إلى نشأة المسرح المصري
(١) تبيين
المسرح
في مفرق الطريق؛ أي حيث ينفرجُ يمينًا مُنارًا وصاعدًا، ويسارًا مظلمًا ومنحدرًا، يلتقي العقل والشعور، فيتجاذبان المرء ولكل منهما حظه من القوة والغلبة، وأما الجانب المظلم فحيث يقهر الشعور العقل فينحدر المرء، وقد عمي رشده إلى غاية تحترق عندها النفس، وأما الجانب المُنار فحيث يصرع العقل الشعور فيسلك المرء في صَعودٍ مثلوجة يحيا عندها بنجوةٍ من الاحتراق، يحيا كمثل شجرة شظف عودها وجفَّ ورقها وذوى زهرها، على ما هو مبين في رسم الغلاف.
الأشخاص
- سميرة: نفسٌ مضطربة تتنازعها حلاوة الماضي الموجع وراحة الحاضر المقفر، تطمئن إلى حياةٍ يلجمها العقل، وتجذبها حياةٌ يندلعُ فيها الشعور، فهى كالموسوسة، يبدو كلامها هذيانًا؛ لأن رأيها لا قرارَ له، وتراها كلما لمست الحقيقة القاحلة فزعت منها إلى متمثِّلاتها الورقة، وإذا انقضت هذه أوت إلى التلف المعنوي إرادة أن تحبس حركات نفس رغَّابة في الاحتراق.
- الأبله: لا يقوى على الكلام، ولكنه يفهم كل شيء، ولا ينكشف أمره حتى ينخلع قلبه، كمظلوم راضٍ بما قسم له يحسبه الناس سادرًا، قاعد الإحساس فيستخفُّون به، حتى إذا بغى الجرح الذي يضرب في جنبه فار فارفضَّ فأصاب الظالم منه رشَّاشٌ يرده إلى الواقع، فبكاء الأبله في مختتم هذه القصة؛ ذلك البكاء الذي نزع الغطاء عن عيني سميرة، فمنعها أن تُبعث على يد مغريها إلى الشعور، صرخة مظلومٍ يعرف أنه من أجلها مقتول.
- هو: عنوان الإنسان العادي، المُنشأ في حلقة المواضعات الاجتماعية — وما أكثرها في الشرق العربي عامةً، ومصر خاصةً! — المبني على البغي، الرقيق لساعته، العاجز عن إدراك المعاني المجردة حتى يُؤخذ بيده فيُقاد إليها فيصرعه جلالُها، ثم يودُّ لو يعيشُ في ظلها دون أن يبذل نفسه بذلًا في سبيلها كأنه يقنع بالوقوف بباب هيكلها لعله يظفر ببعض ما فاته من اللذة الخاصة، فتعوزه الفرصة لتبدل الأحوال التي كانت تكتنفه.
المسرح
مؤخَّرُه: صف من المنازل المنخفضة على شكل المنازل التي تُصاب الآن في الأحياء القديمة في مصر، من نافذة من نوافذ أحد المنازل الواقعة في الجانب الأيمن من المسرح يخرج نورٌ، نورُ مصباح «جاز» كبير، المصباح لا يُرى، وإذا أُريد إظهاره فليكن معلَّقًا بالحائط بمسمارٍ ضخمٍ معقوفٍ.
مقدَّمُه: طريقٌ ضيِّقٌ، على الأرض جزازات ورق وبقايا من قصب السكر، يمتد إلى جانبي المسرح يمينًا ويسارًا. الجانب الأيمن منه يضيئه النور الخارج من النافذة إضاءةً ضئيلةً، وأما الجانب الأيسر فبين المظلم والمنار، وتشتد الظلمة في أوله من اليسار، والطريق ينحدر من الجانب الأيمن المنار إلى الجانب الأيسر المظلم، ثم إنه غير مستقيم بحيث يلتقي جانباه وَسَطَ المسرح زاوية منفرجة.
الأشخاص
- سميرة: امرأة في السابعة والعشرين أو تقاربها، نحيفة، رشيقة، حسنة الشكل، بَشَرَتها ضاربة إلى الصفرة، شعرها أسود متدلٍّ بعض الشيء حتى كتفيها، ترتدي «فستانًا» نظيفًا عاديًّا أسود لا يخلو من أناقةٍ بسيطةٍ كالذي ترتديه فتياتٌ من العامة في مصر لعهدنا هذا، مشدودًا إلى ما فوق خصرها، ليس بالواسع بحيث يشفُّ عن رشاقة جسمها، مرتفعًا إلى أسفل العنق، ساقطًا إلى القدمين حتى الحذاء وإلى الذراعين حتى المعصمين، فلا يُرى من الفتاة سوى وجهها السافر وكفيها، الحذاء أسود، والمطلوب أن تشتدَّ المقابلة بين سواد اللبس وصفرة الوجه واليدين.
- الأبله: فتًى لا عمر له، مستحكمُ البنيةِ، منفوش الشعر، يرتدي «جلَّبيَّة بلدي» (جلبابًا مصريًّا) صفراء، حذاؤه أسود عتيق جدًّا، تبدو على هيئته القذارة.
- هو: شاب في الثلاثين أو يقاربها، جميل المنظر، على رأسه طربوش [هذا غير واجب]، يرتدي «بدلة» لونها زاهر، وفي عروة في أعلى «البدلة» وردة، حذاؤه أبيض، بَشَرَته سمراء بل شديدة السمرة.
المشهد الأول
الأبله جالس في الجانب المنار على الأرض، على مقربة من جدار منزل، بين يديه رزمة قصب سكر، يقشِّر قصبة بأضراسه ثم يدفع «عقلة» القصبة (الأنبوبة) إلى المرأة فتمضغ منها شيئًا وتعيدها إليه فيأتي عليها مصًّا. من آنٍ إلى آنٍ يضحك ضحكةً خفيفةً لا معنى لها، سميرة تجيء وتذهب أمامه في هدوءٍ وبطءٍ، تنظر إليه أحيانًا في ذهول.
يستمرُّ هذا التمثيل الصامت زهاء دقيقتين، وبينما الأبله يكسر «عقلة» من عود قصب على ركبته إذ يشدُّ العود إليه بقوةٍ كأن أحدًا يريد خطفه من خلف، وذلك في أثناء مرور سميرة أمامه بحيث تراه.
(تخاطب الأبله) أتسمعني؟ (آمرةً) اضحكْ!
المشهد الثاني
«هو» يقدم من الجانب الأيسر في تباطؤ شديد فينصرف إلى أول منزل من هذا الجانب. يحاول أن يقرأ اسم الطريق عليه. الأبله ينظر إليه شزرًا. سميرة ترمقه في غير عناية. يقبل «هو» وسط الطريق حيث المكان بين المظلم والمُنار وحيث المرأة واقفة. البعد بينه وبين المرأة مقدار «مترين» بحيث يشمله الظلام فوق ما يشمل المرأة. يلزم الأبله نظرته طوال الحديث الذي يجري بين «هو» وسميرة مهملًا امتصاص القصب. يعبِّر عن انفعالاته في صمت.
(من الآن فصاعدًا ينظر «هو» إلى سميرة وجِلًا، زائغ البصر، مختلج النفس. يحرك يديه الحين بعد الحين في تهيُّج، ولكن التحريك ليس فيه غلوُّ. وجهه إلى الجمهور وسميرة ظهرها إلى الجمهور بحيث لا يُرى منها إلا التفاتات يديها وكتفيها. وأما الأبله فيظل طوال حديث المرأة مبهوتًا كالمستفيق على كره من حلم لذيذ والقصبة في يده ماثلة ممدودة نحو فمه. يشاهد ما يجري وهو يتألم في صمت. كل ذلك حتى يُسمع صوت الناي فتتبدل هيئات الأشخاص الثلاثة.)
هنا يعلو صوت ناي من النافذة المنارة. صوت خفيت يظل دقيقة. يلتفت الأبله وسميرة و«هو» إلى النافذة. الأبله ينظر شزرًا ويطرح بالقصبة التي بيده أرضًا. سميرة تضم يديها إلى صدرها كالمُصَلِّيَةِ. «هو» ينظر كالمأخوذ.
(هنا يعلو صوت الناي، فيتمتم الأبله.)
(هنا يعلو صوت الناي مرة ثالثة، ولكن نصف دقيقة فقط.)
(سميرة لا تحفل بهذا الرد، بل تتطلع إلى النافذة في شغف. وأما الأبله فيرمقها مغيظًا.)
المشهد الثالث
(يقفان. يظل صوت الناي دقيقة كاملة)
(يعود الناي دقيقة أخرى كاملة إلى مدَّاته الشجية. تستمع سميرة إليه كأنها تنتفض.)
(في هذه اللحظة عينها يُسمَع من داخل الغيابات يمينًا — حيث الأبله منزوٍ — نشيج رقيق يقارب مدَّات الناي الشجية.)
(سميرة ترهف الأذن وتلوي رأسها تحدِّق إلى داخل الغيابات من اليمين وتبسط يدها كأنها تدفع شيئًا مكروهًا. في هذه اللحظة يرسل الناي بعض مدَّات مبهمة تشابه نشيج الأبله.)
المشهد الرابع
(تنفض سميرة كتفها من كف «هو» وتسرع نحو الأبله، فتجذبه من يده في شيء من العنف حتى وسط المسرح، ثم تدور بحيث تجعل ظهرها ناحية الجانب المنار وظهر الأبله ناحية الجانب المظلم على بضع خطوات أمام «هو».)
(يتراجع الأبله حتى يقرب من «هو»)
(في هدوء تضطرب فيه مأساة، مشيرة إلى الطريق الذي هما فيه) خذا هذا الطريق … الذي لا نور فيه … الذي ينحدر.
(سميرة تغيب عن العين. «هو» يأخذ بيد الأبله مطأطئ الرأس، والأبله ينشج في سكون، وكأنَّ النشيج يُذكِّر بمدَّات الناي الشجية، ثم يمضيان، الأبله خلف «هو»، حتى يغيبا.)