العلم بين فلسفته وتاريخه
(١) مدخل
أولًا: علاقة متوترة بين فلسفة العلم وتاريخ العلم
يقول هيدجر: إن العلم لا يفكر في ذاته. ويمكن أن نضيف إلى هذا أنه لا يُعنَى كثيرًا بذاكرته، ولا يلتفت إلى ماضيه، فديدن العلم في أن يصحح ذاته ويجدد نفسه ويتجاوز الوضع القائم، ناهيك عن الماضي، إنه يشحذ فعالياته المنطلقة بصميم الخصائص المنطقية صوب الاختبارية والتكذيب والتصويب، صوب مزيد من التقدم والكشف، أي صوب المستقبل دومًا.
لذلك لم تكن علاقة العلم بتاريخه مماثلة لعلاقة الكيانات الحضارية الأخرى بتاريخها، فقد تعتبره بمثابة سجلها المدون الذي يحمل معالم تشكل هويتها، فلا تنفصل عن تاريخها إلا إذا كان للشخص أن ينفصل عن بطاقة هويته، ولعل المنطلق الفلسفي يطرح علاقة الفلسفة — قبل أي شيء آخر — بتاريخها، ولما كان تاريخ الفلسفة هو ذاته الفلسفة، فإن هذا يبرز كيف تنفرج الهوة بين العلم وتاريخه.
ولكن بقدر ما نجد العلم في القرن العشرين قد أصبح الفعالية العظمى التي تشكل وتعيد تشكيل العقل المعاصر والواقع المعاصر، يومًا بعد يوم وإلى غير نهاية، نجد تاريخ العلم هو تاريخ العقل الإنساني والتفاعل بينه وبين الخبرات التجريبية أو معطيات الحواس، هو تاريخ المناهج وأساليب الاستدلال وطرق حل المشكلات التي تتميز بأنها واقعية عملية ونظرية على السواء، إنه تاريخ تنامي البنية المعرفية وحدودها ومسلماتها وآفاقها، تاريخ تطور موقف الإنسان بإمكاناته العقلية من الطبيعة والعالم الذي يحيا فيه، تاريخ تقدم المدينة المدنية والأشكال الحضارية والأساليب الفنية التي يصطنعها الإنسان للتعامل مع بيئته؛ لكل ذلك يحق لنا القول: إن تاريخ العلم وليس تاريخ العروش والتيجان والحروب والمؤامرات هو التاريخ الحقيقي للإنسان وصلب قصة الحضارة في تطورها الصاعد.
وعلى أية حال، إذا كان العلم لا يفكر في ذاته، فإن فلسفة العلم هي التي تتكفل بذلك العبء وتضطلع بالتفكير في ذات العلم … في منهجه ومنطقه وخصائص المعرفة العلمية وشروطها وطبائع تقدمها وكيفياته وعوامله … على الإجمال التفكير في الإبستمولوجيا — أي نظرية المعرفة العلمية — ثم العلاقة بينها وبين المتغيرات المعرفية الأخرى والعوامل الحضارية المختلفة.
وإذا كان العلم لا يلتفت كثيرًا إلى ماضيه، فإن فلسفة العلم أصبحت لا تنفصل عن الأبعاد التاريخية لظاهرة العلم فغدت شديدة العناية بتاريخ العلم، بحيث إن المتابع لتطورات فلسفة العلم في القرن العشرين يلاحظ أن أبرز ما أسفرت عنه هذه التطورات هو حلول الوعي التاريخي في صلبها، فتستقبل فلسفة العلم القرن الحادي والعشرين، وقد انتقلت من وضع مبتسر استمر طويلًا يولي ظهره لتاريخ العلم ولدوره في تمكيننا من فهم ظاهرة العلم فهمًا أعمق، فضلًا عن دفع معدلات التقدم العلمي، ويكتفي بالنسق العلمي المنجز الراهن، ويفلسفه بما هو كذلك على أساس النظرة إليه من الداخل، أو النظرة إلى النسق العلمي في حد ذاته … انتقلت فلسفة العلم من هذا إلى وضع مستجد يرتكز على الوعي بتاريخ العلم، فيفلسف العلم في ضوء تطوره التاريخي، وعبر تفاعله مع البنيات الحضارية والاجتماعية، مما يعني تطورًا ذا اعتبار في منطلقات وحيثيات وعوامل النظرة الفلسفية إلى العلم، وهذا التطور في الواقع هو تكامل النظرة إلى العلم من الداخل مع النظرة إليه من الخارج، أي باختصار نظرة فلسفية أشمل لظاهرة العلم.
ولا شك أن فلسفة العلم هي المُعبِّر الرسمي والشرعي عن أصول التفكير العلمي، وهي مسئولة عن وضعية ودور تاريخ العلم، وسوف تكشف صفحات مقبلة عن عوامل عديدة أفضت فيما سبق إلى إغفالها البعد التاريخي طويلًا.
ولكن نلاحظ مبدئيًّا أن فلسفة العلم كمبحث أكاديمي متخصص ومستقل عن نظرية المعرفة بصفة عامة، قد نشأت في النصف الأول من القرن التاسع عشر، وهذه حقبة شهدت ذروة من ذرى المجد العلمي؛ إذ كان العلم الكلاسيكي الذي تؤطره فيزياء نيوتن معتدًّا بذاته إلى أقصى الحدود، فلم ينشغل رجالاته كثيرًا بتاريخ العلم، ولم يُعن فلاسفته بالإجابة على السؤال: كيف بدأ العلم؟ كيف اتجه وسار؟ كيف نما وتطور حتى وصل إلى تلك المرحلة التي بلغت ذروتها في القرن التاسع عشر حين شوهد ما بدا للعيان من شبه اكتمال للعلوم الفيزيوكيماوية المسلحة باللغة الرياضية، وقد آتت مصداقيتها العينية والواقعية بانفجار الثورة الصناعية التي غيَّرت تمامًا من شكل التكوينات والعلاقات الاجتماعية والتقسيمات الطبقية والصراعات الدولية.
وإزاء هذا الواقع المستحدث والحي المتوقد، انصرف اهتمامهم عن تاريخ العلم، وكأن حسبهم الافتتان بالعلم ذاته في تلك المرحلة النابضة، والتأمل في رونق جلالها وجبروت شموخها، الذي نجح آنذاك — القرن التاسع عشر — في أن يضوي تحت لوائه فروعًا كانت عصيِّة للعلوم الحيوية، فضلًا عن العلوم الإنسانية، وهذه الأخيرة — أي العلوم الإنسانية — تُعد نشأتها الواعدة من المنجزات اليانعة التي يفخر بها القرن التاسع عشر وعلمه الكلاسيكي.
هكذا بدأ العلم الحديث عملاقًا يزداد تعملقًا بصورة مطردة، فانبهر به أهلوه ورجالات عصره، حتى بدا تاريخ العلم مسألة ثانوية، وليس من شأنها أن تلقي الضوء على الظاهرة العلمية التي غدت باهرة مبهرة، فجرى التفكير العلمي آنذاك على منوال إغفال قيمة أو دور تاريخ العلم في تفهم الظاهرة العلمية وتعميق موقفها، فضلًا عن استشراف مستقبلها ودفع معدلات تقدمها. على الإجمال عدم الالتفات إلى تاريخ العلم … إلا قليلًا.
بل منذ البدايات، كان النجاح الصاعد الواعد الذي صاحب نشأة العلم الحديث في العصر الحديث منذ القرن السابع عشر، وقد خلق ثقة زائدة في العقل وقدراته، ساهمت بدورها في الغض من قيمة تاريخ العلم! فكيف كان ذلك؟
ومع تباشير النجاح الصاعد للعلم الحديث، بدت هذه الثقة بالإنسان وقدراته في محلها تمامًا، فنتج عنها ثقة زائدة في العقل، تمخضت في القرن الثامن عشر عما يُعرف باسم عصر التنوير، عصر الإيمان بقدرة العقل على فض كل مغاليق هذا الوجود، كانت فلسفة التنوير الوريثة الأمينة للعقلانية وللتجريبية العلمية في القرن السابع عشر، صهرتهما معًا في إطار إيمانها الطاغي بالتقدم غير المحدود الذي تنجزه البشرية باطراد في طريق واحد لا سواه، طريق العقل والعلم.
لقد أصبحت الحتمية العلمية شاملة، ومن هذه الحتمية الفيزيائية خرجت الحتمية الاجتماعية التي تزعم قوانين ضرورية للحركة الاجتماعية، وتعضدت الحتمية التاريخية التي تزعم طريقًا واحدًا محتومًا لمسار التاريخ، وقد استعان التنويريون في القرن الثامن عشر بهذه الحتمية العلمية في إقرار وتعيين وترسيم ما رأوه من طريق واحد لا سواه للتقدم غير المحدود الذي تنجزه البشرية باطراد، طريق العقل والعلم.
وهذا الميراث العقلاني التنويري في القرن الثامن عشر حملته باقتدار وامتياز فلسفة العلم حين نشأت في القرن التاسع عشر، ومن ثم سيطر على فلسفة العلم آنذاك، وحتى أواسط القرن العشرين، الاقتصار على النسق العلمي كمنجز راهن تطرد كشوفه ويتوالى تقدمه؛ ليغدو تاريخه مسألة شاحبة غير ذات صلة بالموضوع.
وما دام العلم ظاهرة إنسانية تنمو وتتدفق في سياق الحضارة الإنسانية وبفعل الإنسان، فلا بد وأن نسلم بقيمة تاريخ العلم في النظرة الفلسفية للعلم، وأنه فرع مهم من فروع المعرفة؛ لذلك يجمل بنا أن نلقي نظرة على تشكل مبحث تاريخ العلم ونمائه ونضجه الذي يحسب للقرن العشرين، بعبارة موجزة، نلقي نظرة على تاريخ «تاريخ العلم».
ثانيًا: تاريخ العلم يتقدم في القرن العشرين
أجل! يقال: إن التاريخ هو الأب الشرعي للعلوم الإنسانية جميعًا، وواحد من أقدم المجالات التي انشغل بها العقل تعبيرًا عن اهتمام إنساني خالص هو اهتمام بالماضي البشري، إلا أن التاريخ كان دائمًا — ولعله لا يزال إلى حد ما — متمحورًا حول ما يمكن أن نسميه بالتاريخ السياسي، قيام الإمبراطوريات وسقوطها، الحروب ونواتجها، صراعات الدول والعائلات والأفراد على السلطة، والسيطرة على الحكم … ولم تَحظَ بقية جوانب الحضارة الإنسانية بنفس القدر من الاهتمام، ولم يكن تاريخ العلم أفضل حالًا، بل لعله الأسوأ حظًّا؛ نظرًا لما صدَّرنا به الحديث من تضارب علاقة العلم بماضيه واتجاهه دومًا نحو المستقبل.
وهذه المحاولات الفردية كانت تقتصر على فرع واحد محدد من التخصصات، كتاريخ الرياضيات وتاريخ الكيمياء وتاريخ البصريات. وقد اهتم ماخ بتاريخ الميكانيكا، بينما اهتم دوهيم بتاريخ الإستاتيكا وتاريخ الفلك، ولم يكن هناك اهتمام بتاريخ العلم أو تاريخ المعرفة الوضعية ككل إلا من بعيد في إطار الاهتمام الفلسفي العام الذي تنامى منذ عصر التنوير بمراحل تطور العقل البشري.
لقد أدرك كليفورد في وقت مبكر قدرة تاريخ العلم على الإسهام في رأب الصدع بين الثقافتين وضرورة أنْسنة الظاهرة العلمية — أي الوعي بها كظاهرة إنسانية في عالم الإنسان ومن صنع الإنسان — عن طريق العناية بتاريخ العلم، لكن نظرًا لرحيل كليفورد المبكر وفي قلب أجواء القرن التاسع عشر التي همَّشت تاريخ العلم، فإن هذه القضية لم تلقَ الاستجابة إلا في القرن العشرين.
إذن نخلص من كل ما سبق إلى أن العلم — وهو الابن النجيب والأثير للتاريخ الإنساني — ظل تاريخه لا يلقى ما يستحقه من الاهتمام حتى نهايات القرن التاسع عشر.
أما في القرن العشرين فقد لفتت وقائع الحرب العالمية الانتباه إلى خطورة العلم وتأثيراته الحاسمة في المنظومة الحضارية، وبدأ الاهتمام بتاريخه يتكثف ويتعين أكثر وأكثر، ولأسباب كثيرة معظمها يتعلق بطبيعة موضوع البحث وأساليب دراسته ومناهجه المشتبكة بتطور العقل وتفاعل الأفكار والمقولات وعلاقة الإنسان بالطبيعة … لأسباب كثيرة ارتبط تاريخ العلم ارتباطًا وشائجيًّا خاصًّا بالفلسفة، وتعلم المعنيون به من أهل الفلسفة هذا التعاطف الحميم مع مفكري الماضي، ومحاولة تفهم موقفهم المعرفي، فتشكلت معالم مبحث تاريخ العلم كتيار متميز ومتخصص في السياق المعرفي.
ثم هاجر سارتون إلى هولندا، ومنها إلى إنجلترا، وتزوج من فنانة تشكيلية إنجليزية، واستقر أخيرًا في الولايات المتحدة الأمريكية. ومنذ عام ١٩١٦م راح يلقي محاضراته في جامعة هارفارد في الفلسفة، ثم في تاريخ العلم. ومنذ ذلك الحين فصاعدًا وحتى الآن، وجامعة هارفارد العريقة أصبحت مشهورة ومتميزة بالاهتمام بتاريخ العلم وعُمق وجديَّة أبحاثها فيه، حتى باتت قبلة المعنيين به.
وقد صدر العدد الثاني من «إيزيس» في سبتمبر عام ١٩١٩م، ثم أصبحت المجلة منذ عام ١٩٢٤م لسان حال «جمعية تاريخ العلم» التي ساهم سارتون في تأسيسها. وفيما بعد أصدر مجلة أخرى تنشر بحوثًا مطولة أكثر أسماها «أوزوريس»، ونلاحظ ولعه بالعناوين الشرقية، فعمق انشغاله الحقيقي الأصيل بتاريخ العلم جعله شديد التقدير لدور الحضارات الشرقية القديمة وتاريخ العلوم عند العرب إبان العصور الوسطى في رسم فصول قصة العلم العالمية، التي يؤكد دائمًا أنها معامل الوحدة بين البشر. واضطلع سارتون بالتأريخ النظامي الممنهج للعلم منذ هوميروس إلى عمر الخيام حتى روجرز بيكون، ولكي يزداد تمكنًا من التأريخ للعلم انتقل إلى المشرق في عامي ١٩٣١-١٩٣٢م لدراسة الإسلام واللغة العربية، مما يبرز أهمية تاريخ العلوم عند العرب في ملحمة العلم المجيدة.
وخلال النصف الثاني من القرن العشرين انتشرت هذه الأقسام الجامعية المتخصصة في أنحاء شتى من العالم — للأسف الشديد ليس من بينها مصر والبلاد العربية — معظمها يحذو حذو أكسفورد وكمبردج في إنشاء قسم لفلسفة العلم وتاريخه معًا، يعطي شهادة جامعية في هذا التخصص الذي يضم المبحثين. وتجدر الإشارة أيضًا إلى التجربة الإيطالية في دراسة تاريخ العلوم التي ازدهرت منذ الستينيات، تمت هي الأخرى تحت رعاية الفلسفة وأنجزت حصادًا طيبًا.
لقد كان إغفال أهمية تاريخ العلم قصورًا كبيرًا في بنية التفكير العلمي وفلسفته، وكان لا بد من تجاوزه، كما فعلت فلسفة العلم في واحد من اتجاهات تطورها اللاحقة والمحمودة حقًّا، التي شهدتها المراحل الأخيرة من القرن العشرين.
وإذا سلمنا بهذا، وبأن المعالجة المتكاملة للظاهرة تقتضي الإحاطة بأبعادها التاريخية، وجب علينا أن نمهد لمقبل الحديث بصورة عامة لتاريخ العلم أو لصيرورته عبر مسار الحضارة الإنسانية.
ثالثًا: متى يبدأ تاريخ العلم: الأصول الأنثروبولوجية
إن العلم أنبل فعاليات الإنسان وأكثر أشكال الحضارة البشرية حضورًا وتعينًا وتمثلًا وأشدها إيجابية، ويمكن القول: إن العلم كموقف إنساني هو في جوهره أقدم عهدًا من التاريخ، بدأ قبل أن يبدأ التاريخ، ببداية وجود الإنسان في العالم، إنسان نياندرتال، أو على أقل الفروض منذ العصر الحجري قبل بداية الحضارة الإنسانية وتاريخها المكتوب بزمان سحيق. وهذه الحِقَب السحيقة من تاريخ وجود الإنسان في الكون، ما كان يمكن اقتحامها ومحاولة دراستها إلا بواسطة مناهج للبحث وأساليب وأدوات ووسائل، تطورت فقط في القرن العشرين.
هكذا يطرح كراوثر بواكير محاولات التحاور بين المخ وبين المعطيات الحسية والخبرات التجريبية أو بين الدماغ واليد، وتصويبها وتعديلها عبر آلية المحاولة والخطأ، وأثر ذلك على تطور المخ ليبلغ المرحلة الإنسانية، ومن هذا المنظور تكون المحاولات البدائية للعلم أقدم عهدًا من إنسانية الإنسان، بل ومؤدية إليها، ويبقى أن نلاحظ كيف أن التحاور بين اليد والدماغ عبر آلية المحاولة والخطأ هو جوهر نظرية المنهج العلمي التجريبي!
ربما انطوى هذا التأويل على قليل من العسف وشيء من المبالغة، وكراوثر نفسه يطرحه كاحتمال، لكن بدايات العلم منذ العصر الحجري هو ما يأخذ به غالبية مؤرخي العلم من الراغبين في الطرح المتكامل.
وهذا هو ما يسلم به كراوثر نفسه، وعلى أساسه يؤرخ للعلم من حيث هو سجل موثق لتطور العقل الإنساني في استجابته للظروف المحيطة به؛ لذلك تتمركز تأريخات كراوثر حول صلة العلم بالمجتمع، والعلاقة التبادلية بينهما، وضرورة أن يهيئ المجتمع الظروف المواتية للتقدم العلمي، والتأثير الشديد للعلم على مناحي الحياة الاجتماعية، بدءًا من الحرب والعلاقات الدولية وانتهاءً بأشكال التقسيم الطبقي ووقائع الحياة اليومية.
ولم تكن مقابلة كراوثر ببرنال من بين جمهرة مؤرخي العلم جزافًا، فكلاهما إنجليزي من أبناء القرن العشرين، من أبرز مؤرخي العلم فيه، ومن المهم أن نلاحظ دلالة تناقض المشارب بينهما؛ ذلك أن برنال ماركسي متحمس فيحمل عرضه لتاريخ العلم تمجيدًا للقيم الاشتراكية وقدحًا في الرأسمالية والطبقات المهيمنة التي جعلت العلم أمدًا طويلًا — طوال العصور القديمة والوسطى — مهنة أرستقراطية محجوبة عن العقول الموهوبة من جموع الشعب، فضلًا عن تجهيل العلماء بمشاكل الجماهير واحتياجاتها، هذا بخلاف استغلال الرأسمالية الحديثة والمعاصرة لإمكانيات العلم وتقاناته «التكنولوجيا» استغلالًا بشعًا في قهر الطبقات والشعوب الأقل حظًّا، بينما نجد كراوثر أكثر اعتدالًا، بلا تحزب أو تعصب، لكن يقدم الرد على هذا بكتابه المذكور؛ إذ يركز على أن العلم الحديث صنيعة الطبقة البرجوازية التي تشكلت في العصر الحديث، وشكلت بدورها معالمه.
وفي كلتا الحالتين المتقابلتين (دفاع برنال الصريح عن البروليتاريا ودفاع كراوثر الضمني عن البرجوازية) يكون الانطلاق من الفعالية الاجتماعية للعلم عبر التاريخ، وأن تاريخ العلم يبدأ منذ العصر الحجري، وكأن هذه مسلمات تلزم الباحثين في هذا الميدان مهما تناقضت المشارب والرؤية الأيديولوجية للعملية الاجتماعية.
والحق أن كتاب كراوثر المذكور، وإن كان يقف في مواجهة تطرف برنال اليساري، إلا أنه — أي «موجز تاريخ العلم» أو «قصة العلم» لكراوثر — يخلو من التحزب ويصعب دمغه ببطاقة سياسية أو أيديولوجية، ويمكن اعتباره أنموذجًا للعرض المنهجي الشامل والسلس لتاريخ العلم كفعالية إنسانية، تنبع من استجابة الإنسان للتحديات البيئية ثم العوامل الاجتماعية التي ينبثق عنها العلم، في مثل هذا العرض لا بد وأن تبدأ قصة العلم المثيرة — تمامًا كما بدأت مع جون برنال — منذ ما قبل التاريخ، أي بإنسان العصر الحجري ليصل كراوثر في النهاية إلى اختراع الحاسب الآلي وغزو الفضاء واقتحام سر الحياة، فضلًا عن أن يختتم الكتاب بنظرة مستقبلية هي بعض أحلام الإنسان التي يرجوها من العلم، وهي نظرة ما زالت تحتفظ بنضارتها رغم تسارع التطورات العلمية الراهنة.
وها هنا أكد كراوثر أن العلم أقدم عهدًا من التاريخ؛ لأن معطياته الأساسية كانت أول ما تأمله الإنسان في العصر الحجري، والواقع أن رموز الأعداد — كما يؤكد كراوثر — اخترعت قبل اختراع حروف الكتابة مما يدل على أن التوجه العلمي متأصل في صلب أقدم مناحي الإنجاز الإنساني وفي بنية توجهه العقلي.
وإذا صح هذا فلا غرو أن أصبحت التقانة «التكنولوجيا» البدائية والعلم البدائي مواضيع دراسية متخصصة، يتكرس لها باحثون جادون ليخرجوا بنواتج جيدة، تفيد مباحث الأنثروبولوجيا، بقدر ما تفيد مباحث تاريخ العلم الراغبة في تأصيل موضوعها، بمعنى الوقوف على أصوله البعيدة؛ نشدانًا لرؤية شاملة.
ويجمل بنا أن نتوقف مليًّا بإزاء هذا التطور في الأنثروبولوجيا الذي حدث إبان القرن العشرين فأتاح للمعنيين بتاريخ العلم أن يبدءوه ببداية الحضور الإنساني منذ العصر الحجري وما قبل التاريخ؛ لأن التحاور بين أطراف المنظومة المعرفية ورجع الصدى بين جنباتها يجعلنا نلمح توازيًا دالًّا جدًّا بين هذا التطور في الأنثروبولوجيا وذاك التطور في وضع تاريخ العلم كمبحث نضج الاهتمام به فقط في القرن العشرين.
تتضح إذن بمزيد من الجلاء تلك النزعة العنصرية والاستعلاء الغربي، أو بمصطلحات فلسفة العلم «التشويه الأيديولوجي» للعلوم الأنثروبولوجية ومدى طغيانه على الروح العلمية الحديثة في موطنها الأوروبي، مما يعني أن هذا التشويه الأيديولوجي بدوره من العوامل التي دفعت التفكير العلمي — ولو من بعيد — إلى الاقتصار على المعطى الراهن وإهمال تاريخ العلم.
إن هذه الثورة هي الطريق الذي شقته الأنثروبولوجيا نحو مرحلتها الأحدث الأكثر تحررًا من التشويه الأيديولوجي، أي الأكثر موضوعية وعلمية. فتبعًا لمنطق العلم تحرر العلم من التشويه الأيديولوجي يسير طرديًّا مع تنامي ونضج المنهج فيه، وأيضًا سوف يواجهنا هذا النضج المتحرر من التشويه الأيديولوجي مرة أخرى حين نتعرض للعلم عبر الحضارات.
في عام ١٩٣٦م أخرج مالينوفسكي دراسة هامة بعنوان «السحر والعلم والدين» تُعد في طليعة الأبحاث الرائدة التي تلقي الضوء على الأصول الأنثروبولوجية بظاهرة العلم.
بادئ ذي بدء يسلم مالينوفسكي تسليمًا بأن العلم الحديث هو هذه القوة المتعملقة الدافقة في سياق الحضارة المعاصرة، كإنجازات عقلية جبارة لا تهدأ ولا تستكن أبدًا، تصوب ذاتها وتتجاوز الوضع الراهن باستمرار، وتفتح دومًا أفقًا أعلى وأبعد في متوالية لتقدم يتسارع؛ ليمثل العلم الحديث العقل النقدي البناء في أبهى صوره، وأكثرها حسمًا وجزمًا وفعالية … العلم بهذه الصورة التي تنامت في العصور الحديثة لا وجود له بالقطع في المجتمعات البدائية، ولا حتى في الحضارات القديمة. بيد أن العلم بشكل عام هو أساسًا نمط من المعرفة تستند على الملاحظات التجريبية لوقائع العالم في إطار من افتراض النظام والاطراد في الكون وما شابه هذا من خطوط منطقية أولية، فتزيد من سيطرة الإنسان على بيئته وإحكام تعامله مع عالمه. والمعرفة العلمية بهذا التوصيف المبدئي لا بد حاضرة في كل مجتمع إنساني مهما كان بدائيًّا. وإذا كنا نسلم بأن الدين والسحر كائنان وحاضران بقوة في المجتمعات البدائية، فلا بد وأن نضيف إليهما أيضًا العلم.
ويسهب مالينوفسكي في إيضاح كيف أن هذه الدوائر الثلاث، السحر والعلم والدين، متمايزة تمامًا في العقلية البدائية، وغير صحيح أن دائرة السحر تبتلع دائرة العلم، أو أن دائرة الدين تنفيها، فلولا المساحة التي تنفرد بها أصول التفكير العلمي من ملاحظة للطبيعة واعتقاد راسخ بنظام فيها، لما سارت عمليات الصيد والزرع وسائر الفنون والحرف والصنائع التي تقيم الحياة البدائية.
أما السحر، فصحيح أنه يتشارك مع العلم في أن كليهما يصدر عن رغبة في السيطرة على الطبيعة، إلا أنهما مع هذا يختلفان جذريًّا في أن السحر إقصاء تام للعقل ولا يستند إلا على قوة التقاليد والاعتقادات المتوارثة، في عالم غامض هلامي مجهول، مما يجعل السحر حكرًا على طبقة معينة في المجتمع البدائي؛ هي طبقة الكهنة والسحرة. أما العلم البدائي، فلأنه علم ينبع من العقل البدائي وتصوبه الملاحظات البدائية، ويمثل خيرًا عميمًا متاحًا للجميع، وليس حكرًا على فئة ما، ولن يصبح العلم هكذا إلا بعد أن تمتهنه الكهنة في الحضارات الشرقية القديمة.
ربما كان كل إنسان بدائي مؤمنًا بقوة السحر الخارقة وقدرة التمائم والتعاويذ على صد الكوارث الطبيعية الجامحة والغير متوقعة كالفيضان والأعاصير والزلازل والأوبئة وهجوم أسراب الحيوانات الضارية … لكن الإنسان البدائي لن يترك أصوليات حرفته أو زراعته أو طهوه للطعام … إلخ ارتكانًا على السحر فقط، ويؤكد مالينوفسكي بأن الإنسان البدائي سوف يستخف تمامًا بأي اقتراح كهذا، مما يعني حدودًا مصونة لأصوليات المعرفة العلمية في عقل الإنسان البدائي، وبطبيعة الحال يستشهد مالينوفسكي على هذا من واقع دراساته لجزر التروبرياند.
وإذا اتفقنا على الأصول الأنثروبولوجية لظاهرة العلم التي تجعل العلم يمتد بجذوره إلى العصور الحجرية فيوازي وجوده وجود الإنسان، أمكن ببساطة أن نتتبع سيرورة العلم عبر الحضارات.
رابعًا: العلم عبر الحضارات
كما اتفقنا، العلم شريان تاجي من شرايين الحضارة الإنسانية، ونبضه مؤشر دال على حيوية الحضارة المعنية، والحضارة بدورها ليست مراحل منفصلة متمايزة بقدر ما هي عملية متصلة وسيرورة متنامية، تُسلم كل مرحلة فيها إلى الأخرى؛ لذلك فإذا غادرنا تلك الأصول الأنثروبولوجية وجدنا حركية العلم خطًّا موازيًا لحركة الحضارة عبر التاريخ، وتقدمه هو عينه مسار تقدمها. كما أشار مؤرخ العلم جون برنال، بتوجهه اليساري الذي يستدعي تفسيرًا ماديًّا للتاريخ، في الأعم الأغلب يتفق ازدهار العلم مع ازدهار الاقتصاد وتقدم التقانة «التكنولوجيا»، فتنتقل جميعها من بلد إلى بلد ومن عصر إلى آخر. ومن وادي النيل ووادي الرافدين — مصر وبابل — انتقل العلم والتقانة إلى الإغريق، ومن الإغريق رحلا إلى الإمبراطورية الإسلامية، ومن غربها الأندلسي انتقلا إلى إيطاليا في عصر النهضة، ومن إيطاليا إلى فرنسا وهولندا، حتى حطَّا في إنجلترا واسكتلندا إبان عصر الثورة الصناعية. وهذا هو نفسه مسار الازدهار الاقتصادي والتجاري والصناعي. ويمكن ملاحظة أن هذا المسار واصل سيره ليصل إلى الولايات المتحدة الأمريكية من ناحية، واليابان ومراكز عدة في شرق آسيا الناهض من الناحية الأخرى، وكلها مراكز ازدهار صناعي وتقني وعلمي في نفس الوقت.
على أن رجحان كفة الحضارة الفرعونية لا ينفي دور جيرانها الفينيقيين الذين فاقوها براعة في ركوب البحار وبعض المعارف المتصلة بهذا، كانوا بحارة جسورين وتجارًا على اتصال مباشر بالبابليين. والحق أنه لا يضاهي الإنجاز المصري إلا إنجاز حضارات بلاد الرافدين، خصوصًا الحضارة البابلية. بعض مؤرخي العلم يرون الإنجاز البابلي في الفلك والتقاويم متقدمًا على الإنجاز المصري، واتفق العلم المصري مع العلم البابلي في أنه كان حكرًا على طبقة الكهنة.
ومهما قيل عن ارتباط العلم في الحضارات الشرقية القديمة بالاحتياجات العملية، فإنه لم ينفصل أبدًا عن الإطار المعرفي والبنية التصورية. والحق أن هذا الانفصال يكاد يكون مستحيلًا؛ لأن العلم أولًا وقبل كل شيء نشاط معرفي. وعلى سبيل المثال ارتبطت معارفهم الأولية لمواقع الكواكب وحركتها بمعايير ضبط الحياة اليومية، وبنفس القدر لم تنفصل عن التأمل النظري في عناية القوى العلوية؛ لأن الوجدان الشرقي وثيق الصلة بالألوهية، وأوضح راشكوفسكي في كتابه «نظرية العلم والشرق، ١٩٨٠» بمزيد من التفصيل أن كوزمولوجيا العهد القديم ترجع إلى أساطير ما بين النهرين، ويمكن عن طريق هذا تتبع الصلة بين الميثولوجيا، أي الأساطير التي مثلت إطارهم المعرفي وبين عناصر العلم في هذه الحضارات؛ ليظل العلم في كل حال خير شاهد على حركية العقل البشري عبر الحضارات.
لقد كان الإغريق أول قوم في أوروبا يخرجون من الوضع القبلي البدائي، ويصنعون مدنية وثقافة متنامية، قبل الميلاد بستة قرون. إنهم بداية الحضارة الأوروبية التي تطورت عبر التاريخ حتى بلغت مرحلة المد الاستعماري، فلم يتوان مفكرون غربيون في تسويغه، حتى شكلوا فيلقًا في الجيوش الاستعمارية، بزعم أن الغرب هو صانع الحضارة ابتداءً وأبدًا، فيغدو السؤدد الحضاري والسيطرة على العالمين نصيب الغرب المشروع ومكانه الطبيعي، وكان السبيل لهذا هو الإسراف في تمجيد ما أسموه المعجزة الإغريقية، وإهدار ميراث الحضارات الشرقية القديمة الأسبق منها، والتي أصبحت مستعمرة. وبينما الحضارة اختراع مصري خالص، أنجزه الفراعنة — قبل الإغريق بألفي عام — ليكون الفجر الناصع ونقطة البدء الحقيقية، راحوا يزعمون أن هذا قد انزوى، والإغريق هم نقطة بدء الحضارة الإنسانية بجملتها، وليس الأوروبية فقط، فالعلم بدأ مع الإغريق، كما بدأت الفلسفة مع طاليس، وبدأت الرياضة مع فيثاغورث، والميثولوجيا «الأساطير» مع هوميروس، والمسرح مع يوربيديس وأسخيلوس، وبدأت الديمقراطية في أثينا … إلخ … إلخ … فيبدو الغرب هو الفاعل الوحيد لكل فعل حضاري، المالك الوحيد لكل غنيمة حضارية، صاحب الحق في تصريف شئون الحضارة البشرية وفقًا لمصالحه. إذن الاستعمار والهيمنة على العالمين نصيب الغرب المشروع، ولأن العلم فارس الحلبة في الحضارة الحديثة فإنه يستأثر بنصيب الأسد من هذه الملحمة الزائفة التي تؤكد نقطة البدء مع الإغريق؛ تجسيدًا لما أشرنا إليه سابقًا من تشويه أيديولوجي، وقد انصب على تاريخ العلم.
وأجج من هذا ضعف الحصيلة المعرفية عن العلم القديم وما كان شائعًا من خفوت الوعي بتاريخ العلم، ومع انطلاقة الوعي التاريخي وتنامي الدراسات في تاريخ العلم، تراجع ذلك الزعم وبدأ الإدراك الواضح لدور كل الحضارات بفضل جهود جورج سارتون وجوزيف نيدهام وأمثالهما، هذا بخلاف المحاولات الدءوبة التي مرت علينا، محاولة أن تتبع حركة العلم حتى الأصول الأنثروبولوجية، والمحصلة أن تتكامل قصة العلم عبر الحضارات، فيما يُعد ظفرًا معرفيًّا كبيرًا.
وبهذا الطرح الموضوعي المتكامل يبدو العلم الإغريقي مرحلة تالية لمرحلة الحضارات الشرقية القديمة، مستفيدةً منها ومواصلة لمسارها. بدأت في أيونيا ببلاد اليونان وليس في أي مكان آخر من أوروبا، لقربها وسهولة اتصالها بمواطن الحضارات الشرقية الأسبق منها، مصر وفينيقيا وبابل، فكانت تمثلًا واستيعابًا لميراثها، ثم تطورًا لها. وكما يقول هال: اختلف العلم الأيوني عن العلم المصري القديم في أنه افتقر إلى أساس من الملاحظات التجريبية، وإذا عُد طاليس — أول الفلاسفة الإغريق — من الحكماء السبعة؛ لأنه استطاع التنبؤ بكسوف الشمس، فقد فعل هذا على أساس الوثائق البابلية التي استطاع الاطلاع عليها. وعلى أية حال فإن التطور الجوهري العظيم حقًّا الذي أنجزه الإغريق يتمثل في بلورة مثل البحث العلمي وإرساء أسسه العقلانية. بصفة عامة انحسرت المباحث التجريبية وتمركزت إنجازات الإغريق العظمى في العقل النظري والعلوم الاستنباطية، أي في المنطق والرياضيات؛ هذا لأنهم دأبوا على تمجيد النظر وتحقير العمل حتى جاهر أرسطو بأن العبيد مجرد آلات حية لخدمة السادة الأحرار المتفرغين لممارسة فضيلتي التأمل والصداقة! لقد كان العلم الإغريقي هو المقابل الصريح للعلم الصيني، فبينما اهتم هذا الأخير بالجوانب التطبيقية والتقانية «التكنولوجية» وأغفل الجوانب النظرية والاستنباطية، فعل العلم الإغريقي العكس تمامًا. والواقع أن النمو الحضاري الصحي الواعد يأتي بتكامل الجانبين: العلم والتقانة، والمنهج العلمي ذاته يقوم على دعامتين؛ هما الفرض والتجربة، أو النظرية والملاحظة.
ونالت علوم الحياة أيضًا حظًّا عظيمًا من العناية في مكتبة الإسكندرية ومتحفها، والذي لم يكن متحفًا بالمفهوم الحديث، بل هو بهذا المفهوم أول جامعة في العالم. لقد جاهر جاليليو — أعظم آباء العلم الحديث — بأن إنجازاته ما كانت لتتاح دون إنجازات أرشميدس في ذلك العصر الزاخر، فهو الذي علمه التآزر الخصيب الولود بين الرياضيات ووقائع التجريب، وهذا التآزر هو مجمر توقد الفيزياء الحديثة. على الإجمال، يُعد مؤرخو العلم المرحلة السكندرية من أهم مراحل تاريخ العلم، حتى يراها بعضهم تقف على قدم المساواة مع مرحلة الثورة العلمية الحديثة في القرن السادس عشر.
لقد ترامت إمبراطوريتهم الناهضة وضمت مراكز الحضارات الأسبق في مصر والعراق والشام وفارس وجيرانها الآسيويين، وحتى الصين التي لم يفتحها العرب ولم يطئها جندي مسلم واحد، تكفلت طرق الحرير والقوافل التجارية بنقل تراثها التقاني الزاخر إلى العرب. وأصبح في متناول أيديهم كل التراث العلمي السابق عليهم تقريبًا، في الحضارات الشرقية القديمة والتراث الإغريقي والسكندري؛ ليتفاعل مع تفتحهم الذهني وتسامحهم العقلي وعوامل شتى في حضارتهم التي كانت دافقة، وعبقرياتها من ذوي الملل والأجناس الشتى، فتشكلت أهم مراحل العلم القديم وغايته وقمته بإبداعاتهم الرائعة في شتى فروع العلم.
ومن هنا انطلقت مرحلة هامة من مراحل الحضارة ومن مراحل العلم على السواء، تميز العلم فيها عن العلم الغربي الحديث في أن هذا الأخير انفصل انفصالًا بائنًا عن القيم والأخلاق، أما العلم العربي في الحضارة الإسلامية فقد تأتى في إطار توجههم الأخلاقي المثالي العام. وبينما انطلق العلم الحديث من صراع دامٍ مريرٍ مع الأيديولوجيا السائدة في أوروبا، فإن العلم العربي انطلق من داخل إطار الأيديولوجيا الحاكمة وبرعايتها. إن تمويل الخلفاء السخي للترجمة والبحث العلمي مسألة مذكورة ومشهورة، بيد أن هذا لا ينفي أبدًا تجذُر العلم في التربة العربية.
وتظل الرياضيات أعلى مدارج العقل العلمي وأرقى أشكال التفكير المنطقي المنظم والمدخل الحق للطرح العلمي، وقد لعب العرب دورًا كبيرًا في تاريخ الرياضيات ومسارات تطورها، وعلى مفترق الطرق بين الحساب والجبر وبين الجبر والهندسة؛ لذلك يجمل بنا أن نتوقف هنيهة إزاء الرياضيات العربية، خصوصًا وأنها تبلور إلى أي حد كان العلم العربي استيعابًا وتمثلًا لروافد العلم القديم الشرقية والأوروبية على السواء، أو الهندية والإغريقية، ثم دفعًا لمسيرة التقدم العلمي، وإلى الدرجة التي تضع الرياضيات العربية على مفترق الطرق كما ذكرنا.
وبصفة عامة أخذ العرب بتصنيف الإغريق للمباحث الرياضية، فانقسمت الرياضيات العربية إلى أربعة علوم أساسية هي: الحساب والهندسة والفلك «علم الهيئة» والموسيقى، وتتفرع فروعًا عدة. ويُعد الجبر — إنجاز الرياضيات العربية الأعظم — امتدادًا أو فرعًا للحساب.
لم يكن للعرب قبل الإسلام باع في العلوم الرياضية، الرياضة ليست كالشعر، بل هي كالفلسفة، أي نتيجة مباشرة لمعلول مستحدث هو الثورة الثقافية العظمى التي أحدثها الإسلام، ثم تعاظمت بفعل عوامل عديدة سوف نُشير إليها، فسارت الرياضيات في الحضارة الإسلامية بالمرحلتين التاريخيتين اللتين مرت بهما الإنجازات المستحدثة للعقلانية العربية، أي مرحلة الترجمة والنقل، ثم مرحلة الإسهام والإبداع.
بدأت المرحلة الأولى حين أمر الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور بترجمة «السدهانات»، أي «مقالة الأفلاك» التي عرفها العرب باسم «السندهند»، وهي أكبر موسوعة هندية في الحساب والفلك والتنجيم، ومن وضع براهما جويت، وتتألف من جزأين، أحدهما عن الأزياج، أي سير الكواكب التي نستخرج منها جداول التقاويم، والآخر عن الوسائل الحسابية لهذه الجداول والتي فتحت أمام العرب آفاق الحساب وحساب المثلثات، وقد حملها إلى بغداد عام ١٥٣ھ/٧٧٠م العالم الهندي كنكه، فترجمها إلى العربية يعقوب بن طارق (ت٧٩٦م)، وإبراهيم بن حبيب الفزاري المنجم (ت٧٧٧م). كانت «السدهانات»، أو «السندهند» فاتحة الاتصال بالرياضيات الهندية، التي كانت بدورها العلة المباشرة لنشأة الرياضيات العربية، تنامت فيما بعد عن طريق الاتصال المباشر بالحضارة الهندية، خصوصًا على يد اثنين من أكبر الرياضيين العرب؛ هما الخوارزمي والبيروني، كلاهما أتقن اللغة السنسكريتية وزار الهند.
لكن لم تشف «السندهند» غليل العقلية العربية الناهضة المتشوقة آنذاك، فأمر جعفر البرمكي بترجمة كتاب «إقليدس» ليكون أول ما تُرجم من كتب اليونان، وأيضًا البوابة العظمى التي دخل منها العقل العربي الإسلامي إلى عالم الهندسة، ويبدأ عصر ازدهار الرياضيات العربية.
فقد اهتم الإسلاميون بالرياضيات أكثر من اهتمامهم بسواها من مباحث العلوم العقلية، وانشغلوا بموقعها في النسق المعرفي. وضعها الكندي — أول الفلاسفة الإسلاميين — كمدخل للعلوم، فتسبقها جميعًا، حتى المنطق ذاته يأتي بعد الرياضيات، وجعلها جسرًا للفلسفة، وللكندي رسالة في أنه «لا تنال الفلسفة إلا بالرياضيات»، وله من الكتب والرسائل أحد عشر في الحساب، وثلاثة وعشرون في الهندسة، فضلًا عن تسعة عشر في النجوم.
وإذا كان ابن سينا — الشيخ الرئيس — يضع المنطق في المدخل ثم الطبيعيات وبعدها تأتي الرياضيات، وأخيرًا الإلهيات، فهذا يعكس مسار العقل وتدرج خطاه، فقد اهتم بالرياضيات أكثر من الكندي، وصنف علومها إلى علوم الرياضة الرئيسية؛ وهي العدد والهندسة والهيئة «الفلك» والموسيقى، ويتشعب عنها علوم الرياضة الفرعية، فعن العدد يتفرع الجمع والتفريق والحساب الهندي وعلم الجبر والمقابلة، وعن الهندسة يتفرع علم المساحة وعلم الحيل المتحركة وعلم جر الأثقال، وعلم الأوزان والموازين، وعلم الآلات الجزئية، وعلم المناظر والمرايا، وعلم نقل المياه، أما علم الهيئة فيتفرع عنه علم الأزياج والتقاويم، ومن فروع علم الموسيقى اتخاذ الآلات الغريبة.
وفي كل حال سلَّم التراث الإسلامي بالعلوم الرياضية بوصفها مبرهنات يقينية لا بد أن تحتل موقعها بدقة في بنية العقل، وحتى الإمام الغزالي حين صب جام غضبه على العقلانية وعلوم العقل، استثنى الرياضيات، وقال: إن أعظم جناية على الإسلام الظن بأنه يُنكر الرياضيات، فظلت الرياضيات دائمًا لا معنى لإنكارها ولا للمخالفة فيها — بتعبير الغزالي.
على أية حال، أدى اهتمام الإسلاميين بالرياضيات وإعلاء شأنها إلى تناميها على أيديهم تناميًا يصعب تفسيره فقط بهذه النظرة الداخلية للنسق المعرفي، فثمة عوامل خارجية في الحضارة الإسلامية دفعت إلى هذا، منها اهتمام العرب وأسلافهم العتيق بالتجارة وحساب الأنصبة والأرباح في البضائع والبيوع، وكمثال على مشاكل التجارة العربية التي احتاجت في حلها إلى عقلية رياضية متطورة: تناقص قيمة الجارية كلما تقدمت في العمر وحساب ثمنها، ثم نظام المواريث الإسلامي المعقد، وأيضًا تعاظم جحافل الجيوش الجرارة وتوزيع رواتبها وغنائمها وحساب نفقاتها، ثم الرخاء الاقتصادي والتراكم المالي الذي تلى تكوين الإمبراطورية الإسلامية، ومشاكل حساب أنظمة الجزية والخراج والضرائب والزكاة، هذا فضلًا عن مشاكل عمليات المساحة وتقسيم الأراضي وتشييد المدن.
أما عن الفلك أو الهيئة فسنجد تحديد مواقيت الصلاة والشعائر والأعياد الدينية تدفع الإسلاميين إلى اهتمام مكثف بالفلك، خصوصًا وأن البيئة الصحراوية دفعتهم إلى الاعتماد على التقويم القمري بصعوباته في تحديد التواريخ سلفًا، وفي الوقت نفسه اهتموا بالتقويم الشمسي في الأمصار الزراعية التي دانت لهم من أجل تحديد أوقات جباية الجزية والضرائب والزكاة وفقًا لمواسم الحصاد، والمحصلة أن استطاع العرب تطوير علم حساب المثلثات، وتصنيع آلات فلكية لتعيين المواقيت والاتجاهات، وكانت من أدوات اكتشاف الأمريكتين وإثبات كروية الأرض.
وتظل المأثرة الكبرى للرياضيات هي تأسيس علم الجبر الذي يحتفظ حتى الآن باسمه العربي في كل اللغات الأوروبية، منذ أن ترجم روبرت أوف شستر في عام ١٢٤٥ «الكتاب المختصر في الجبر والمقابلة» الذي وضعه محمد بن موسى الخوارزمي، فيما بين عامي ٨١٣–٨٣٣م، أي في عهد الخليفة المأمون، وهنا ظهرت لأول مرة في التاريخ كلمة «جبر»، وهي تدل على علم تأكدت استقلاليته وتطورت مفرداته وأدواته، أجل. تباشير الجبر كائنة منذ الحضارات البابلية والهندية القديمة وعند الإغريق، وأهمها كتاب «المسائل العددية» لديوفانطس السكندري، لكن جميعها كانت مجرد إرهاصات مشوبة بقصورات جمة، أما «الجبر والمقابلة» فيلقي أسس العلم بصورة ناضجة قابلة للنماء. أطلق الخوارزمي على الكمية المجهولة اسم «الجذر» إشارة إلى جذر النبات الذي عادة ما يكون مختفيًا تحت الأرض، وأطلق على مربع الجذر اسم «المال»، انطوى جبر الخوارزمي على جدة حقيقية وإبداع أصيل في المنهج لا يتعلق بأي تقليد حسابي سابق عليه لا شرقي ولا غربي، فقطع شوطًا يفصله كثيرًا عن ديوفانطس.
شهد الجبر في الحضارة الإسلامية قفزة تالية مع عمر الخيام الذي وضع قواعد لحل ثلاث فئات من معادلات الدرجة الثالثة وفئة من معادلات الدرجة الرابعة. لقد تدافعت أفواج الرياضيين العرب منذ القرن التاسع الميلادي/الثالث الهجري، فقد ظهر «كتاب الجبر والمقابلة» في نفس وقت ظهور ترجمة كتاب «الأصول لإقليدس» الصرح الأعظم للهندسة، وقد كان يُظن أن الله خلق العالم بموجبها، وأنه لا هندسة سواها، ونقلت أوروبا الأصول على يد إدلارد الباثي الذي تعلَّم العربية ودرس في قرطبة — مركز العلم العربي في الأندلس — وترجم «أصول إقليدس» حوالي عام ١١٢٠م من العربية إلى اللاتينية، وظلت هذه الترجمة تدرس في مدارس أوروبا حتى عام ١٥٨٣م حين تم اكتشاف الأصل اليوناني.
كان الحجاج بن يوسف قد ترجم بعض كتب الأصول لإقليدس من اللغة السريانية إلى العربية. وعلى مدار عهدي هارون الرشيد والمأمون وما تلاهما عمل على ترجمة أجزاء كتاب الأصول ومراجعة الترجمات وتنقيحها كوكبة من ألمع المترجمين الرياضيين. وفتح الأصول شهية العرب للرياضيات الإغريقية، خصوصًا في عصرها الذهبي — العصر السكندري — فتوالت دفعة واحدة ترجمة العديد الجم من أمهات هذا التراث، ولعل أهمها كتاب أبلونيوس «القطوع المخروطية» الذي ترجم إلى العربية في عصر المأمون تحت اسم «المخروطات»؛ ولأن أصول إقليدس معنية بهندسة المسطحات، فإن اقتحام عالم المجسمات والقطوع المخروطية كان مرحلة جديدة ارتقى إليها العقل الهندسي في الحضارة الإسلامية وأسدى إليها وأبدع فيها.
وكشأن «الأصول» نجد كوكبة من المترجمين الرياضيين في الحضارة الإسلامية ومن أجيال متعاقبة توالت على ترجمة كتاب «المخروطات» لأبلونيوس ومراجعة الترجمات وتنقيحها، وأيضًا كشأن «الأصول» قل أن يمر رياضي عربي بغير أن يصنف رسالة في «المخروطات»، والجدير بالذكر أن هذا الكتاب قد ضاع ولم يبق للبشرية وللنهضة الأوروبية الحديثة إلا الترجمة العربية، انتقلت إلى أوروبا واستفاد منها يوهانس كبلر عام ١٦٠٩م وطبقها في الميكانيكا السماوية التي أحرزت معه خطوة تقدمية هائلة.
وبطبيعة الحال، الرياضيات في الحضارة الإسلامية إبان عصرها الذهبي كانت أوسع مجالًا، لكننا تخيرنا منطلقًا محوريًّا على مفترق الطرق بين الحساب والجبر، وبين الجبر والهندسة؛ ليتبدى الدور المحوري الذي قامت به الرياضيات العربية؛ أما على مفترق الطرق بين الحساب والجبر، فقد كانت نشأة علم الجبر وتأسيسه تأسيسًا، أما عن دورها بين الجبر والهندسة فيتمثل في أنها صانت للبشرية هذا السفر الثمين «القطوع المخروطية لأبلونيوس»، والذي يقف كعامل جوهري لنشأة الهندسة التحليلية في القرن السابع عشر مع فرما وديكارت.
حقًّا إن الهندسة التحليلية تقدم طرقًا أعمق وأسهل من طريقة أبلونيوس، وتوضح وحدة القطوع المخروطية بطريقة أبسط؛ إذ تمثلها بمعادلات من الدرجة الثانية بمجهولين، فلا يُعد كتاب أبلونيوس أو شروحه من لدن نصير الدين الطوسي وإبراهيم بن سنان والحسن بن الهيثم مجديًا في الوقت الحاضر.
بيد أن هذا الكتاب شأنه شأن مجمل إسهامات العرب الرياضية في عهدهم الذهبي إبان العصر الوسيط، له دور خطير في تاريخ الرياضيات وتطور مساراتها.
ولم تكن الثقافة «التكنولوجيا» أقل شأنًا، وليس أدل على تجلي روح التقانة العلمية في الحضارة العربية من أن ابن سينا كما رأينا أوضح أن علم الهندسة يتفرع عنه علم المساحة، وعلم الحيل المتحركة، وعلم جر الأثقال، وعلم الأوزان والموازين، وعلم الآلات الجزئية، وعلم المناظر والمرايا، وعلم نقل المياه. وكما أشار برتراند رسل، كان العلم العربي أكثر انكبابًا على البحوث التجريبية ولم يعن كثيرًا بصياغة النظريات العلمية العامة أو البحتة، أي إن العلماء العرب كانوا تجريبيين أكثر مما ينبغي. وفي سياق البحوث التجريبية تواترت الإنجازات المعروفة للعلم العربي لا سيما في الطب والجراحة والصيدلة والنبات، أما الكيمياء أو السيمياء فإن كثيرين من مؤرخي العلم القديم حذوا حذو ابن خلدون وأسموا الكيمياء «علم جابر»، وقد كان جابر بن حيان — في القرن الثاني الهجري — في طليعة الرواد العظام للعلماء العرب التجريبيين، وقد أسماهم علماء الكلام «الطبائعيين»؛ لأنهم يبحثون في طبائع الطبيعة، وجابر بن حيان هو الإمام الأكبر الذي خرجت من أعطافه كل كيمياء العرب وكل كيمياء العصور الوسطى حتى قال برتيلو: إن جابر له في الكيمياء ما لأرسطو في المنطق، أي إنه أسسها تأسيسًا، وعلَّم العلماء العمل في قلب المعمل والعزوف عن التأمل النظري الخالص حين البحث في العلوم الطبيعية.
ويلقى تاريخ العلوم عند العرب الآن ما يستحقه منا من اهتمام كبير، إنه يشغل مساحة تاريخية تمتد من القرن الثامن الميلادي إلى القرن الثاني عشر أو الثالث عشر، وهو في الواقع يملأ كل الفراغ الحضاري الممتد منذ انتهاء عصر العلم السكندري في مصر في العصر البطلمي، إبان القرن الأول الميلادي، حتى بزوغ الجمهوريات الإيطالية في عصر النهضة.
وكان كوبرنيقوس هو الذي أقدم على هذه الوثبة، فكانت بداية حركة العلم الحديث بفضل يعود إلى تاريخ العلوم عند العرب على العموم، ومرصد مراغة على الخصوص.
بيد أن النقلة المحورية من العلم القديم إلى العلم الحديث، والتي قُدر لها أن تتخذ من الحضارة الأوروبية مسرحًا، إنما هي مسألة تحتاج — بلا شك — إلى مزيد من التوضيح والتفصيل.
خامسًا: من العلم القديم إلى العلم الحديث
في ذلك الطريق الطويل العريض، والذي امتد حتى نهايات العصور الوسطى، قطع العلم القديم شوطًا كبيرًا لا يُستهان به البتة، لا شك أنه كان الخلفية العريضة والمقدمة الضرورية لكي ينبثق عنها عملاق العلم الحديث في العصر الحديث؛ ليصنع العالم الحديث للإنسان الحديث. ومهما صادرنا على الأهمية الكبرى والمحورية للعلم القديم وأوليناه ما يستحقه من عناية، فلا بد من الاعتراف بأن العلم الحديث لم يكن مجرد بوابة كبرى انفتحت لتنطلق منها ظاهرة العلم انطلاقة عظمى ويتسارع تقدمها بمعدلات لا عهد للبشر بها من قبل، بل كان العلم الحديث أيضًا، من زاوية العقل ومن زاوية الواقع على السواء، مستوى جديدًا ومغايرًا من مستويات وجود الإنسان في هذا الكون.
لقد سار العلم القديم بمعدلات تقدم متباطئة للغاية، خصوصًا إذا قورنت بالوضع في العلم الحديث؛ لأن البحث العلمي ذاته كان نشاطًا مشتتًا مبعثرًا، ملحقًا بالاحتياجات العملية المباشرة في العهود السحيقة، ثم بالكهنوت في الحضارات القديمة، وبالفلسفة في الحضارة الإغريقية، وبالإطار الديني في حضارات العصر الوسيط، وحتى الحضارة الإسلامية التي رأيناها تحمل لواء البحث العلمي آنذاك، لا يمكن فهم الحركة العلمية فيها بصرف النظر عن توجهها نحو الإلهيات والذي صنع الملامح الخاصة للطبيعيات الإسلامية في العصر الوسيط، فلا هي انساقت مع مادية القبل سقراطيين المتطرفة ولا مع مادية أرسطو المعدلة، إلى آخر المدى، وعلى الرغم من استفادتها من الفيثاغورية والأفلاطونية والأفلوطينية، أيضًا لم تتسق معها إلى آخر المدى، فهذه فلسفات مثالية تحرم العالم الطبيعي من الوجود الموضوعي، وهذا ما لا يمكن أن تفعله الفلسفة الإسلامية، قد تحرمه من استقلاله أما وجوده الموضوعي فكلا؛ لأن العالم الطبيعي فعلًا متعينًا للقدرة الإلهية ودليلًا ماثلًا عليها، مما يوضح أن العرب مهما أسرفوا في استغلال وتسخير التراث اليوناني، فقد كان هذا في إطار ثوابتهم الحضارية وتصوراتهم المتجهة نحو الإلهيات.
وبفعل متغيرات ثقافية وتحولات حضارية جديدة وعميقة اقترنت بها نشأة العصر الحديث، انبثق من ركام العلم القديم عملاق هو العلم الحديث، انبثق في صورة نسقية، أي مهيأة للاستقلال، بحيث تحمل في صلب ذاتها حيثياتها وإمكانيات تناميها وفاعلية عوامل تقدمها ذي المعالم الواضحة. إن النسقية موطن لتميز العلم الحديث عن العلم القديم، ويمكن أن تتمثل نقطة التحول في أن العلم في العصر الحديث، أو العلم الحديث قد أصبح نسقًا.
والنسقية تعني إحكام البحث العلمي، فيرتكز في شتى ممارساته على أصوليات منهجية صارمة، ترتد في صورة خصائص منطقية دقيقة، تحدد لظاهرة العلم تخومًا واضحة، مما يكفل تآزر الجهود العلمية فيجعلها تمثل متصلًا صاعدًا، يواصل تقدمه باستمرار، ويلقي في جوانحنا الثقة بأن غده أفضل من يومه، تمامًا كما أن يومه أفضل من أمسه، فتمثل كل ممارسة من ممارسات العلم الطبيعي إضافة لرصيده، أو بالأحرى لرصيد الإنسانية.
وكما ذكرنا كان التحقير من شأن العمل اليدوي المنكب على جزئيات الواقع التجريبي هو دأب الحضارة الإغريقية، والذي تأدى بها إلى حد التردد في اعتبار العبيد القائمين عليه والنساء المتصلات به بشرًا! فالإنسان هو الرجل الإغريقي الحر الذي يتوافر له فراغ يمكنه من ممارسة فضيلتي التأمل العقلي الخالص والصداقة؛ ليتحاور مع الأصدقاء الأحرار — الفارغين — في نتاج تأملاته العقلية، وبطبيعة الحال انعكس هذا على الفكر الإغريقي، خصوصًا بمجيء الثالوث الأعظم سقراط الرائد وأفلاطون شيخ المثالية المهيب وعدو التجريبية اللدود، ثم المعلم الأول أرسطو.
والقياس الأرسطي هو طريقة يقينية للخروج بقضية «نتيجة» من قضيتين مطروحتين «مقدمات»، إذا كانت المقدمات يقينية واتبعنا سبل القياس الأرسطي فلا بد وأن تكون النتيجة يقينية، بغير أي احتياج للتجريب أو التجاء لمعطيات الحواس أو استشهاد للواقع. القياس إذن صورة من صور المنهج الاستنباطي الخالص، أي منهج استنتاج النتائج من المقدمات المطروحة اعتمادًا على قوانين العقل والمنطق فقط. وقد كان القياس الأرسطي منطقًا خالصًا وفعلًا عقليًّا صرفًا، إنه الابن الشرعي للحضارة التي دأبت على تمجيد النظر وتحقير العمل، والصياغة النهائية لطابع الفكر الإغريقي، أو ببساطة تجسيد وتجريد لروح الحضارة الإغريقية، ولكنه أيضًا أول صياغة في تاريخ الفكر البشري لمنهج البحث، وأول نظرية منطقية مقننة لأساليب الاستدلال وأشكال التفكير.
وتعطينا الدراسات الأنثروبولوجية أعدادًا لا حصر لها من عقائد وديانات اعتنقتها البشرية منذ أولى عهودها. ومن منظور العقيدة الدينية ذاتها، نجد الدين قائمًا منذ آدم أول البشر ونوح أول الأنبياء، أي إن الدين قائم قبل المسيحية والإسلام بزمان سحيق. فلماذا مثلت هاتان الديانتان السماويتان نقطة تحول في مسار الحضارة الإنسانية شكلت العصور الوسطي؟ وقد كان تحولًا حاسمًا سوف نراه يتبلور — أو يتجرد ويتجسد — في سيادة منهج معين للتفكير وللبحث …
في الإجابة على هذا السؤال، نلاحظ أولًا اختلاف المسيحية والإسلام عن اليهودية، فهذه الأخيرة ديانة خاصة لشعب خاص شعب الله المختار (نراه الآن شراذم من الأفاقين مصاصي الدماء ينهبون الأراضي ويهدمون المنازل ويكسرون العظام! ولله في خلقه شئون). أما المسيحية والإسلام فديانتان مفتوحتان هما دعوة للعالمين.
وقد مثلتا نقطة تحول؛ لأن المَعْلَم المميز للدين السماوي هو اقترانه بكتاب منزل من رب العالمين، الأناجيل والقرآن.
أما الشرق الإسلامي فكان آنذاك أكثر استنارة وعقلانية وتقدمًا، واتسع للمنهج التجريبي وكان موطنًا للحركة العلمية. ولم تحز كتب أرسطو في الشرق نفس المنزلة التي منحتها إياها الكنيسة في الغرب، بل إن نفرًا من الفقهاء على رأسهم ابن تيمية (٦٦١–٧٢٨ھ) صاحب «نقض المنطق»، و«الرد على المنطقيين» قد شنوا حملة شعواء على أرسطو ومنطقه، فضلًا عن أن الإسلام لا يعرف كهنوتًا ولا سلطة لرجال الدين كي يكتسب أرسطو بعضًا منها. لكن بصرف النظر عن الصياغة السلطوية الرسمية، لم ينجُ التفكير الإسلامي هو الآخر من هيمنة أرسطو، وكانت مباحث الطبيعة عند فلاسفة الإسلام مشبعة بالمعالم والموضوعات والمصطلحات الأرسطية. والطب أيضًا بدأ عند الإغريق — الهيلين — ممتزجًا بالفلسفة، ثم امتزج بالمنطق عند الهيلنستيين في مدرسة الإسكندرية، واستمر هكذا عند العرب. فكان ثمة «الفلاسفة الأطباء» وهم مدرسيون قياسيون رائدهم ابن سينا، و«الأطباء الفلاسفة» وهم ممارسون تجريبيون رائدهم الرازي.
لقد آمن علماء العرب بأن قواعد القياس قابلة للتطبيق في كل العلوم، طالما هي معنية بصورة الفكر دون مضمونه. ولما كان الإسلام بمرجعه النصي الثابت (القرآن الكريم) ضامًّا لمجمل الإطار الحضاري ومحددًا لمعالم الأبنية الثقافية، فإن إيمان العلماء التجريبيين العرب بالقياس الأرسطي كان بُعدًا من أبعاد اعتماد فقهاء الدين له، فكان المنهج التجريبي مضمرًا في إطار حضارة سادها النص والقياس عليه كمنهج وأسلوب للبحث.
على هذا النحو كان المنطق الأرسطي وقياساته منهج بحث مهيمن ومُعبِّر عن روح العصر في الحضارة الإسلامية الوسيطة والمشرقة، وأكثر من هذا في الغرب المسيحي طوال ما يقرب من عشرين قرنًا من الزمان. كانت الحضارة الإسلامية أكثر عقلانية واستنارة وتوثبًا ومرونة، فاتسع إطارها الثقافي لفعاليات المنهج التجريبي وحمل لواء الحركة العلمية — كما أشرنا — وكان ذلك لعوامل كثيرة لا يتسع لها المجال وليست موضوعنا الآن؛ لأننا معنيون الآن بسياق الحضارة الغربية التي أنجبت العلم الحديث في العصر الحديث، بعد أن كان المنطق الأرسطي كمنهاج للبحث يحكم قبضته عليها، حتى كادت أن تختنق، فكيف كان هذا؟ كيف انتقلت الحضارة الأوروبية من وضع يسوده القياس الأرسطي العقيم، إلى وضع يرفع لواء المنهج التجريبي فينطلق منه عملاق العلم الحديث؟
وهذا التفسير الخاطئ للرسالة الدينية الذي ساد أوروبا في عصورها الوسطى المظلمة، إذا أضفنا إليه دأب المسيحية على التحقير من شأن المادة واعتبارها أصلًا لكل شر وخطيئة، بل وتأثيم الانشغال بها، تبين لنا أن سيادة المنهج الأرسطي قد تأكدت بأن السؤال عن الطبيعة في حد ذاتها لم يكن مطروحًا آنذاك.
وإقصاء السؤال عن الطبيعة في العصور الوسطى الأوروبية يعود إلى أصول أعمق، ثم عضدتها الكاثوليكية وأعطتها الصياغة النهائية؛ إذ إنه بعد الفلاسفة الطبيعيين السابقين على سقراط — رواد التفكير العلمي حقيقةً — اتجهت الفلسفة بفعل سقراط ثم التأثير الناجع لأفلاطون وأرسطو إلى الأخلاق والسياسة والميتافيزيقا، وأُقصيت العقول عن التفكير في الطبيعة وتقلص السؤال عنها. واحتياجات الإمبراطورية الرومانية فيما بعد جعلتها تفعل المثل وينصب اهتمامها على القانون. ثم بدأت الحقبة التالية من تاريخ الحضارة الغربية في العصور الوسطى المسيحية التي كرست العقول الموهوبة والطاقات الذهنية من أجل اللاهوت، وانحطت الطبيعة أكثر لتغدو مجرد خادمة من خدم اللاهوت، تلبي ما تستطيعه من مطالب علومه. المفكرون لا يرون فيها إلا شيئًا خلقه الرب، الطبيعة صنيعة الخالق، والتساؤل عنها وعن العالم المادي بمعزل عن الرب بدا لرجال ذلك العصر هراء لا طائل من ورائه. هكذا تراجع السؤال عن الطبيعة في حد ذاتها إلى أقصى الحدود، إن لم يتوارَ نهائيًّا، فلا يعود ثمة احتياج لمناهج تجريبية تنصب عليها. وبالتالي ينفرد القياس الأرسطي بميدان البحث ليبدأ من يقين وينتهي إلى يقين.
إلى كل هذا الحد كان نجيب الحضارة الإغريقية — المنطق الصوري وقياساته الاستنباطية — منهجًا أكثر من مناسب للاستحواذ على منزع العقل في العصور الوسطى الأوروبية، وكانت المحصلة فلسفتها «المدرسية» المتكرسة لمناقشات نظرية خالصة، تميزت بالتنسيق المنطقي الشديد والعقم الأشد عن الإتيان بجديد، فتلقب الفلسفة المسيحية للعصور الوسطى المتأخرة في أوروبا بالفلسفة المدرسية، وتُعد أقوى تمثيل لسيادة المنطق الأرسطي.
ولأن المنهج السائد أقوى تجريد وتجسيد لروح العصر — كما اتفقنا — فقد اقترن إغلاق أبواب العصور الوسطى وفتح بوابة العصر الحديث بالضيق البالغ منتهاه من المنطق الأرسطي وقياساته، والبحث عن مناهج جديدة ملائمة للعصر الجديد، كان هذا لعوامل عديدة، من البديهي أنها عوامل كانت في الوقت نفسه وراء انبثاقة العصر الحديث بأسره، وإلا لما كان المنهج تجريدًا وتجسيدًا لروح العصر.
وسرعان ما توالت المتغيرات على كافة الأصعدة: الصعيد الديني والسياسي والاقتصادي والاجتماعي والتجاري … وظهرت المطبعة وبدأت المخترعات والماكينات تغيِّر من وجه الحياة، وراحت العقول الواعدة تتلمس الجديد من كشوف العلم الطبيعي، فطغى الإحساس بعقم وإجداب المنطق الأرسطي وقياساته، وما يتسم به القياس من دوران منطقي ومصادرة على المطلوب وتحصيل لحاصل. غير أن ما عابه على الخصوص هو أنه ساهم في إقصاء العقول عن التفكير في الطبيعة بسبب من مجافاته للواقع؛ إذ لا يتعامل إلا مع قضايا مطروحة في الصحائف والأوراق؛ ليُعنى فقط باتساق النتائج مع المقدمات. وحتى إذا كانت النتئاج صادقة على الواقع، فهي لا بد وأن تكون متضمنة قبلًا في مقدماته، أي نعرفها سلفًا. ربما كان لهذا المنهج قيمته في الدراسات القانونية أو اللغوية أو سواها من دراسات نظرية. أما إذا أردنا أن نكسب خبرًا عن الواقع أو فهمًا أكثر للطبيعة المتأججة حولنا، فإن هذا مستحيل باتخاذ هذا المنطق وقياساته منهجًا؛ ليجعلنا نلف وندور حول أنفسنا في دائرة مغلقة، أو دائرة محصورة بين أغلفة الكتب، فينتهي بنا المطاف من حيث بدأنا ولا جديد البتة. ومن أين الجديد والعملية كلها انتقال من معلوم كلي إلى معلوم جزئي، من قضية إلى أخرى، في أطر فلسفة لفظية عقيمة لا تثمر جديدًا، ولا مساس إطلاقًا بآفاق المجهول الرحيبة. وكانت الثورة على قياس أرسطو ومنطقه المعروف باسم الأورجانون، بمثابة الإعلان الصريح برفض الماضي والرغبة في الإقبال بمجامع النفس على الآفاق الجديدة للعصر الجديد، واستكشاف العالم الطبيعي النابض الذي امتد وترامت آفاقه أمام إنسان العصر الحديث.
يُعد ديكارت ذا أهمية خاصة؛ إذ يعتبر بمثابة علامة فارقة بين العصور الوسطى والعصر الحديث من حيث هو مؤسس الفلسفة الحديثة، بيد أنه كان يبحث عن وضوح الرياضيات ويقينها؛ لذا اعتمد منهجه على الاستنباط الرياضي، وليس على التجريب في محاولة لتأسيس للمبادئ العامة للمعرفة بأسرها، وإذا استثنينا ديكارت، لكان أهم فلاسفة المنهج في القرن السابع عشر — قرن المناهج — هو بلا مراء وبلا منازع فرنسيس بيكون الذي يقترن اسمه بالمنهج التجريبي والعلم التجريبي وحركة العلم الحديث بأسرها.
وقد كان العلم الحديث بمضموناته البالغة الثراء وانعكاساتها الفلسفية، بتألقاته وتأزماته على السواء هو الميراث العيني الذي تسلمه القرن العشرون، فأجاد القرن العشرون استثمار هذا الميراث بمعدلات ظلت تتصاعد وتتصاعد حتى شقت أجواء الفضاء … حقيقةً ومجازًا.
رالف بيلز أول مؤلفي هذا العمل الضخم من الباحثين المخضرمين في الأنثروبولوجيا، حتى إن مقاله «خمسون عامًا مع الأنثروبولوجيا Fifty Years in Anthropology» المنشور في المراجعة السنوية لهذا العلم، يُعد من التأريخات الجيدة لعلم الأنثروبولوجيا ذاته.
أما «أركان العلم» فهي ترجمة د. فؤاد زكريا لعنوان هذا الكتاب في عرضه البارع له بمجلة «تراث الإنسانية»، والتي أعيد نشرها في: د. فؤاد زكريا، أركان العلم لكارل بيرسون، سلسلة تراث الإنسانية، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، ١٩٩٤م، (أيضًا: فؤاد زكريا، آفاق الفلسفة، مكتبة مصر، القاهرة، ١٩٩١م، ص٢٤١–٢٧٦).
وهذا الكتاب دراسة حضارية مقارنة للعلم وهو مبحث أصبح هامًّا بالنسبة لفلسفة العلم، والكتاب يتناوله بجدية وعمق، فقدمت سلسلة عالم المعرفة المرموقة ترجمتين متميزتين له.