أولًا: بيكون: روح العصر … منهج العلم
إن الفيلسوف الإنجليزي فرنسيس بيكون F. Bacon
(١٥٦١–١٦٢٦م) هو الجدير حقًّا بالاعتبار دونًا عن فلاسفة المنهج في القرن السابع عشر.
فما دامت الطبيعة قد أصبحت سؤال العصر، فإن بيكون كان الأقدر على تجريد وتجسيد روح عصره
باستقطابه لسؤال الطبيعة وتبنيه الدعوة لمنهج البحث المنصب عليها والملائم لها، المنهج
التجريبي أو الاستقرائي أساس شريعة العلم الحديث. فاقترن اسم بيكون بحركة العلم الحديث
وعُد وكأنه أبوه الشرعي الذي صاغ صك شهادة ميلاده الرسمية، فتنقش مكتبة الكونجرس
الأمريكي في واشنطن — أكبر مكتبة في العالم — اسمه أعلى إحدى بواباتها المذهبة بوصفه
واحدًا من الذين قادوا البشرية إلى العصر الحديث وعلمه الحديث.
وكان هذا أساسًا بسبب كتابه «الأورجانون
الجديد
Novum Organon» الصغير الحجم والذائع الصيت الذي نشره عام ١٦٢٠م، وهو في
الأصل ليس كتابًا بمعنى الكلمة، بل مجرد جزء من عمل ضخم أسماه بيكون «الإحياء العظيم
Instauratio Magna» وضع تخطيطه في ستة أجزاء،
لكن لم ينجز منها — أي لم يكتب وينشر — إلا الجزء الثاني فقط والذي هو «الأورجانون
الجديد»، أي إنه «ليس كتابًا مستقلًّا إنما هو جزء من كتاب، أو على الأقل جزء من خطة
عامة لإصلاح العلم وللنهوض بحياة الإنسان».
١ وحتى هذا الجزء، أي الأورجانون الجديد، لم يكتمل تمامًا؛ لأنه مكون من
كتابين أو فصلين، والكتاب الثاني ينطوي على خطة فرعية لم ينجزها بيكون هي الأخرى. وقد
جاء الأورجانون في هيئة فقرات قصيرة منفصلة متتابعة ومرقمة، وإلى حد ما مفككة غير
مترابطة، فقد يتم الانتقال من فقرة إلى أخرى فجأة بلا معبر بينهما، لكنها جميعًا قاطعة
كالسيف واضحة كالنهار، موجزة مكثفة بحيث لا تتسلل كلمة زائدة، ومكتوبة بأسلوب بليغ
وبيان رائع عُد قمة من قمم النثر في عصره.
على أن اللافت حقًّا هو عنوان الكتاب «الأورجانون الجديد»، أي «الأداة الجديدة»، أو
«الآلة الجديدة»، في إشارة واضحة إلى أن أورجانون أرسطو قد أصبح أداة قديمة بالية عفا
عليها الدهر. والكتاب يقدم الأداة أو الآلة الجديدة المناسبة لاحتياجات العصر، وهي
المنهج التجريبي.
شارك بيكون رجال عصره في رفضهم الضاري للمنطق الأرسطي، وكان من أعنفهم هجومًا على
القياس وعقمه، وحتى الاستقراء الأرسطي، لم ينج من نقد بيكون الحاد ومحاولاته لإثبات
اهترائه وتهافته. على الإجمال كان «الأورجانون الجديد» أقوى تجسيد لروح عصره الرافض
للماضي العقيم، ماضي العصور الوسطى الأوروبية المدرسية ينظر إليها في غضب ويروم القطيعة
المعرفية عنها، فيقول بيكون، في الفقرة ٨٣ من الأورجانون الجديد:
لقد فقدوا غاية العلوم وهدفها، واختاروا طريقًا خاطئًا باتباعهم منهجًا ليس
من شأنه أن يكشف جديدًا من مبادئ المعرفة، ويكتفي باتساق النتائج مع بعضها.
فليكف الناس عن التعجب من أن تيار العلوم لا يجري قدمًا في طريقه الصحيح؛ فقد
ضللهم منهج البحث الذي يهجر الخبرة التجريبية ويجعلهم يلفون ويدورون حول أنفسهم
في دوائر مغلقة، بينما المنهج القويم يقودهم من خلال أحراش التجربة إلى سهول
تتسع لبداهات المعرفة.
٢
وفي الفقرة (٨٢) يدين بيكون العصور الوسطى إدانة كبيرة من حيث هي عصور أهملت الطبيعة
والمعارف الجزئية ورأتها تحط من قدر العقل الذي لا ينبغي أن ينشغل إلا بالقضايا الكلية
والقياس الأرسطي الذي يستنبط منها ما يلزم عنها، فأوصدت الباب أمام السبيل القويم
للمعرفة، أي المعطيات الحسية والخبرة التجريبية التي تخبرنا بما يحدث في الطبيعة. لم
تهجرها أو أساءت التصرف بشأنها فحسب، بل رفضتها احتقارًا.
٣
لقد كان الجد الأكبر لفرنسيس بيكون من المذكورين في تاريخ المنهج التجريبي، إنه
روجرز بيكون Rogers Bacon (١٢١٤–١٢٩٤م) الملقب
بأمير الفكر العلمي في العصور الوسطى؛ لأنه مارس التجريب ووصل إلى نتائج مبهرة بالنسبة
لعصره، في الكيمياء وطب العيون، ووضع تنبؤات تحققت بالفعل في ميادين الفلك والجغرافيا
والميكانيكا. ولما كان رجل دين فرانسيسكانيًّا فقد كان هذا مدعاة للنقمة عليه ومثارًا
لمتاعب كثيرة واجهها في حياته، فكيف لرجل دين في تلك الآونة أن يدعو إلى التجريب العلمي
ويمارسه؟! ويخبرنا توماس ماكولي T. B. Machaulay
(١٨٠٠–١٨٥٩م) أشهر مؤرخي القرن التاسع عشر أن أبا فرنسيس بيكون، السير نيقولا بيكون
حامل أختام الملكة إليزابيث، لم يكن شخصًا عاديًّا، لكن شهرة الابن طغت على شهرة
الوالد. أما الابن فرنسيس بيكون نفسه، فقد كان رجل قانون وعضوًا في البرلمان خلال عهد
الملكة إليزابيث التي كان يمرح في بلاطها طفلًا، وبعد رحيلها علا نجم فرنسيس بيكون
وأصبح قاضي القضاة وكبير مستشاري الملك جيمس الأول وحامل أختامه، ومُنح أعلى الألقاب.
إنها إذن حياة مزدحمة بالأعباء القانونية والمهام والطموحات السياسية، وزادها ازدحامًا
ما شاب سيرة بيكون من فضائح أخلاقية، كالغدر بالأصدقاء وتملق ذوي السلطان وتقاضي
الرشاوى والمحاكمات والعقوبات التي تعرض لها من جرَّاء هذه التهمة الأخيرة.
ويرى الدكتور فؤاد زكريا أن هذه الحياة الصاخبة التي حرمت بيكون الوقت الكافي والقدرة
على التركيز، هي المبرر الذي جعله لا يكمل كتبه الكبرى ومشروعاته الفكرية، وأيضًا الذي
جعله يكتب الأورجانون في صورة فقرات قصيرة منفصلة،
٤ على أن بيكون نفسه يبرر هذا الأسلوب في الكتابة بعدم رغبته في أن يُخرج ما
يبدو له في صورة العلم الكامل المتكامل كما كان يفعل المدرسيون، وأن الفلاسفة القبل
سقراطيين المخلصين حقًّا للطبيعة كانوا يكتبون بهذه الطريقة،
٥ وكل ما بقي منهم شذرات منفصلة.
وما يهمنا حقًّا من الإشارة إلى تلك الحياة السياسية الصاخبة، هو إيضاح كيف أن بيكون
لم يكن عالمًا ولا حتى متابعًا جيدًا لحركة العلم الحديث التي بدأت بواكيرها قبله
واستحثت خطاها الناشطة في عهده! كان وليم
هارفي W. Harvey (١٥٧٨–١٦٥٧م) الطبيب الخاص لفرنسيس بيكون، وهذا الأخير لم يهتم
باكتشاف هارفي للدورة الدموية، ولا بأبحاث فيساليوس (١٥١٤–١٥٦٤م) الأسبق في مجال
التشريح. وحتى نظرية كوبرنيقوس ذاتها عارضها بيكون! بوصفها فرضًا أهوج، ما دامت الخبرة
الحسية التجريبية تخبرنا بأن الشمس هي التي تدور في سماء الأرض! ولم يقدر نظريات كبلر
وجاليليو حق قدرها، ولم يعترف أصلًا بأبحاث جيلبرت في المغناطيسية. هكذا كانت ثقافة
بيكون العلمية ضحلة. أجل قام ببعض التجارب البسيطة أو الساذجة، أشهرها تجربة دفع حياته
ثمنًا لها، وذلك حين قام بدفن دجاجة مذبوحة في جليد لندن ليختبر أثر البرودة في وقف
تعفن اللحم، وبعد بضع ليالٍ خرج في يوم قارس البرودة ليرى نتيجة التجربة، وكم كانت
سعادته حين وجد الدجاجة سليمة، لكنه أصيب ببرد قاتل ألزمه فراش الموت، حيث قال قولته
الشهيرة التي أصبحت شعار العصر: «لقد نجحت التجربة»، فهل يقصد تجربة الدجاجة والبرودة؟
أم كان يقصد أن التجربة قد نجحت في فرض ذاتها على روح العصر؟ على أية حال لم ينتفع
بيكون شخصيًّا بمنهجه في إضافة تُذكر للعلم، ولم يتتلمذ على يديه أو يستفد حقيقةً من
كتاباته أي من العلماء الذي صنعوا حركة العلم الحديث، وترجموا المنهج التجريبي أبلغ
ترجمة ممكنة؛ لذلك يرى بعض الباحثين أمثال ألكسندر كواريه أن اقتران اسم بيكون بحركة
العلم الحديث سخافة لا معنى لها، وإذا أضفنا إلى هذا ما سنراه من نقائص ومآخذ على منهجه
التجريبي، حق لنا أن نتساءل فعلًا: كيف ولماذا اقترن اسم بيكون بحركة العلم
الحديث؟
ويمكن أن نطرح هذا السؤال من زاوية أخرى فنقول: هل كان على البشرية الانتظار حتى مجيء
بيكون لتدرك أن الحواس نوافذ ضرورية لإدراك العالم من حولنا؟! ألم يكن الاتجاه التجريبي
قائمًا في الفلسفة منذ أول مدرسة فلسفية في التاريخ؟! ألم يُمارس التجريب العلمي على
أتم وجه منذ هيرو السكندري وأرشميدس وجابر بن حيان والبيروني وابن الهيثم خصوصًا هذا
الأخير؟ ألم تتسع الحضارة الإسلامية لفعاليات المنهج التجريبي؟ فماذا بقي إذن
لبيكون؟
في الإجابة على هذا نقول: أجل اتسعت الحضارة الإسلامية للعلم ومنهجه التجريبي وقطع
فيها شوطًا كبيرًا، ولكن لم يكن محورًا أو مركزًا، بل دائرة من الدوائر التي ترسمت حول
المركز الحضاري، أي النص الديني … القرآن الكريم، والثورة الثقافية العظمى التي أحدثها.
لذلك يختلف وضع العلم في الحضارة العربية الإسلامية اختلافًا كبيرًا عن وضعه في الحضارة
الأوروبية الحديثة؛ فقد كان في الأولى مجرد بُعد، بينما هو في الثانية محور، بل محور
كل
المحاور، بمعالمه تترسم القيم، وعلى أساسه تتشكل أيديولوجية العصر أو إطاره
المرجعي.
على هذا يتضح لماذا يقترن اسم بيكون بالعلم الحديث؟ فقد بدا جليًّا الآن أن الإجابة
مطروحة في الجزء الأخير من الفصل السابق، في تأكيد قدرة الفلسفة على العموم وفلسفة
المنهج على الخصوص في تجسيد وتجريد روح العصر، وقد كان بيكون بمنهجه هكذا، أقوى تجسيد
لروح عصره وإلى درجة لا يطاولها إلا أرسطو.
فقد رأينا كيف كان بيكون من أعنف من هاجموا الاتجاه النظري الخالص بقياساته العقيمة
عند الفلاسفة المدرسيين السابقين، ورفض بقطع تصورهم بإمكانية حل كل المشاكل الكبرى عن
طريق التأمل وإقامة الحجج اللفظية، وأكد على ضرورة استخدام حواسنا وعقولنا في ملاحظة
الوقائع، وتسجيلها بأمانة، هكذا «حدد بيكون سمة من أهم سمات التفكير العلمي الحديث، وهي
الاعتماد على ملاحظة الظواهر ومشاهدتها تجريبيًا، بدلًا من الاكتفاء بالكلام عنها»،
٦ فيرى الدكتور فؤاد زكريا أن بيكون يستحق فعلًا لقب فيلسوف الثورة الصناعية
قبل ظهور هذه الثورة بمائتي عام،
٧ وليس فقط فيلسوف الحركة العلمية. والثورة الصناعية على أية حال نتيجة من
نتائج العلم الحديث، وسليلة من سليلاته.
أجل، اقترن اسم بيكون بحركة العلم الحديث؛ لأن دعواه المنهجية كانت أقوى تجريد وتجسيد
لعصر العلم الحديث، أقوى تجسيد للحداثة، للانقلاب على الماضي رفضًا له والقطيعة مع
العصور الوسطى المدرسية، فمنهجها قياسي يبدأ بمقدمات كلية ليخرج بنتائج جزئية تلزم عنها
ولا التجاء إلى الحواس أو التجريب. وكان المنهج الذي رفع لواءه بيكون هو الانقلابة، هو
الضد الصريح تمامًا لهذا، إنه منهج يعتمد على الحواس والتجريب، ويبدأ من جزئيات ليخرج
بنتيجة كلية هي قانون من قوانين الطبيعة، إنه المنهج الذي يستقطب سؤال العصر … سؤال
الطبيعة.
وبيكون بدوره — بتجسيده لروح العصر — يصف الطبيعة بالأم الكبرى للعلوم، أو جذع شجرة
المعرفة، ولا أمل في التقدم إلا بأن ترتد إليها العلوم جميعًا،
٨ وفي وجه آخر من وجوه تجسيداته البارزة لروح العصر، يؤكد أن المعرفة هي قوة الإنسان،
٩ وليست ترفًا وزينة كما كانت عند الإغريق، أو دوائر نظرية مغلقة وجوفاء كما
كانت عند المدرسيين، وإذا كانت المعرفة قوة، فإن الطبيعة — ومنذ الفقرة الأولى في
الأورجانون الجديد — هي مملكة المعرفة الإنسانية، والميدان الوحيد المثمر والمأمول
لسيطرة الإنسان، وفقط عن طريق المنهج التجريبي، أي ملاحظة الواقع والتفكير في مسار
الطبيعة. وإذا تجاوز الإنسان هذا فلن يستطيع أن يعرف أو يفعل شيئًا،
١٠ ويراه بيكون منهج كشف بسيطًا للغاية وطبيعيًّا إلى أقصى الحدود طالما يعتمد
على معطيات الحواس، وهو فقط الذي يحقق وعد التوراة بأن يصبح الإنسان سيد الكائنات وتاج
الخليقة وبطل الرواية الكونية.
هكذا كان بيكون وهو يقدم الطبيعة بوصفها المملكة البشرية الكبرى التي يستطيع الإنسان
غزوها والسيطرة عليها عن طريق التجريب، إنما كان يقدم أقوى تجريد وتجسيد لروح العصر
الحديث، وحتى المتغيرات التي أنجبته، وكان أبرزها — كما ذكرنا — اكتشاف العالم الجديد.
وكثيرًا ما كان بيكون يستشهد بالرحلات إلى العالم الجديد قبل أن يعبِّر عن أمله في
اتساع المعرفة «بحيث تتجاوز أي شيء اكتشفه القدماء أو المدرسيون، اعتمادًا على منهج
فاسد، وهدف بيكون لأن يكون — كما قال — مثل كولومبوس، أي يكتشف عالمًا جديدًا، وأن يبحر
مخترقًا أعمدة أروقة هرقل — رمز العالم القديم — مبحرًا في المحيط الأطلسي؛ لكي يكتشف
جديدًا، والآخرون قادرون على تحقيق شيء مشابه لو أنهم تخلوا عن التوقير غير المناسب
للقديم واتبعوا الأورجانون الجديد، أو المنهج الاستقرائي».
١١ من هنا مثَّل الاستقراء — المنهج التجريبي — أقوى تجليات الحداثة من حيث هو
تمثيل لشريعة العلم الحديث.
وتتوالى فقرات «الأورجانون الجديد» لتفصيل هذا المنهج الذي جاء مع بيكون على جانبين
أو قسمين: الأول سلبي مختص بالتنويه إلى الأخطاء المتربصة بالعقل البشري كي يتجنبها،
والثاني إيجابي مختص بقواعد التجريب، والجانب الإيجابي — مهما كانت قدرته على التعبير
عن روح العصر — يعبر عن مرحلة باكرة ومبدئية، فكان مشوبًا بقصورات ومآخذ جمة كما سنرى.
لذا يحق لنا الحكم بأن الجانب السلبي لا يقل عنه أهمية، إن لم يكن أهم؛ لأنه يمثل إضافة
حقيقية ولفتة ثاقبة من بيكون، مثمرة وتظل صالحة لكل العصور. لقد انتهى القرن العشرون
ولا تزال البشرية تُعاني من تلك الأخطاء التي نوَّه إليها بيكون في الجانب السلبي من
منهجه. ولا بد من الحذر بشأنها ليتجنب العقل البشري مزالقها.
إن العقل عند بيكون أداة مماثلة وتجريد وتصنيف لمعطيات الحواس، وفي تجسيده لخطورة
هذه
الأوهام المتربصة بالعقل يطلق عليها اسم الأوثان أو الأصنام
Idol، فهي تتحكم في العقل تحكمًا رهيبًا وتحجبه عن جادة الصواب،
فتكون بمثابة أصنام يعبدها … كأوهام يتشبث بها، وقد كرَّس لها بيكون أكثر من ثلاثين
فقرة من فقرات الكتاب الأول في الأورجانون الجديد، وهو يقسمها إلى أربعة أنماط على
النحو التالي:
- (١)
أوهام الجنس أو القبيلة: والمقصود الجنس البشري بعامة أو القبيلة
الإنسانية بأسرها، أي إنها الأخطاء المتربصة بالعقل البشري من حيث هو كذلك،
ومن أمثلتها سرعة التعميمات والقفز إلى الأحكام الكلية، فلا ينبغي التسرع
في التعميم دون التثبت الكافي؛ كي لا نقع في أحكام خاطئة. وأيضًا سيطرة
فكرة معينة على الذهن، تجعلنا نختار من الأمثلة والوقائع ما يؤيدها ونغض
البصر عما ينفيها، فلا بد من توخي النزاهة العلمية في التعامل مع الوقائع
كي ندرأ هذه النوعية من الأخطاء، ومن أمثال هذه الأخطاء الشائعة في طريقة
التفكير الإنساني بصفة عامة افتراض الانتظام والاطراد في الطبيعة أكثر مما
هو متحقق فيها، حتى إذا صادفنا مثال شارد حاولنا إدخاله بأية طريقة في إطار
القانون، فلا ينبغي افتراض أكثر مما هو متحقق فعلًا. وثمة أخيرًا ما يميل
إليه عقل الإنسان من تجريد وإضفاء معنى الجوهر على المظاهر المتغيرة، وهذا
يقود إلى عدم التمييز بين طبائع الأشياء ومظاهرها.
- (٢)
أوهام الكهف: والمقصود بالكهف البيئة التي نشأ فيها الفرد، فهي إذن نوعية
من الأوهام خاصة بالفرد المعين الذي نشأ في بيئة معينة، بخلاف أوهام الجنس
العامة، أوهام الكهف تتمثل في التأثير الكبير لعوامل البيئة ومكوناتها
وثقافتها على عقل الإنسان، فيتصور المتواضعات الخاصة بها وكأنها حقائق
مطلقة وقد يقصر جهوده المعرفية على إثباتها، مما يحول بينه وبين اقتفاء
جادة الصواب، ولو تأملنا مليًّا في مشكلة التشويه الأيديولوجي للعلوم بعامة
والعلوم الإنسانية بصفة خاصة، والتي أشرنا إليها في الفصل السابق،
واعتبرناها من كبريات مشاكل فلسفة العلوم الإنسانية، وسوف نعالجها في —
الجزء الأخير من الفصل السادس — لوجدنا أن التشويه الأيديولوجي هو ذاته ما
أسماه بيكون في الأورجانون الجديد، بأوهام الكهف.
- (٣)
أوهام المسرح: وهي الأوهام أو الأخطاء الناتجة عن تأثير المفكرين القدامى
على عقل الإنسان، فيصبح هذا العقل وكأنه خشبة مسرح يعرض عليها المفكرون
السابقون رؤاهم المتضاربة والمنفصلة عن الواقع الراهن، إن المتفرجين قد
يأسرهم الإعجاب بالممثل وبراعته في تجسيد الدور، فينسى المتفرج واقعه
ومشكلاته، ويعيش بمجامع نفسه مع الممثل، يتألم لمآسيه ويفرح لظفره
بالمحبوبة، حتى ولو كان بين المتفرج ومحبوبته فراسخ وأميال! المثل تمامًا
يحدث حين يأسر الإنسان الإعجاب بممثلي الفكر السابقين، فيعيش في إطار
مصنفاتهم ويلف ويدور حول قضاياهم منفصلًا عن واقعه ومستجداته، وتبدو أوهام
المسرح أخطر أنواع الأوهام، ربما كان أرسطو يلح على خاطر بيكون وهو يحذرنا
من أوهام المسرح، ولكن إذا التفتنا حولنا في واقعنا العربي الراهن إبان
الربع الأخير من القرن العشرين وجدناه يُعاني من ظاهرة الجماعات الإسلامية
المتطرفة التي أصبحت إرهابية. والواقع أنهم حالة مثلى لأوهام المسرح التي
حذَّر بيكون منها؛ فقد سيطرت على أذهانهم مصنفات تراثية معينة، كانت نتاجًا
أو استجابة لظروف حضارية انتهت منذ قرون عديدة، ملغين ظروف واقعنا، ولا
يلتفتون إلى أن فتاوى ابن تيمية لمواجهة المغول لا تصلح لمواجهة القوى
الإمبريالية المعاصرة بعد أن تسلحت بالعولمة، أو أن معالم سيد قطب كانت على
طريق الاصطدام مع التجربة الناصرية الاشتراكية التي أصبحت الآن أثرًا بعد
عين. وتمامًا كما أشار بيكون، الافتنان بممثلي الفكر السابقين لا ينجم عنه
إلا خسران الواقع ومستجداته.
- (٤)
أوهام السوق: وهي الناجمة عن الخلط اللغوي وسوء استخدام اللغة، وقد
اعتبرها بيكون أبرز ما ينبغي تجنبه. فالضجيج يرتفع في الأسواق، يحجب
الإنسان عن الإدراك الواضح للغة، فتنشأ الأوهام الناجمة عن هذا، كأن تستعمل
أسماء لأشياء لا وجود لها، ثم نتصور وجود هذه الأشياء الزائفة، أو نترك
أشياء حقيقية بلا أسماء نتيجة لقصور في الملاحظة. ويحذرنا بيكون من تلافي
هذه الأخطاء عن طريق المناقشات اللفظية. فالفيصل الحق في الرجوع إلى
الواقع. إن أوهام السوق تجعل الإنسان يتصور وكأنه هو الذي يملك زمام اللغة
ويتحكم فيها ويستعملها كما يشاء، في حين أن اللغة قد تُمارس تأثيرها على
العقل الإنساني دون أن يعي هذا؛ لذلك ينبغي الحذر والحيطة؛ كي لا نقع في
أسر أوهام السوق … الاستعمالات الخاطئة للغة.
وسوف نرى أن أهم تيارات الفلسفة العلمية في القرن العشرين هو التيار التحليلي الذي
جعل الفلسفة منصبة على اللغة وتحليلاتها للتخلص مما يشوب التعبيرات اللغوية من لبس أو
غموض أو خلط أو زيف. فلم يكن جزافًا إذًا الحكم بأن أوهام بيكون أو الجانب السلبي من
منهجه، أهم وأكثر حيوية من الجانب الإيجابي.
لقد عرض بيكون لهذه الأوهام ضمنًا في كتاب سابق له، كتبه بالإنجليزية وأهداه للملك
جيمس الأول ليساعده في النهوض بالبلاد، ونشره عام ١٦٠٥م وهو كتاب «النهوض بالتعليم Advancement of Learning»، ثم أعطاها أسماءها
وفصَّلها تفصيلًا في الكتاب الأول من «الأورجانون الجديد» الذي يغلب عليه الطابع
النقدي؛ وذلك لكي يعقد الإنسان العزم على التحرر منها والتخلص من أدرانها، فيمارس
التجريب بعقل تأهب تمامًا لجني مغانمه.
وفي الكتاب الثاني من «الأورجانون الجديد» يعرض بيكون للجانب الإيجابي من منهجه،
أي
لقواعد التجريب، وقد أسماها «صيد بان»، و«بان
Pan» هو
إله الصيد عند الإغريق، قيل: إنه ابن زيوس من إحدى حوريات الطبيعة الأركاديات وتدعى
كاليستو
Calisto، فتعود أصول «بان» وعبادته إلى
الأركاديين القدامى الذين يمثلون الجانب الرعوي الريفي في حضارة الإغريق، حيث الطبيعة
الخالصة، إنه إله البراري والتلال والغابات والوديان والرب الحامي لأسراب الطيور وقطعان
الحيوانات، وللرعاة والقناصين، وكانوا يتصورونه ذا أنف أفطس ولحية كثة، وشعر أشعث، وله
قدما ماعز، يجول أثناء النهار في البراري والوديان ليحمي القطعان، خصوصًا قطعان الماعز،
ويطارد الحيوانات الضارية التي تهددها، وفيما بعد أصبح «بان» رمزًا للكون الطبيعي
بأسره، وتركزت عبادته في الريف،
١٢ وتبدو براعة هذه الاستعارة واضحة جلية، فهي تحمل تمثيلًا لهاجس الطبيعة
المسيطر على الأذهان. وبيكون يقصد منها أن ممارسة المنهج التجريبي تغتنم معارف تماثل
ما
يغتنمه إله الصيد حين يمارس الصيد!
وهذا الجانب الإيجابي في منهج بيكون ينقسم بدوره إلى قسمين أو مرحلتين: المرحلة
الأولى هي إجراء التجارب، وقد تحدث بيكون عن أنواع ودرجات التجريب من قبيل تنويع
التجربة وتكرارها وإطالة أمدها ونقلها إلى فرع آخر من فروع العلم، وعكسها، أي إجرائها
بصورة معكوسة، وإلغائها لدراسة الصورة السلبية لموضوع البحث … إلخ. أما المرحلة الثانية
فهي مرحلة التسجيل، تسجيل نتائج التجريب في قوائم تصنيفية. وتُعد «القوائم» من المعالم
المميزة لمنهج بيكون، وقد أكد عليها تأكيدًا؛ إذ يقول: إن الجزئيات أو الوقائع
التجريبية أشبه بجيش ضخم العدد مبعثر ومتفرق، وما لم تنتظم الوقائع التجريبية المتعلقة
بموضوع البحث سوف يضطرب التفكير ويتشتت ويضل طريقه، ولن يصل إلى شيء. والأمل معقود على
استخدام قوائم الكشف لكي يصنف العقل الوقائع التجريبية وينظمها تبعًا لدرجاتها ويحدد
الأمثلة النافية، وبهذا يستطيع العقل أن يمارس عمله ويستخلص نتائج التجريب، وفقًا لما
تمده به تلك القوائم،
١٣ وهي ثلاث على النحو التالي:
- (١)
قائمة الحضور والإثبات، ويسميها بيكون أحيانًا بالقائمة الجوهر، وهنا يضع
الباحث جميع الحالات التي لاحظ عن طريق التجربة أن الظاهرة أو الطبيعة
البسيطة موضوع الدراسة تتبدى فيها.
- (٢)
قائمة الغياب أو النفي، وفيها يسجل الباحث الحالات التي تغيب فيها
الظاهرة، فمثلًا إذا كان موضوع الدراسة هو أثر ضوء الشمس على نمو النبات،
نحاول أن نعرف ماذا يحدث لهذا النبات إذا غاب عنه ضوء الشمس، وهذه القائمة
أهم القوائم وأخطرها والتي جعلت استقراء بيكون منهجًا علميًّا وليس مجرد
تعداد ساذج.
- (٣)
قائمة التفاوت في الدرجة، حيث يسجل الباحث الدرجات المتفاوتة لحدوث
الظاهرة موضوع الدراسة، وهذا التنويه السطحي لأهمية التجريب لا يجدي
فتيلًا، فبيكون قد تحامل على الرياضيات؛ لأنها استنباط خالص وتجريد ينأى
بالباحث عن الطبيعة والتجريب! هذا بينما يقوم العلم الحديث على التآزر بين
الوقائع التجريبية واللغة الرياضية، وتعد الصياغات الرياضية من معالمه
المميزة؛ لذلك يقال: إن ديكارت الذي انطلق من أهمية الرياضيات وخصائص
التفكير الرياضي إنما يشارك بيكون في إرساء الأصول المنهجية للعلم
الحديث.
وهناك عامل آخر يوضح مدى ابتعاد بيكون عن الروح الحقيقية للعلم الحديث أكثر من هذا
الإغفال لأهمية الرياضيات؛ ذلك أنه كان يهدف من الاستقراء هدفًا مغايرًا لهدف العلم
الحديث، فإذا كان العلم الحديث يهدف إلى وصف وتفسير الظواهر الطبيعية، فإن بيكون كان
يريد من هذا المنهج أن يفضي به إلى معرفة أو اكتشاف الصور Forms، أي صور الطبائع
البسيطة Simple Natures، فقد رأى أن كل شيء في هذا العالم يمكن رده إلى مجموعة من
الطبائع البسيطة عددها اثنتا عشرة، كالضوء والوزن والحرارة … إلخ. ومن اجتماع هذه
الطبائع وتفرقها تتكون سائر الموجودات، وهدف العلم الطبيعي هو اكتشاف أسباب هذه
الطبائع، أي صورها. فالصورة ليست تجريدًا أو فكرة مثالية، بل هي شرط فيزيائي للطبيعة
البسيطة، أساس لها ومباطنة فيها، إن الصورة تمثل علة معلولها الطبيعية البسيطة. بيد أن
الطبائع البسيطة ذاتها فكرة ميتافيزيقية لا علمية، توضح أن بيكون لم يتخلص تمامًا من
شوائب العصور الوسطى المسرفة في الميتافيزيقيات، والأدهى أنه تصور مجموعة من الأبحاث
تجرى في بضع سنوات تستقصي صور الطبائع البسيطة، فيكتمل نسق العلم الطبيعي! هكذا كان
تصور بيكون لعالم العلم على قدر كبير من السذاجة!
على أية حال، كان السبيل الوحيد لمعرفة صور الطبائع البسيطة هو تطبيق المنهج
الاستقرائي، أي التجريب، ثم تسجيل نتائج التجريب في القوائم الثلاث المذكورة، وهذا ما
فعله بيكون بشأن الطبيعة البسيطة: الحرارة، وانتهى إلى أن صورتها أو علتها هي
الحركة.
ويبقى أهم المآخذ على منهج بيكون هو أنه لم يفطن لأهمية الفروض، بل حذَّر منها
وأسماها استباق الطبيعة
Anticipation of Nature؛
١٤ أي استنتاجات للعقل الإنساني تنصب على الطبيعة، بينما هي تتجاوز ما تخبر به
الطبيعة. وفي سياق هجومه على المنطق الأرسطي هاجم الفروض باعتبارها كالقياس الأرسطي،
قضايا لفظية وليست سيطرة على الأشياء، هذا في حين أن الفروض سر تقدم العلم، إن لم تكن
هي العلم نفسه، وبغيرها لا جديد إطلاقًا. ثم إن بيكون بعد إنكاره للفروض كان هو نفسه
يستخدمها دون أن يدري، وإلا كيف توصل إلى أن الحركة هي علة الحرارة؟ «ليست الحركة هي
الظاهرة التي كان يبحثها، وإنما كان يبحث ظاهرة الحرارة، ولم تكن الحركة مذكورة في أي
من القوائم الثلاث، فالحركة اقتراح، أي فرض لتفسير تلك القوائم.»
١٥ بخس قيمة الفرض كان أعظم أخطاء بيكون. على العموم سوف نرى في موضع لاحق أن
بيكون بهذا الخطأ، أيضًا كان يجسد روح عصره.
على أن أوجه قصور منهج بيكون في مرحلته الباكرة لن تبخس أبدًا فضله العظيم في التنويه
لأهمية التجربة والتعويل عليها في اكتساب المعارف بالواقع المحيط بنا، كتجسيد لروح
العصر، تجسيدًا قويًّا حقق مأربه في تحطيم سيطرة منطق أرسطو كمنهج، وإعلان عصر العلم
التجريبي … العلم الحديث وحسبه هذا الإعلان القوي المدوي، حتى يقول بيكون عن نفسه: إنه
ليس إلا «نافخ البوق».
لقد كان بيكون نزاعًا بمجامع نفسه نحو الاتجاه العلمي، مؤمنًا أكثر من سواه بقدرة
العلم التجريبي. وقد وضع تصورًا لمدينة فاضلة أسماها «أطلانطس الجديدة» لا تعدو أن تكون
نموذجًا مثاليًّا لمجتمع علمي متكامل يضم أمة من العلماء في سائر التخصصات؛ لكي يحقق
العلم المنفعة القصوى للبشر. وصف بيكون «بيت سليمان» في هذه المدينة وهو صورة مثالية
للمعمل العلمي وللأكاديميات العلمية، اقتُفيت خطوطه فيما بعد،
١٦ وحين تأسست الجمعية الملكية للعلوم في لندن لتضم جهابذة العلم وتنسق بين
أبحاثهم، وقف المؤسسون في حفل الافتتاح عام ١٦٦٢م ليشيدوا بفضل بيكون على تيار العلم
الحديث.
وكان إيمان بيكون بالعلم لا يحده حدود، فسبق عصره فعلًا في التبشير بالعلوم
الإنسانية، فقد أشار إلى أن القياس الأرسطي السائد يمتد ليشمل كل العلوم. وبالمثل
تمامًا المنهج التجريبي سوف يمتد ليشمل كل شيء فنرى قوائم تصنيفية للتجارب المتعلقة
بالكره والخوف والغضب واتخاذ القرارات والامتناع عنها وسائر جوانب الحياة المدنية،
تمامًا كقوائم البرودة والحرارة والضوء والنباتات وما إليها،
١٧ وفي كل هذا لم يفته دور الفلسفة، منوهًا إلى أن العلم في حد ذاته لا يكفي،
فلا بد من قوة ونظام خارج العلوم لتنسيقها وتوجيهها إلى هدف، هكذا تحتاج العلوم إلى
الفلسفة لتحليل الطريقة العلمية — أي المنهج، وتنسيق الأهداف والنتائج العلمية، وكل علم
بغير هذا، بغير فلسفة العلم يعد سطحيًّا.
وبناءً على ما سبق في هذا الجزء من الفصل عُد بيكون — على الرغم من قصورات منهجه —
أقوى تجسيد لروح العصر الذي أنجب العلم الحديث لينمو ويعلو ويعلو … كنزًا مذخورًا
للبشرية، هو بلا شك رأسمال فعَّال في الثراء المعرفي الباذخ الذي تمتع به القرن
العشرون. فكيف تجمعت فرائد هذا الكنز في كل متكامل، أو بتعبير مباشر: كيف تشكل نسق
العلم الحديث؟
ثانيًا: نسق العلم الحديث
والآن لنصوب الأنظار على النسق العلمي في حد ذاته، أو النسق العلمي من الداخل كمنظومة
معرفية متوالية من القضايا الممنهجة، تحمل مضمونًا إخباريًّا وقوة تفسيرية وطاقة تنبئية
منصبة على العالم الذي نحيا فيه، فتجعل العقل البشري يحكم قبضته عليه، هذا النسق العلمي
كيف انبثق وتشكل وتنامى وتكامل؟
بهذه النظرة الإبستمولوجية الخالصة، تُعد نقطة البدء في نسق العلم الحديث هي فرض
مركزية الشمس بدلًا من مركزية الأرض، وليس هذا مجرد فرض مختص بفرع من العلوم هو الفلك،
بل كان لا بد من تصويب النظرة الكوزمولوجية العامة للكون لكي يستقيم نسق العلم
الطبيعي.
فقد ساد العلم القديم فرض كلاديوس بطليموس السكندري (القرن الثاني بعد الميلاد)
المأخوذ من نظرية هيبارخوس (القرن الثاني قبل الميلاد)، وهو فرض ينص على أن الأرض ثابتة
وكل الأجسام السماوية الأخرى تدور حولها في حركة دائرية بسرعة مطردة. كان بطليموس
عليمًا بالهندسة وأقام تصوره للكون على أساس ما تراه الحواس ويتقبله الحس المشترك، فرأى
أن القمر والشمس يتحركان عبر السماء، أما الكواكب الخمسة التي كانت معروفة في ذلك الوقت
فتتحرك بحرية، والنجوم فقط هي الثابتة، وهل هناك ما هو طبيعي وبديهي أكثر من كون تحتل
الأرض مركزه؟ ولما كانت هذه النظرية البطلمية تتسق مع العقيدة المسيحية من حيث مركزية
الأرض في هذا الكون، ومع فلسفة أرسطو من حيث إن الدائرة أكمل الأشكال، والحركة الدائرية
هي فقط اللائقة بالأجرام السماوية، فقد أيدها رجال الكنيسة وأصبح التسليم بها مشتقًّا
من التسليم بالكتب المقدسة. لقد ظلت النظرية البطلمية سائدة شرقًا وغربًا أربعة عشر
قرنًا من الزمان.
وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ كان البحارة يعملون بها
في رحلاتهم بالبحر الأبيض المتوسط والبحر الأحمر وشواطئ المحيط الهندي بلا مشاكل تُذكر.
ومع الكشوف الجغرافية والرحلات الطويلة عبر المحيط الأطلنطي وحول الكرة الأرضية بدأت
تظهر المشاكل والصعوبات لتنبئ بفشل نظرية بطليموس، وها هنا جاء من بولندا رياضي متمكن
هو رجل دين واقتصادي ودبلوماسي وطبيب، إنه نقولا كوبرنيقوس N. Copernicus
(١٤٧٣–١٥٤٣م) ليقتنع في عام ١٥٠٧م بأن بطليموس على خطأ، ومن الضروري وضع تفسير أبسط
لحركة الكواكب.
كان كوبرنيقوس قد اطلع في قراءاته الواسعة على نظرية مراغة — كما ذكرنا في الفصل
السابق — وعلى نظرية أرسطارخوس الساموسي (٣١٠–٢٣٠ق.م) في العصر السكندري القائلة
بمركزية الشمس، واطلع أيضًا على فكرة مؤداها أن الأرض لعلها ليست ثابتة ولا تتحرك.
التقط كل هذا بحسه العلمي وقدراته الرياضية العالية، وافترض أن الشمس هي مركز الكون،
أو
مركز الدائرة الخارجية للنجوم الثابتة، وأن الكواكب تدور حول الشمس في مدارات هي دائرية
كما قال بطليموس، لكن كوبرنيقوس افترض أن الكواكب الأقرب إلى الشمس تدور أسرع وفي
مدارات أصغر، وترتيب الكواكب على النحو التالي: عطارد – الزهرة – الأرض – المريخ –
المشتري – زحل، على هذا يكمل عطارد مداره في حوالي ثلاثة أشهر، بينما يستغرق المشتري
ما
يقرب من اثنتي عشرة سنة، أما الحركة اليومية البادية فيمكن تفسيرها بأن الأرض تدور حول
محورها دورة كاملة كل يوم، وللأرض أيضًا حركة ثالثة، فهي تتغير ببطء في اتجاه محورها،
وهي الحركة المسماة بالاستقبال
Precession، وكان
العالم السكندري هيبارخوس قد اكتشفها وأشار إليها،
١٨ ولم يدعم كوبرنيقوس نظريته إلا بحجة واحدة هي حجة «البساطة». فإذا نظرنا
إلى الكواكب من على سطح الشمس، أي إذا افترضنا أن الشمس هي المركز فسوف تبدو مدارات
الكواكب أبسط وأجمل وحساباتها الرياضية أبسط. وباسم مبدأ البساطة شن هجومه على تعقيدات
معينة في نظرية بطليموس.
وضع كوبرنيقوس نظريته في كتابه الشهير «دوران الكرات
السماوية Revolution Orbium
Coelestium» وظل مترددًا في إكماله ونشره، حتى جاءه وهو على فراش الموت
عام ١٥٤٣م، ودون أن يعلم كوبرنيقوس الذي كان يحتضر، حملت الطبعة الأولى للكتاب مقدمة
كتبها اللاهوتي أندرو أوسياندر A. Osiandre، يحاول
فيها المصالحة بين محتوياته وبين الدين، على أساس أنها مجرد فروض وليست حقيقة، ويظل
اليقين من نصيب الدين فقط. ومع هذا كفَّر البابا كوبرنيقوس من أجل كتابه، الذي يناقض
ما
نصت عليه الكتب المقدسة من أن الأرض ثابتة وهي مركز الكون. ونشطت محاكم التفتيش في
أعقاب حائزيه ومؤيديه، لكن بعد أن فجر ثورة عارمة أعلنت نهاية العلم القديم وبداية
العلم الحديث، إنها الثورة الكوبرنيقية التي أزاحت الأرض من مركز الكون، ووضعت الشمس
بدلًا منها.
وعلى الرغم من كل هذه التضمنات الثورية، كانت نظرية كوبرنيقوس مجرد نظرية هندسية،
تفتقر إلى الأدلة التجريبية، ولا تدعمها إلا حجة البساطة. لا شك أن البساطة قاعدة
منهجية ومنشودة دومًا، لكنها وحدها لا تكفي، فضلًا عن اعتراضات أخرى أُثيرت في وجه
النظرية ولم يستطع العلم الفلكي والميكانيكي بحالته الكائنة أيام كوبرنيقوس أن يواجهها،
منها مثلًا أن الجسم الساقط عموديًّا في الهواء يجب أن يقع غرب نقطة سقوطه إذا كانت
نظرية كوبرنيقوس صحيحة والأرض تتحرك، وهذه حجة ظلت غير قابلة للدحض حتى أرسى جاليليو
أساس الديناميكا الحديثة. وأيضًا لو صحت النظرية لوجب أن تكشف النجوم عن اختلاف في
مستوى مرآها بالنسبة لمكان الناظر يرجع إلى ١٨٦ ألف ميل هي الاختلاف في وضع الأرض كل
ستة أشهر، ولم تتم الإجابة على هذا التساؤل حتى اكتشف بيزيل
Bessel هذا الاختلاف بالنسبة لمكان الناظر عام ١٨٣٨م، وهذان المثالان
نموذج لاستنباطات عديدة من نظرية كوبرنيقوس جعلت الأدلة التجريبية تعارضها؛ لذلك، فبصرف
النظر عن أن الكتب المقدسة تعارضها، فقد رفضتها العقول النيِّرة عبر أوروبا بأسرها،
خصوصًا العقول ذات المنزع التجريبي، إنهم لم يجدوا مبررًا لتقبل ثمرة من ثمرات الخيال
الجامح.
١٩
وجاء الفلكي الدانمركي تيخو براهة
T. Brahe
(١٥٣٦–١٦٠١م) ليزود النظرية الكوبرنيقية ببعض الأدلة التجريبية، كان تيخو أيضًا
رياضيًّا متمكنًا، لكنه لم يكن عبقرية خلاقة ولا حتى عقلية علمية جريئة، وحسبه ما تمتع
به من موهبة وصبر نادر في إجراء الملاحظات والرصودات الفلكية، فتكمن قيمته العلمية في
محاولاته لتحسين المشاهدات الفلكية، وفي أنه أول من رأى بوضوح وجوب الحصول على معلومات
تجريبية وإجراء مشاهدات منتظمة على امتداد سنوات طويلة. وعلى مدار عشرين عامًا من ١٥٧٦م
إلى ١٥٩٦م، واظب تيخو بمعاونة هيئة من مساعديه على مراقبة أوضاع الشمس والقمر والكواكب.
استخدم آلات متطورة صنعت بعناية تحت إرشاده، فنجح في تقليل التفاوت في دقة المقاييس.
وهذا النجاح في البحوث التجريبية لم يحالف تيخو في بحوثه النظرية. كان منتبهًا بالطبع
إلى نقائص نظام بطليموس، ومدركًا للتقدم الذي أحرزه كوبرنيقوس وأخذ بنظرية هذا الأخير
مُبقيًا على أن المدار دائري، لكنه رفض حركة الأرض لأسباب بعضها لاهوتية وبعضها
فيزيقية، فحاول التوفيق بين النظامين البطلمي والكوبرنيقي باختراع «نظام تيخو» الذي
حافظ على الوضع المركزي الساكن للأرض، بينما تصور الكواكب تدور حول الشمس.
٢٠
ليس لنظام تيخو قيمة علمية، وبصفة عامة الدور الحقيقي لتيخو يتبدى من خلال الفلكي
الألماني الشاب يوهانس كبلر J. Kepler (١٥٧١–١٦٣٠م)
الذي استفاد من الاتصال الشخصي بينه وبين تيخو، واستخدم آلات ورصودات تيخو وحدوس
كوبرنيقوس ليعمل عبقريته العلمية في الإنجاز النهائي لهذه المرحلة الفلكية الهندسية من
العلم الحديث.
وبينما كان تيخو على فراش الموت، أوصى كبلر بإتمام جداوله لحركات الكواكب، مستعملًا
نظريته الفلكية (نظام تيخو) كإطار للعمل وليس نظرية كوبرنيقوس. وقد نفذ كبلر الشق الأول
من الوصية، وأكمل الجداول الفلكية ونشرها عام ١٦٢٧م باسم «الجداول الرودلفية»، على شرف
الإمبراطور رودلف الثاني راعي تيخو وكبلر الذي استضافهما على الرحب والسعة في براغ
ووهبهما قلعة كمركز للرصودات الفلكية ولقب «عالما الرياضة صاحبا الفخامة»؛ لأنهما كانا
يستكشفان له طالعه وحظه عن طريق «التنجيم» حرفتهما الرسمية؟!
٢١
ولم ينفذ كبلر الشق الثاني من الوصية، فقد رفض نظام تيخو، واعتنق الكوبرنيقية بتعصب؛
إذ كان في شبابه يعبد الشمس، فآمن بأن المكان الملائم لهذا النجم العظيم هو مركز الكون،
واعتقد أن الله خلق الكواكب تبعًا لمبدأ الأعداد التامة، وكان يبحث عن التناغم
الهارموني في الكون الخاضع للمبدأ الرياضي، ويمكن التوصل إليه بالتدوينات الموسيقية،
كما حاول أن يفعل في كتابه «تناغم
العالم
Harmony of World». المهم أنه طرح فكرته بأن المدارات الفلكية ليست دائرية، بل
أهليجية، أي بيضاوية، أو تمثل قطعًا ناقصًا، ويُعد الفرض الأهليلجي أو القطع الناقص
ثورة فجرها كبلر، وتكاد «تناظر ثورة كوبرنيقوس، إنها ثورة على الاعتقاد الإغريقي
والوسيط بأن الأجرام السماوية مقدسة، وبالتالي لا بد وأن تدور في الشكل المقدس وهو
الدائرة الكاملة»،
٢٢ وفي النهاية أعطى كبلر لنظرية كوبرنيقوس أسسها وحججها عن طريق هذا الفرض
الأهليلجي وقوانين حركة الكواكب التي توصل إليها.
فقد انتهت جهود كبلر الفلكية إلى أن الحركة اليومية والسنوية البادية للشمس والنجوم
والكواكب يمكن تفسيرها بأبسط صورة وبأعلى درجة تقريبية إذا افترضنا أن الأرض تدور حول
محورها مرة كل أربع وعشرين ساعة، وتوصل إلى قوانينه الثلاثة المشهورة التي أودعها كتابة
«الفلك الجديد»، وهي:
- (١)
الأرض والكواكب تدور حول الشمس في مدارات إهليلجية، تقع الشمس في إحدى
بؤرتيها.
- (٢)
يقطع الخط الواصل بين الشمس والكوكب مساحات متساوية في فترات زمانية
متساوية.
- (٣)
نسبة مربع الزمان الدوري للكوكب إلى مكعب متوسط بعده عن الشمس واحدة
بالنسبة لجميع الكواكب.
ولم تكن جهود كبلر فلكية مصمتة، بل تطور مفهوم الطبيعة بأسره على يديه؛ لأنه كان
قد
أخذ فكرة جيلبرت في المغناطيسية وعممها، فقال: إن كل الأجسام تمارس جذبًا، وبهذا
المفتاح لظاهرة الجاذبية ألغى كلمة الكائن الحي
anima
في معالجة الطبيعة، وأحل محلها مصطلح القوة
المادية
vis ذات الطاقة الميكانيكية،
٢٣ وبهذا أنهى عهدًا قديمًا طويلًا تصور أن الطبيعة حيَّة، وكانت نهاية التصور
الحيوي للطبيعة بدورها من البدايات الحاسمة للعلم الحديث، فتح بها كبلر الطريق أمام
التصور الحتمي الميكانيكي للكون، والذي هو مشروع أنجزه العلم الحديث بنجاح ساحق حقًّا،
سحق في طريقه أشياء كثيرة منها ميتافيزيقا حرية الإنسان وتفرده.
كما رأينا كان كبلر، على الرغم من إنجازه العظيم، مدفوعًا بدوافع لا عقلانية، ثم جاء
جاليليو (١٥٦٤–١٦٤٢م) ليكون صورة مثالية للعقل العلمي الحديث الناضج تمامًا، القادر على
التوحيد بين اللغة الرياضية والوقائع التجريبية والفروض الجريئة تمثيلًا للمنهج العلمي
الحديث. آمن بأن الرياضيات لغة العلم والواقع، وعبَّر عن هذا الإيمان بمقولته الشهيرة:
«كتاب الطبيعة المجيد مكتوب بلغة الرياضيات»، وهي الفكرة الفيثاغورية الأفلاطونية
القديمة، لكنها مع جاليليو أصبحت أساس علم ناضج بالطبيعة، كان مبدأ العلم عنده هو: لا
شيء قابل للمعرفة إلا ما هو قابل للقياس الكمي، ومن ثم قصر العلم على الدراسة الكمية
وألغى أي عنصر كيفي، وذلك عن طريق القسمة التي اصطنعها بين الخصائص الأولية والخصائص
الثانوية. الخصائص الأولية هي الكميات في الشكل والوزن والحجم والحركة، وهي لا سواها
موضوع العلم، أما الخصائص الثانوية فهي الكيفيات، أي الروائح والعطور والألوان
والأصوات، وهي ليست من العلم في شيء البتة، إنها خارجة عن مفهوم الطبيعة. ولحق بهذا
المصير مفهوم العقل، فبينما آمن الإغريق بأن العقل محايث في الطبيعة، أكد جاليليو أن
الطبيعة ليس فيها عقل، وهذا يعني أنها ليست من الكائن العضوي في شيء، بل هي آلة،
عملياتها وتغيراتها ليست بسبب علل نهائية أو غائية، بل فقط بسبب العلة الكافية المؤدية
لحدوث الحدث التالي لها. على هذا النحو اكتمل في ذهن جاليليو التصور الحتمي الميكانيكي
للكون المقترن بالعلم الحديث.
كان جاليليو قد توصل إلى المقراب «التلسكوب» وصنع لنفسه واحدًا، وفي السابع من يناير
عام ١٥٩١م وجهه نحو المشتري فلاحظ أقمارًا ثلاثة له، وفي الليلة التالية شاهدها أيضًا،
لكن على الجانب الآخر من المشتري. ثم داوم رصده وكان أحيانًا يرى قمرين وأحيانًا أربعة،
فانتهى من هذا إلى أن أقمار المشتري تدور حوله كما يدور قمر الأرض حولها؛ إذ لو صح نظام
بطليموس لكان قد رأى أقمار المشتري تدور حول الأرض، لا حول المشتري، وتوصل أيضًا إلى
أن
الكواكب ليست أجسامًا مضيئة بذاتها، وأيضًا إلى كشف هام هو أن كوكب الزهرة له أطوار
تماثل أطوار القمر؛ إذ يبدو أحيانًا بدرًا كاملًا وأحيانًا أخرى هلالًا رفيعًا، وبكل
هذا انتهى جاليليو إلى تدعيم النظام الكوبرنيقي بحيث فرض نفسه على الوسط العلمي، فكانت
جهوده في علم الفلك هي أساسًا تعزيز النتائج المطروحة قبله.
أما الخطوة الحاسمة التي أضافها جاليليو لتمثل مرحلة جديدة في نسق العلم فهي في علم
الميكانيكا، فقد كانت المرحلة السابقة تحكم قوانين الحركة السماوية، ومع جاليليو بدأت
مرحلة تحكم قوانين الحركة على سطح الأرض.
بحث جاليليو ظاهرة سقوط الأجسام، وانتهى إلى أن الجسم يسقط بسرعة تتزايد بانقضاء
الزمن منذ أن بدأ يسقط، وهذا يعني أن الأجسام تسقط بعجلة، أي بتغير في السرعة acceleration، وهي عجلة ثابتة، أي تغير ثابت في السرعة،
والسرعة تساوي العجلة مضروبة في الزمن «س = ع ن»، وسرعة الأجسام التي تُقذف إلى أعلى
عموديًّا تتناقص تبعًا لنفس القانون، وتوصل أيضًا إلى أن العجلة واحدة لكل الأجسام في
نفس المكان ومستقلة تمامًا عن الشكل أو الحجم أو الوزن أو المادة، باستثناء إمكانية
مقاومة الهواء لها. فالجسم ذو العجلة المنتظمة يتحرك بمسافة «ف» في فترة من الزمن «ن»
تساوي المسافة التي يتحركها خلال نفس الزمن لو أنه سار بمتوسط السرعة، ومن ذلك انتهى
إلى القانون «ف = نصف ع ن٢»، وكان جاليليو قد حلل الحركة
إلى عنصرين منفصلين: الحركة الأفقية إلى الأمام والحركة الرأسية الساقطة، وذلك على أساس
بحثه في حركة الجسم المتحرك على سطح مائل — أي المتدحرج، ومنه توصل إلى أن الأجسام
الساقطة على سطوح مائلة تخضع لنفس القانون «ف = نصف ع ن٢»،
ثم استخدم هذا القانون لتحديد مسار القذيفة المدفعية، فحركتها تبرز هذين العنصرين؛ إذ
تندفع إلى الأمام ثم تسقط على الأرض، وتتميز بأن عنصر مقاومة الهواء لها ضعيف للغاية
بحيث يمكن إهماله، وبهذا المنظور انتزع جاليليو الميكانيكا من أسسها الثبوتية التي
أرساها أرسطو حين افترض أن كل جسم ثابت إلى أن تؤثر عليه قوة تجعله يتحرك، أما جاليليو
فقد أرساها على أسس كينماتيكية Kinematical، أي حركية
وتقتصر على الحركة فقط دون التعرض للقوة المحدثة لها. فالأفلاك والأجسام جميعها تتحرك
بذاتها، وكل تأثير القوى الخارجية عليها هو تغيير سرعتها أو اتجاهها؛ لأن فرض الجاذبية
النيوتُني لم يتدخل بعد. ومن الناحية الأخرى كانت ميكانيكا جاليليو قائمة على أساس فكرة
القصور، فقد أدرك ببصيرته النافذة أن الجسم إذا أُعطي سرعة في اتجاه معين، فإن السرعة
لا تتوقف من تلقاء نفسها أو تحتاج إلى تجديد مستمر، بل تبقى ثابتة ما لم يغيرها عامل
خارجي، لقد أنجز جاليليو إنجازًا واسعًا في نسق العلم الحديث بالقوانين التي وضعها
لتحكم سبل الحركة على سطح الأرض.
وأصبح الطريق ممهدًا للخطوة الأخرى والحاسمة حقًّا في نسق العلم الحديث، على يد بطل
أبطاله بغير منازع إيزاك نيوتن
Issac Newton
(١٦٤٢–١٧٢٧م). في عام ١٦٨٧م نشر في لندن كتابه العظيم «الأسس الرياضية للفلسفة
الطبيعية» ليحتوي على الإطار العام والهيكل المتكامل للفيزياء الكلاسيكية ولنسق العلم
الحديث بأسره، لا سيما قوانين الحركة التي اكتملت تمامًا مع نيوتن بعد أن استفاد من
جهود السابقين عليه ومنهم سلفه الأقل حظًّا وقدرات رياضية والذي يكبره بسبعة أعوام
روبرت هوك.
٢٤ على أية حال بدأ نسق العلم وكأنه شارف الاكتمال حين وضع نيوتن الصياغات
الرياضية الدقيقة لقوانينه الثلاث للحركة، وهي:
- (١)
كل جسم يظل على حاله سكونًا أو حركة في خط مستقيم، ما لم يجبره مؤثر
خارجي على تغير حالته. وهذا هو قانون «القصور
الذاتي Inertia» (القصور الذاتي يعني أن الجسم قاصر بذاته عن
تغيير حالته، ولا بد من مؤثر خارجي هو «القوة»).
- (٢)
معدل التغير في العزم (كمية
التحرك Momentum) يتناسب مع القوة المؤثرة على الجسم، ويكون اتجاه
العزم نفس اتجاه القوة المؤثرة.
- (٣)
لكل فعل رد فعل مساوٍ له في المقدار ومعاكس في الاتجاه.
وبدا نيوتن وكأنه وصل بنسق العلم إلى الذروة حين وضع الصياغات الرياضية لأعظم فروضه
طرًّا وأكثرها عمومية وشمولية، والذي أحكم قبضة العقل على كل وأية حركة في هذا الكون؛
أي فرض الجاذبية العام الذي ينص على أن كل جسمين بينهما قوة تجاذب تتناسب طرديًّا مع
كتلتيهما وعكسيًّا مع مربع المسافة بينهما. فوضع نيوتن لأول مرة في تاريخ البشرية نظرية
تحكم كل وأية حركة في هذا الكون، وأمكنه أن يضم المرحلتين السابقتين في نسق العلم، أي
الحركتين السماوية والأرضية في نسق فيزيائي متكامل. وبحكم عمومية الفيزياء وشموليتها
وتربعها على قمة العلوم الإخبارية أصبح هذا هو الإطار العام للعلم الحديث بأسره. لقد
أيقن الجميع أن نيوتن اكتشف حقيقة هذا الكون، وهو أنه قَدْ قُدَّ على قَدِ آلة
ميكانيكية ضخمة مغلقة على ذاتها، من مادة وطاقة «قوى» تسير تلقائيًّا بواسطة عللها
الداخلية وتبعًا لقوانينها الخاصة في مسار صارم، تفضي كل مرحلة من مراحلها إلى المرحلة
التالية، أي يؤذن حاضرها بمستقبلها، ولم يبق إلا رتوش تفصيلية لتكتمل الصورة النهائية
لنسق العلم بالعالم.
وقد قَدَّم فيلسوف العلم الإنجليزي تشارلي دنبر
برود
C. D. Broad (١٨٨٧–١٩٧١م) عرضًا بديعًا وسلسًا لكيفية توصل مواطنه إيزاك
نيوتن إلى هذه القوانين،
٢٥ فأشار إلى أن نيوتن قد بدأ عمله بمبادئ الديناميكا التي يمكن وصفها بأنها
تعميمات للنتائج التي توصل إليها جاليليو في بحثه للأجسام الساقطة والقذائف المجاورة
لسطح الأرض. وقد لاحظ نيوتن أن جاليليو تعامل مع الحركة تبعًا لشروط خاصة مبسطة، من
قبيل أنها حدثت في مجال قوى من نوع واحد، وأن مجال القوة مطرد، والقوة نفسها من نوع
مخصص جدًّا بحيث لا تكشف عن الكتلة كمتميزة عن الوزن، فضلًا عن أن جاليليو لم يأخذ في
اعتباره دوران الأرض حول محورها وحول الشمس، وبينما تعامل جاليليو مع الحركة وفقًا لتلك
الشروط، كان إنجاز نيوتن العظيم هو صياغة فئة من المبادئ تنطبق على أية حركة مهما كانت،
وبصرف النظر عما إذا كان سببها الجاذبية أو الكهربية أو أي نوع آخر من القوة، فقط احتاج
نيوتن إلى توضيح أفكار معينة عن الزمان والمكان والحركة تركها جاليليو غامضة. فالجسم
الذي يتحرك في خط مستقيم من سطح الأرض يصف مسارًا شديد التعقيد وبسرعات مختلفة، وكذلك
إذا أخذنا الشمس في الاعتبار، وإذا قيست استمرارية الحركة بمقدار الماء المتساقط
بانتظام من خزان مثلًا سيبدو الجسم متحركًا بسرعة ثابتة مطردة، أما إذا قيست استمرارية
الحركة ببندول ساعة فلن تبدو سرعة ذلك الجسم ثابتة مطردة، ومن العبث صياغة مبدأ القصور
عن استمرارية الجسم في حركته في خط مستقيم بسرعة مطردة ما لم يؤثر عليها مؤثر خارجي،
إذا لم نحدد معيارنا لاستقامة واطراد الحركة وثبات السرعة. وقد واجه نيوتن هذه الصعوبة
عن طريق التسليم بكيانين واتخاذهما مصادرة؛ وهما المكان المطلق والزمان المطلق، فصاغ
قانون القصور الذاتي في حدود الحركات التي تصف مسافات متساوية على طول خط مستقيم في
المكان المطلق خلال فترات متساوية من الزمان المطلق، فقام العلم على أساس مكين هو تحرك
الكتل في المكان والزمان المطلقين.
والتقدم المهم الآخر الذي أحرزه نيوتن هو تقديم مصطلح الكتلة وتمييزها عن الوزن.
الكتلة هي مقدار ما يحتويه الجسم من مادة، أما الوزن فهو مقدار جذب الأرض للجسم،
وتتناسب عجلة السرعة التي تحدثها القوة مع كتلة الجسم، بحيث يمكن قياس القوة بحاصل
النسبة بين كتلة الجسم والعجلة التي أحدثتها القوة عليه في اللحظة المعينة. وكل الأجسام
تسقط على الأرض بنفس العجلة — كما أوضح جاليليو، ويتبع ذلك أن قوة الجاذبية — أي الوزن
في أي مكان معين — تتعادل مع الكتلة، وتكفي هذه المفاهيم لصياغة الديناميكا، لكن ثمة
احتياج لمبدأ آخر هو ما صاغه نيوتن في القانون الثالث، فلنفترض أن الجسم أ يُحدِث قوة
على الجسم ب، يرى نيوتن أن هذا مجرد جانب واحد من العملية المتبادلة؛ لأن الجسم ب يجب
أن يمارس قوة على الجسم أ، واستنتج من هذا أن الأفعال action المتبادلة لمجموعة من الأجسام لا يمكن أن تغير حركة أو سكون
مركز جاذبيتهما. هكذا صاغ نيوتن المبادئ الكاملة التي تنطبق على كل الحركات. حقًّا أن
هذه الصياغة مستحيلة بدون جهود جاليليو السابقة، بيد أن هذا لا ينفي أنها من أعظم
إنجازات العقل البشري. وإذا نظرنا إلى صعوبة المهمة لن يدهشنا — كما يرى برود — أنها
تحتاج إلى تكامل عقلين عظيمين مثل: جاليليو ونيوتن.
ونستطيع الآن أن نفهم تَوصُّل نيوتن إلى قانون الجاذبية
العام
Gravity (أو التثاقل في ترجمة أخرى للمصطلح)، فطالما أن الكواكب تدور
حول الشمس، والقمر يدور حول الأرض، وأقمار المشتري تدور حوله؛ فلا بد أن ثمة قوة في كل
حالة من هذه الحالات تؤثر دائمًا على تلك الأجسام المتحركة وتمنعها من الاستمرار في
طريقها بسرعة مطردة في خط مستقيم. إن قانون كبلر الثاني عن المساحات المتساوية في
الأزمنة المتساوية يمكن أن يكفي، لكن إذا — وفقط إذا — كانت القوة تؤثر على طول الخط
الذي يربط الجسم المتحرك بالجسم المركزي. فوجد نيوتن نفسه أمام ثلاثة تساؤلات
هي:
- (أ)
هل القوة هي نفسها في كل حالة؟
- (ب)
وإذا كان الأمر كذلك، فكيف تتغير القوى على المسافة بين الجسم المتحرك
والجسم المركزي؟
- (جـ)
هل يمكن أن تكون هذه القوة السماوية هي نفسها قوة ما أخرى نعلمها على
كوكب الأرض؟
تأتي الإجابة على السؤال الأول من أن أقمار المشتري تتبع قانون كبلر الثاني والثالث
في حركتها حول المشتري، تمامًا كما تتبعهما الكواكب في حركاتها حول الشمس، مما يعني أن
القوة هي ذاتها في الحالتين. أما بالنسبة للسؤال الثاني، فعلى الرغم من أن الكواكب تدور
في مدارات أهليليجية (أي بيضاوية) الشمس إحدى بؤرتيها، وليست في دائرة الشمس مركزها،
فقد يحدث أن تكون الأهليلجات قريبة جدًّا من الدوائر، وبالتالي البؤرة قريبة جدًّا من
أن تكون مركزية. وعلى الرغم من أن سرعة أي كوكب ليست مجرد مسألة نقاط، بل أجسامًا ضخمة
تتحرك، إلا أنه يمكن مقارنة أبعادها بأنصاف أقطارها، لدرجة تمكننا من التعامل معها
ببساطة على أنها نقاط كتل. وعلى هذا يمكن افتراض أن الشمس والكواكب جسيمات كتلية، وأن
كل كوكب يدور حول الشمس بسرعة ثابتة خاصة به تُميزه. وبهذا الفرض المبسط يمكن إيضاح
الزمان الدوري للكوكب متصلًا ببعده عن الشمس بالطريقة التي ينص عليها قانون كبلر
الثالث، إذا — وفقط إذا — كانت القوة التي تجذب كل كوكب إلى الشمس تتناسب طرديًّا مع
حاصل كتلتي الجسمين وعكسيًّا مع مربع المسافة بينهما.
وكانت الخطوة التالية كالآتي: ألا يمكن أن تكون القوة التي تحفظ الكواكب في مداراتها
حول الشمس وتحفظ أقمار المشتري في مداراتها حوله، وقمر الأرض في مداره حول الأرض … هي
ذاتها القوة التي نلم بها على سطح الأرض بوصفها الجاذبية «أو التثاقل»؟ أي السؤال «ﺟ».
وقد عمل نيوتن على اختبار هذا الفرض، بالنظر إلى نتائجه فيما يتعلق بحالة القمر، فيحسب
جاذبية الأرض على أساس كتلتها ومربع نصف قطرها، ويحسب القوة التي تؤثر بها الأرض على
القمر على أساس الكتلة ومربع المسافة بينهما، فيستطيع بسهولة أن يحسب فترة دوران القمر
حول الأرض، على أساس الفرض التبسيطي بأنه يسير بسرعة مطردة وفي مدار دائري، فإذا اتفقت
الفترة المحسوبة لدوران القمر مع الفترة الفعلية سيصدق الفرض، ويمكن اعتبار القوة التي
تحفظ الأقمار والكواكب في مداراتها هي ذاتها القوة التي تجعل الأجسام تسقط على سطح
الأرض، أي الجاذبية.
وهذا ما فعله نيوتن وهو في الثالثة والعشرين من عمره عام ١٦٦٦م بالمعطيات التي كانت
متاحة في ذلك الحين، وعلى أساسها حسب فترة دوران القمر، وكانت حوالي ٢٣٫٣ يومًا، لكن
الفترة الفعلية حوالي ٢٧٫٣ يومًا، على هذا فالفارق حوالي ١٦٪، رآه نيوتن فارقًا كبيرًا
واستنتج منه أن الفرض خاطئ، وطرح الفكرة تمامًا من ذهنه طوال الستة عشر عامًا التالية.
وفي يونيو (حزيران) عام ١٦٨٢م دارت في اجتماع الجمعية الملكية للعلوم مناقشة حول قياس
بيكارد Picard لنصف قطر الأرض، انتبه نيوتن إلى أن
نصف القطر الحقيقي هو ٣٩٥٦ ميلًا، وليس كما اتخذه في حساباته الماضية، ومن ثم أعاد تلك
الحسابات فور عودته إلى كمبردج على أساس تصويب قيمة نصف قطر الأرض، فانتهى من حساباته
إلى أن القمر يتم دورته في سبعة وعشرين يومًا، بفارق أكثر قليلًا من ١٪، أي يمكن
إهماله، فيمكن إذن استصواب توحيد قوة الجاذبية السماوية والأرضية.
والآن على نيوتن أن يضع في اعتباره أن الأرض والشمس والكواكب ليست في الواقع نقاطًا
رياضية، وأن الكواكب تدور في أهليلجات وليس في دوائر، وأن سرعة دوران الكوكب ليست
مطردة، ولمواجهة هذا المطلب نجح نيوتن في إثبات واحد من أجمل فروضه أو نظرياته، وينص
على معاملة الجسم الكروي كما لو كانت كل كتلته في مركزه، وجاذبيته على أية نقطة خارجة
عنه تحسب على هذا الأساس. وبهذا الفرض نجح نيوتن في إثبات أن الجسم المتحرك حول مركز
ينجذب نحوه تبعًا لقانون التربيع العكسي الذي يعني أن الطاقة أو القوة تتناقص تبعًا
لمربع البعد عن المصدر، وأن هذه صيغة تصف الحركة الإهليليجية حول المركز من حيث هو
بؤرة، وبهذا ثبتت قوانين كبلر، وثبت فرض الجاذبية العام، أعظم إنجازات العقل الفيزيائي
في تلك المرحلة، والذي ضم الأرض والسماء معًا في خضوعهما لقانون واحد من آيات العلم
الحديث.
وقد استأنف نيوتن أبحاثه في الجاذبية، بأن عمل على تطبيق قوانينه لتفسير ظواهر معينة
راجعة إلى تأثير جاذبية الأجسام السماوية على الأرض، مثل ظاهرة المد والجزر، وطبقها
أيضًا لتفسير الانحرافات الصغرى في حركة الكواكب خصوصًا حركة القمر، والتي تعود إلى أن
كل جسم ينجذب إلى حد ما بواسطة كل الأجسام الأخرى في النظام الشمسي، هذا بالطبع بخلاف
إنجازات أخرى جمة لنيوتن، أبرزها اهتمامه بالبصريات النظرية والتجريبية، وعن طريق
منشوره الشهير حلل الضوء إلى أطيافه السبعة، وصنع أول مقراب «تلسكوب» عاكس يعالج الزيغ
الضوئي الناجم عن العدسات المستخدمة في المقاريب الأخرى. وقد فكر في هذا المقراب كثيرون
قبل نيوتن أبرزهم الفيلسوف الفرنسي ديكارت، والصورة البدائية التي صنعها نيوتن وأهداها
إلى الجمعية الملكية للعلوم قد تطورت مع الأيام، حتى وصلت في القرن العشرين إلى مقراب
عملاق تكلف ملايين الدولارات ووُضع على جبل بالومار. ثم شهد هذا القرن المقاريب
الإلكترونية التي تضاعفت قدراتها بصورة مبهرة، كالمقاريب الفلكية المحمولة على أقمار
صناعية تدور في مدارات حول الأرض كمقراب هابل ومقراب شاندرا، وهذا الأخير بدأ إطلاقه
في
التاسع والعشرين من يوليو عام ١٩٩٩م، في ذكرى مرور ثلاثين عامًا على هبوط الإنسان (نيل
أرمسترونج) على سطح القمر.
على أن الإنجاز النيوتُني الذي قام في نسقية العلم الحديث بدور يُقارن بدور فرض
الجاذبية، بل يفوقه، إنما يكمن في الجهاز الرياضي المهيب اللازم للقوانين الفيزيائية،
وقد أحرز كمالًا يحتذى على يد نيوتن. كان ديكارت قد ابتكر الهندسة التحليلية لاستخدام
الجبر في حل المشاكل الهندسية، كوسيلة لحساب الكميات في رسوم جاليليو التخطيطية لحركة
الأجسام. وقد اهتم نيوتن بكلا الجانبين ليكسبهما دقة أعظم، ومثلما ساهم في تطوير
ميكانيكا جاليليو، ساهم أيضًا في تطوير الهندسة التحليلية، وفروع أخرى من الرياضيات.
ويتقدم إنجازه الأعظم وهو اختراع أداة رياضية فعالة احتاجتها أفكاره الفيزيائية
اللامعة، إنها حساب التفاضل والتكامل، وإن لم يعطه هذا الاسم، بل أسماه طريقة الدفق
Fluxional Method.
٢٦
فلكي يحسب نيوتن قوة الجاذبية المبذولة من جسم كروي صلب على نقطة خارجة، كان عليه
أن
ينظر إلى الجسم الكروي وكأنه مؤلف من عدد كبير جدًّا من جسيمات لا متناهية الصغر لدرجة
أن كلًّا منها يمكن معاملته بصورة تقريبية كما لو كان مجرد نقطة، وهي تؤلف معًا قوى جذب
صغيرة جدًّا يبذلها كل من الجسيمات اللامتناهية الصغر على النقطة الخارجية محل البحث،
ولكي يعين نيوتن الحد الذي يمكن أن تقترب منه محصلة القوة كان عليه أن يجعل الجسيمات
أصغر وأصغر، وعددها أكبر وأكبر، وهذا ما يجب تسميته بمشكلة التكامل. ولننظر الآن إلى
مشكلة تعيين مسار جسم انطلق من مدفع بسرعة مبدئية معينة، ثم تُرك بعد ذلك ليتحرك تحت
تأثير مركز جاذبية، لنلاحظ أن المبادئ الديناميكية المطلوبة هي تمامًا تلك التي
استعملها جاليليو في تعامله مع مسار قذيفة المدفع. غير أن المشكلة الآن أكثر تعقيدًا،
فمع جاليليو كانت القوة المؤثرة على القذيفة ثابتة في المقدار وفي الاتجاه خلال العملية
كلها، أما مع نيوتن، فإن القوة تتغير باستمرار في المقدار، بسبب دخول فرض الجاذبية؛
لذلك كان عليه أن يتعامل مع سرعات تختلف من لحظة إلى أخرى، والحق — كما يقول برود —
أننا نطلب في كل مشكلة ديناميكية مفهومي السرعة اللحظية والعجلة اللحظية. وواضح أن هذه
المشكلة في غاية الصعوبة والتعقيد، وإذا حصرنا أنفسنا تمامًا في لحظة منفردة، فإن
الجسيم لا يتحرك على الإطلاق، وإذا أخذنا تاريخ الجسيم خلال أية فترة زمنية مهما كانت
قصيرة، فليس ثمة اتجاه واحد معين ومقدار واحد معين يمكن أن نعزوه لسرعة هذا الجسم … مثل
هذه المفاهيم وقوانينها هي ما عرَّفه نيوتن وحدده في نظريته عن التفاضل أو حساب
اللامتناهي في الصغر أو بمصطلحه طريقة الدفق. بالطبع كان ثمة جهود في هذا العلم من
قبله، لكنها مشتتة ومبعثرة، ونيوتن هو الذي جمعها في نسق موحد على صورة علم رياضي دقيق
هو حساب التفاضل والتكامل، ربما ينازعه في هذا الشرف معاصره الفيلسوف الألماني
جوتفريد فيلهلم ليبنتز Leibniz, W. G.
(١٦٤٦–١٧١٦م)، وبلا جدال كان في يد نيوتن منهاجًا عامًّا يمكن بواسطته حساب معدلات
التغير في السرعة، ولم يكن العلماء من قبل يعرفون أن مشكلة تعيينها عكس مشكلة التفاضل،
نيوتن هو الذي أدرك كل هذا ورسم السبل الدقيقة للخوض في غماره.
والآن يبدو أمامنا بوضوح مدى الاتحاد الكامل، أو بالأحرى المتكامل، بين الفيزياء ولغة
الرياضيات، وكانت المعادلات التفاضلية هي التي حسمت القول في انسحاب الضرورة الرياضية
إلى حتمية فيزيقية أو علمية.
كان القرن السابع عشر الذي شهد في بدايته بيكون وفي نهايته نيوتن، عصر ازدهار وتوقد
العبقرية الإنجليزية، تواترت عبره إسهامات الإنجليز لتشييد النظام الديمقراطي للحكم
وتشييد نسق العلم الحديث. وبالطبع يتربع نيوتن على القمة، تركزت جهود الفيزيائيين بعده
على تأكيد وتأمين وإكمال نسقه. خفت حدة الإبداع في القرن الثامن عشر، والخطوات الهامة
التي تمت فيه لم تكن إنجليزية، انتقلت ساحة الإنجازات العلمية اللافتة إلى القارة
الأوروبية، حتى حساب التفاضل والتكامل توقف في إنجلترا، بينما عمل علماء أوروبا على
تطويره ودفعه للأمام.
ربما يستوقفنا سيمون بيير دو لابلاس S. P. De Laplac
الملقب بنيوتن فرنسا بسبب أعماله الهامة في كتابه «حركة الأفلاك السماوية»، فضلًا عن
تأسيسه حساب الاحتمال بكتابيه «مقال فلسفي في الاحتمال»، و«النظرية التحليلية
للاحتمال».
تعرض لابلاس لمشكلة ضخمة هي الرجوع في حركة الكواكب، أي إنها لا تتحرك بشكل منتظم
تمامًا. وقد أشار تلميذ نيوتن النجيب إدموند
هالي
E. Hally (١٦٥٦–١٧٤٢م) إلى أن المشتري وزحل خلال حوالي تسعمائة عام يتأخر
أحدهما عن الآخر، ثم يعود فيسبقه، كأن بينهما سباقًا يحتلان فيه أماكن غير الأماكن
المنتظرة، وقد أحس نيوتن نفسه بالقلق من هذه الظاهرة؛ مخافة أن يصطدم الكوكبان ببعضهما
في وقت ما، مما يؤدي إلى انهيار الكون. لم يتوصل العلماء إلى حل جذري لمشكلة سلوك ثلاثة
أجسام تتجاذب فيما بينها حسب قانون التربيع العكسي. غير أن هذا لم يمنع لابلاس من
معالجة موضوع أعقد هو تجاذب كافة الكواكب فيما بينها وبين الشمس، وفي هذه المعالجة أوضح
أن الرجوع في حركتي المشتري وزحل لا يتراكم، بل يعود فيصحح نفسه تدريجيًّا. وفي هذا
تأمين معقول لمستقبل الكون، وكأن نظرية لابلاس جاءت كحصن أمان لحسن سير آلة الكون
النجومية، أما التخبط وعدم النظام المشاهد فهو شيء ثانوي يصحح نفسه تلقائيًّا، فكتب
لابلاس يقول:
إن الحركة غير المنتظمة لهذين الكوكبين كانت تبدو أول الأمر، ولا تفسير لها
من وجهة نظر قانون الجاذبية العام، أما الآن فإن هذه الحركة ذاتها تعتبر أحد
الأدلة الرائعة على سلامته، هذه صورة مميزة للنظام الحق للطبيعة. إن كل صعوبة
تبرز أمام هذا الكشف الرائع تعود فتصبح دعامة من الدعامات القوية التي تبرهن عليه.
٢٧
ومن أمثال هذه الصعوبات التي عارضت نظرية نيوتن في البداية ثم عادت لتثبتها انحرافات
في مسار كوكب أورانوس، فتقدم جون آدامز من إنجلترا وأوربان لوفرييه من فرنسا بافتراض
عن
وجود كوكب وراء أورانوس يؤثر على حركته الخاضعة لقانون الجاذبية. وفي عام ١٨٤٦م اكتشف
الفلكي الألماني جاله بمقرابه هذا الكوكب وهو نبتون؛ ليكون تأكيدًا قويًّا على صحة
النسق النيوتوني؛ لهذا لا نلوم علماء ذلك العصر؛ إذ استقر في روعهم أن نيوتن اكتشف
حقيقة هذا الكون، وصاغها صياغات رياضية دقيقة، فكان نسق الفيزياء الرياضية إطارًا لمجمل
نسق العلم بهذا العالم.
وكان من الطبيعي أن تندرج سائر علوم المادة كالكهربية والمغناطيسية وغيرها في هذا
النسق، وتهدف جميعها إلى وضع قوانين تضاهي قوانين نيوتن في دقتها الرياضية الفائقة
ونجاحها وصدقها الذي بدا يقينيًّا، وتواترت جهود العلماء لتنعش هذا الأمل. كان
تورتيشللي في إيطاليا قد أثبت أن للهواء ضغطًا يقل بازدياد الارتفاع ويمكن إخضاعه
للتكميم الدقيق. ووضع بويل القانون الرياضي الخاص بالعلاقة العكسية بين ضغط الغاز
وحجمه. وأظهر دالتون الأساس الفيزيقي في سلوك العناصر الكيميائية، بينما أظهر همفري
دافي أساسه الكهربي. أما فاراداي فقد أوجد الرابطة بين الحركة الآلية وحدوث التيار
الكهربي، ثم استطاع جيمس كلارك ماكسويل توحيد الظواهر الكهربية والمغناطيسية والضوء في
معادلات تفاضلية من أعظم إنجازات العقل الفيزيائي، أثبتت أن جميع صور الطاقة متطابقة
أصلًا.
وقد يبدو الطريق ميسرًا معبدًا أمام الكيمياء، قرينة الفيزياء وأقرب العلوم الإخبارية
إليها، فضلًا عن أنها أعرق المناشط التجريبية للإنسان، فرضت عليه تعامل فرنسيس بيكون
الحي مع المادة واستجوابها، والإنصات لشهادة الحواس بشأنها واستقراء متغيراتها، منذ أن
كان لزامًا عليه في العهود السحيقة تدبير احتياجاته العملية من قبيل الفخار والزجاج
والأصباغ وتقطير الخمور والعطور والأشكال البدائية للعقاقير والأدوية. كانت هذه
البدايات الخام تجريبية، لكنها حرف عملية تفتقر إلى الأساس النظري، ثم اقتربت الكيمياء
من الإطار النظري والمنظومة المعرفية — المهوشة طبعًا — منذ أن استبد بالإنسان القديم
الحلم الجامح بتحويل المعادن الخسيسة إلى ذهب بغية الثراء السريع. وفي سياق الجهد
المشبوب والفاشل لتحقيق هذا الحلم تخلف رصيد هائل من المعارف بشأن طبائع المواد
وتحولاتها، طبعًا مشتت ومبعثر، لكنه منطلق كيمياء جابر بن حيان، وبالتالي السلف
التاريخي للكيمياء الحديثة التي خرجت من أعطاف العلم المعني بتحويل المعادن إلى ذهب
واكتشاف إكسير الحياة الذي يشفي من كل الأمراض — أي علم الخيمياء أو السيمياء Alchemy، مثلما خرج الفلك الرياضي الرائع من أعطاف
علم التنجيم الذي يستكشف طوالع البشر وحظوظهم عن طريق البروج السماوية وحركات الكواكب!
وسبحانه يُخرج الحي من الميت.
التراث الطويل العريض للكيمياء — أو السيمياء — جعل عالمها ملبدًا بكم هائل من
الخرافات والتهاويم والتصورات الخزعبلية، عرقلت طريق الكيمياء للحاق بركب العلم الحديث،
أبرز هذه الأفكار الخزعبلية التي هيمنت على الكيمياء في عصر العلم الحديث فكرة
الفلوجستون
Phlogiston، وهي كلمة إغريقية تعني
النار أو الشعلة أو الاحتراق. والفلوجستون شيء مشترك بين كل العمليات الكيميائية من
احتراق وتكلس واستخلاص الفلزات من خاماتها، ومقدار الفلوجستون في بعض الأجسام قليل وفي
بعضها كثير، وهذه الأخيرة سريعة الاشتعال، وقد تكون النار نفسها مظهرًا من مظاهره تعمل
معه أو على أساسه. قال بهذه النظرية الألمانيان يوشيم
يوهان بيشر
J. J. Becher (١٦٣٥–١٦٨٢م) وتلميذه إرنست جورج شتال
E. G. Stahl وحتى العقد الثامن من القرن الثامن عشر كان
الفلوجستون أساس الكيمياء التي تُدرس بالجامعات،
٢٨ مانعًا إياها من التكميم الرياضي والامتثال للمثل التي تمكنها من اللحاق
بفيزياء نيوتن، حتى جاء أبو الكيمياء الحديثة أنطوان
لوران لافوازييه
Lavoisier (١٧٤٣–١٧٩٤م) فأثبتت له التجارب أن الكبريت والفوسفور
إذا احترقا لا يقل وزنهما؛ لأن الفلوجستون خرج منهما، بل يزيد لأن مقدارًا ضخمًا من
الهواء يثبت أثناء الاحتراق. وانتهى — قبل أن تطيح الثورة الفرنسية برأسه؛ لأنه من جباة
ضرائب الملك — إلى أن هذا يحدث في كل حالة تزيد وزنًا عندما تتكلس أو تحترق. واكتشف
العالم الإنجليزي بريستلي
Priestely (١٧٣٣–١٨٠٤م) أن
الغاز الذي تمتصه المعادن في هذه الحالات هو الأكسجين فانتهى لافوازييه إلى التركيب
الصحيح للهواء، وطرد الكيميائيون الفلوجستون إلى غير رجعة. وكان جوزيف بلاك قد اخترع
في
عام ١٧٥٤م التحليل الكيميائي الكمي وتوالت الإنجازات المشابهة، فانفتح الطريق أمام
الكيمياء فوصلت إلى قوانين رياضية دقيقة تعلو وتعلو، تضاهي قوانين نيوتن وتتكامل معها
في تشييد نسق العلم الحديث.
وكانت علوم الحياة بدورها قد نالت نصيبها من الانتصارات المتوالية في هذا المعمعان
الظافر، وأحرزت إنجازاتها الملموسة، منذ أن ظهر كتاب أندريه فيساليوس عن تركيب الجسم
البشري في نفس العام الذي ظهر فيه كتاب كوبرنيقوس «دوران الكرات السماوية»، عام ١٥٤٣م،
كان فيساليوس آنذاك لم يبلغ بعد عامه الثلاثين، ولكنه بثقة وجرأة يلفت الانتباه إلى
أخطاء جالينوس الذي هيمن على الطب ألف عام، فكأن فيساليوس يعلن الثورة على الطب القديم
ويشق طريقًا جديدًا لعلوم الطب الحديثة يؤكد فيها على التجريب، أو بتعبيره «وضع اليد
في
قلب العمل». أجرى بنفسه الكثير من عمليات التشريح وصنَّف مادته ببراعة وعُني بتزويدها
بالرسوم التوضيحية البديعة والدقيقة. كان فيساليوس بلجيكيًّا، درس الطب في فرنسا،
وعُيِّن أستاذًا له في جامعة بادوا بإيطاليا عام ١٥٣٧م. خلفه في منصبه فابريزي
Fabrizzi فواصل التشريح على الأسس التي أرساها
فيساليوس، وحينما نشر فابريزي عمله عن صمامات الأوردة، كان وليم هارفي قد وصل من
إنجلترا لدراسة الطب في بادوا، تلقف هذه المشكلة ليخرج بكشفه للدورة الدموية، التي كانت
إيذانًا ببدء تملك العلم لناصية الجسم الحي. في ذلك الوقت، كان النمساوي باراسيلسوس
Paracelsus (١٤٩٣–١٥٤١م) الذي عُيِّن أستاذًا للطب
في جامعة بازل بسويسرا عام ١٥٢٦م، يُساهم هو الآخر في ثورة الطب الحديث، جمع المصنفات
الطبية القديمة وأشعل فيها النار أمام طلبته في قاعة الدرس! ليُعلمهم تجاهل الكتب
القديمة والتعامل مع الطبيعة مباشرة. وعلى الرغم من طبعه المتبجح الشرس، ساهم في تحرير
الطب من السحر والسيمياء والتقاليد العتيقة، وعمل على تأسيس طب حديث قائم على كيماويات
من مصدر معدني كالزئبق والأنتيمون، و«كمحصلة لتأثير باراسيلسوس إلى حد بعيد، ارتفع الطب
الكيميائي إلى موقع السيطرة على مجريات الطب في القرن السابع عشر».
٢٩ ومنذ ذلك الحين فصاعدًا والتعاون بين الطب والكيمياء يجري على قدم وساق،
ولعله بلغ ذروة من ذراه مع عالم الكيمياء ذي التأثير الثوري على الطب لوي باستير
L. Pasteur (١٨٢٢–١٨٩٥م)، خصوصًا بكشوفه في نشاط
الميكروبات والبكتريا، التي كان العلم الحديث قد اكتشف عالمها منذ أن توصل أنطون ليفنهوك
A. Leeuvenhoek (١٦٣٢–١٧٢٣م) إلى المجهر
«الميكروسكوب»، وفي هذه الحقبة التي تمثل مرحلة العلم الحديث، أي منذ القرن السادس عشر
حتى نهاية القرن التاسع عشر، توالت إنجازات الفروع المختلفة لعلوم الحياة، كوظائف
الأعضاء «الفيزيولوجيا» والحيوان والنبات والحشرات والبكتريا والكائنات البحرية … إلخ،
فضلًا عن علم الحياة العام أي تاريخ الحياة على سطح الأرض.
أجل شهدت نهايات القرن العشرين أسسًا وصياغات رياضية لنظريات وفروض حيوية، خصوصًا
في
مجالات البيوفيزياء «الفيزياء الحيوية» والهندسة الوراثية وما إليها، فضلًا عن دور
الإحصاء وحساب الاحتمال في المجالات الحيوية، أي حدث الآن تلاقٍ وتعاون بين الرياضيات
وبعض فروع العلوم الحيوية، أما في مرحلة العلم الحديث، بل وحتى منتصف القرن العشرين،
فنجد أن طبيعة الظواهر الحيوية ومستوى التقدم المحرز حال دون الصياغات الرياضية
للنظريات البيولوجية، ولم تستطع العلوم الحيوية بلوغ التكميم الدقيق الذي بلغته العلوم
الفيزيوكيماوية، وما زالت بعض علوم الحياة الوصفية لا علاقة لها بالرياضيات.
ومع هذا اندرجت علوم الحياة في نسق العلم الحديث، وتكاملت مع العلوم الفيزيوكيماوية
في تشييده، وهذا بفضل امتثالها للنموذج الذي هيمن على حركة العلم الحديث، حتى اصطنعته
تمامًا وأكدته نظرية نيوتن، وفرضته كإطار للعلم وللعالم، أي النموذج الآلي الميكانيكي
الحتمي.
وقد كانت الميكانيكية بشكل ما عقيدة وإطار عمل فيساليوس وفابريزي وهارفي وقرنائهم
رواد العلوم الحيوية، نظروا إلى الجسم الحي نظرة ميكانيكية، أي بوصفه آلة ميكانيكية،
تنامت حتى أصبحت مشتقة من النظرة الفيزيائية؛ لترتد كل ظواهر الحياة في النهاية إلى
مبدأي الفيزياء: المادة والحركة، ويمكن تفسير كل ظواهر الحياة بما فيها الإحساس والوعي
والتفكير على هذا الأساس، إذن فما أيسر أن تندرج العلوم الحيوية مع العلوم
الفيزيوكيماوية الأكثر منها عمومية، في نسق العلم الحديث ليبلغ كماله وشموليته، وتبلغ
العلوم الحيوية بدورها المنزلة العلمية بعد أن أصبح العلم عنوان النجاح المعرفي وطريقه
الوحيد.
وكشأن الفلوجستون، نجد مقولتين حلقتا في أجواء العلوم الحيوية، وكان التخلص منهما
يعني الامتثال الكامل لمثاليات النسق العلمي والانخراط تمامًا في صفوفه؛ لأنهما ناوأتا
التفسير الميكانيكي، ألا وهما:
أما افتراض القوى الحيوية، فيعني أن الكائن الحي مزود «بقوة حيوية» تنظم المظاهر
الحيوية فيه وأداءه المتكامل لوظائف الحياة، وتحرره من المؤثرات الفيزيوكيماوية، مما
يبرر — مثلًا — احتفاظ الكائن الحي بدرجة حرارته ثابتة في البيئة الباردة والبيئة
الحارة على السواء. وهذا يعني انقطاعًا بين الظواهر البيولوجية والظواهر الفيزيوكيماوية
وأن قوانين الأولى تختلف في طبيعتها عن قوانين الثانية، مما يعني اختلاف منهج العلوم
البيولوجية عن منهج العلوم الفيزيوكيماوية؛ ليكون أقرب شبهًا بمنهج التاريخ، على أساس
أن العنصر الزماني «العمر» له أهمية جوهرية في الجانبين، بخلاف الفيزيوكيمياء التي لا
تأبه بماضي مادة بحثها، وتمسك أنصار القوى الحيوية بأن منهج الاستبطان الذاتي — أي تأمل
الذات لما يحدث داخلها أو في باطنها — يمكن أن يفيدنا في إدراك القوى الحيوية، مما يوضح
كيف تتسع الشقة بينهم وبين طريق العلم الحديث.
٣٠ ويُعد جورج كوفييه
G. Cauvier
(١٧٦٩–١٨٣٢م) من أبرز أنصار فرض القوى الحيوية، هاجم الفيزيولوجي «علم وظائف الأعضاء»
ورآه عبثًا لا يجدي! لأن فصل العضو عن الجسم وعن إطار عمل القوة الحيوية يعني إفساد
طبيعته وإرجاعه إلى نظام المادة الميتة، وبدا له أن الأهم من وظيفة العضو وفائدته أن
نعرف شكله وتكوينه، من هنا كان كوفييه من مؤسسي علم التشريح المقارن.
كثيرون من علماء الحياة رفضوا مفهوم القوى الحيوية، لكن أبا الفيزيولوجي الحديث
كلود برنار
C. Bernard (١٨١٣–١٨٧٨م) هو الذي أطاح
تمامًا بمفهوم القوى الحيوية، حين وضع بدلًا منه مفهوم البيئة الداخلية
Inner Environment ليفسر قيام الجسم العضوي
بوظائفه كوحدة منسجمة، ولا يزال هذا المفهوم من أسس الفيزيولوجي الحديث، وكما أوضح
برنار، الجهاز الوقائي — أو جهاز المناعة بمصطلحات القرن العشرين — في البيئة الداخلية
العضوية الباطنة الخاصة بالإنسان والحيوانات ذوات الدم الحار، هو الذي يجعلها تبدي
شيئًا من الاستقلال عن ظروف البيئة الخارجية وعواملها من ماء وحرارة وهواء وضغط، وظواهر
الحياة تنشط أو تفتر تبعًا لهذه العوامل، لكن الحيوانات الدنيا لا تملك استقلالًا
حقيقيًّا عن البيئة الخارجية، وعلى أساس مفهوم البيئة الداخلية أكد برنار أن «الكائن
الحي مجرد آلة مبنية بصورة ما من شأنها أن توجد اتصالًا بين البيئتين الداخلية والخارجية»،
٣١ وأننا نستطيع أن نحلل الآلة الحية كما نحلل آلة جامدة لكل جزء من أجزائها
دوره في الإطار المتكامل، أي إننا لن نعرف خواص المادة الحية إلا بنسبتها لخواص المادة
الجامدة، فوجب أن تكون العلوم الفيزيوكيماوية الأساس الضروري لعلوم الحياة، هكذا
استكملت علوم الطب والأمراض علميتها واندرجت في نسق العلم الحديث.
أما الغائية في علم البيولوجيا العام، الذي يدرس ظاهرة الحياة على سطح الأرض، فقد
أطاحت بها نظرية التطور لتشارلز دارون Ch. Darwin
(١٨٠٩–١٨٨٢م) حين وضعت تفسيرًا آليًّا علِّيًّا لنشأة الكائنات الحية وتطورها وبقائها
واندثارها، ووضعت تصنيفًا لها تبعًا لدرجة التعقيد بحيث تبدأ من الأميبا ذات الخلية
الواحدة ثم تنتقل من النوع إلى النوع الأقرب إليه شبهًا، تشريحيًّا وفيزيولوجيًّا، حتى
ننتهي إلى تسلسل أو ترتيب منظم يقف الإنسان على قمته، تشكل عبر ملايين السنوات، عن طريق
آلية التكيف مع البيئة والصراع من أجل الحياة ليكون البقاء للأصلح، وهذا من شأنه أن
يغلق جميع أشكال الحياة في دائرة من التسلسل العلي، يفضي ماضيها إلى حاضرها عن طريق
عوامل آلية أولًا وأخيرًا، لا غائية، كما تقضي نواميس نسق العلم الحديث.
فرض التطور طرحه كثيرون قبل دارون، أبرزهم الطائفة الإسماعيلية «الموسوعية» المعروفة
باسم «إخوان الصفاء وخلان الوفاء» في العهد الذهبي للحضارة الإسلامية، وأيضًا جد دارون،
الطبيب إرازموس دارون (١٧٣١–١٨٠٢م) ذو الاهتمامات والإنجازات العلمية، خصوصًا في مجال
الأرصاد الجوية، كتب قصيدة بعنوان «معبد الطبيعة» ترسم صورة لتطور الإنسان عن بقع
مجهرية تشكلت في البحار في العهود السحيقة، هذا بخلاف معاصر تشارلز دارون جان لامارك
J. Lamarck (١٧٤٤–١٨٢٩م) الفرنسي الذي وصل من
أبحاثه التجريبية بصورة مستقلة إلى نتائج متشابهة. وعلى أية حال، فإن دارون قد أتى بكم
هائل من الشواهد التجريبية والأسانيد النظرية لفرض التطور، بحيث إن نظريته «هي النظرية
الوحيدة في ميدانها — وحتى الآن — التي تنسجم مع الفيزياء، بل هي قائمة عليها بلا
تحفظات ولا إضافات، إنها تضمن آخر الأمر، ما نُسميه بالانسجام الإبستمولوجي لعلم
الحياة، وتهب هذا الأخير مكانة بين علوم الطبيعة الموضوعية»
٣٢ في نسق العلم الحديث، وأمامنا الآن ثلاث حجج لهذا:
- (١)
ظاهرة الحياة على الأرض، كانت في وقت ما مستحيلة، وذلك في العصور الغابرة
حين كانت الحرارة مرتفعة والقشرة لم تبرد بعد … إلخ، إذًا فلا بد أن الحياة
قد تشكلت عن المادة اللاعضوية.
- (٢)
التقدم الفعلي للعلوم البيولوجية عبر الخطوط الفيزيوكيماوية يبرز صحة هذا
التفسير.
- (٣)
أي نمط آخر من التفسير سيكون خارج نطاق العلم الطبيعي.
٣٣
هكذا استوعب نسق العلم الحديث — بمثالياته الصارمة — سائر علوم الحياة.
ولم تبق إلا الدراسات الإنسانية لتجتهد هي الأخرى في سعيها نحو اقتفاء مثاليات نسق
العلم الحديث ومبادئه، عساها أن تندرج فيه وتنال نصيبها من نجاحه المطرد المتوالي. وهذا
الموقف بمبرراته ودوافعه وطموحاته، يجمله الفيلسوف الإنجليزي المعني بإشكاليات الدراسات
الإنسانية، أشعيا برلين (١٩٠٩–١٩٩٨م) يجمله على النحو التالي:
والآن إذا كان نيوتن قادرًا من حيث المبدأ على تفسير كل حركة وكل مكون من
مكونات الطبيعة الفيزيقية في حدود عدد صغير من القوانين ذات العمومية المطلقة،
إلا أنه يناقض العقل الافتراض القائل: إن استخدام مناهج مماثلة لنفسر الأحداث
والوقائع الاجتماعية والسيكولوجية؟! صحيح أننا نعرف عنها أقل كثيرًا مما نعرفه
عن الوقائع الفيزيوكيماوية، ولكن هل ثمة اعتراض من حيث المبدأ على أننا يمكن أن
نكتشف يومًا ما قوانين قادرة على أن تعطينا تنبؤات في نفس دقة تنبؤات العلم
الطبيعي؟ إذًا لا بد من العمل على كشف هذه القوانين بواسطة بحوث في الإنسان على
قدر كافٍ من الحذر والخيال.
٣٤
وكان هذا هو معتقد العقلانيين والتنويريين في القرن الثامن عشر، هولباخ ودولامبير
ولامتري وكوندرسيه، إنهم أكدوا إمكانية الرياضة الإنسانية والفيزياء الاجتماعية
وفيزيولوجيا كل شعور أو اتجاه أو نزوع، في نفس دقة وجدوى أصولها في العلوم الطبيعية،
وأن الميتافيزيقيين ضحية الوهم والخداع، فلا شيء في الطبيعة غائي، وكل شيء خاضع للقياس
والتكميم، وفي الإجابة على الأسئلة التي تؤرقنا سيشرق علينا الفجر بنور العلم،
٣٥ بل إن أصحاب الدراسات الإنسانية خصوصًا النفس والاجتماع، نازعهم الحلم
الطوباوي بالظفر بمنزلة تساوي منزلة الفيزياء، بمناهجها الرياضية وتطبيقاتها القوية،
وربما الظفر بمنزلة تفوق الفيزياء؛ وذلك عن طريق إعادة تشكيل البشر والمجتمعات.
٣٦
كان هذا هو الحلم الذي أينع طوال القرن الثامن عشر، حتى عرف كيف يتلمس طريقه إلى
أرض
الواقع خلال القرن التاسع عشر. وأبرز من أسهموا في إنجاز هذا الفرنسي أوجست كونت A. Comte (١٧٩٨–١٨٥٧م)، رأى نسق العلم يستوعب
الظواهر الكونية جميعًا ما عدا الإنسان، فبدا له العلم بالمجتمع ضروريًّا لكي يكتمل
النسق العلمي، كان تلميذًا للواحديين الماديين والتنويريين كوندرسيه وسان سيمون، فبدأ
من قضيتهم القائلة: إن الإنسان ليس فريدًا ولا يحتاج لمعالجة فريدة، بل هو قاطن في
مملكة الحيوان والنبات، يخضع مثلها لقوانين عامة، حين نكتشفها ستقودنا إلى الهناء
والتجانس، ومن أجل كشفها دعا كونت إلى إنشاء الفيزياء الاجتماعية التي تدرس المجتمع
بمنهج العلم الحديث، فتقتصر على تفسير الظواهر بفضل ما بينها من علاقات ثابتة لتماثلها
وتعاقبها، إنها الطريقة الوضعية، لا اللاهوتية ولا الميتافيزيقية، طريقة العصر الحديث
الوضعي، إن الفيزياء الاجتماعية تدرس الظواهر الاجتماعية، تمامًا كما تدرس العلوم
الأخرى الظواهر الفلكية أو الفيزيائية أو الكيميائية أو البيولوجية. وقسَّم كونت
الفيزياء الاجتماعية إلى قسمين، هما: الديناميكيا الاجتماعية التي تدرس المجتمعات في
حركيتها وتقدمها، والاستاتيكا الاجتماعية التي تدرس المجتمعات في حالة ثباتها
واستقرارها خلال مرحلة معينة من تاريخها. ولنلاحظ أننا إزاء حدود الميكانيكا والفيزياء
الرياضية، وكونت بطبيعة الحال يقر أن الرياضيات على رأس نسق العلم وأنها النموذج الأمثل
الذي ينبغي أن تحتذيه كل دراسة لكي تصير علمًا. لكن كونت اعترف فيما بعد بأن الظواهر
الاجتماعية أكثر تعقيدًا؛ لذلك فإن تطبيق المنهج الرياضي في دراستها سيكون محدودًا —
في
الوقت الراهن على الأقل، وقد يعطي فقط مظهرًا أو وهمًا علميًّا، ولن يصل بالاجتماع إلى
قوانين دقيقة وحتمية؛ لذلك نبذ كونت مصطلح «فيزياء اجتماعية» واستقر على مصطلح علم
الاجتماع (سوسيولوجي Sociology). وجاء من بعده
إميل دوركايم E. Durkheim (١٨٥٨–١٩١٧م) ليؤكد أن
علم الاجتماع قائم بذاته ويدرس ظواهر لا يشاركه بها أي علم آخر، وعليه أن يبحث عن علل
ظواهره، وراح يؤكد أن كل ظاهرة لها علة واحدة، وليس هناك غائية أو هدف، ولكي تكتمل
الإحاطة بالظاهرة الاجتماعية علينا أن نحدد علتها وأيضًا وظيفتها، فقد تمسك بأن كل
ظاهرة اجتماعية لها وظيفة ما، تمامًا كالوظيفة الحيوية للعضو؛ لأنه كان مولعًا بإدخال
المماثلة البيولوجية في علم الاجتماع، بمعنى النظر إلى المجتمع كما لو كان كائنًا
عضويًّا مترابط الأعضاء في وحدة منسجمة.
وإذ نعود إلى التقدم الذي أحرزته علوم الحياة والدفعة التي أعطاها كلود برنار
للفيزيولوجي، نجد أن ذلك القرن الخصيب — التاسع عشر — يشهد كشوفًا في فيزيولوجيا الجهاز
العصبي خصوصًا مع دراسات الألماني يوهانس
مولر
J. Muller (١٨٠١–١٨٨٥م) ومبدئه القائل إن كل عصب ينتج نوعًا واحدًا فقط من
الإحساسات بصرف النظر عن المؤثر الحسي ذاته. وبتطوير المناهج المعملية الملائمة، أرسى
رجال جملتهم ألمان، أمثال فيبر
Weber، وهلمهولتس
Helmholtz، وفخنر
Fechner، وفونت
Wundt أسس علم محدد
للسيكوفيزيقا، أصبح فيما بعد علم النفس الفسيولوجي. وانتشرت هذه الحركة سريعًا من
ألمانيا إلى إنجلترا وأمريكا، حتى تبلورت مع فيلسوف أمريكا الرائد وليم جيمس
W. James (١٨٤٢–١٩١٠م) في كتابه «مبادئ علم النفس»
الصادر عام ١٨٩٠م، وفيه يزهو بأنه يتناول علم النفس كعلم طبيعي،
٣٧ وهذا كتاب يضع نهاية لمرحلة وليس فاتحة طريق،
٣٨ نهاية المرحلة التجريبية الحسية لعلم النفس التي أنجزها القرن التاسع عشر
كانت ضرورية، لكنها بدائية أو مبدئية تغفل تميز الظواهر النفسية، وبوضع هذا التميز في
الاعتبار نضجت علمية علم النفس في القرن العشرين، متمثلة في مدارس عديدة، أبرزها
القصدية والجشتلط وتحليلية فرويد وأشياعه وسلوكية واطسن وسكينر وقرنائهما، وأخيرًا علم
النفس المعرفي في الثلث الأخير من القرن العشرين. ولا شك أن ميراث العلم الحديث في
القرن التاسع عشر كان مقدمة ضرورية.
ولعلنا لاحظنا أن تطور العلم الحديث وتقدمه في مساره الواعد كان من زاوية ما عملية
تخلص متوالٍ من مفاهيم وكيانات لا علمية، منذ مفهوم الحركة الكينماتيكية المستقلة عن
أي
قوة أو مؤثر حتى الفلوجستون والقوى الحيوية والغائية … وبالمثل تخلص علم النفس تباعًا
من مفاهيم تعرقله كعلم وتعوق طريقه إلى نسق العلم الحديث، من قبيل مفاهيم الروح والأنا
الترانسندنتالية والوعي التحتي والنفسي الكلية وما قبل الشعور والإدراك اللاواعي
والجوهر العقلي. انتهى أيضًا مفهوم «القوى العقلية» الرديف السيكولوجي لمفهوم «القوى
الحيوية» بكل بواعثه الكامنة في التشبث بالجهل المريح والبُعد عن نسق العلم الحديث
بمثالياته الصارمة، هجره علماء القرن التاسع عشر هجرانهم لمفهوم القوى الحيوية، وأيضًا
تبتلًا للتصور الميكانيكي الحتمي. واضطلع يوهان
هربارت J. Herbart (١٧٧٦–١٨٤١م) بمحاولة لإقامة علم نفس يمكن أن يكون علم
ميكانيكا العقل، قائم على منهج الاستبطان (أي تأمل الفرد لذاته أو حياته الباطنية
كوسيلة لاستكشاف النفس وإقامة علم النفس)، ويستعين ببعض الفروض الفلسفية عن ماهية العقل
وإمكانياته وببعض القوانين الرياضية. وكان هدف هربارت من هذا الجهاز المعقد هو إثبات
أنه مهما كان استقلال العقل عن المادة، فإن له هو الآخر طبيعة ميكانيكية، بلغت مثل هذه
الجهود نضجها مع أبحاث العالم الروسي إيفان بافلوف I. Pavlov (١٨٤٩–١٩٣٦م) في أنشطة الجهاز العصبي في الإنسان
والحيوان عن طريق آلية ردود الأفعال الشرطية المنعكسة التي تنطبق في الإنسان والحيوان
على السواء. فأرسى بافلوف أسس علم النفس الحيواني، وانزاحت تمامًا فرضية ديكارت بأن
الحيوان آلة، بينما للإنسان الجوهر العقلي والإرادة الحرة. لقد أصبح الكل سواء في خضوعه
لمد العلم الحديث والانضواء في أطر نسقه العظيم.
إن علم الاجتماع هو أكثر فروع العلوم الإنسانية عمومية، يكاد يماثل وضع الفيزياء
بالنسبة لنسق العلم ككل، فهو يتناول النسق الاجتماعي نسق الأوضاع الإنسانية حيث تتفاعل
شتى العوامل ككل متكامل، بينما علم النفس هو الأكثر خصوصية وجزئية؛ إذ يبحث سلوك الفرد؛
لذلك يقال: إن علمي الاجتماع والنفس هما قطبا العلوم الإنسانية أو القوسان اللذان
يقوسانها، وإلقاء الضوء على نشأتهما الناضجة في القرن التاسع عشر يوضح كيف انفتح الطريق
أمام العلوم الإنسانية بمختلف فروعها لتلحق بمسيرة العلم الظافرة. وتحتل مواضع في نسقه
وتتفتح أكمامها العلمية بريِّ إبستمولوجيته، وقد شهد القرن التاسع عشر أيضًا — بخلاف
القطبين الكبيرين النفس والاجتماع — نشأة فروع أخرى من العلوم الإنسانية، كعلم الاقتصاد
على يد آدم سميث، ثم طريقه الجديد مع كارل ماركس، واستقام جذع علوم السياسة ومنها
الاقتصاد السياسي، وأصبحت الجغرافيا علمًا دقيقًا منضبطًا يستعين بالرياضيات في بعض
فروعه، واستحدثت مناهج دقيقة وأكفأ للتأريخ وللكشف عن آلية التاريخ الكبرى … إلخ. وصحيح
أن العلوم الإنسانية لم تحرز نفس درجة التقدم التي أحرزتها العلوم الطبيعية، وإلى حد
يمثل مشكلة ملحة سنبحثها في الفصل السادس، لكنها أثبتت ذاتها كعلوم منتمية لنسق العلم
وانفتح أمامها طريقه الواعد بمزيد من التقدم دائمًا.
ومن الناحية الأخرى استطاع نسق العلم الحديث أن يستوعب قوانين وفروض ونظريات تحكم
ظواهر هذا الوجود، سواء فلكية فيزيوكيماوية أو بيولوجية أو إنسانية.
ثالثًا: إبستمولوجيا العلم الحديث
إبستمولوجيا العلم الحديث، أي نظرته لطبيعة المعرفة العلمية ومسلماتها وحدودها
وأهدافها … كانت منبثة خلال كل سطور الجزء السابق من هذا الفصل، ونحتاج فقط لبلورتها
وتعيينها لوضع النقاط على الحروف. فقد اتضح أمامنا كيف انتظم العلم الحديث نسقًا،
والنسقية تعني أن لكل مكون من المكونات موضعه، وفقًا لعلاقات منطقية.
هنالك أولًا الرياضيات، إنها تاج العلم الحديث وأقنومه رمزه المبجل، تتبارى العلوم
في
الاقتراب منها والتسلح بلغتها، وتأمل أن تبلغ ما بلغته الفيزياء في هذا. على أن العلوم
الرياضية هي علوم صورية Formal Sciences تُعنَى بصورة
الفكر دون محتواه، قالب بحت يملأه التطبيق بالمضمون، إنها ملكة العلوم والمبحث الرفيع
المترفع عن شهادة الحواس ولجة الواقع والوقائع، فلا تغوص فيه وليس مطلوبًا منها أن تأتي
بخبر عنه. والرياضيات تتلوها العلوم
الإخبارية Informative Sciences وهي العلوم التجريبية التي تأتينا بالخبر عن الواقع. وقد
رأينا كيف انتظمت في ثلاث مجموعات كبرى هي العلوم الفيزيوكيماوية، ثم الحيوية، ثم
الإنسانية. هذا التدرج المنطقي تبعًا لدرجة عمومية موضوعها. المقصود بالعمومية generality سعة المجال الذي يحكمه العلم المعني،
ودرجة العمومية تتناسب طرديًّا مع درجة البساطة، أي عكسيًّا مع درجة التعقيد. والمقصود
بالتعقيد كثرة المتغيرات والعوامل الفاعلة؛ لهذا كانت الفيزياء في المقدمة، قمة العلوم
الإخبارية. فموضوع الفيزياء الكلاسيكية المادة في الزمان والمكان، مجمل عالم الظواهر،
مجال شتى العلوم الإخبارية، فبدت قوانين الفيزياء كإطار لهذا الكون، لعالم العلم،
قوانين الفيزياء هي الأكثر عمومية، تنطبق على مجمل موضوعات العلم، فلا بد وأن تسلم
بمسلماتها كل فروع العلم الأخرى، ما دامت تضطلع بالإخبار عن هذا العالم.
وينتقل العلم إلى المجموعة الثانية، مجموعة العلوم الحيوية التي تدرس موضوعًا أعقد
من
مجرد المادة. إنها المادة التي أضيفت إليها القدرة على القيام بوظائف الحياة، فلا بد
وأن نضيف القوانين والفروض العلمية المختصة بظاهرة الحياة ووظائفها. وكما أوضح داعية
الفلسفة العلمية، العالم الفيزيائي هانز
رايشنباخ
H. Reichenbach (١٨٩١–١٩٥٣م) الفيزياء — كما نرى — ليست علمًا موازيًا
للبيولوجيا، بل علمًا أكثر أولية يحكم حركة المادة بأسرها، بينما لا تحكم البيولوجيا
إلا قطاعًا محددًا من المادة هو المادة العضوية الحية فحسب، لكن قوانين الفيزياء تشمل
المادة الحية وغير الحية على السواء، بينما تقتصر البيولوجيا على دراسة تلك القوانين
التي تسري مع القوانين الفيزيائية على الكائنات الحية. وبالتالي ينبغي أن تلحق القوانين
البيولوجية بالقوانين الفيزيائية حتى تكتسب دقتها وعموميتها. ويساعد البيولوجيا على هذا
أنها لا تملك استثناءً للقوانين الفيزيائية؛ فالجسم الحي يسقط كالحجر تمامًا ولا يمكنه
أن ينتج طاقة من لا شيء،
٣٩ والعمليات الكيميائية تجري داخله كما تجري خارجه. ما يحدث هو مزيد من
التعقيد. هكذا تتكامل العلوم البيولوجية مع العلوم الفيزيوكيميائية، وهاتان المجموعتان
الفيزيوكيماوية والبيولوجية يمكن أن يمثلا معًا مجموعة علوم المادة، الجامدة والحية،
التي تقابل المجموعة الثالثة وهي مجموعة العلوم الإنسانية، موضوعها أعقد وأعقد، فلن
تكفي قوانين الفيزياء والكيمياء والبيولوجيا، وإن كانت بالطبع تنطبق على الإنسان حين
يسقط من عل وفقًا لقانون سقوط الأجسام الفيزيائي، وحين تؤدي أعضاؤه وظائفها وفقًا
لقوانين البيولوجيا. ومن أجل الإحاطة بالظواهر الإنسانية لا بد وأن ينضاف إلى هذا وذاك
قوانين أو فروض أو نظريات تتناول ظواهر الوعي الفردي والجمعي بسائر تشكلاته وتمثلاته
ونواتجه، وهذه هي العلوم الإنسانية.
ويمكن ملاحظة أن هذا التدرج المنطقي للعلوم تبعًا لمستوى تعقيد موضوعها يوازيه تدرج
عكسي في مستوى تقدمها، ولعله أيضًا تبرير منطقي لتدرج مستوى التقدم — من منظور العلم
الكلاسيكي على الأقل. فالفيزياء أكثر العلوم تقدمًا وموضوعها أبسط، وكانت درجة تقدم
البيولوجيا آنذاك أقل كثيرًا؛ لأن موضوعها أعقد. والعلوم الإنسانية درجة تقدمها أقل
وأقل؛ لأن موضوعها أعقد وأعقد وأضيفت إليه كل تعقيدات ظواهر الوعي بعد تعقيدات ظواهر
الحياة. والجدير بالذكر أن تشكل نسق العلم على هذا النحو، أدى إلى فكرة سادت آنذاك عن
العلم الواحد الموحد، بمعنى رد كل العلوم إلى الفيزياء، ومعالجة سائر الظواهر حتى
الظواهر النفسية في حدود ومصطلحات ولغة الفيزياء، في إطار من العلم الموحد الذي كان
مشروعًا لم يحرز نجاحًا، على الرغم من أنه كسائر تصورات العلم الكلاسيكي، يحدوه النجاح
الذي أحرزته الفيزياء، وعلى وجه التحديد نظرية نيوتن، المثل الأعلى المطروح والتي حددت
إطار نسق العلم الحديث؛ ليكون بحق أنجح المشاريع التي أنجزها الإنسان.
وقد رأينا نسق العلم الحديث يترسم طريقه واضحًا، ويقطعه بثقة وثبات من إنجاز إلى
إنجاز ومن نصر إلى آخر؛ لأنه استند إلى تصور واضح لطبيعة المعرفة العلمية، وكان أخطر
ما
في هذا التصور أنه في الوقت نفسه انعكاس لطبيعة موضوع المعرفة، أي تصور لطبيعة الكون
والعالم الفيزيقي. وهذا ما يبلوره مبدأ العلم الحديث الذي هيمن على العلم وحكمه من رأسه
حتى أخمص قدميه، أي مبدأ الحتمية
Determinism. وقد
كانت الحتمية العلمية مبدأ أنطولوجيًّا «وجوديًّا» وإبستمولوجيًّا «معرفيًّا» في آن
واحد، أي تصور لطبيعة الوجود الفيزيقي — طبيعة الكون ومسار أحداثه، ولطبيعة المعرفة به
أي العلم وقوانينه. ولا غرو، فلم تكن المعرفة العلمية أو نسق العلم الحديث بأسره إلا
تمثيلًا مجردًا لهذا الوجود الذي نحيا فيه.
٤٠
لم تكن الحتمية آنذاك مجرد مبدأ من مبادئ العلم، بل كانت ركيزة يرتكز عليها وفي الوقت
نفسه هدفًا منشودًا يسعى للوصول إليه، وبين هذا وذاك نجدها أيضًا المحك المعتمد طوال
الطريق العلمي، وهذا ما عبَّر عنه كلود برنار قائلًا: إنه لا بد للعقل من نقطة ارتكاز
أولى، ونقطة الارتكاز هذه هي مبدأ الحتمية المطلقة ولولاها لكان قد قُضي على الإنسان
وعقله أن يدور في دائرة مفرغة وألا يتعلم شيئًا قط،
٤١ هكذا آمن العلماء، ولم يكتفوا بأن الحتمية هي الأساس، بل سلموا أيضًا بأن
الغرض الأولي من كل دراسة علمية تجريبية هو تعيين حتمية موضوعها، وصولًا إلى الحتمية
الشاملة التي هي الحقيقة المطلقة، وبالتالي هدف العلم النهائي، وفي غضون الطريق السائر
من ذاك الأساس إلى هذا الهدف المنشود، يظل مبدأ الحتمية أيضًا هو المحك التجريبي،
والعلاقات الحتمية هي مقياس الحقيقة المنشودة، فيؤكد برنار أنها المبدأ الوحيد الذي
يسندنا في وصولنا إلى النظريات العلمية وفي حكمنا عليها.
٤٢
إلى كل هذا الحد سلم العلماء آنذاك بمبدأ الحتمية وبأنه المعبر الوحيد المفضي إلى
العلم الحقيقي، وأن إليه يرجع الفضل فيما أصابه العلم من تقدم، والتسليم به سرعان ما
جعل قوانين العلم تنطلق بسلاسة من نجاح إلى نجاح أعظم، ومن يقين إلى يقين أدق، ومن
الناحية الأخرى أكد اطراد الطبيعة البادي أمام العلماء في ذلك العصر، وتواتر صدق قوانين
العلم، خضوع تلك الطبيعة للحتمية، من هنا كانت الحتمية مؤكدة أنطولوجيًّا
وإبستمولوجيًّا.
أنطولوجيًّا «أي وجوديًّا» تعني الحتمية أن نظام الكون مطرد ثابت شامل، لا يشذ عنه
في
أي زمان ولا في أي مكان شيء، فهو ذو علاقات عليَّة ضرورية ثابتة تجعل كل حدث من أحداثه
نتيجة ضرورية «معلولًا» لما سبق، ومقدمة شرطية «علة» لما سيلحق أوضاع الكون في أي لحظة
محصلة للوضع السابق، تبعًا لقوانين ثابتة وهكذا دواليك، حتى إن مجرى الأحداث بجملته
حتمته اللحظة الأولى في تاريخ العالم، ومنذ أن تحددت تلك اللحظة والطبيعة تسلك طريقًا
واحدًا لا سواه، يستكشفه العلم، فتعني الحتمية — إبستمولوجيًّا — عمومية قوانين العلم
وثبوتها واطرادها ويقينها، فلا استثناء لها ولا تخلف عنها ولا اتفاق فيها أو جواز أو
إمكان أو عرضية، طالما أنه لا مصادقة في الواقع، وكل حدث محتوم وسواه مستحيل.
إن العلم يتوصل إلى القوانين التي تحكم مسار الطبيعة الأوحد؛ لذلك يستنبط أو يتنبأ
مما هو حادث بما سوف يحدث في المستقبل، وبما كان من أمر الماضي كما هو — مثلًا — في
علوم الجيولوجيا والتاريخ البيولوجي والإنساني. تنبؤات العلم يقينية، وكذلك قوانينه
ونظرياته، إنه يقين في يقين. واليقين هو التحديد المطلق الجازم الذي لا خطأ فيه ولا
احتمال. إنهم يعملون بالرياضيات الإقليدية، ولا يعرفون إلا قيمتي الصدق والكذب، ولا وسط
بينهما. صحيح أن الظواهر التي بدت مصادفة وموضع احتمال قد لفتت أنظارهم، حتى إن رجالات
ذلك العصر هم مؤسسو الإحصاء وحساب الاحتمال، إلا أنهم فسروه تفسيرًا ذاتيًّا، أي
بإرجاعه إلى الذات العارفة وليس موضوع المعرفة، إلى الإنسان وعجزه عن إدراك العلة
الحقيقية أو الكافية. نسبة الاحتمال إذن تعبر عن الجهل — فالعلم لا يكون إلا يقينًا —
وهي مسألة مؤقتة ستضمحل بالتقدم العلمي، لنصل يومًا ما إلى اليقين في هذه الظواهر كما
وصلنا إليه في سواها. إن اليقين هو التمثيل العيني للعلم بعالم يسير في مسار
محتوم.
وأصبح كل هذا مثبتًا حين أصبح العلم رياضيًّا. الرياضيات دائمًا هي الأنموذج الأمثل
لليقين وللضرورة المطلقة. في كل مكان يظل دائمًا «٢ + ٢ = ٤»، والمثلث شكلًا محوطًا
بثلاثة أضلاع؛ لأن إنكار هذا يعني إنكار أن المثلث مثلث! وطالما أمكن التعبير عن
القوانين الفيزيائية في صورة رياضية بلغت حد المعادلات التفاضلية للامتناهي في الصغر
—
كما رأينا، فمعنى هذا أن الضرورة الرياضية المطلقة قد أصبحت حتمية كونية شاملة، والواقع
أن السمة الرياضية هي التي قلبت الحتمية من مبدأ فلسفي — يمكن أن تختلف بشأنه وجهات
النظر — إلى مبدأ علمي صريح لا بد وأن يسلم به الجميع تسليمهم بالعلم.
أما الفارق بين الحتمية العلمية وبين الجبرية اللاهوتية أو الأسطورية العتيقة فيتمثل
في مبدأ العلية «السببية»، وهي المبدأ القائل: إن كل حدث لا بد له من علة أحدثته،
والعليَّة مبدأ متوشج في الحس المشترك — أي تفكير الإنسان العادي — وأيضًا في الفكر
الفلسفي، لكنه اتخذ موقع العمود الفقري في العلم الحديث؛ لأن حتمية الظاهرة لا تعدو أن
تكون العلة الكافية لحدوثها، فأصبحت مهمة العلم هي تعليل كل الظواهر وتحديد علة كل حدث.
أما التسليم بحدث بغير علة فلا يعني إلا إنكار العلم به، وتتلخص قوانين العلم في أحكام
علاقة العلة بالمعلول؛ لتتخذ جميعها الصورة المنطقية: إذا كان … فإن … دائمًا طبعًا،
مما يجعل الطبيعة متصفة بالاطراد Uniformity، أي حدوث
أحداثها على وتيرة واحدة لا تتغير ولا تتذبذب، في الماضي كما في المستقبل. واطراد
الطبيعة هو الذي يدعم القانون العلمي؛ لأن مجرد التفكير في البحث عن قانون يفترض قبلًا
أن الطبيعة مطردة منتظمة تخضع لقانون ما، نبحث عنه، وبفضل العلية وما تضفيه من اطراد
على الطبيعة كان القانون العلمي ذا عمومية مطلقة فلا يحكم حالاته الواقعة أمامنا فحسب،
بل كل الحالات المتماثلة التي حدثت في الماضي والتي ستحدث في المستقبل، وطالما هو قانون
صادق فلا يشذ عنه شيء، وتغدو الضرورة تحكم الطبيعة بفضل العلاقات الداخلية بين أحداثها،
بين العلة والمعلول، وتسير أحداث الكون في تسلسل علِّي، يجعله أشبه بالسلسلة المحكمة
الحلقات، تفضي كل حلقة إلى — وفقط إلى — لاحقتها، مثلما نشأت عن — وفقط عن — سابقتها،
فيغدو الكون نظامًا مغلقًا، مساره مرسوم منذ الحلقة الأولى أو اللحظة الأولى في تاريخه،
كما ذكرنا؛ لذا تعد العلية صلب الحتمية العلمية أو وجهًا آخر لها، حتى إن المصطلحين —
الحتمية والعلية — كثيرًا ما يستعملان كمترادفين، العلية هي التي تؤكد نظام الطبيعة
الحتمي وقانون تسلسل الأحداث فيه، الحدث السابق علة واللاحق معلول، فيتدفق الزمان في
اتجاه واحد من مطلق الماضي إلى مطلق المستقبل. إنه الزمان المطلق والمكان المطلق،
الثابتان لجميع الراصدين مهما اختلفت مواقعهم، وهما الخلفية الأساسية لفيزياء نيوتن،
وعليهما كان قانون نيوتن الأول، قانون القصور الذاتي، الذي ينص أن كل جسم يبقى على حاله
ما لم يؤثر عليه مؤثر خارجي، أي «قوة» هي تجسيد للعلية.
وكما لاحظنا تصور نظرية نيوتن الكون ككتل مادية تتحرك على سطح مستوٍ عبر الزمان
والمكان المطلقين، والميكانيكا هي علم حركة الأجسام. إذن فالكون بالتأكيد نظام
ميكانيكي، وهذا التصور الميكانيكي للكون الذي رفعته نظرية نيوتن على رءوس الأشهاد هو
التمثيل العيني لأنطولوجية الحتمية. والواقع أنه لا حتمية علمية بغير الميكانيكية، أي
بغير النظر إلى الكون بكل محتوياته وعناصره وظواهره على أنه مترتب في صورة آلة
ميكانيكية ضخمة مغلقة على ذاتها، من مادة متجانسة، تسير تلقائيًّا بواسطة عللها
الداخلية، وتبعًا لقوانينها الخاصة في مسار تفضي كل حالة من حالاته إلى الحالة التالية.
وبعد أن وضع العلماء فرض الأثير، وهو وسط لا نهائي المرونة كثافته أقل من الهواء،
افترضوه بوصفه يملأ كل الفراغات في الآلة الميكانيكية العظمى، بحيث يحمل الضوء
والإشعاعات لتندرج بدورها في التفسير الميكانيكي، وبعد أن اكتشفوا أن المادة الحية
مؤلفة من نفس الذرات التي تؤلف المادة الجامدة، وأنها بالتالي تخضع لنفس القوانين،
وتصوروا أن الحياة أيضًا ذات طبيعة ميكانيكية، وأن الإنسان لا يعدو أن يكون آلة
ميكانيكية حية، وإن تكن أكثر تعقيدًا، والعقل بدوره هكذا … بعد هذا أيقن العلماء أنهم
يستحيل أن يفهموا أي شيء بغير أن يصطنعوا له نموذجًا ميكانيكيًّا، وأن التفسير الوحيد
الممكن لهذا الكون، ككل وكأجزاء، هو التفسير الميكانيكي.
وجاء لابلاس عام ١٨١٤م؛ ليصوغ في مقدمة كتابه «مقال فلسفي في الاحتمال» أشهر صياغة
للحتمية العلمية، ومؤداها أننا إذا استطعنا أن نجمع معلومات دقيقة عن كل الظروف، لأمكن
استنباط الحالة اللاحقة للكون بكل دقة، والعقبة الوحيدة أننا لا نعلم كل الظروف والشروط
في وقتنا الحالي، فإذا تصورنا عقلًا فائقًا يعرف كل القوى التي تعمل في الطبيعة والوضع
الراهن لكل مكوناتها — أي يعلم كل تفاصيل الكون — فإنه يستطيع التنبؤ بمنتهى الدقة بوضع
كل جسيم في كل لحظة، ولن يكون ثمة أي شيء غير يقيني بالنسبة له، سواء ما يختص بحركة
أضخم الأجسام أو أصغر الذرات، أو الإنسان المحصور بين هذا وذاك.
ولا غرو أن يراود العلماء طموحات جامعة مانعة هكذا، ما دام كل شيء في هذا الوجود،
الكوكب في السماء والفقاعة في الهواء، موج البحر وأديم الأرض، النبتة الصاعدة والحجر
الساقط، القذيفة المنطلقة والجبل الراسخ … كل ما تراه الأعين وتدركه الحواس لا تراه ولا
تدركه إلا وهو يقدم فروض الطاعة والولاء لقوانين نيوتن الصارمة. وكل علم يقتفي أثرها
ويسير بهدي إبستمولوجيتها يحرز النجاح تلو النجاح، فيعلو نسق العلم ويتعاظم ويتكامل،
حتى بات حلم فرنسيس بيكون بالعلم الكامل الشامل لمجمل هذا الوجود قاب قوسين أو
أدنى.
ولم يبق إلا عقد أو عقدان من السنين ليأتي القرن العشرون، وبدلًا من أن تقبع هذه
الطوبى العلمية الوردية في انتظاره، انفجرت قبيل مجيئه أزمة الفيزياء الكلاسيكية لتعصف
بتلك الإبستمولوجيا الواثقة المتفائلة؛ ونظرًا للموقع الريادي للفيزياء، تأزم معها
العلم الحديث بأسره حتى أصوليات التفكير العلمي، فما هي تلك الأزمة؟
رابعًا: أزمة الفيزياء الكلاسيكية
أزمة الفيزياء الكلاسيكية، أو أزمة العلم الحديث في القرن التاسع عشر تتلخص في ظهور
وقائع وعلاقات فيزيائية في عالم التجارب العلمية، استحالت أن تنحصر في أطر تلك
الإبستمولوجيا أو تبدي خضوعها هي الأخرى لقوانين الفيزياء النيوتينية — أي الفيزياء
الكلاسيكية. فقد كانت تؤدي مهامها بنجاح تام حينما كانت مقصورة على الظواهر
الميكانيكية، بيد أن العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر شهدت اقتحام الفيزياء لمجالات
جديدة، منها مثلًا العمليات الحرارية التي أدت إلى علم الديناميكا الحرارية، وتطور
أبحاث الضوء والظواهر الكهرومغناطيسية التي كانت فاتحة علم الديناميكا الكهربية، في
البداية أمكن إخضاعها لأطر الفيزياء الكلاسيكية بقوانينها وإبستمولوجيتها، ولكنها سرعان
ما أفصحت عن حقائق أقضت مضجع الحتمية حتى أطاحت في النهاية بمقولاتها وتصوراتها التي
رأيناها ركيزة العلم وإطاره، وكانت تبدو واضحة تمامًا للحس المشترك، ومن تلك الجبهات
التي فتحتها الفيزياء الكلاسيكية على نفسها تسرب الهوينى إلى بنية العلم ما ينقض
الحتمية الميكانيكية كتفسير لعالم العلم الكلاسيكي، وما أصاب إبستمولوجيته بالتصدع الذي
يُؤذن بالانهيار، وأصبح من الضروري التسليم بنظرية نيوتن والفيزياء الكلاسيكية بأسرها،
لا كتفسير لطبيعة الكون وترسيم لطبيعة العلم، بل كمجرد حالة محدودة، في إطار معرفي —
إبستمولوجي — مختلف تمامًا. من هنا كان القرن العشرون مرحلة جديدة من التفكير العلمي،
أعلى وأكثر خصوبة وثراءً بما لا يُقارن، فكيف كانت تلك الأزمة قبلًا؟
لأن قوانين الحفظ والبقاء
Conservation من أسس
الفيزياء، فإن القانون الثاني للديناميكا الحرارية من أخطر مواطن تلك الأزمة، وقانون
بقاء س يعني أنه مهما كانت س فإن المقدار الكلي ﻟ س يبقى على الدوام كما هو. وهذا
القانون فرضي، فهو لا يقول أكثر من أننا لم ننجح حتى الآن على الرغم من كل ما بذلناه
في
تغيير المقدار الكلي ﻟ س، ومع هذا سلم الفيزيائيون تسليمًا قطعيًّا لا يقبل نقاشًا ولا
جدلًا حتى منتصف القرن التاسع عشر، بأن هذا الكون يرسو على ثلاثة قوانين أساسية للحفظ
والبقاء:
- (١)
بقاء المادة.
- (٢)
بقاء الطاقة.
- (٣)
بقاء الكتلة.
واستنبطوا منها قوانين حفظ وبقاء أخرى فرعية، كبقاء كمية التحرك «العزم» مثلًا. على
أن بقاء المادة — بمعنى أن كمية المادة في الكون ثابتة لا تفنى ولا تُستحدث — بدا هو
الأساس، أما بقاء الطاقة فأحدث نسبيًّا، وإن كان نيوتن قد بشَّر به، وقال: إنه يسري
بمنتهى الدقة في الظروف المثالية، غير أن جول J. P. Joule هو الذي أكده حين أثبت أن الطاقة تتحول، ولا تفنى ولا تنعدم،
ولكن تجارب جول نفسه التي أجراها بين عامي ١٨٤٠م و١٨٥٠م، بمعية تجارب ماير D. R. Mayer عام ١٨٤٢م، أطاحت بالتصور القديم للحرارة على
أنها سيال لا يمكن وزنه أو نتيجة لاهتزاز جزيئات المادة، وأثبتت تلك التجارب أن الحرارة
ليست إلا شكلًا من أشكال الطاقة، وأن كمية الطاقة داخل أي نظام ما ثابتة أو باقية
محفوظة، فإذا فقدها في شكل ما عادت إلى الظهور في شكل حرارة مثلًا، مما يعني مبدأ بقاء
الطاقة المذكور ليكون أول مبادئ علم الديناميكا الحرارية الذي يدرس الظواهر
الحرارية.
هكذا نجد المبدأ الأول للديناميكا الحرارية يتسق تمامًا مع أسس الفيزياء النيوتنية
الكلاسيكية، بيد أن المبدأ الثاني للديناميكا الحرارية ينقضها بوضوح؛ لأنه ينص على عدم
قابلية الظواهر الحرارية للارتداد، فالحرارة لا تنتقل أبدًا إلا في اتجاه واحد من الجسم
الأسخن إلى الجسم الأبرد، ولا ترتد أبدًا في الاتجاه المعاكس من الأبرد إلى الأسخن.
وكان العالم النمساوي لودفيج بولتسمان L. Boltzmann
(١٨٤٤–١٩٠٦م) هو الذي أثبت أن أسلوب الفيزياء الكلاسيكية في التحديد الفردي اليقيني لا
يجدي هنا، ذلك أن كمية الحرارة في جسم ما تتحدد بسرعات جزيئاته التي تتباين تباينًا ليس
يسيرًا، وكل جزيء على حدة له سرعة خاصة به، ولا يمكن تفسير عدم القابلية للارتداد إلا
بطريقة إحصائية نحسب بها متوسط سرعة الجزيء، وكلما زاد هذا المتوسط ارتفعت الحرارة،
فإذا حدث اتصال مباشر بين جسيم ساخن وجسيم بارد واصطدمت جزيئاتهما السريعة والبطيئة،
كان الناتج على وجه الإجمال هو تعادل السرعات عن طريق الصدمات، وهذا تفسير معقول تمامًا
لانتقال الحرارة من الجسم الساخن إلى الجسم البارد، لكنه احتمالي، والاحتمالية هنا ليست
جهل الذات العارفة المؤقت بالعلل المحتمة، بل هي احتمالية موضوعية، تفرضها طبيعة
الموضوع. هكذا نجد المبدأ الثاني للديناميكا الحرارية — مبدأ عدم قابلية الحرارة
للارتداد — يعصف بالتصور الحتمي الميكانيكي وجدوى التعيين الفردي اليقيني لموقع كل مكون
من مكوناته على حدة. إنه أول اقتحام حقيقي للإحصاء وحساب الاحتمال في أعطاف الفيزياء،
فكان بولتسمان مؤسسًا لعلم الميكانيكا الإحصائية.
على أن نتيجة المبدأ الثاني للديناميكا الحرارية لا تقف عند تصور الحرارة وشكل
انتقالها، وإنما تنسحب على حركة الكون جميعًا، فبينما يؤكد المبدأ الأول بقاء الطاقة
وبقاء الكون على حاله إلى الأبد — كما تنص الإبستمولوجيا الكلاسيكية — يعني المبدأ
الثاني أن حالة الكون تتغير أكثر فأكثر، وأنه لن يبقى على حاله إلى الأبد. فقدم العالم
رودلف كلاوسيوس
R. Clausius لأول مرة في عام ١٨٦٥م
مفهوم الإنتروبي
Entropy الذي يتغير نحو حد أعلى
بمقتضى هذا المبدأ الثاني. والإنتروبي ببساطة هو افتراض قدر من فوضى أو اضطراب يقتحم
النظام الفيزيائي، من أجل ضبط هذا النظام وتحديده! إن الإنتروبي كمية تقدم في المقام
الأول لتسهيل الحساب ولتعطي تعبيرًا واضحًا لنتائج الديناميكا الحرارية. أما إنتروبي
النسق
System فهو قياس درجة اضطرابه
disorder، وإنتروبي أي نسق منفصل إما أن يتغير بعملية
غير قابلة للارتداد، وإما أن يظل ثابتًا بعملية قابلة للارتداد، لكنه لا ينقص أبدًا في
أي تغير. على هذا يتزايد الإنتروبي الكلي للكون، متجهًا نحو حد أقصى، يناظر اضطرابًا
تامًّا للجزيئات فيه،
٤٣ وبدا واضحًا أنه لا يمكن تفسير الإنتروبي بالمبادئ الميكانيكية، فقدم
جيمس كلارك ماكسويل
J. C. Maxwell، وأيضًا
جوزيا ويلارد جيبز
J. W. Gibbs (١٨٣٩–١٩٠٣م)
المناهج الإحصائية، فتصورا عددًا كبيرًا غير محدود من الجزيئات في سرعات مختلفة، وعلى
أساس الدرجات المختلفة للسرعة ومبادئ الاحتمال الإحصائية يكون حساب الأثر النهائي،
وتوطدت هذه النتائج بأبحاث لويس جوي.
هكذا أكدت الديناميكا الحرارية المناهج الإحصائية الاحتمالية لاتفاقها مع طبيعة
موضوعها الذي يرفض التحديد الفردي الميكانيكي، فتعمل على أساس المتوسطات وتطرح تنبؤات
تقريبية لا يقينية، تأكيدًا لتمردها على الإبستمولوجيا الكلاسيكية، فضلًا عن أنها تشير
إلى أن الكون لن يبقى ثابتًا على حاله إلى الأبد.
على أن أزمة الفيزياء الكلاسيكية لم تقتصر على قانون بقاء الطاقة والديناميكا
الحرارية المتصلة به، بل لحق به قانون بقاء المادة وبقاء الكتلة.
وهذا الأخير — أي بقاء الكتلة — بدا وكأنه يجب أن يغادر ميدان العلم، منذ أن أثبت
جوزيف جون طومسون J. J. Thomson (١٨٥٦–١٩٤٠م) أن
كتلة الجسيم المشحون بالكهرباء تتغير حين يتحرك، وكلما كانت سرعة الحركة أكبر كلما
أصبحت كتلة الجسيم أكبر. بدأ هذا الفرض في صورة نظرية رياضية، ومع نهايات القرن التاسع
عشر بدأ طومسون وأتباعه في تحطيم الذرة، وأصبح من اليسير التحقق التجريبي من أن كتلة
الجسيم الذري تتغير بتغير سرعته تمامًا، كما تنبأت حسابات طومسون، خصوصًا بعد اختراع
المعجل النووي. وإثر تحطيم الذرة، جاء التلميذ النجيب لطومسون وهو إرنست رذرفورد E. Rutherford (١٨٧١–١٩٣٧م) وانتهى إلى أن الذرة
مكونة من جسيمات مشحونة بكهرباء سالبة وهي الإلكترونات، وجسيمات مشحونة بكهرباء موجبة
وهي البروتونات، فأصبحت المادة بأسرها جسيمات مشحونة بالكهرباء في حركة دائبة. وإذا
كانت كتلة الجسم تتغير بتغير سرعته، فإن كلًّا من النظرية والتجربة أثبتا أن هذا التغير
يتناسب تمامًا مع طاقة حركة الجسم، فتتغير كتلة الإلكترون بتغير طاقته. وسوف نرى أن
آينشتين في نظريته النسبية قد مدَّ هذا إلى درجة هائلة من التعميم، وأكد نهائيًّا تغير
الكتلة الذي يتعارض تمامًا مع المفهوم النيوتوني ببقاء الكتلة، فضلًا عن أن بقاء الكتلة
— كما لاحظنا — لم يعد نتيجة لبقاء المادة فقط، بل يتدخل بقاء الطاقة أيضًا، كما أن
نظرية النسبية أدخلت في ذات الهوية بقاء المادة وبقاء الطاقة معًا، فلم يعد أيٌّ منهما
بالصورة التي تتطلبها الفيزياء الكلاسيكية.
وكما ذكرنا، كان بقاء المادة بالذات هو أساس الفيزياء الكلاسيكية، وربما يبدو للنظرة
العابرة أنه مع كل هذا يظل بمنأى عن أي نقاش أو جدل، إلا أنه قد ظهرت في القرن العشرين
فروض قوية مؤيدة بتحليل رياضي للوقائع الفلكية وترجح حدوث فناء للمادة في الأعماق
السحيقة للفضاء، حيث تتوافر مادة فلكية ذات كثرة كافية، وأن عملية الفناء الذري تلك
تحدث في أعماق النجوم تلقائيًّا بنفس تلقائية تفكك ذرات المواد ذات النشاط الإشعاعي.
٤٤
وليست هذه الفروض قاطعة، لكن القاطع حقًّا هو حدوث تطورات علمية متوالية ومعقدة،
يمكن
أن ننتهي منها إلى أن التسليم بقوانين الحفظ والبقاء لا يكون راسخًا إلا في نطاق
الأنظمة الفيزيائية المغلقة. وقد أتت الأزمة من أن الفيزياء الكلاسيكية تصورت الكون
بأسره نظامًا ميكانيكيًّا مغلقًا، فسهل عليها التسليم اليقيني بقوانين الحفظ والبقاء.
وفي القرن العشرين انهار تمامًا التصور الميكانيكي المغلق للكون، واتضح أن التسليم
بكمية المادة فيه ليست أمرًا بسيطًا كما تصور الكلاسيكيون، وكمية المادة يمكن تقديرها
على أساس حركة الكواكب، فمنها يمكن حساب جاذبية الشمس، وبالتالي حساب كتلتها ووزنها،
فلو كان وزن الشمس أقل ستكون حركة الكواكب أبطأ وهكذا. وفي الثلاثينيات أدرك الفلكيون
أن حاصل جمع كتل النجوم التي يمكن رصدها أقل كثيرًا مما ينبغي؛ لأن الجذب الحادث عنه
لن
ينتج إلا مقدارًا ضئيلًا من الحركة الكونية المرصودة، فاستنتج العلماء وجود نوع غامض
من
المادة لا تستطيع التلسكوبات الكشف عنه، لكنه يمارس جذبًا هائلًا على الأجرام المرصودة.
تلك هي «المادة المظلمة»، فهي موجودة، تمارس جذبًا هائلًا يشد حتى الضوء فلا يصدر عنها،
وبالتالي لا يمكن رؤيتها. من هنا سُميت بالمادة «المظلمة»، ويبلغ مقدارها ما يتراوح بين
٩٠٪ و٩٩٪ من كتلة الكون!
٤٥ معنى هذا أن ما نعرفه من مادة الكون قد لا يتجاوز ١٪، ولن يزيد عن
١٠٪.
ويرتبط بالمادة المظلمة الثقوب السوداء، و«الثقب الأسود» هو البقية الثقيلة لنجم
ميت
استنفد وقوده النووي فانكمش على ذاته، وأصبح له هو الآخر مجال جاذبية قوي جدًّا، بحيث
لا يستطيع أن يفلت منه أي شيء ولا حتى الضوء،
٤٦ وثمة أيضًا الأوتار الكونية. و«الوتر الكوني» بمثابة انقطاع أو شق في بنية
الزمان/المكان كما لو كان شقًّا على سطح بحيرة متجمدة، والأوتار الكونية ثقيلة جدًّا،
حتى إن القطعة الواحدة من الوتر التي في حجم ذرة واحدة سيكون وزنها ألف مليون طن، على
أن «الأوتار الكونية» ما زالت مجرد فرض نظري بلا أي دليل تجريبي، وما زالت الحاجة ملحة
لتفسير وجود المادة المظلمة التي ثبت أنها تشكل القطاع الأعظم من مادة الكون ولا نستطيع
أن نعرف عنها شيئًا. والخلاصة أنه إذا أردنا الآن التسليم بمبدأ بقاء المادة فسوف يتم
هذا في إطار يختلف تمامًا عن إطار الفيزياء الكلاسيكية، إن لم يعن هجران هذا الأخير
وتقويضه.
وكما رأينا، انطلقت الأزمة التي أثارتها الديناميكا الحرارية في عالم الفيزياء
الكلاسيكية الحتمية من إقحامها الإحصاء وحساب الاحتمال كأداة تفرضها فرضًا طبيعة
الظواهر المدروسة، فاتسع مجال هذه الأزمة وازدادت حدتها بفعل ظواهر أخرى فرضت بدورها
تلك المعالجة الإحصائية الاحتمالية، وأكدت عجز الصياغات الإقليدية الكلاسيكية التي تنزع
إلى التحديدي اليقيني، والمقصود على وجه التحديد:
- أولًا: النظرية الحركية للغازات.
- ثانيًا: نظرية الحركة البراونية.
أما عن الأولى، فإن الغاز الموجود في إناء مقفل — بالونة مثلًا — يقوم بالضغط على
جدران الإناء بدرجة واحدة في كافة جوانب الإناء، فيقع على سطح الإناء نفس الضغط الواقع
على الأرضية، في حين أن السائل والجامد يمارس ضغطه على الأرضية فقط؛ لأن ضغط الماء
مثلًا يُعزى إلى ثقله، أما ضغط الغاز فيُعزى إلى أن الغاز يتألف من مجموعة كبيرة للغاية
من الجزيئات التي أمكن اعتبارها كرات صغيرة متساوية، تتحرك حركة دائبة لا تنقطع،
ويتصادم بعضها مع بعض، كما تتصادم مع الجوانب المحيطة بها، عددًا كبيرًا للغاية من
المرات في كل ثانية. لذلك فدراسة الضغط الذي يبذله الغاز على جدران الإناء لا يتأتى
بمعرفة مواضع جزيئات الغاز وسرعاتها معرفة تفصيلية دقيقة، كما علمتنا الفيزياء
الكلاسيكية، فمن المستحيل دراسة حركات أي جزيء من جزيئات الغاز دون الدخول في معادلات
يعجز العقل الإنساني عن تحديدها، بل هو عدد لا حصر له من المعادلات التي ينبغي صياغتها
لتحديد حركة كل جزيء؛ لذلك لا سبيل إلى التنبؤ بتفاصيل حركتها، ولا إلى حساب طاقة كل
جزيء على حدة؛ لما تمارسه من مصادمات وتغاير في الاتجاه لا ينقطع. أما لو حسبنا الطاقة
الكلية الناجمة عن اصطدامات جزيئات الغاز البالغة التعدد، والتي تتحرك في سرعات هائلة
غير منتظمة وفي جميع الاتجاهات لوجدنا أن الضغط على جدران الإناء يتناسب تناسبًا قريبًا
جدًّا مع كثافة الغاز ومع مربع سرعة الجزيئات. على هذا لا يتأتى حساب ضغط الغاز
بالمعرفة التفصيلية التحديدية، وإنما بمعرفة المتوسط الإحصائي لطاقة وحركة الجزيئات في
وحدة حجمية معينة،
٤٧ هكذا نجد النظرية الحركية للغازات تعني هي الأخرى أن المناهج إحصائية
والنتائج احتمالية وضرورة هجران الحتمية.
ثم تفاقمت خطورة هذا الأمر حين اتضح أنه ليس مقصورًا على الغازات، وإنما يمتد إلى
المادة السائلة، كما أوضحت الحركة البراونية، نسبة إلى براون مكتشفها، والتي يمكن
اعتبارها شرارة البدء في أزمة الفيزياء الكلاسيكية؛ لأنها الأسبق تاريخيًّا.
فقد كان أمين القسم الذي أصبح فيما بعد قسم النبات في المتحف البريطاني عالمًا
اسكتلنديًّا يدعى روبرت براون
R. Brown (١٧٧٣–١٨٥٨م)،
وكان قد أمضى بضع سنوات من شبابه في رحلة استكشافية بأستراليا، فجلب معه أربعة آلاف نوع
من النبات ظل يدرسها طوال عشرين عامًا. وفي صيف عام ١٨٢٧م كان براون يستخدم الميكروسكوب
في دراسة نبات
Clarkia Pulchella، فلاحظ أن بعض
الجزيئات الميكروسكوبية المتعلقة بالماء هي في حالة اهتزاز دائم، يحدث على منضدة
متأرجحة أو على حامل ثابت، في الليل أو في النهار، في الريف أو في المدينة. وفي عام
١٨٨٠م انتهت تجارب الأب البلجيكي إجناس
كاربونيل
I. Carbonelle، والعالم الفرنسي — المذكور آنفًا — لويس جوي إلى أن هذا
الاهتزاز ليس مقصورًا على الماء، بل يتحقق في جميع السوائل، وأنه حركة دائبة في جميع
الأحوال وتحت كل الظروف لا تكف أبدًا. والأهم أنها ليست نتيجة لمؤثر ما، ولا تخضع لأي
عامل خارجي، ولا تتوقف حتى على نوع الجزيئات، بل فقط على حجمها.
٤٨
كان اكتشاف الحركة الدائمة لجزيئات السوائل، الحركة البراونية، أزمة خطيرة للفيزياء
الكلاسيكية؛ فهي خروج مباشر على قوانين الحركة النيوتنية التي تنص على أن الجسم لا
يتحرك ما لم يؤثر عليه مؤثر خارجي، علة هي قوة، فضلًا عن أن حساباتها تستلزم هي الأخرى
مناهج الإحصاء والاحتمال، لا لحساب درجة جهل الذات العارفة بالموضوع؛ ولكن لأن طبيعة
الموضوع ذاته احتمالية تفرض المناهج الإحصائية مما ينقض مبدأ الحتمية الذي رأيناه شريعة
العلم الكلاسيكي. وتتصل الحركة البروانية بالحركة الحرارية «الديناميكا الحرارية»، فكل
جزيئات السائل في حركة دائبة، وعلى الرغم من أنها مجهرية لا تراها العين المجردة فإنها
تزداد بارتفاع درجة الحرارة حتى تصل لدرجة ملحوظة جدًّا تُعرف بالغليان، وتُحدث تهيجًا
في ألياف الأعضاء باللمس، وهو إحساس نُسميه بالسخونة، وفي المقابل تقل الحركة بانخفاض
درجة الحرارة، حتى تنعدم في حالة تجمد السائل؛ لذا فإن ما نطلق عليه اسم درجة الحرارة
ليس إلا مقياسًا لدرجة الاضطراب الجزيئي.
مثلت قوانين الديناميكا الحرارية والنظرية الحركية للغازات والحركة البروانية،
الثلاثة معًا، أزمة للفيزياء الكلاسيكية، من حيث كانت تمردًا وعصيانًا لحتميتها
العلمية، وتكاتفت لتؤكد عجز مناهجها، وأن الإحصاء والاحتمال ضرورة موضوعية تتفق مع
الطبيعة الخاصة لهذه الظواهر؛ فهي في تغير دائم وحركة متواصلة عشوائية وغير منتظمة،
تداخل وتفاعل وتشابك بين عناصرها، مما يجعل التحديد الفردي الميكانيكي خروجًا عن
طبيعتها الوضعية، وعبثًا لن يفضي إلى معرفة ذات قيمة، فليس الأمر قصورًا أو عجزًا عن
تحديد علل في الواقع، إنما هي وقائع موضوعية تختلف في طبيعتها عن وقائع الفيزياء
الكلاسيكية، إنها قابلة للتحديد الكمي، لكن في غير الحدود الميكانيكية الحتمية.
والأخطر من كل هذا أن الحركة الغازية والحركة البراونية كانتا براهين مباشرة على
الوجود الحقيقي للذرات توضح بجلاء الطبيعة المتجزئة للمادة،
٤٩ ومن هذه الطبيعة واصلت الخلايا السرية للثورة العلمية نشاطها ليخرج من حدود
خلق أزمة إلى موقف الإعلان الصريح عن انهيار الإبستمولوجيا الكلاسيكية.
كان افتراض الذرة قد ورد لأول مرة في الفلسفة الهندية القديمة، ثم أكده يمقريطس
وأبيقور ولوكريتوس في الفلسفة الإغريقية، وأخذ به علماء الكلام الإسلاميون وأسموا
الذرة: الجوهر الفرد، وأيضًا تمسك به بعض من أنصار الواحدية المادية في القرن الثامن
عشر، ولكنه اقتحم عالم العلم على يد عالم الكيمياء الإنجليزي ويليم بروت W. Prout (١٧٨٥–١٨٥٠م) حين قدمه عام ١٨١٥م كفرضية
بشأن وجود جسيمات دقيقة تساهم في مختلف التفاعلات الكيميائية دون أن تتحطم أو تستحدث،
ثم صاغ جون دالتون J. Dalton (١٧٦٦–١٨٤٤م) هذا الفرض
الذري صياغة دقيقة في نظريته عن التفاعلات الكيميائية.
فكان الكيميائيون هم واضعو فرض الذرة في العلم الحديث، وحين أخذه الفيزيائيون منهم
لم
يسبب في بداية الأمر أزمة كبيرة، فقد بدأ هذا بافتراض دالتون ومندليف القائل: إن المادة
مكونة من ذرات غير قابلة للانقسام، وهذا افتراض يدعمه نيوتن نفسه، لكنه بدأ يزعج
الإبستمولوجيا الكلاسيكية حين تمكن ج. ج. طومسون — كما أشرنا — من تحطيم الذرة عام
١٨٩٧م بدراسته لأشعة الكاثود التي أظهرت أنها تدفق الإلكترونات حاملة الشحنات الأحادية
السالبة، فكان اكتشاف الإلكترون الذي يعني أن العلم قد اقتحم الذرة. واقتحم رذرفورد بعد
ذلك نواة الذرة حين حطمها عام ١٩٢٤م مكتشفًا بهذا قوى جديدة في الطبيعة، ثم انطلقت من
الذرة جسيمات عديدة، وقبل أن يأتي الربع الأخير من القرن العشرين كانت تعد بالعشرات.
وبمجرد ظهور الجسيمات الأولية الأساسية وهي الإلكترون والبروتون والنيوترون، كانت
الفيزياء الكلاسيكية قد ناءت تمامًا بثقلها.
وقد تبدى الثقل الوبيل للذرة وجسيماتها منذ أن شرع العلماء في دراسة النشاط الإشعاعي،
والتي يمكن اعتبارها المقدمة الفعلية للفيزياء الذرية. فقد اكتشف العالم الفرنسي
هنري بيكريل H. Bacqueral عام ١٨٩٦م أن ثمة
إشعاعًا متصلًا ينبعث من اليورانيوم بصورة ثابتة لا تنقطع في أي ظروف، والأهم أنه ليس
نتيجة لأية علل خارجية، فهو عملية تفكك تلقائي للذرات دون أية شروط محددة، وأن هذا ليس
مقتصرًا على اليورانيوم، بل سائر المواد المشعة وأقواها الراديوم. وكشأن الحركة
البراونية، تعجز الفيزياء الكلاسيكية مرة أخرى عن تفسير انطلاق الطاقة من المواد المشعة
بلا أي علة خارجية أو قوة مؤثرة، بل فقط تبعًا لنظرية التفكك التلقائي التي وضعها
رذرفورد وفردريك سودي في عام ١٩٠٣م. فالراديوم مثلًا يقذف بثلاثة أنواع من الأشعة: ألفا
وبيتا وجاما، فتتفكك ذراته بمجرد مرور الزمن عليها، وتخلف وراءها ذرات من الرصاص
والهليوم، فينقص حجم كتلة الراديوم باستمرار ويحل محلها رصاص وهليوم. وفي مقابل حتمية
الفيزياء الكلاسيكية، نلاحظ لا حتمية القانون الذي يحكم هذا التفكك، فيمكن تمامًا تحديد
معدلات التفكك والإشعاع. لكن ما لا سبيل إليه ولا جدوى منه تحديد الأجل المحتوم الذي
سوف يحل بهذه الذرة دونًا عن تلك، فتخضع العمليات الإشعاعية للمعادلات
الإحصائية.
والواقع أن الإشعاع كان معلومًا تمامًا للكلاسيكيين، وقد حكمته معادلات ماكسويل الفذة
حكمًا بارعًا ويتفق مع الإبستمولوجيا الكلاسيكية، بيد أنه تلقى مددًا عظيمًا باكتشاف
أنواع جديدة من الإشعاع تختلف عن الضوء في أن موجاتها أقصر أو أطول، وظلت هذه الموجات
مجهولة لوقت طويل؛ لأنها غير مرئية لا تؤثر على العين المجردة، ولكنها قادرة على إظهار
تأثيرات فيزيائية معينة كالحرارة والتصوير الفوتوغرافي والتأثير الكهربي، ومن هذه
الظواهر ألمَّ بها الفيزيائيون.
٥٠ فبدأ الإشعاع رويدًا بالثورة على الوضع الذي تصورت الفيزياء الكلاسيكية
أنها تملكت ناصيته، ثم استفحل شأن الإشعاع حتى تمكن في القرن العشرين من امتصاص مجمل
عالم المادة من الكون الحتمي الضيق الصلب الساذج وألقى بها في عالم اللاحتمية الرحب
المرن ذي الدهاء العميق. لقد تحولت كتل المادة الصلبة إلى إشعاع، إلى احتمالات موضوعية
— كما سنرى — وكل ما ينقض الحتمية الميكانيكية التي رأيناها صلب عالم الفيزياء
الكلاسيكية وإطار إبستمولوجيا العلم الحديث، فكانت أزمة علمية مضنية، قبعت في استقبال
القرن العشرين، ويُجْمِل عالم الطبيعة النووية الروسي فيتالي ريدنيك أمر هذه الأزمة
التي عرضناها الآن على النحو التالي:
مع نهايات القرن التاسع عشر أضحت الميكانيكا النيوتونية في موقف متأزم،
وشيئًا فشيئًا اتضح أن تلك الأزمة تعني سقوط الحتمية الكونية التي تُسمى
علميًّا مبدأ الحتمية الميكانيكية، ولم يعد الكون بسيطًا إلى هذا الحد ولا
باقيًا على حاله إلى الأبد، فلم تجلب ميكانيكا الكوانتم معها عرفانًا جديدًا
فحسب، بل أعطتنا تفسيرًا لظواهر العالم مختلفًا اختلافًا جذريًّا، ولأول مرة
يعترف العلم اعترافًا كاملًا بالمصادفة، ربما كان علينا أن ننحى باللائمة على
الفيزيائيين؛ لأنهم وقفوا حيارى، لكن كان عليهم فقط أن يتخلوا تمامًا عن فكرة
الحتمية الأبدية التي ابتدعوها هم أنفسهم؛ فقد ظنوا أن مثل هذه الحتمية إن هي
انسحقت فإن الفوضى المطلقة ستحكم الكون ولن تعود الأشياء تطيع القوانين
الدقيقة، ومضى ردح من الزمن قبل أن يجد الفيزيائيون مخرجهم من هذه الأزمة.
٥١
وقد كانت ميكانيكا الكوانتم ونظرية النسبية اللتان أبدعهما القرن العشرون هما المخرج
من الأزمة، وكان مخرجًا يعني انهيار الحتمية الميكانيكية، وبالتالي انهيار تصور حقيقة
الكون وطبيعة العلم اللتين ساد الظن بأن نيوتن قد اكتشفهما، وبعد عهود من التسليم
الدوجماطيقي «أي القطعي»، اتضح أن الفيزياء الكلاسيكية ليست اكتشافًا لهذا أو ذاك، بل
مجرد إنجاز عبقري ونظرية ناجحة فقط في مجال محدود وسطحي من الظواهر.
هكذا يمكن اعتبار أزمة الفيزياء الكلاسيكية بمثابة رأس المال الجاري والنقد السائل
في
ميراث القرن العشرين، وقد أحسن تصريفه وتشغيله حين قوض دعائم الإبستمولوجيا الكلاسيكية،
وانطلق إلى إبستمولوجيا جديدة، تمثل مرحلة مختلفة تمامًا من مراحل التفكير العلمي،
مرحلة جديدة أعلى وأدهى تسارعت معها معدلات التقدم العلمي بصورة غير مسبوقة، فاقت كل
توقع أو حتى تخيل.
وكانت هذه المهمة التي اضطلع بها القرن العشرون مهمة عسيرة حقًّا؛ لأن أزمة الفيزياء
الكلاسيكية كانت مثقلة بالنجاح المتوالي والمستجد للفيزياء الكلاسيكية وإبستمولوجيا
العلم الحديث، ومثقلة أيضًا بفلسفة العلم التي نضجت وتبلورت لتعكس هذا النجاح؛ لتبرره
وتفسره.
فماذا عن هذا؟ ماذا عن ميراث فلسفة العلم الذي تلقاه القرن العشرون؟