، تلك الفلسفة التي تقول بالزهد
وتخاف
حساب الله واليوم الآخر مخافةً عظمى … وتسعى لاجتناب الشر واتباع الخير والاهتمام بالمصالح
العامة قبل الاهتمام بالمصالح الخاصة، وكانت فلسفة عمر توحي إليه بالقناعة والتضحية والتعبد
والنسك واحتقار الدنيا والنظر إليها نَظَرَ الراحل عنها، فهو يخاف الساعة الأخيرة ويَرْهَب
عذاب الله، وكلُّ شيءٍ لديه في سبيل مرضاة الله سَهْل حلو المذاق.
وهاك بعض فقرات من خطبة ترينا مذهبه في الحياة: «أيها الناس … إنكم لم تُخْلَقوا
عبثًا
ولن تُتْرَكوا سدًى، وإن لكم معادًا ينزل الله فيه للحكم فيكم والفصل بينكم، وقد خاب
وخَسِرَ
مَنْ خَرَجَ من رحمة الله التي وَسِعَتْ كل شيء، وحُرِمَ الجنة التي عَرْضها السموات
والأرض،
ألا واعلموا إنما الأمان غدًا لمن حذر الله وخافَهُ وباعَ نافذًا بباقٍ، وقليلًا بكثير،
وخوفًا بأمان، وسَيَخْلُفها بَعْدَكُم الباقون، كذلك حتى تُرَدَّ إلى خير الوارثين، وفي
كل
يوم تشيِّعون غاديًا ورائحًا إلى الله قد قضى نحبه وانقضى أَجَلُه، فتغيِّبونه في صَدْع
من
الأرض، ثم تَدَعونه غير مُوسَد ولا مُمَهَّد، قد فارَقَ الأحبة وخَلَعَ الأسباب فسَكَنَ
التراب ووَاجَهَ الحساب، فهو مُرْتَهَن بعمله، فقيرٌ إلى ما قَدَّم غنيٌّ عما ترك، فاتقوا
الله قبل نزول الموت وانقضاء مراقَبَتِه، وايم الله إني لأقول لكم هذه المقالة وما أعلم
عند
أحدٍ منكم من الذنوب أكثر مما عندي، فأستغفر الله وأتوب إليه، وما منكم من أحدٍ تَبْلُغنا
عنه
حاجة إلَّا أَحْبَبْتُ أن أسدَّ مِنْ حَاجَتِه ما قَدَرْتُ عليه، وما منكم من أحدٍ يسعه
ما
عندنا إلَّا وددت أنه ساواني ولحمتي حتى يكون عيشنا وعيشه سواء، وايم الله أن لو أَرَدْتُ
غير
هذا من الغضارة والعيش لكان اللسان مني به ذلولًا عالمًا بأسبابه، ولكنه مضى من الله
كتابٌ
ناطقة وسنَّة عادلةٌ يدلُّ فيها على طاعته وينهي عن معصيته.»
٥٧
ومن خُطَبِه: «مَنْ وَصَلَ أخاه بنصيحة له في دينه، ونَظَرَ له في صلاح دنياه، فقد
أحسن
صلته وأدَّى واجِبَ حَقِّه، فاتقوا الله فإنها نصيحةٌ لكم في دينكم فاقبلوها، وموعظةٌ
منجيةٌ
في العواقب فالْزَمُوها، الرزق مقسوم فلن يُغْدَر المؤمن ما قُسِم له، فأجملوا في الطلب
فإن
في القنوع سعةً وبلغةً وكفافًا، إنَّ أَجَلَ الدنيا في أعناقكم وجهنم أمامكم وما ترون
ذاهبٌ،
وما مضى فكأن لم يكن، وكلٌّ أموات عن قريب، وقد رأيتم حالات الميت وهو يسوق وبعد فراغه
وقد
ذاق الموت والقوم حوله يقولون قد فَرَغَ رحمه الله، وعايَنْتُم تعجيل إخراجه وقسمة تراثه،
ووَجْهُه مفقود، وذِكْرُه مَنْسِيٌّ، وبابُه مهجور، كأن لم يُخَالِط إخوانَ الحفاظ ولم
يُعَمِّر الديار، فاتقوا هولَ يومٍ لا تحقر فيه مثقال ذرةٍ في الموازين.»
٥٨
وله أيضًا: «مَنْ عمل على غير عِلْم كان ما يُفْسِد أَكْثَر مما يُصْلح، ومن لم يَعُدَّ
كلامَه مِنْ عَمَلِه كَثُرت ذنوبه، والرضا قليل، ومعول المؤمن الصبر، وما أَنْعَمَ اللهُ
على
عبدٍ نعمةً ثم انْتَزَعَهَا منه فأعاضَهُ مما انتزعَ منه الصبرَ إلَّا كان ما أعاضه خيرًا
مما
انتزع منه،
إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ
حِسَابٍ.»
٥٩
وغلبت على عمرَ خصالٌ طيبةٌ، فكان صَفوحًا حليمًا كريمًا، حتى لَيقال إنه عرض له
رجل بيده
طومار «فظن القوم أنه يريد أمير المؤمنين فخاف أن يُحْبَس دونه، فرماه — الرجل — بالطومار
والْتَفَتَ أمير المؤمنين فأصابه في وجهه فشجَّه، فنظرت إلى الدماء تسيل على وجهه وهو
في
الشمس، فقرأ الكتاب وأَمَرَ له بحاجته وخلَّى سبيله.»
٦٠
ولطالما أَكْرَمَ ضيوفه وجلساءه وعامَلَهم معاملةَ الأخ للأخ والصديقَ للصديق، روى
ابن
الجوزي أنه «سمر ضيفٌ عند عمر فاعتلَّ السراج فَذَهَبَ الضيف ليصلحه، فأمره عمر بالجلوس
ثم
قام فأصلحه، ثم عاد فجلس فقال: قُمْتُ وأنا عمر بن عبد العزيز وجلسْتُ وأنا عمر بن عبد
العزيز، ولُؤْمٌ بالرجل أن يَسْتَخْدِمَ ضَيْفَه.»
٦١
ولما رأى الناس كَرَمَ خُلُقه وشدة غيرته على مصالحهم واهتمامه بتثبيت دعائم العدل
في
مختلف الأقطار راحوا يطمئنون للحكم الأموي، فدخل الأعاجم زرافات ووحدانًا في الإسلام
حتى قلَّ
خراج الدولة، ورمى الثوارُ والخوارجُ والعصاةُ في البلاد سلاحهم وقالوا: لا يجوزُ قِتَال
الإمام العادل.
توفيَ عمر بدير سمعان من أَعْمال حمص مسمومًا كما أجمع المؤرخون سنة ١٠١ﻫ/٧١٩م، ويقال:
إن
بني أمية هم الذين دبَّروا له هذه المكيدة؛ لأنه ضيَّق عليهم ووضع يده على ما اغتصبوه
من
الأموال والأملاك، فحزنت الأمة عليه ورثاه شعراؤها وأدباؤها كالفرزدق وغيره، قال
الفرزدق:
كم مِنْ شريعةِ حَقٍّ قَدْ شَرَعْتَ لَهُمْ
كانت أُمِيتَتْ وأخرى مِنْكَ تُنْتَظَرُ
يا لُهْفَ نفسي ولُهْفَ اللاهفين مَعِي
على العدول التي تغتالها الحفرُ
لم يَبْكِ عمرَ المسلمون فحسب، بل بكاه المسيحيون من رَعِيَّتِه وأعدائه، قال أحد
الأنباط: «أبكي على نورٍ كان في الأرض فطُفئ»، وقال أحد كبار البيزنطيين: «إني لست أَعْجب
من
الراهب أنْ أَغْلَقَ بابه ورَفَضَ الدنيا وترهَّب وتعبَّد، ولكن أعجب ممن كانت الدنيا
تحت
قدميه فرفضها وترهَّب.»
٦٢
نَهَجَ بعض الخلفاء من أمويين وعباسيين منهج عمر؛ لأنه أصبح المثل الأعلى في العدل
عندهم،
وقد اشتهر من بني أمية بَعْدُ هشامُ بن عبد الملك، فراقَبَ أمور الدولة مراقَبةً شديدة،
ووَضَعَ العيون والأرصاد في سائر الأمصار، فأحصى أعمال ولاته وحَفِظَ أقوالهم وأخبارهم،
قال
ابن قتيبة مبالِغًا: «فلا خبر يكون ولا قصة تَحْدُث في مَشْرِق الأرض ولا مَغْرِبها إلَّا
وهو
يُتَحَدَّث به في الشام وينظر فيه هشام، وقد أَقْصَرَ نَفْسَه على هذه الحال وحُبِّبَت
إليه
هذه الأفعال، فكانت أيامُه عند الناس أَحْمَدَ أيام.»
٦٣
وكان هشام رجلًا عاقلًا مفكِّرًا، لا يَبُتُّ في أمرٍ قَبْل فَحْصه واختباره ومَعْرِفة
ما
يرمي إليه من النتائج، وقد وَصَفَ عقالُ بنُ شبَّةَ هشامًا بقوله: «دَخَلْتُ على هشام
فَدَخَلْتُ على رجلٍ محشوٍّ عقلًا»،
٦٤ وقال الطبري: «لم يكن أحدٌ من بني مروان أَشَد حصرًا في أَمْر أصحابه ودواوينه
ولا أشد مبالغةً في الفحص عنهم من هشام»،
٦٥ ويمتاز بدقة نظره وحُبِّه المفرط لجَمْع الأموال والاحتفاظ بها، حتى إنه نُعِت
بالبخيل، تلك هي إصلاحات بني أمية، وكلها ترمي إلى العدل وإعلاء كلمة الحق كما رأيناه.
ا.ﻫ.