العمران الأموي
(١) أسباب العمران
أَخْفَتَ عبد الملك بن مروان نيران الحروب الأهلية، فقضى الشطر الأكبر من حياته وهو يطارد الزعماء ويلاحق أرباب العصيان، فمهَّد بذلك السبل للتوغل والفتوح في الساحات المختلفة والاهتمام في البناء والعمران، فأُسِّست المدن الوسيعة وشُيِّدت المساجد في الشام والحجاز والعراق، وزُيِّنت العاصمة دمشق بأنواع الزينة، فحُفِرت فيها الترع والأقنية لري المزارع والبساتين، وكان الوليد خلفه شديدَ الكلف بالعمارات والأبنية واتخاذ المصانع والضياع، فزاد ذلك في رغبة الشعوب الإسلامية على اقتفاء أثره واتباع خطاه، ولا ريب أن الأموال الكثيرة التي تدفَّقَت على خزانة الدولة من مختلف الأمصار هيأتْ أسباب العمران، وكان السلام منتشرًا فعمَّت الرفاهية وسادت الطمأنينة، فالتفت الناس إلى مجاراة ولاتهم وحكَّامهم في استحداث الأبنية التاريخية التي لا تزال أثرًا شاهدًا على علوِّ كَعْب الأمويين في فن العمارة.
(٢) جغرافية سورية
(٣) جغرافية الدولة الأموية
ذَكَرْنَا لك هذه الأقسام الجغرافية لتتعرف إلى المملكة الأموية، وكل قَصْدِنا مِنْ إيرادها أن نُظْهِر أن الدولة الأموية اهتمَّت اهتمامًا كليًّا في عمارة سورية، وبَذَلَت الأموال الطائلة في تشييد مدنها وتزيين أسواقها ومَرَافقها بالنسبة إلى غيرها من المقاطَعات الإسلامية، وكانت الخزينة كريمةً في صَرْف أموال الجباية والخراج المجلوبة من الولايات الفارسية والتركستانية والمصرية وغيرها في سبيل إنشاء المدن السورية وتنظيم العاصمة دمشق.
(٣-١) دمشق
(أ) الصالحية
ويَصِفها القلقشندي ثم يَذْكر الصالحية فيقول: «وهي مدينة عظيمة البناء، ذات سور شاهق ولَهَا سبعة أبواب: باب كيسان، باب شرقي، باب توما، باب الصغير، باب الجابية، باب الفراديس، الباب المسدود، وهي … حسنة الترتيب، جليلة الأبنية، غوطتها أحد مستنزهات الدنيا العجيبة المفضلة على سائر مستنزهات الدنيا … بها الجوامع والمدارس والزوايا والأسواق المرتبة والديار الجليلة المذهبة السقف المفروشة بالرخام المنوَّع، ذات البرك والماء الجاري، وربما جرى الماء في الدار الواحدة في أماكن منها، والماء مُحْكِم عليها مِنْ جميع نواحيها، وغالِبُ بنائها بالحجر، وعناية أهلها بالمباني كثيرة، ولهم في بساتينهم منها ما تفوق به وتحسن بأوضاعه، ويستعمل في عماراتها خشب الحور وأجل حاضرتها ما هو في جانبيها الغربي والشمالي.
فأمَّا جانبها الغربي ففيه قلعتها، تحيط بها وبالمدينة جميعها أسوارٌ عاليه، ويحيط بها خندق يطوف الماء منه بالقلعة، إذا دَعَت الحاجة إليه أطلق على جميع الخندق المحيط بالمدينة فيعمَّها.
(ب) جامع بني أمية
ولو أُتيح لنا زيارة دمشق في أواخر عهد الوليد لاستَجْلَبَ أنظارَنا مسجدُها الجامع المعروف اليوم بجامع بني أمية، فترى به القواعد الكبيرة والأساطين العظيمة والأعمدة الجميلة والمحاريب المزينة والقبب البديعة والأروقة المرصعة والفسيفساء الملونة والنقوش المتنوعة والفصوص المُذَهَّبة والمرمر المصقول، وقد جمع الوليد لدى عمارته أشهر البناة والمهندسين من الهند وفارس والمغرب وبيزنطية، ويُقال: إنه أَنْفَقَ عليه خراج الشام سبع سنين.
أسباب تشييد مسجد بني أمية
- أولًا: مجاراة المسيحيين ومضاهاتهم في بناء معابدهم كما يُؤْثِر الخلفاء على العامة، ولئلا يُقال: إن بِيَعَ النصارى أَحْسَن فنًّا وأدقَّ بناءً وأجمل زخرفةً من مساجد المسلمين، نستشهد على هذا بما رواه المقدسي حينما سأل عمه معترضًا على كثرة الأموال التي أُنفِقت على هذا الجامع قال: «وقلتُ يومًا لعمِّي: يا عم لم يُحْسِن الوليد حيث أَنْفَقَ أموال المسلمين على جامع دمشق، ولو أَصْرَفَ ذلك في عمارة الطرق والمصانع ورمِّ الحصون لكان أَصْوَبَ وأفضل، قال: لا تفعل يا بني، إن الوليد وُفِّقَ وكُشِفَ له عن أَمْر جليل، وذلك أنه رأى الشام بَلَد النصارى، ورأى لهم فيها بِيَعًا حسنةً قد افتن زخارفها وانتشر ذِكْرُها كالقمامة وبيعة لد والرها، فاتخذ للمسلمين مسجدًا شَغَلَهُمْ به عنهن وجعله أَحَدَ عجائب الدنيا، ألا ترى أن عبد الملك لما رأى عظم قبة القمامة وهيئتها خَشِيَ أن تعظم في قلوب المسلمين فنصب على الصخرة قبة على ما ترى.»٧
- ثانيًا: منافسة الأجانب البيزنطيين في بنائهم أيضًا وحبًّا بالظهور أمام الأغيار بمَظْهر القوة والغنى، وكان عمر بن عبد العزيز الخليفة العادل يودُّ لو ينزع الحلي التي زيَّنَ بها الوليدُ المسجدَ الجامع لتُصْرَف على قضاء حاجات المسلمين وتُنْفَق في مصالحهم، فغيَّر رأيه وقال: «لا أرى مسجدَ دمشق إلَّا غيظًا على الكفَّار، فنزل عمَّا كان همَّ به من نَزْع حُلِيِّه.»٨
- ثالثًا: ضيق فناء المسجد الذي اتخذه معاوية للمصلين، وكان مَوْضع هذا المسجد كنيسة يصلي
المسلمون في ناحية منها والنصارى في ناحية، فلم يزالوا كذلك حتى كَثُرَ عدد
المسلمين في دمشق وتوافدت الناس إليها من كل صوب في أيام الوليد، فطَلَبَ إلى
المسيحيين أن يعطوه النصف المختص بهم لقاء إضعاف ثمنه، وتَعَهَّدَ لهم ببناء كنيسة
في دمشق حيث شاءوا، فأَبَوْا عليه فهدمه مدعيًّا أن المسلمين الفاتحين أَخَذُوه
عنوة وأضافه للمسجد، وكان أَوَّل مَنْ هدم فيه حجرًا.
قال ابن عساكر يصف هَدْمَ هذا النصف من الكنيسة: «لما عَزَمَ الوليدُ على الهدم قال له النصارى: لا يَهْدِمُها أحدٌ إلَّا جُنَّ … فخرج الوليد ومعه وجوه أهل البلد حتى ملئوا الكنيسة، فأتى بفأسٍ وقال: إن هؤلاء يزعمون أن أَوَّلَ من يهدمها يُجَنُّ وأنا أَوَّلُ مَنْ يُجَنُّ في الله تعالى، وتناوله كل من حضر.»٩
أَسْهَبَ المؤرخون والأدباء في وَصْف المسجد الأموي وذِكْر أَرْوِقته ومَحَارِيبه ونقوشه وأعمدته، وإنني مُقْتَطِف لك فقرات بعيدة عن المبالَغة، وهي لِأشهر الثقات الذين كَتَبوا في هذا الموضوع:
قال المقدسي: «الجامع أحسن شيءٍ للمسلمين اليوم، ولا يُعْلَم لهم مالٌ مَجْتَمِع أكثر منه، قد رُفِعت قواعده بالحجارة الموجهة كبارًا مؤلفة، وجُعِلَ عليهم شرف بهية، وجُعِلَتْ أساطينها أعمدةً سودًا ملسًا على ثلاثة صفوف واسعة جدًّا، وفي الوسط إزاءَ المِحْرَاب قبة كبيرة، وأُدِيرَ على الصحن أروقة متعالية، ثم بُلِّط جميعه بالرخام الأبيض، وحيطانه إلى قامتين بالرخام المجزع، ثم إلى السقف بالفسيفساء الملوَّنة، في المذهبة صور أشجار وأمصار وكتابات على غاية الحُسْن والدقة ولطافة الصنعة، وأقل شجرة أو بَلَد مذكور إلَّا وقد مُثِّل على تلك الحيطان، وطُلِيَتْ رءوس الأعمدة بالذهب، وقناطر الأروقة كلها مرصعة بالفسيفساء، وأعمدة الصحن كلها رخام أبيض وحيطانه بما يدور والقناطر وفراخها بالفسيفساء نقوش وطروح، والسطوح كلها ملبَّسة بشقاق الرصاص، والشرافيات من الوجهين بالفسيفساء، وعلى الميمنة في الصحن بيت مال على ثمانية عمد مرصَّع حيطانه بالفسيفساء، وفي المحراب وحوله فصوص عقيقية وفيروزجية كأكبر ما يكون من الفصوص، وعلى الميسرة محراب آخر دون هذا للسلطان، وقد كان تَشَعَّثَ وسطه فسَمِعْتُ أنه أُنْفِق عليه خمسمائة دينار حتى عاد إلى ما كان، وعلى رأس القبة ترنجة فوقها رمانة كلاهما ذهب.
وروى ياقوت في معجم البلدان عن أحد الأدباء: «هو جامع المحاسن … معدود من إحدى العجائب، قد زُوِّر بعض فرشه بالرخام وأُلِّفَ على أحسن تركيب … صَنْعته مؤتلفة، بساطه يكاد يَقْطر ذهبًا ويشتعل لهبًا، وهو منزَّه عن صور الحيوان إلى صنوف النبات وفنون الأغصان، لكنها لا تُجنى إلَّا بالأبصار ولا يدخل عليها الفساد كما يدخل على الأشجار والثمار، بل باقية على طول الزمان»، وقال أيضًا: «لو عاش الإنسان مائة سنة وكان يتأمله كل يوم لرأى فيه كل يوم ما لم يره في سائر الأيام مِنْ حُسْن صنائعه واختلافها.»
(ﺟ) قصر الخضراء
(د) أنهار دمشق
(ﻫ) رصافة الشام
قلنا: إن هشامًا كان يرتاد الرصافة لترويح الخاطر من عناء الأشغال وانتجاعًا للصحة وهربًا من الطاعون في بعض الأحيان، فقدمت عليه الوفود من الجهات لقضاء حاجاتها وأتت إليه أهل المظالم تطلب العدل والإنصاف من أرباب الجور والعسف، فأسس مجلسًا للقضاء أدنى إليه الضعفاء والنساء واليتامى، وأقصى عنه المتنفذين والأقوياء، وقد طار صيت الرصافة فوصف لنا الكتَّاب والمتأدبون جمالها وأطنبوا في مديح هشام وعدالته.
فقال فيها أحد النبلاء من العراق: «قدمت على هشام وقد خرج منتدبًا في قرابته وأهله وحشمه وحاشيته من أهله إلى بعض وادي الرصافة، فنزل في أرض قاع صحصح أفيح في عامٍ قد بَكَّرَ وسيمه — مطره — وقد أُلْبِسَت الأرض أنواع زهرتها وأخرجت ألوان زينتها من نور ربيعها، فهي في أحسن مَنْظَر وأجمل مخبر، بصعيدٍ كأن ترابه قطع الكافور، فلو أن قطعة دينار أُلْقِيَت فيه لم تثرب، وقد ضُرِبَ له سرادقات من حبرات اليمن مزرورة بالفضة والذهب، وضُرِبَ له فسطاطه في وسطه فيه أربعة أفرشة من خزٍّ أحمر مثلها مرافقها، وعليه دراعة خزٍّ أحمر وعمامة مثلها، وضُرِبَت حُجَر نسائه من وراء سرادقه، وعنده أشراف قريش وقد ضُرِبَتْ حُجَر بنيه وكتَّابه وحشمه بقرب فسطاطه.
وكان سليمان بن عبد الملك واليًا على جُنْد فلسطين في أيام أخيه الوليد، فنزل «لُد» — أكبر محطة في فلسطين للسكك الحديدية اليوم — فلم تُعْجِبه ولم تَرُقْ له الإقامة فيها، فقدم الرملة، وهي رباط للمسلمين منذ الفتح فمصرها وبنى بها قَصْره ودارًا تُعرف بدار الصبَّاغين، واختط المسجد وعمَّره وزيَّنه واحتفر لهم الآبار والأقنية، وكان بنو أمية يُنْفِقون على آبار الرملة إلى أواخر أيامهم، وأصاب الرملة الدمار في خلال الحروب الصليبية، وهي تكاد تكون اليوم قرية، وكانت زاهية زاهرة في أيام المقدسي الجغرافي، فيقول عنها: «قصبة فلسطين بهيةٌ حسنةُ البناء خفيفة الماء مرية واسعة الفواكه جامعة الأضداد بين رساتيق جليلة … وقرى نفيسة والتجارة بها مفيدة والمعايش حسنة، ليس في الإسلام أبهى من جامعها ولا أحسن ولا أطيب من حواريها، ولا أبرك من كورتها ولا ألذُّ من فواكهها، موضوعة بين رساتيق زكية ومدن محيطة ورباطات فاضلة، ذات فنادق رشيقة وحمامات أنيقة وأطعمة نظيفة وإدامات كثيرة ومنازل فسيحة ومساجد حسنة وشوارع واسعة … قد خطت في السهل وقربت من الجبل والبحر وجَمَعَت التين والنخل وأَنْبَتَت الزروع على البعل وحَوَت الخيرات والفضل، غير أنها في الشتاء جزيرة من الوحل وفي الصيف ذريرة من الرمل، لا ماء يجري ولا خضر ولا طين جيد ولا ثلج، كثيرة البراغيث عميقة الآبار مالحة وماء المطر في جباب مقفلة، فالفقير عطشان والغريب حيران.
(٣-٢) واسط العراق
(٣-٣) جامع بيت المقدس
جَرَت السُنَّة لدى الخلفاء الأمويين أن يشيدوا المساجد ويعمروا بيوت الله لتكون زينة للمدن ومركزًا وسيعًا لاجتماع المسلمين وغيظًا على الأجانب والأغيار، فأقام الوليد الجامع الأموي في دمشق، وقد أَسْهَبْنَا لك في وَصْفه وبيان محتوياته، وبنى والده عبد الملك بمساعَدَته جامع بيت المقدس أو جامع الصخرة، وتباينت رواية الذين زاروه وشاهدوه من المؤرخين في العصور المختلفة في ذِكْر مساحته وعدد عمده ومحاريبه ومنابره والأموال التي أُوقِفَتْ له.
أحببت أن أثبت لك هذه الروايات المختلفة المتبايِنة لِتَعْلَم معنى المبالَغة وكم يجب أن نَحْذَر منها في دراستنا التاريخ، ولو درست هذه الروايات تمامًا لوجدت أن الهمداني والمقدسي يعطيانك على وجه التقريب عَيْن الأرقام فيما يختص بمساحة مسجد بيت المقدس وعدد عمده وأذرع الحصر التي تُفرش فيه، لكن الغرابة كل الغرابة حينما تأتي إلى عدد الآبار فيعدِّدها ابن عبد ربه فإذا هي ٢٤ ويعدِّدها الهمداني فإذا هي ٢٥٠٠٠ فتأمَّلْ! أليست هذه الحال من الفضائح في التاريخ فاجتَنِبْها ما قَدَرْتَ رحمك الله، وهاك قائمة تسهِّل عليك نوعًا المقابَلَةَ بين هذه الروايات:
المقدسي | ابن عبد ربه | الهمداني | ياقوت | |
---|---|---|---|---|
الطول والعرض | ٧٠٠ × ١٠٠٠ | ٤٥٥ × ٧٨٤ | ٧٠٠ × ١٠٠٠ | |
عدد القناديل | ١٥٠٠ | ١٦٠٠ | ||
العمد | ٧٠٠ | ٦٨٤ | ٧٠٠ | |
الأبواب | ٢٦ | ٥٠ | ||
الحصر | ٨٠٠٠٠٠ ذراع | ٨٠٠٠٠٠ | ٨٠٠٠٠٠ | |
الآبار | ٢٤ | ٢٥٠٠٠ | ٢٥٠٠٠ | |
الخدم | ٢٨٠ | ١٤٠ | ١٤٠ |