الفصل الثالث
فلسفة العلم الحديث (الكلاسيكي)
أولًا: حوار الفلسفة والعلم الحديث
رأينا كم كانت روح العلم الحديث دافقة متوثبة. وكما هو معروف بين الفلسفة والعلم
علاقة وثقى وحوار عميق، بطول الحضارة الإنسانية وعرضها. وكانت الفلسفة قديمًا هي الأم
الرءوم التي تطوي جناحيها على سائر العلوم، فتعد امتدادًا لها، وكانت نشأة فروع العلم
الحديث واحدًا إثر الآخر — التي تتبعنا معالمها في الفصل السابق — بمثابة انفصال
واستقلال تام لهذه العلوم عن الفلسفة، فشهد العصر الحديث العلم والفلسفة كتيارين
متمايزين.
ومع هذا لا شك أن الروح الدافقة للعلم الحديث الذي استقل وتنامى وتصاعد وتعاظم أمره
قد انعكست في كل خلجة من خلجات الفلسفة الحديثة المواكبة زمانيًّا للعلم الحديث، من
القرن السادس عشر إلى نهاية القرن التاسع عشر. وحتى التيارات اللاعقلانية في الفلسفة
الحديثة، الصوفية والروحية والحدسية والرومانتيكية إلى الوجودية التي بدأت مع
سرن كيركجور S. Kierkegaard (١٨١٣–١٨٥٥م) … هذه
التيارات المناهضة لروح العلم لا تُفهم حق الفهم إلا كرد فعل لعملقة الروح العلمية
وصرامة حتميتها التي تهدد فردانية الإنسان وحريته.
بيد أننا معنيون بالتيارات الفلسفية التي عملت على استقطاب روح العلم وبلورتها
فانعكست فيها مثالياته وطبائعه وشرائعه، على الإجمال منهجه. والفلسفة بحكم طبيعتها كانت
بالضرورة سبَّاقة إلى هذا الاستقطاب لروح العلم الحديث وعصر العلم، وقد رأينا إلى أي
حد
أفلح فرنسيس بيكون في هذا، حتى عُد إمامًا لتيار العلم الحديث. وكانت الروح العلمية كما
بلورها بيكون هي الاستقراء: المنهج التجريبي والإنصات لشهادة الحواس كمصدر للمعرفة،
الطبيعة هي مملكة المعرفة الإنسانية، ويجب الحيلولة دون أن يتجاوزها العقل، ولو حتى
بفرض يحاول تفسير الوقائع. روح العلم يجب أن تحرر العقل من جنوحات الميتافيزيقا مثلما
تحرره من الأوثان والأخطاء المتربصة به، هكذا علمنا الرائد فرنسيس بيكون أن روح العلم
ترتكز على معاملين؛ هما التجريبية ورفض الميتافيزيقا.
وبفعل عوامل عديدة، تهيأت إنجلترا — أكثر من سواها — لتمثل هذه التجريبية والانتصار
لها؛ فقد كانت إنجلترا جزرًا ملقاة على هامش العالم القديم، فلا تضاهي الأمم العريقة
في
القارة الأوروبية، ذوات التراث الزاخر كإيطاليا وفرنسا مثلًا. وباكتشاف الأمريكتين
أصبحت الجُزر البريطانية فجأة في المركز بين العالمين القديم والجديد. هكذا بدأ العصر
الحديث — عصر العلم — بوضع مركزي مستجد لإنجلترا، فانطلقت بلا تراث يثقلها نحو استكشاف
العالم الجديد والخبرة التجريبية المباشرة به، والمحصلة أن فرض أسطولها هيمنته على بحار
الأرضين، بعد أن علا شأنه حتى على الإرمادا أسطول إسبانيا العظيم. وأفل العصر الحديث
مع
نهايات القرن التاسع عشر وقد أصبحت إنجلترا إمبراطورية لا تغرب عنها الشمس، فلا ينفصل
هذا عن أن يرفع بيكون الإنجليزي في البداية لواء التجريبية، وينتصف العصر ونيوتن
الإنجليزي يزهو بأن نسق العلوم التجريبية الإخبارية قد اكتمل على يديه.
وعلى مدار العصر الحديث تبارى الفلاسفة الإنجليز في تأكيد التجريبية والنظرية الحسية
في المعرفة والعزوف عن الميتافيزيقا حتى ارتبطت هذه النزعة ارتباطًا خاصًّا بروح
الفلسفة الإنجليزية، وقد بلغت ذروتها وأكثر صورها شعبية وشيوعًا في إنجلترا إبان القرن
السابع عشر مع جون لوك J. Locke (١٦٣٢–١٧٠٤م). هاجم
لوك القياس الأرسطي بطبيعة الحال وأشبعه تهكمًا وسخرية ورفض بقطع أي ادعاء بوجود أفكار
مقطورة في العقل البشري ترتكز عليها المذاهب العقلية المقابلة للتجريبية. وأكد أن العقل
يولد صفحة بيضاء ثم تخطها المعطيات الحسية والتجربة. ومع هذا تقدم الأسقف جورج بركلي G. Berkeley (١٦٨٥–١٧٥٣م) بتجريبية ونظرية حسية في
المعرفة أكثر تطرفًا، تهدف إلى إثبات وجود الله، وأيضًا إلى تخليص فلسفة لوك من عناصر
لا تتسق مع التجريبية، فأنكر الوجود الحقيقي للمادة كجوهر مستقل، وهذا عن طريق نظرية
حسية متطرفة في المعرفة، ترهن الوجود بالإدراك الحسي له، الوجود هو المدرك، فيغدو الشيء
هو فقط الصفات أو الصور الحسية التي تبدو في أذهاننا عن طريق الحواس لا أكثر ولا أقل،
وكل ما لا يُدرك لا وجود له. ولا يعني إنكار المادة إنكارًا لوجود الأشياء، فما دمنا
ندرك المحسوسات لا نستطيع الشك في وجودها، إن لا مادية بركلي لا تجعل الأشياء معاني،
بل
تجعل المعاني أشياء، وكل شيء يدرك فقط داخل الذهن الإنساني كمحسوسات جزئية. إذن جميع
معارفنا جزئية، ولا وجود للكليات، إنها مجرد «أسماء» تنطبق على جزئيات عديدة. هكذا
انتهت التجريبية والمعرفة الحسية مع باركلي إلى المثالية الذاتية التي تربط الوجود
بإدراك الذات له، وإلى اللامادية والاسمية. وعن طريق الألوهية يفسر باركلي تآلف
الإحساسات في مجاميع واطرادها، والمعاني ونظامها. وبقاء الله هو التأييد الوحيد لبقاء
الأشياء وبقاء العلاقات بينها التي تعرض نظام العالم الطبيعي، وتغدو الطبيعة — التي
يستكشفها العلم — بمثابة رسالة الله إلينا.
ولكن في هذا القرن الثامن عشر، يتزعم التجريبية الإنجليزية حقًّا شكَّاك اسكتلندا
الشهير ديفيد هيوم D. Hume (١٧١١–١٧٦٦م)، وسوف نرى
لاحقًا أثره الكبير على أم مشكلات فلسفة العلم: مشكلة الاستقراء، قامت فلسفة هيوم على
أساس من الانطباعات الحسية وارتباطاتها. الانطباع هو الخبرة الفورية التي يمر بها الفرد
حين يدرك شيئًا بحواسه أو حين يعيش حالة انفعالية معينة، وعن طريق ما تخلفه الانطباعات
من صور ذهنية وذكريات تتكون الأفكار. وبواسطة مبدأ تداعي المعاني السيكولوجي يرجع هيوم
كل شيء إلى التجربة بمعنى الخبرة النفسية الفورية بالمحسوسات، أي الانطباعات، وأنكر
هيوم كل وأية فرضية إخبارية أو عبارة متعلقة بالعالم وتكون مستقلة عن الحواس ولا يمكن
ردها بشكل ما إلى الانطباعات الحسية، حتى ولو كانت هذه الفرضية هي قانون العلية المجيد
الذي يقيم قائمة العلم الطبيعي آنذاك. وقد قام هيوم بالتمييز بين نوعين من المعرفة:
النوع الأول هو المعارف المنطقية والرياضية، أي التحليلية التي تقتصر على تحليل الأفكار
الذهنية لتحديد ما بينها من علاقات لزومية استنباطية. أما النوع الثاني فهو المعرفة
المتعلقة بالإخبار عن الواقع كما تفعل العلوم الطبيعية، وهذه لا مصدر لها إلا انطباعات
الحس ومعطيات التجريب. وعلى هذا ينصح هيوم القارئ أن يسأل نفسه قبل أن يتصفح كتابًا:
هل
هذا الكتاب مبحث في العلاقات اللزومية، أي رياضة أو منطق؟ أم إن عباراته قائمة على
الخبرة الحسية؟ فإذا كان الكتاب لا هذا ولا ذاك، كان ميتافيزيقا ووجب إلقاؤه فورًا في
النار! بهذه النصيحة الخرقاء، يجسد هيوم الروح العلمية آنذاك المقتصرة على التجريب
والرافضة لأية أبعاد ميتافزيقية.
في هذه الآونة — النصف الثاني من القرن الثامن عشر — كانت تزدهر في فرنسا وألمانيا
فلسفة التنوير التي مرت علينا في الفصل الأول بوصفها انعكاسًا لنجاح العلم الحديث
المبهر، فترفع كل وصاية عن الإنسان انطلاقًا من الإيمان المطلق بقدرة العقل على فض كل
مغاليق هذا الوجود لا سيما إذا استعان بالتجريب ومعطيات الحواس، فتصهر فلسفة التنوير
عقلانية العلم وتجريبيته معًا في إطار إيمانها الطاغي بالتقدم البشري، في طريقه الواحد
والوحيد الذي يترسم بتطور الوعي الإنساني في طريق العقلانية والعلم. وعلى هذا الأساس
كانت خطوط التنوير الإيجابية النيرة في الفكر السياسي والاجتماعي.
خرجت خلاصة فلسفة التنوير الفرنسية في مقالات الموسوعيين، وهم كوكبة من أقطاب الفكر
الفرنسي التنويريين، أدباء وفلاسفة وعلماء، التفوا حول التنويري الرائد دينس ديدرو D. Diderot (١٧١٣–١٧٨٤م) من أجل وضع موسوعة عامة
للعلوم والفنون والصنائع، تضاهي الموسوعة الإنجليزية التي لاقت رواجًا تجاريًّا كبيرًا
وتقف على آخر تقدم للعلوم في العصر، خرج المجلد الأول من الموسوعة الفرنسية عام ١٧٥١م،
بمقدمة عن أصل العلوم وتصنيفها كتبها العالم الرياضي دالامبير d’Alember (١٧١٧–١٧٨٣م)، وقد كان الأشد تحمسًا للموسوعة ومختصًّا
بالأجزاء الرياضية فيها، في هذه المقدمة هاجم دالامبير بضراوة الميتافيزيقا وأيضًا
الدين، وأسهب في محاولة إثبات عدم جدواهما البتة، مما يوضح الاتجاه العام للتنوير
ولموسوعته التي أثارت كثيرًا من النقاش والجدل والشبهات والمصاعب القانونية، حتى بلغت
حد الاستدعاء من قبل الشرطة للتحقيق وإنزال العقوبات بسبب ما تحمله من بصمات إلحادية
سافرة؛ لهذا تراجع دالامبير بعد صدور المجلد الأول، بينما ثابر ديدرو حتى أخرج المجلد
السابع عشر عام ١٧٧٢م، يعاونه في هذا، ويكتب مقالات الموسوعة، أئمة عظام للتنوير من
أمثال مونتسكيو C. S. Montesquieu (١٦٨٩–١٧٥٥م)، صاحب
«روح القوانين» الشهير، وقد كتب للموسوعة مقالًا في «الذوق»، وجان جاك روسو J. J. Rousseau (١٧١٢–١٧٨٧م)، وفولتير Voltaire (١٦٩٤–١٧٧٨م). إنهم الثالوث المبشر بالثورة
الفرنسية، ومعهم سائر أقطاب الفكر الاجتماعي التقدمي في فرنسا آنذاك أمثال كوندرسيه
ونايجون وتورجو … إلخ.
وبطبيعة الحال، ساهم أيضًا في تحرير الموسوعة دعاة التفكير العلمي الطبيعي الفرنسيون
في القرن الثامن عشر. واللافت حقًّا أنهم اعتنقوا مذهبًا متطرفًا، ظنوه المذهب المتسق
مع الروح العلمية والأمين عليها كل الأمانة، ألا وهو مذهب الواحدية المادية، الذي يُعرف
أيضًا باسم المادية الكلاسيكية، ويبدو وكأنه المذهب الرسمي للموسوعيين الفرنسيين. وهذا
المذهب — بصفة عامة — قد ارتبط ارتباطًا خاصًّا بروح العلم في الفلسفة الحديثة؛ لذا
يجمل بنا أن نتوقف إزاءه مليًّا.
ويمكن تعريف المادية بأنها المذهب الذي لا يعترف إلا بوجود المادة فقط، وجودًا
واقعيًّا مستقلًّا عن أية ذات عارفة، ويفسر كل شيء بالعلل المادية فقط، والمادة ذاتها
لا تعتريها إلا تغيرات كمية، وتنتفي عنها أية تغيرات كيفية، وأحداث العالم هي الأوجه
المختلفة للمادة المتحركة؛ لذلك استطاعت المعرفة العلمية المثبتة بالتجربة أن تنفذ
نفاذا تامًّا إلى العالم وقوانينه.
هذا الوجود صيغ من مادة خالصة، المادة هي الأصل والأساس وستوجد كما هي، حتى ولو لم
يكن ثمة أي عقل يدركها ويحكم بوجودها أو عدمه؛ وذلك ببساطة لأن الأرض — تلك الكتلة من
المادة — موجودة كما هي قبل أن يستطيع أي عقل أن يُدركها، بل حتى قبل أن يوجد عليها أي
إنسان. المادة إذن سابقة على الفكر، والفكر ذاته ظاهرة لاحقة للمادة، فيرتد إلى عمليات
فيزيائية ميكانيكية أو فيزيولوجية تجري في قطعة متعينة ومتحيزة من المادة اسمها المخ،
وفقًا لقوانينها الخاصة. وكما يوضح الفيلسوف اليساري الفرنسي المعاصر روجيه جارودي —
قبل أن يصبح المفكر الإسلامي المتحمس المخلص رجا جارودي — عندما تعلن المادية أن المادة
هي الواقع الأول والفكر هو الواقع الثاني، فإن هذا يعني أمرين:
بدت الواحدية المادية وكأنها تفضي بالضرورة إلى النظرة الميكانيكية الحتمية التي
فرضتها فيزياء نيوتن واقترنت بحركة العلم الحديث، خصوصًا، وأن الأقدمين — وإن عرفوا
المادية — لم يفرقوا تمامًا بين العقل والمادة، ولم يعرف الإغريق عالمًا عقليًّا بلا
مادة، ولا عالمًا ماديًّا منتظمًا بلا عقل. في القرن السابع عشر تغير كل هذا؛ إذ كان
العلم يكتشف عالمًا ماديًّا بمعنى محدد تمامًا، عالمًا من المادة تتخللها الحركة في كل
الاتجاهات، حركة مطردة، بلا إضافات كيفية وقابلة للتكميم الرياضي، فلم تعد المادة
المؤلفة للعالم الطبيعي مادة خامًّا بلا شكل، صنع منها كل شيء بفرض صورة أو علة صورية
عليها — كما قال أرسطو — بل أصبحت الطبيعة المادية هي الحركة الكلية للأشياء المنظمة
تنظيمًا كليًّا، وأفضت هذه النظرة إلى نتيجة صلبة في شكل علم فيزيائي استمد هيلمانه من
الرياضة،
٢ وكان هذا في نظر التنويريين الفرنسيين يعني: الواحدية المادية.
ويمكن إرجاع أصول الواحدية المادية المستقاة من النظرة العلمية إلى جيوردانو برونو
G. Bruno (١٥٤٨–١٦٠٠م)، وقد فعل هذا بتأويله
للكوبرنيقية، رأى برونو أن كوبرنيقوس مجرد رياضي متمكن، ولم يفقه المعنى الحقيقي — أي
المعنى الفلسفي — لاكتشافه، وراح برونو يوضح هذا المعنى للفلك الذي تقبله بحماس وحُرق
من أجله فيما بعد، فنفى أي اختلاف بين المادة السماوية والمادة الأرضية. ومد برونو نطاق
هذا النفي — كما لم يفعل كوبرنيقوس نفسه — من النظام الشمسي إلى النجوم البعيدة في
السماء، مقرًّا بنوع واحد من الاختلاف والتميز بين الأجسام المعتمة والأجسام المضيئة
أو
النارية، والأجسام جميعها تتحرك تبعًا لنفس القوانين في حركة دائرية، رفض برونو قسمة
أرسطو إلى عالم ما فوق فلك القمر وعالم ما تحت فلك القمر، ورفض أيضًا فكرته عن المحرك
الأول المنفصل الذي لا يتحرك الشبيه بالألوهية، وأكد برونو أن الحركة حالة داخل صميم
المتحرك، العالم المادي بهذا متصور كمكان لا متناهٍ، لا خلاء فيه، مملوء بمادة مرنة،
هي
التي أدت إلى فرض الأثير فيما بعد، في هذا الأثير عدد لا حصر له من العوالم المماثلة
لعالمنا، تشكل في جملتها كونًا لا يتغير هو نفسه ولا يتحرك، لكن يحوي داخل ذاته كل تغير
وكل حالة، إنه المادة الحاوية للكل، غير المتغيرة، قاعدة كل تغير، مادة في قدرتها على
الامتداد والحركة، وهي أيضًا صورة أو روح الله في قدرتها على التواجد بذاتها.
٣
وهذا نمط من وحدة الوجود Pantheism — أي النظر إلى
الكون ككل واحدي — تطور في القرن السابع عشر في اتجاه جديد، هو فكرة عالم الطبيعة
الحاكم لذاته Self-regulating بفعل قوانينه
الداخلية، وهذا هو الاتجاه الذي ارتبط ارتباطًا وثيقًا — كما يوضح كولنجوود — بفكرة
الطبيعة كآلة ميكانيكية، ارتباطًا أفضى بصورة مباشرة إلى النظرة المادية للطبيعة التي
تمخضت عن الواحدية المادية، وهي بدورها شكل آخر من وحدة الوجود، شكل عارٍ مجرد
بارد.
ولكن برونو على الرغم من إعلانه أن العالم ليس مقدسًا بل ميكانيكيًّا، فإنه لم يتخلص
تمامًا من النظرة الحيوية للطبيعة ككائن عضوي، والتي كانت سائدة قبل عصر العلم الحديث
وتصوره الميكانيكي للطبيعة، فضلًا عن أن برونو كان مفتونًا بالفكر المصري القديم لدرجة
الهوس، ففسر حركة الأرض حول الشمس تفسيرًا مأخوذًا من اتجاه في الحضارة الفرعونية يردها
إلى طاقة الحياة. ولمثل هذه العناصر التي تبعد جيوردانو برونو عن الروح الحقيقية للعلم
الحديث — كما يحاول مذهب الواحدية المادية أن يجسدها — يمكن اعتباره فقط مبشرًا بالمذهب
أو مساهمًا في تأسيس أصوله.
والواقع أن الصياغة المتكاملة لمذهب الواحدية المادية تستلزم بالضرورة التفسير المادي
الميكانيكي للحياة ذاتها. وقد رأينا كيف كان هذا مرامًا هينًا أحرزته علوم الحياة
الحديثة بسهولة، وعلى الرغم من أن ديكارت معارض تمامًا للواحدية المادية، وأرسى دعائم
ثنائية مكينة سيطرت على الفلسفة الحديثة، تؤكد جوهرية المادة وجوهرية العقل على السواء،
فإن ديكارت مع هذا رأى أن كل الظواهر سواء حيوية عضوية أو لا عضوية قابلة بالضرورة
للتفسير الميكانيكي، وأكد أن الجسم الحي لا يختلف عن أي جسم آخر فتحكمه خصائص الامتداد
والشكل والحركة — كما أشار جاليليو في إرسائه لأصول علم الميكانيكا — بيد أن ثنائية
ديكارت الحادة جعلت تفسيره الميكانيكي قاصرًا على الحيوان دونًا عن الإنسان ذي العقل
والروح والإرادة.
ومن أجل اكتمال الواحدية المادية تمامًا، كان من الضروري إنكار جوهرية العقل، ومد
نطاق التفسير الميكانيكي من ظواهر الحياة إلى ظواهر الوعي أيضًا. وعلى هذا، كان ظهور
الواحدية المادية بصورتها الفلسفية المتكاملة في إنجلترا مع توماس هوبز T. Hobbes (١٥٨٨–١٦٧٩م)، وهو تلميذ لفرنسيس بيكون
عمل مساعدًا أو سكرتيرًا له، وطبعًا تأثر به وبالروح العلمية الناهضة. وقد أكد هوبز أن
كل حدث يحدث في العالم إنما هو نوع من الحركة، حتى إن الإحساسات والأفكار ليست سوى
حركات داخلية في جسم حي. وباطراد نجاح العلم وازدياد علم العلماء بالصلة بين الظواهر
النفسية والظواهر البدنية، وتوقف الأولى على الثانية، ترعرعت المادية واتخذت صورًا أكثر
تحديدًا ويقينًا، فسار في ركاب هوبز جمهرة من مواطنيه، نذكر من الفلاسفة جون تولاند J. Toland (١٦٧٠–١٧٢٢م) الذي عرَّف الفكر بأنه
وظيفة من وظائف المخ، وكان من دعاة الدين الطبيعي. ومن العلماء روبرت هوك الذي رأيناه
سلفًا لنيوتن أقل حظًّا وقدرات رياضية، نظر هوك إلى الذاكرة كمجرد خزانة مادية، وزعم
أن
الفحص المجهري «الميكروسكوبي» لخلايا المخ يظهر أن فيه متسعًا لنحو مليوني فكرة يحصلها
الفرد البالغ أثناء حياته.
وانتقلت المادية من إنجلترا إلى القارة الأوروبية؛ لتصبح المذهب الرسمي للموسوعيين
الفرنسيين الذين تفانوا في عرضها وتأكيدها كما لم يحدث من قبل، مُسلِّمين بأن كل
الظواهر الغير مادية كالفكر والانفعالات والروح وما شابه هذا، إما أنها وظيفة ثانوية
للمادة أو أنها خرافة لا معنى لها. أخرج الموسوعي جوليان دي لامتري J. Lamattri (١٧٠٩–١٧٥١م) كتابه «الآلة الإنسانية»، الذي يُعد
من أكمل عروض الفلسفة المادية فيعزو إلى المادة القدرة على الحس والحركة. صحيح أن العقل
هو العلة، لكنه مادي بالضرورة؛ لأنه متحيز في الجسم، وإذا كان يصعب علينا تصور قيام
المادة بفعل التعقل فثمة أشياء أخرى كثيرة يصعب علينا تصورها. ويبحث لامتري في علم
التشريح والمشاهدات الطبية عما يؤكد توقف الظواهر النفسية على الظواهر البدنية، وأن
العقل مجرد وظيفة من وظائف المخ. وإلى مثل هذا ذهب أدريان هلفثيوس A. Helvetius (١٧١٢–١٧٧١م)، وطبعًا ديدرو نفسه الذي بدأ مؤمنًا
بالله، منكرًا للعناية الإلهية، وانتهى إلى أن المادة اكتسبت الحياة والحركة بذاتها عن
طريق التطور عن خلية أولى. وقد بلغت ماديته حدًّا جعله يشكك في قيمة الرياضيات وجدواها؛
ربما لأنها تقطع الصلة بالتجريب والتعامل الحسي مع المادة! وربما لأن العالم الرياضي
دالامبير تراجع ولم يكمل معه الموسوعة! ثم أفرط الطبيب الفرنسي بيير كابانيس P. Cabanis (١٧٥٧–١٨٠٨م) في إرجاع الظواهر
النفسية إلى العوامل المادية كالبيئة والمناخ والغذاء، وقال قولته الشهيرة: «المخ يفرز
التفكير كما تفرز الكبد الصفراء!» … وهذه صورة متطرفة يصعب قبولها، وإذا كان المخ يفرز
التفكير، فبالتأكيد ليس كما تفرز الكبد الصفراء، بل بآلية مختلفة تمامًا وأكثر تعقيدًا
بما لا يُقارن. وإلى مثل هذا التطرف انتهى الموسوعي هولباخ P. Holbach (١٧٢٣–١٧٨٩م) وهو ألماني لكن قضى حياته في باريس وكتب بلغة
فرنسية بليغة كتابه الضخم «نسق الطبيعة» ١٧٧٠م، حيث يتحدث عن الطبيعة بنفس اللهجة التي
يتحدث بها المؤمنون عن الله، ويحارب أي موجود فائق للطبيعة، فلا وجود إلا للمادة
والحركة، وهما أزليتان أبديتان، خصائصهما هي القوانين الطبيعية الضرورية، ولا مصادفة
ولا تدبير إلهي ولا غائية ولا نفس ولا حرية للإنسان؛ لأنها إنكار للنظام في الطبيعة،
ويختتم كتابه — كما يقول كولنجوود — بما لا يزيد أو ينقص عن الصلاة للمادة، بحيث إن
تغيير كلمة أو كلمتين يعطي صورة لصلاة مسيحية. هكذا كانت الواحدية المادية من جبهات
المواجهة بين العلم والدين، ولله في خلقه شئون!
وربما كان هذا أحد الأسباب التي جعلت الواحدية المادية، على الرغم من شديد اتساقها
في
حدودها مع الفيزياء الكلاسيكية ونظرتها الميكانيكية الحتمية للكون، لا تلقى رواجًا
كبيرًا، كانت مجرد تيار من تيارات الفلسفة الحديثة التي غلب عليها بصفة عامة الثنائية
الديكارتية، ثنائية المادة والعقل، فضلًا عن أن القرن التاسع عشر شهد مادية أخرى أكثر
حركية وتطورًا من تلك المادية الواحدية أو الكلاسيكية، إنها «المادية الجدلية» التي لا
تكتفي بأن تعزو إلى المادة تغيرات كمية، بل تعزو إليها أيضًا تغيرات كيفية، وقد وضعها
كارل ماركس K. Marx (١٨١٨–١٨٨٣م) برفقة
فردريك إنجلز F. Engels (١٨٢٠–١٨٩٥م) في محاولته
لجعل التاريخ علمًا دقيقًا، تمامًا كما جعل نيوتن الفيزياء علمًا دقيقًا. فوضع ماركس
أساسًا منهجيًّا لتفسير مراحل التاريخ هو هذه المادية الجدلية. وقد بلغها عن طريق تطوير
منهج أستاذه العظيم هيجل F. Hegel (١٧٧٠–١٨٣١م) المنهج
الجدلي، أو قلبه ليقف على قدميه الماديتين، بعد أن كان يقف على رأسه المثالي مع هيجل.
وعن طريق المراحل الثلاث للمنهج الجدلي: القضية أو الوضع، ثم النقيض، ثم المركب الشامل
الذي يجمع خير ما في النقيضين ويتجاوزهما إلى الأفضل — يزعم ماركس أن التاريخ انتقل من
المرحلة الإقطاعية إلى النقيض؛ وهو المرحلة البرجوازية الرأسمالية، وتغدو المرحلة
الجدلية الثالثة هي المرحلة الشيوعية التي تجمع خير ما في النقيضين وتتجاوزهما إلى
الأفضل، آتية حتمًا، وفقًا للحتمية الشاملة التي ألقاها العلم على الوجود.
وإذا عدنا إلى عصر التنوير، حيث استبدت الواحدية المادية بمجامع الموسوعيين
الفرنسيين، نجدها لم تلق هوًى مع التنويريين الألمان. على العموم بلغ التنوير الألماني
الذروة الشاهقة مع إيمانويل كانط I. Kant (١٧٢٤–١٨٠٤م)
شيخ الفلسفة الحديثة بلا منازع، تقوم فلسفته على الثنائية الشائعة، فيفرق بين الأشياء
في ذاتها «النومينا» والأشياء لذاتها «الفينومينا»، النومينا موضوع الميتافيزيقا، أما
الفينومينا أو الظواهر فهي موضوع العلم. ووضع كانط نظرية للمعرفة، هي علامة فارقة في
تاريخ الفلسفة، وفي الوقت نفسه أقوى تمثيل لروح الفيزياء النيوتينية والعلم الحديث،
وتقوم على عنصرين: هما العقل والحس، فالمقولات العقلية تتلقى المدركات الحسية لتشكلها
في صورة معرفة بعالم الظواهر، وعبر كانط عن هذا بقوله الشهير: «المقولات بدون المدركات
الحسية خواء، والمدركات الحسية بدون المقولات عمياء.» وعلى أساس من انسحاب الضرورة
الرياضية إلى حتمية فيزيقية، سلَّم كانط بأن القضايا الفيزيائية تمامًا كالقضايا
الرياضية، مطلقة يقينية ضرورية الصدق، والفارق الوحيد أن قضايا الرياضة قبلية — أي قبل
الخبرة الحسية وسابقة عليها، بينما قضايا الفيزياء بعدية.
هكذا صاغت التجريبية الإنجليزية روح العلم، ثم أفرط التنوير الفرنسي في محاولة
إنضاجها حتى كادت تحترق، وأعطتها قمة التنوير الألماني أصفى بلورة لها بنظرية كانط التي
عينت حدود العلم بعالم الظواهر، أي الفينومينا، وأوضحت أن النومينا — موضوعات
الميتافيزيقا — غير قابلة للإدراك.
فأصبحت أجواء النصف الأول من القرن التاسع عشر مهيأة لطرح الأساس والخلفية المكينة
التي سوف تنطلق منها فلسفة العلم، ألا وهي «الفلسفة
الوضعية Positivism» التي تعني الاقتصار على ما هو موضوع Posited أمامنا في العالم الواقعي التجريبي، ورفض أية استنتاجات فلسفية
أو ميتافيزيقية تتجاوز هذه الحدود، انطلاقًا من رفض كل ما لا يتحقق تجريبيًّا.
وكان هذا الطرح في فرنسا، وأول من استخدم لفظ وضعي Positif هو المفكر الطوباوي المبشر بالدراسة العلمية للإنسان والمجتمع
سان سيمون Saint-Simon (١٧٦٠–١٨٢٥م)، أراد أن يجعل
العلم شريعة البشرية وناموسها ودينها الجديد؛ لأنه طريق الخلاص الحقيقي للإنسانية، وكان
التفكير «الوضعي» مع سان سيمون يمثل اتجاهًا إيجابيًّا (كما يفيد معنى اللفظ) مقابلًا
لأخلاق المسيحية السلبية، ويجب أن يحل محل الأفكار الخارقة للطبيعة
والميتافيزيقية.
ثم أتى تلميذ سان سيمون وسكرتيره، أوجست كونت مؤسس علم الاجتماع ليضع الصياغة
المعتمدة للمذهب الوضعي. انتقد كونت الواحدية المادية، لكنه بالطبع تجريبي اعتبر
الميتافيزيقا من مخلفات الماضي، ويجب أن نستبدل بها القوانين العلمية، أي العلاقات
الثابتة بين الظواهر، ومن أجل هذا صاغ الوضعية بوصفها أساس ومنهاج ومنطق التفكير في
المرحلة العلمية، تعتمد على الملاحظة الحسية وترفض تجاوزها، وتنكر الفلسفة في صورتها
التقليدية كرؤية للعالم؛ اكتفاءً بالتفكير الوضعي الواقعي المباشر النسبي المقيد
بالمعطى التجريبي. وأصبحت الوضعية فلسفة ظاهرية متطرفة، أي مقتصرة فقط على الظواهر
البادية للملاحظات الحسية، حتى ذهب كونت إلى أن العلم ذاته وصف محض ولا شأن له
بالتفسير، وهدف العلم هو التنبؤ، وإنجاز هذا الهدف يعتمد على الوصول إلى قوانين تعاقب
الظواهر وفقًا للعلية.
وظلت الوضعية حاضرة قوية في الفلسفة الفرنسية بفضل أتباع كونت المخلصين، خصوصًا إميل
ليتريه وبيير لافيت. اعتبر ليتريه
E. Littre
(١٨٠١–١٨٨١م) نفسه من أشياع الفلسفة الوضعية، وأصدر عام ١٨٦٧م مجلة «الفلسفة الوضعية»
التي استمرت حتى عام ١٨٨٣م، لكنه يُعرِّض الوضعية لمنظار النقد ويعدد مناقصها في مجالات
الأخلاق والجمال وعلم النفس، ويعدِّل ويرفض بعض جوانبها خصوصًا منظورها السياسي. من ثم
كان لافيت
P. Laffite (١٨٢٣–١٩٠٣م) أكثر تكرسًا
للوضعية. وتحت تأثير تنميط كونت الثلاثي لمراحل تطور الفكر البشري، أخرج لافيت كتابه
«الأنماط الكبرى للإنسانية»، ومثلما وضع كونت «محاضرات في الفلسفة الوضعية» وضع لافيت
كتابه «دروس في الأخلاق الوضعية». وكما أشرنا حين الحديث عن جورج سارتون (في الفصل
الأول) فإن تنميط كونت لمراحل الفكر البشري من المرحلة اللاهوتية إلى المرحلة
الميتافيزيقية وصولًا إلى المرحلة العلمية الوضعية، يوعز أهمية تاريخ العلم. وقد أنشئ
كرسي التاريخ العام للعلوم في الكوليج دو فرانس عام ١٨٩٢م من أجل بيير لافيت، شغله حتى
وفاته عام ١٩٠٣م، وكان قد أصدر «المجلة
الغربية
Revue Occidental»
٤ عام ١٨٧٨م؛ لتكون معبرة عن الفلسفة الوضعية بوصفها اتجاهًا عامًّا للحضارة
الغربية.
والواقع أن الوضعية إلى حد كبير هكذا، لقد صيغت في فرنسا كتجسيد لروح العلم التي
انتشرت في أوروبا، فلا تنفصل البتة عن اتجاه جون ستيوارت مل وهربرت سبنسر في إنجلترا
أو
اتجاه أفيناريوس وماخ في ألمانيا وأمثالهم، وسوف نعرض لهم لاحقًا. ولكن الآن — في تلك
الحقبة من القرن التاسع عشر — قد نشأت فلسفة العلم، وفي سياقها كمبحث تخصصي، ثم احتواء
الروح الوضعية في إطار صورة أكثر منهجية، تُعرف بالنزعة الاستقرائية، وهي بالنسبة لنا
بيت قصيد.
ثانيًا: نشأة فلسفة العلم
كل هذه الاستجابات القوية لروح العلم التي رأيناها، كانت موزعة بين مباحث الفلسفة
ومناحي الفكر الإنساني الذي رام أن يكون تقدميًّا، وباستثناء عمل فرنسيس بيكون
«الأورجانون الجديد» عام ١٦٢٠م ظل السؤال عن الإبستمولوجيا العلمية مطروحًا في إطار
انشغال الفلسفة بنظرية المعرفة عمومًا، وبعد أن صيغ مصطلح العالم Scientist فقط في عشرينيات القرن التاسع عشر لتعيين ذلك النشاط المعرفي
الاحترافي، حينئذ فقط ترسمت حدود ومعالم فلسفة العلم كمبحث تخصصي مستقل ومتميز وتوالت
أدبياتها، بوصفها نشاطًا يهدف إلى تكوين معرفة بالمعرفة العلمية أو نظرية عن النظرية
العلمية.
فلم تكن صياغة مصطلح العالِم مجرد مفردة أضيفت للقاموس، بل كانت دلالة واضحة على أن
البحث العلمي قد ترسمت معالمه الراسخة بوصفه منشطًا ذا حدود مهنية قاطعة وآليات متعينة
ووسائل نافذة تحكم عملية إنتاج منتظمة وراهنة للمعرفة. باختصار انتصب مارد النسق العلمي
كفعالية جبارة، ترتكز على منهج محدد عمادة التجربة، فتبلورت فلسفة العلم لتصبح الوسائل
المعرفية نفسها — أي المنهج العلمي — مادة بحث.
وساد الإجماع آنذاك ولحقبة طويلة لاحقة على أن المنهج العلمي هو الاستقراء الذي
رأيناه بصفة مبدئية تجريدًا وتجسيدًا لروح العصر الحديث بأسرها، وعلينا الآن أن نقف
عليه كما بلورته فلسفة العلم بوصفه منهج العلوم التجريبية الإخبارية التي تضطلع
بالإخبار عن هذا الواقع، سواء فيزيوكيماوية أو حيوية أو إنسانية.
والمنهج
Method بصفة عامة هو الطريقة،
٥ بمعنى الطريق الواضح الذي يفضي إلى غاية مقصودة، فيكون المنهج طريقًا
محددًا لتنظيم النشاط من أجل تحقيق الهدف المنشود. والمنهج العلمي هو طريقة تنظيم عملية
اكتساب المعرفة العلمية، إنه المبادئ التنظيمية الكامنة في الممارسات الفعلية للعلماء
الذين انخرطوا بنجاح في إنتاج المعرفة العلمية والإضافة لنسق العلم.
وكان المنهج العلمي التجريبي هو الاستقراء. الاستقراء في اللغة هو التتبع، ومن استقرأ
الأمر فقد تتبعه لمعرفة أحواله. وعند التطبيقيين هو الحكم على الكلي لثبوت ذلك الحكم
في الجزئي،
٦ إن منهج الاستقراء
Induction هو المقابل
تمامًا لمنهج الاستنباط
deduction، فهذا الأخير
استدلال هابط يبدأ من مقدمات كلية ويهبط منها إلى نتائج جزئية تلزم عنها بالضرورة،
وبغير حاجة إلى تجريب، ويظل دائمًا — في صورته المثمرة — منهج العلوم الصورية
Formal Sciences كالمنطق والرياضيات. وكان
القياس الأرسطي إحدى صوره المجدبة، أما الاستقراء — منهج العلوم الإخبارية
informal sciences — فهو استدلال صاعد، يبدأ
من ملاحظة جزئيات تجريبية ليصعد منها إلى صيغة كلية على هيئة قانون عام يحكم جميع
الحالات المتماثلة أينما وقعت ووقتما وقعت. فإذا حدثت الظروف التي لوحظ أنها توجب وقوع
الظاهرة أمكن التنبؤ بحدوثها. هكذا نجد الاستقراء في جوهره عملية تعميم للملاحظات
التجريبية، وهذا التعميم يستند على مبدأين هما — أولًا — قانون العلية، أي إن كل ظاهرة
لها علة سببتها، فتنتظم أحداث الكون في تسلسل عِلِّي، وثانيًا — قانون اطراد الطبيعة،
بمعنى أن ظواهر الطبيعة تجري بشكل مطرد على وتيرة واحدة لا تتغير، ما حدث اليوم سوف
يحدث غدًا وإلى الأبد. فكل شيء حدث وسوف يحدث هو مثال لقانون عام لا يعرف الاستثناء
طالما أنه محكوم بعلاقة علية ضرورية، وكما رأينا في عرض إبستمولوجيا العلم الحديث، هذان
القانونان — العلية والاطراد — وجهان لعملة واحدة طالما أن العلية لا تعدو أن تكون
اطراد التعاقب في الطبيعة، وذلك في إطار الحتمية الكونية الشاملة.
وبلغ الإيمان بالاستقراء كقواعد تنظم عملية إنتاج المعرفة العلمية حدًّا جعل فلاسفة
العلم يتبارون في تحديد خطوات الاستقراء وترتيبها تصاعديًّا وصولًا إلى الكشف أو
النظرية العلمية. وأهم ما في هذا الترتيب أن الخطوة الأولى هي الملاحظة التجريبية، فلا
بد أن يبدأ العالم بملاحظة عدة أمثلة للظاهرة موضوع الدراسة، ملاحظة دقيقة مقصودة
منتقاة وهادفة، مرتبة ومتواترة، تتصف طبعًا بالنزاهة والموضوعية والدقة التي توجب
استخدام الأجهزة المعملية إلى أقصى حد ممكن وصولًا للتكميم الدقيق، وما التجربة
المعملية إلا اصطناع الظروف المطلوب ملاحظتها، وهناك علوم تعتمد على الملاحظة فقط
كالفلك والجيولوجيا، وعلوم تعتمد على التجربة فقط كالفيزياء والكيمياء، وعلوم تجمع بين
الاثنتين كعلوم الطب والحياة.
الخطوة الثانية للمنهج العلمي التجريبي هي التعميم الاستقرائي للوقائع التي لُوحظت،
فإذا اشتعل الخشب كلما تعرض للهب في سائر الوقائع التي لوحظت، أمكن الخروج بالتعميم
الاستقرائي: الخشب قابل للاشتعال، وعلى سبيل المثال، أجرى باستير ملاحظات عديدة على
مواد قابلة للفساد، تعتبر مثالًا يحتذى للتجريب العلمي، وخرج بتعميم استقرائي لها في
صور القانون: لا تفسد المواد القابلة للفساد إلا إذا تُركت مكشوفة. والخطوة الثالثة
للمنهج الاستقرائي — كما صاغه فلاسفة العلم — هي افتراض فرض يعلل أو يفسر هذا التعميم،
كافتراض أن الخشب قابل للاشتعال؛ لأنه يتحد بالأكسجين، أو افتراض باستير أن الهواء يسبب
الفساد؛ لأنه يحتوي على كائنات دقيقة. والخطوة الرابعة هي التحقق من صحة الفرض، لا بد
أن يكون من الناحية المنطقية قادرًا على حل المشكلة المطروحة للبحث ومتسقًا مع ذاته،
ومع القوانين العلمية الأخرى المعمول بها. وتبرز محورية التجريب مجددًا حين نجد أن
إنجاز هذه الخطوة يكون بإثبات الفرض أو دحضه، عن طريق اختباره تجريبيًّا، ويكون قبول
الفرض أو تعديله، أو رفضه والبحث عن فرض آخر إذا تم دحض، كل هذا وفقًا لنتائج محكمة
التجريب، تنفيذ حكمها يعني الخطوة الأخيرة للمنهج، وهي بلوغ معرفة جديدة والإضافة إلى
بنيان العلم.
ولا نحسبن أحدًا من فلاسفة العلم المحترفين آنذاك قد اعتقد حقًّا أن هذه المصفوفة
لخطوات المنهج الاستقرائي (ملاحظة ثم تعميم، افتراض فرض، التحقق منه، البرهان أو الدحض
وبالتالي المعرفة) الشائعة في الكلاسيكيات البائدة لفلسفة العلم التجريبي هي المفتاح
الذهبي للإنجاز في العلم، كما تصور بيكون من قبل. الواقع أنها لم تكن إلا تبريرًا Justification للقانون العلمي وتمييزًا للمعرفة
العلمية. إنها معيار يلحق بنتيجة جاهزة، فقد انطلق فلاسفة العلم التجريبيون المتطرفون
من هاجس الافتتان بالنسق العلمي في حد ذاته؛ لتغدو فلسفة العلم معنية فقط بتبرير
المعرفة العلمية كما هي معطاة. وهذا التبرير يستند أولًا وأخيرًا على إحكام العلاقة بين
الوقائع التجريبية والنظرية العلمية أو القانون العلمي، وكيفية الانتقال من هذه إلى
تلك، وما ينبغي أن نلاحظه هنا أن «تاريخ العلم» يغدو مسألة ثانوية أو جانبية، ليس من
شأنها أن تلقي الضوء على النسق العلمي الذي تفجر ألقه، أو أن تساهم في تعميق النظرة
إليه، فضلًا عن دفع معدلات تقدمه واستشراف آفاقه، وأصبح هذا هو الموقف السائد المعترف
به لفلسفة العلم وإلى ما بعد منتصف القرن العشرين بعقد من الزمان.
إذن فحين تبلورت فلسفة العلم وأصبحت وسائل المعرفة العلمية ذاتها مادة بحث — أي حين
انفصل النشاط النظري الهادف إلى تكوين نظرية عن النظرية العلمية — انحصر همُّ فلاسفة
العلم في أطر المنهج من حيث هو تقنين للانتقال من التجربة إلى القانون، وداروا بين رحى
جهاز من المفاهيم رأوه قادرًا على تبرير المعرفة العلمية، بوصفها معرفة صدقها أفضل ما
يمكن أن يُوثق به. وفي إطار منطق التبرير اللاتاريخي الذي ازدهر وساد طوال القرن التاسع
عشر، تنامت مباحث فلسفة العلم، وأينعت نظرياتها حول المنهج العلمي وخطواته ومصادراته
وطبائعه، ومقولاته العلمية كالحتمية والعلية واليقين والاحتمالية، ووظيفة العلم بين
الوصف والتفسير والتنبؤ، وطبيعة القانون العلمي، وترسخ الاتجاه نحو اعتبار النظرية
العلمية أساسًا مجرد تعميمات استقرائية، خصوصًا وأن هذا الاعتبار ملائم تمامًا للفيزياء
الكلاسيكية، وهي لم تقتحم بعد عالم ما دون الذرة وتتعامل مع كون فيزيائي كل شيء فيه
قابل للملاحظة الحسية، فما أيسر أن نلاحظ ثم نعمم؛ لذا ساد المرحلة الأولى من فلسفة
العلم هذا الاتجاه التبريري اللاتاريخي، المواصل لمسار الفلسفة الوضعية، والمفرط في
الارتكاز على المنهج الاستقرائي بصورته التقليدية التي تصر على البدء بالملاحظة، وتجعل
نسق العلم بناءً مشيدًا على أسس صلبة هي الملاحظات أو الوقائع التجريبية. وهذا الاتجاه
هو ما يُعرف بالمذهب الاستقرائي أو النزعة الاستقرائية Inductivism، على أن نلاحظ الفارق بين المنهج الاستقرائي والمذهب
الاستقرائي.
أجل، كان الاستقراء آنذاك مسلمًا به بوصفه منهج العلوم التجريبية، لكن الاقتصار عليه
فقط، والارتكاز على حجة تعميم الوقائع التجريبية بوصفها تبريرًا كافيًا للمعرفة
العلمية، هو تجريبية متطرفة انتهى إليها أصحاب النزعة الاستقرائية. إنهم الاستقرائيون
الخلص، أو أكثر الاستقرائيين استقرائيةً التجريبيون المتطرفون، وأكثرهم تطرفًا جون
ستيوارت مل، أبرز من تفانوا في صياغة الاستقراء كمنهج وكمذهب.
وعلى الرغم من أنه يصعب إرجاع التوجهات الفكرية السائدة إلى اعتبارات شخصية، فضلًا
عن
أن العلم بالذات هو الذي علَّم البشرية كيف تكون العوامل الموضوعية، إلا أنه لا يمكن
فصل سيادة النزعة الاستقرائية التبريرية اللاتاريخية عن قوة شخصية جون ستيوارت مل،
وانتصاره في المناظرة بينه وبين وليم هيوول في أواسط القرن التاسع عشر، وانتهت بالغلبة
لمل وفريقه التجريبي المتطرف، بينما توارى في الظلام وليم هيوول ورؤاه الثاقبة.
ربما كان جون ستيوارت مل أكثر تعبيرًا عن روح العصر الوضعي، بينما كان هيوول سباقًا
لعصره. على أية حال، فإن المناظرة أو المقابلة بينهما تُعد نقطة البدء والمرحلة الأولى
الريادية لفلسفة العلم كنشاط فلسفي مستقل ومتميز عن فروع الفلسفة الأخرى؛ لذا يجمل بنا
التوقف عند كل من طرفيها. وصحيح أن وليم هيوول — الأقل حظًّا وشهرة — هو الطرف المغلوب،
إلا أنه الأكبر سنًّا والأسبق في الإنتاج، ويمكن أن نقول وأيضًا الأبعد نظرًا؛ لذلك سوف
نبدأ به، ثم ننتقل إلى جون ستيوارت مل واتجاهه الذي ساد، فيمكن في إثره أن نتتبع مسار
فلسفة العلم وتطوراتها. وفي أعقاب مل، لا بد من العود إلى فرنسا والإشارة إلى نظرية
كلود برنار المنهجية؛ لأنها تُعد من المعالم البارزة في مسار نظرية المنهج التجريبي
آنذاك، والتي رأيناها صلب فلسفة العلم. إن فلسفة العلم في منتصف القرن التاسع عشر تكاد
تكون موزعة بين إنجلترا وفرنسا، مع بضعة إسهامات لاحقة من ألمانيا. فهل جزافًا أن كانت
إنجلترا وفرنسا آنذاك سيدتا العالمين، تتباريان لاقتسامه واحتلاله، أم إن الأمر كما قال
فرنسيس بيكون منذ البداية: العلم قوة؟
ولد وليم هيوول W. Whewell (١٧٩٤–١٨٦٦م) في لانكستر،
وتوفي في كمبردج بعد أن قضى معظم حياته في جامعتها، طالبًا وزميلًا وأستاذًا بكلية
ترنتي «الثالوث» العريقة، حيث شغل منصب أستاذ كرسي فلسفة الأخلاق، وقبل أن يكون فيلسوف
علم رائدًا، كان أيضًا عالمًا وعضوًا في الجمعية الملكية للعلوم، وبفضله وضعت الجمعية
مصطلح عالِم Scientist. درس علم المعادن، وله أعماله
في الفلك والفيزياء العامة والميكانيكا، قيل عنها: إنها أساسًا كتابات تعليمية، ولكنه
ساعد فاراداي في وضع عدد من المصطلحات الهامة في مجال الصلة بين الكهرباء والتحاليل
الكيميائية.
وهو أيضًا مؤرخ للعلم، في عصره الذي لم يُعن بتاريخ العلم إلا قليلًا، وتركه
للمحاولات الفردية. أصدر هيوول في عام ١٨٣٧م «تاريخ العلوم الاستقرائية» في ثلاثة
مجلدات تمتد من أقدم العصور حتى عصره الراهن. وطبعًا في سياق النعرة الأوروبية الممهدة
لعصر الاستعمار الوبيل، تكون أقدم العصور هي العصور الإغريقية، ثم السكندرية، الكتاب
يستبعد الإشارة لما هو خارج مسار ونطاق الحضارة الغربية. ثم أصدر عام ١٨٤٠م كتابًا آخر
بعنوان «فلسفة العلوم الاستقرائية المؤسسة على تاريخها»، وفي مواجهة النزعة الاستقرائية
التجريبية المتطرفة اللاتاريخية، يؤكد هذا الكتاب أن فلسفة العلم لا تدرك المنهج العلمي
حق الإدراك إلا من خلال فاعليته عبر تاريخ العلم؛ لذلك يتلاحم في عنوان الكتاب الطرفان:
تاريخ العلوم الاستقرائية وفلسفة العلوم الاستقرائية. وصدرت لهذا الكتاب طبعة ثالثة
مزيدة وموسعة تحت ثلاثة عناوين مستقلة: الأول «تاريخ الأفكار العلمية» في مجلدين عام
١٨٥٨م، والثاني في نفس العام بعنوان «إحياء الأورجانون الجديد»، والثالث «في فلسفة
الكشف» عام ١٨٦٠م؛ حيث يعرِّض نظرية جون ستيوارت مل المنهجية للنقد الشديد.
والوعي التاريخي الذي سبق به هيوول فلسفة العلم في عصره، يتجلى بقوة في الكتاب الأول
«تاريخ الأفكار العلمية» يقول: إنه عنوان فرضته طبيعة المادة المعروضة ومضمونها، وإنه
استقى هذه المادة من صلب الأعمال الكبرى خلال تاريخ العلم وهو بصدد إعداد كتابه الأول
«تاريخ العلوم الاستقرائية» الذي يعرض لتاريخ العلم بقدر ما هو معتمد على الوقائع
والملاحظات، بينما «تاريخ الأفكار العلمية» يعرض لتاريخ العلم بقدر ما هو معتمد على
الأفكار والمفاهيم والتصورات. ويوضح الكتاب أن مناقشة النظريات تهدف إلى جعلها متسقة
مع
شروط وظروف التفكير البشري. ومن ثم يناقش الكتاب تاريخ المفاهيم العلمية الكبرى كالمكان
والزمان والعدد والحركة والعلة والقوة والمادة والوسط والكثافة والعنصر والانجذاب
والجوهر والذرة والتماثل والمشابهة والأنواع والحياة والوظيفة والقوى الحيوية والعلل
الغائية والعلة الأولى … ويؤكد هيوول أن المناظرات حول التحديد الدقيق لهذه الأفكار أو
المفاهيم وخصائصها ودورها تشكل القطاع الأساسي من تاريخ العلم وأيضًا من فلسفته، ولن
تكتمل أية فلسفة للعلم بدون أن تضع حلولًا للإشكاليات والصعوبات والتناقضات التي تثيرها
المناظرات حول هذه الأفكار والمفاهيم؛ لذلك حاول هيوول عبر صفحات الكتاب أن يوضح الأصول
الباكرة لهذه المفاهيم وتطوراتها حتى وصولها إلى الأشكال التي اتخذتها في القرن التاسع
عشر، موضحًا ما بدا له من حل أمثل لكل إشكالية تثيرها تلك المناظرات، وقد تأدى به الأمر
إلى التوغل أحيانًا في أعماق الميتافيزيقا، مؤكدًا أن مثل هذه الميتافيزيقا جزء جوهري
من تقدم العلم،
٧ في مواجهة الوضعية والنزعة الاستقرائية التي تقصف تمامًا الأبعاد
الميتافيزيقية.
هكذا أعطانا وليم هيوول فلسفة للعلم قائمة على الوعي بتاريخه، مخالفًا بهذا النزعة
الاستقرائية التجريبية المتطرفة باتجاهها اللاتاريخي المقتصر على النسق العلمي كمنجز
راهن. وبالتالي لا بد أن تكون نظرة هيوول للمنهج التجريبي مختلفة.
بدايةً سلَّم هيوول بناموس العصر: الاستقراء كما هو واضح من مجرد عناوين كتبه، لكن
الوعي التاريخي الذي تسلح به جعل المنهج التجريبي معه — ولنقل الاستقراء — أكثر حيوية
وتبصرًا من الاستقراء التقليدي القائم على تعميم الملاحظات المستقرأة، الذي اعتمدته
النزعة الاستقرائية، فيقول هيوول: إن دراسة تاريخ العلم تكشف عن عملية استقرائية لا
تُماثل البتة حجة التعميم التي يتمسكون بها، بل ثمة ربط للوقائع التجريبية من خلال
مفهوم عقلي عبقري. من هنا أكد على نقطة
غامضة
Mysterious Point في الانتقال من الملاحظة إلى القانون، وأوضح أن الفروض العلمية
بالأمس قد تبدو اليوم في صورة وقائع تجريبية. إنها نظرية عقلية تم إدراكها؛ لذلك قيل:
إن فلسفة هيوول عقلانية
استقرائية
Inductive Rationalism.
٨
لقد صحبه في السنوات الأخيرة من عمره شعور حاد بأن الاستقراء لا يكفي. لم يكن عصره
يسمح بإسقاط الاستقراء، فاكتفى هيوول بأن الاستقراء والاستنباط يصعدان ويهبطان نفس
الدرج. وعلى أساس المفهوم العقلي العبقري أو النقطة الغامضة، عمل هيوول على تطوير
المنهج التجريبي؛ ليتخذ صورة المنهج الفرضي الاستنباطي الذي يعني إبداع فروض علمية ثم
اختبارها تجريبيًّا، والحكم عليها والاختبار بينها وفقًا لنتائج التجريب. ولم تُعرف
قيمة هذه الدعوة إلا في النصف الثاني من القرن العشرين، حين تبلورت صورة المنهج
التجريبي بوصفه اختبارًا للفروض وليس البتة تعميمًا لوقائع مستقرأة، وأصبحت الأطراف
المعنية تتفق على أن المنهج التجريبي هو المنهج الفرضي الاستنباطي؛ لذلك قلنا: إن هيوول
سبق روح عصره.
لقد أدرك بجلاء أن المسألة أعمق من التعميم الاستقرائي، وأن المعرفة العلمية ليست
محصلة التجريب، بل محصلة تفاعل العقل مع معطيات الحواس. وبينما انشغل أصحاب النزعة
الاستقرائية بالوقائع الجزئية الملاحظة، انشغل هيوول بإبداع الفرض العلمي وبالنظرية
ودور العالم وإمكانياته العقلية، مؤكدًا خطأهم في إهمال الفرض والتعويل على التعميم.
من
هنا صب جون ستيوارت مل جامَّ نقده على هيوول، واعتبر فكرة الفرض عنده تأثرًا منه بكانط
ونزوعًا نحو المثالية الألمانية.
٩
فتراجعت نظرية هيوول الأكثر نفاذًا واستبصارًا التي تُقرر دور العقل الإنساني المحوري
في الإنجاز العلمي، مثلما تراجعت رؤيته لفلسفة العلم المسلحة بتاريخه، وساد الاتجاه
المقابل لأصحاب النزعة الاستقرائية التبريرية اللاتاريخية. إنهم التجريبيون المتطرفون،
وقد التفوا حول علم أعلام فلسفة العلم آنذاك، جون ستيوارت مل، بكل ما ملكه من ألق
اجتماعي ومقام رفيع يغرينا بأن نتعرف على شخصيته كمدخل لعرض فلسفته للعلم التي
سادت.
لقد قيل: إن حياة جون ستيوارت مل J. S. Mill
(١٨٠٦–١٨٧٣م) تلخيص لمسار الأمة الإنجليزية في تلك الحقبة من العصر الفيكتوري — حكم
الملكة فيكتوريا — الذي يُعد من أزهى عصورها. وكان مل رفيع الخُلق، جَم الفضائل، مُرهف
المشاعر، وإذا كانت قدراته الإبداعية محدودة فإنه أنموذج للباحث الجاد والمفكر الملتزم،
ومحل احترام وإكبار من الخصوم قبل الأنصار ومن الأعداء قبل الأصدقاء، وقد نُشِّئ تنشئة
خليقة بإخراجه هكذا، فأبوه جيمس مل (١٧٧٣–١٨٣٦م) من أعلام فلاسفة عصره، أدرك منذ نعومة
أظفار ولده تألق قواه العقلية، فاستشعر المسئولية إزاء تربيته وتثقيفه وإعداده للمهام
الفكرية، لم يأل الأب جهدًا ولا وقتًا من أجل هذا، وبلغ إحساسه بالمسئولية إزاء الطفل
النجيب أن استبد به الخوف من أن توافيه المنية قبل أن يتم تنشئته، فأهاب بصديقه
الفيلسوف الأبعد منه صيتًا وأثرًا جيرمي
بنتام J. Bantam (١٧٤٨–١٨٣٢م) بأن يشاركه العبء في حياته، وأن يتكفل بالفتى إن
هو تُوفي، فرحب بنتام بهذا، غير أنه قضى نحبه قبل صديقه جيمس مل بأربع سنوات!
ومن جرَّاء هذا نشأ الصبي بين طوفان من عوالم المعرفة، ينهل على عقليته بمنهجية
وإحكام، فأتقن اليونانية قبل أن يتم عامه الثامن واطلع على تراثها الزاخر، وتراث
الرومان. علَّم نفسه الرياضيات واتصل — طبعًا — بمنجزات العلوم في عصره. قرأ كثيرًا في
التاريخ والقوانين وأصول التشريع والاقتصاد السياسي، وانتابته أزمة نفسية عنيفة في
العشرين من عمره، خرج منها بأهمية الشعر والأدب. وبينما بدت الفلسفة الألمانية في نظره
كتابًا مغلقًا بسبعة أختام لم يجد في نفسه أدنى رغبة لفضها، فُتن فتنة شديدة بالحضارة
الفرنسية وأتقن لغتها وتتبع منجزاتها، وكان كثير التردد على فرنسا. أمضى جون ستيوارت
مل
حياته في قصة حب رومانسية غريبة لليدي هارييت تيلور التي ما فتئ يعدد مناقبها وأياديها
البيضاء على إنجازاته الفكرية. ظل أكثر من عشرين عامًا ينتظرها، حتى تُوفي زوجها عام
١٨٤٩م وتزوجها جون ستيوارت عام ١٨٥٢م وبعد ست سنوات أسلمت الروح وكانا في فرنسا،
فواراها التراب هناك واشترى منزلًا بجوار قبرها المحبوب. كان صديقًا لأوجست كونت، رفيقه
في نفس المنطلقات. ألَّف مل عام ١٨٦٥م كتابًا عن فلسفته الوضعية وناصره بحماس في دعواه
بضرورة إخضاع العلوم الاجتماعية للمنهج التجريبي.
كان جون ستيوارت مل قد عمل في مطلع حياته بشركة الهند الشرقية، وتدرج في مناصبها حتى
وصل إلى أعلاها. ولما حُلت الشركة عام ١٨٥٨م وصار البرلمان الإنجليزي هو الذي يحكم
الهند، وعمَّ الفرح في إنجلترا بالجوهرة التي ظفر بها التاج البريطاني، كان مل — وهو
عضو بالبرلمان في ذلك الوقت — من أعنف المهاجمين لهذا والمنددين بالاستغلال الوحشي
للهند، والمطالبين بترك حكم الهند لأهلها! ولا غرو، فقد اقترن اسم مل بتمجيد الحرية
واحترام رأي الفرد وحقوقه. ويُعد كتابه «في الحرية ١٨٥٩م» دستورًا للنظام الديمقراطي
للحكم في إطار ليبرالي. واتخذ في الأخلاق المذهب الذي ورثه عن أبيه وأستاذه بنتام، مذهب
المنفعة العامة الذي يعني أن هدف القيم الأخلاقية هو تحقيق أكبر قدر من السعادة لأكبر
عدد من الناس. وفي النهاية أخرج مل كتابه «استعباد النساء ١٨٦٩م» الذي يُعد المقدمة
الحقيقية لاستقلال المرأة في القرن العشرين. لقد عاش مل ملء الأسماع والأبصار، فهل ساعد
هذا على التمكين للنزعة الاستقرائية؟!
فقد كان جون ستيوارت مل متطرفًا في تجريبيته حتى بلغ إيمانه بالاستقراء مبلغًا لم
يبلغه أحد من قبله ولا من بعده، فالاستقراء عنده الطريق الوحيد الذي لا طريق سواه، ليس
فقط للمعرفة العلمية، بل أيضًا لكل وأية معرفة صحيحة أو حقيقية. وباختصار كل مكونات
الذهن ومحتوياته مجرد تعميمات استقرائية، لا يُستثنى من ذلك شيء البتة، حتى قوانين
الرياضة «٢ + ٢ = ٤»، وقوانين الفكر الصورية مثلًا «أ هو أ» … كلها ليست إلا تعميمات
استقرائية لكثرة ما لاحظته حواسنا من أن اقتران ٢ و٢ ينتج عنه دائمًا ٤، ومن أن أ هي
دائمًا أ، لم يكن الاستقراء عند مل مجرد منهج للعلم، بل هو أيضًا منطق الحقيقة Logic of
truth.
أجل، كان مل معاصرًا لمواطنه جورج بول
G. Boole
(١٨١٥–١٨٦٤م) الذي فجَّر ثورة المنطق الرياضية الرمزية، لكنه لم يشهدها وهي تؤتي أكلها
في القرن العشرين. وفي أيام مل كان المنطق لا يزال هو المنطق الصوري الأرسطي. رفض مل
المنطق الصوري بجملته وليس فقط قياساته العقيمة، قائلًا: إنه منطق للاتساق وإقامة
البرهان … لذلك فهو استدلال ظاهري لا يتضمن أية إضافة ولا يناسب إلا الله الذي أحاط بكل
شيء علمًا، فيستنبط من هذا العلم الشامل ما يريد. أما الإنسان فهو بحاجة إلى منطق يتعقب
الحقيقة ويأتيه بمعرفة جديدة لن تكون إلا بالاستقراء؛
١٠ أي الاستدلال التجريبي الذي هو الاستدلال الحقيقي الوحيد. إن الاستقراء —
كما يجزم مل — هو منطق العلم ومنطق العمل ومنطق التفكير ومنطق الحياة، والسبيل المعرفي
الواحد والوحيد المثمر الذي يمتلكه الإنسان.
وفي هذا الإطار وضع مل أضخم وأهم كتبه «نسق المنطق ١٨٤٣م»، محاولًا تحقيق حلمه بأن
يكون نبي الاستقراء مثلما كان أرسطو نبي القياس. وكما وضع أرسطو للقياس أشكالًا
وضروبًا، وضع مل للاستقراء لوائح أو مناهج، ضمنها الكتاب الثالث من «نسق المنطق»،
الفصول الثامن والتاسع والعاشر. إنها خمسة مناهج رآها مل جامعة مانعة لأساليب البحث
التجريبي والعلمي، ولطرق التفكير المنتج إجمالًا! خمسة مناهج هي وسيلة اكتشاف العلاقات
العلية وإثباتها، وهي على النحو التالي:
- (١)
منهج
الاتفاق
Method of Agreement: وينص على أنه إذا اتفق مثالان أو أكثر للظاهرة المطروحة للبحث في نفس
الظرف، كان هذا الظرف الذي تتفق فيه كل الأمثلة علة لهذه الظاهرة، أو
معلولًا لها،
١١ إنه منهج التلازم في الوقوع بين العلة والمعلول، ويستلزم جمع
أكبر عدد ممكن من الحالات التي تبدو فيها الظاهرة، والمقارنة بين عناصرها،
وتحديد ما هو السابق وما هو اللاحق، السابق هو العلة واللاحق هو
المعلول.
وهذا المنهج يعبر عن طريقة شائعة الاستعمال في الحياة اليومية أكثر منها
في البحوث العلمية، فالظواهر الطبيعية قد لا تكون بهذه البساطة بحيث يظهر
دائمًا العامل الواحد الذي لا يتغير، وقد تتشابك الظروف وتختلط، ويظهر
العنصر مع آخر من قبيل التصادف العرضي في الوقوع.
- (٢)
منهج
الاختلاف Method of Difference: وينص على أنه إذا حدث مثالان تقع الظاهرة المطروحة للبحث في أحدهما ولا
تقع في الآخر، واتفق المثالان في كل شيء ما عدا عامل واحد، كان هذا العامل
المختلف فيه هو علة الظاهرة، أو معلولها، أو جزءًا ضروريًّا من علتها،
بحدوثه في المثال الأول حدثت الظاهرة، وبغيابه في الآخر غابت. إنه نوع من
البرهان العكسي، وقد يحوي نفس قصور المنهج السابق فيكون اختلاف العاملين
مجرد تصادف، بالإضافة إلى صعوبة تحقيقه، فاستبعاد العلة قد يعني استبعاد
الظاهرة بأسرها، وإن كانت الوسائل التحليلية للبحث العلمي تستطيع التغلب
على هذه الصعوبة.
على أية حال يُعد هذا المنهج أقوى المناهج، وفكرته الأساسية خصبة للغاية
وأساس نظريات منهجية حديثة في القرن العشرين، وإن كان بيكون قد أرسى أصوله
بقائمة الغياب.
- (٣)
منهج الجمع
بين الاتفاق والاختلاف Joint Method of Agreement and Difference: وهو منهج يجمع بين الطريقتين السابقتين، فيكون أكثر فعالية من أيهما على
حدة. إنه محاولة التحقق من ظهور المعلول بظهور العلة، واختفائه باختفائها،
أو ما أسماه الإسلاميون دوران العلة مع معلولها وجودًا وعدمًا.
- (٤)
منهج البواقي
Method of Residue: وهو منهج لوضع الافتراض أكثر منه لتحقيقه، وينص على أنه إذا كان لدينا
ظاهرة ما لها عدة عناصر، عرفناها بالعمليات الاستقرائية السابقة على أنها
علة لمعاملات لاحقة معينة، فإن ما يتبقى من عناصر تلك الظاهرة هو علة لما
تبقى من معلولاتها اللاحقة،
١٢ ونَّوه مل إلى أنه يعتبر هذا المنهج من مناهج التجريب بشيء من
التجاوز؛ لأنه لا يستقل عن الاستنباط ثم يتطلب خبرات تجريبية، فضلًا عن أنه
يعتمد على ممارسات المناهج الثلاثة السابقة. إذن كان من الأليق أن يأتي هذا
المنهج في مؤخرة قائمة المناهج، غير أن مل وضعها في «نسق المنطق» بهذا
الترتيب.
- (٥)
منهج التلازم في
التغير Method of Concomitant Variation: وهو يعني الكشف عن العلاقة الكمية بين العلة والمعلول، أي التناسب الطردي
بين شدتيهما؛ لذلك فهو أدق المناهج؛ لأنه منهج للتكميم.
وضع جون ستيوارت مل هذه المناهج الخمسة ليُلزم بها الباحث إلزامًا، إن لم نقل ليُلزم
البشرية بأسرها طالما أن الاستقراء أسلوب المعرفة والتفكير المثمر الوحيد، ومل «لا يعرف
ولا حتى يستطيع أن يتخيل مناهج سواها»!
١٣ ويعترف مل بفضل وليم هرشل
W. Herschel
(١٧٣٨–١٨٢٢م)، وهو عالم فلكي، صنع بمعاونة شقيقته كارولين مرصدًا يحوي مراقب «تلسكوبات»
محسنة، فاكتشف عام ١٧٨١م كوكب أورانوس وأقماره وأيضًا قمرين لزحل، ووضع كتابه
«خطاب تمهيدي لدراسة الفلسفة الطبيعية
Preliminary Discourse on the Study of Natural Philosophy»، حيث كان مصطلح الفلسفة
الطبيعية في القرن الثامن عشر لا يزال يعني «العلوم الطبيعية»، ويُعد هذا الكتاب من
معالم تاريخ الاستقراء في صورته التقليدية ومحاولة صياغته كمنهج للعلم الحديث، وكانت
صياغة مزيدة بثروة مستقاة من ممارسة العلوم الطبيعية. في هذا الكتاب وضع هرشل إرشادات
تشبه مناهج مل، غير أن كليهما لم يزد كثيرًا على منهج فرنسيس بيكون وإرشاداته؛ ذلك أن
مل قال: إنه سيأتينا بأربعة مناهج، ثم أتانا بخمسة، وبعد أن شرحها ظلَّ مصممًا أنها
أربعة! واختلف الباحثون أي المناهج هو الزائد وتمسك كل فريق بواحد منها، ولكن يمكن
ملاحظة أن منهجي البواقي والتلازم في التغير يعتمدان على المناهج الثلاثة الأولى، وأن
الثالث (منهج الجمع بين الاتفاق والاختلاف) مجرد ربط للمنهجين الأولين معًا، وأن المنهج
الثاني نفي أو عكس للأول، فلا يبقى إلا المنهج الأول وهو معروف منذ أن دعا بيكون إلى
التجريب.
وفلسفة مل المنهجية بصفة عامة مليئة بأوجه القصور، فهو مثلًا خلط بين اكتشاف الفروض
أو ابتداعها وبين تأييدها، ودافع عن هذا بأن القانون العلمي ليس فرضًا، بل حقيقة نريد
أن نثبتها ومناهجه تثبت أنها فعلًا قانون
١٤ مؤكدًا بهذا خطأ بيكون في إغفال أهمية الفرض، وأقام مل بنيانه الضخم على
أساس العلية ومن أجلها، ومع هذا لم يقف إزاءها موقفًا فلسفيًّا للحظة واحدة، بل سلَّم
بها كما يفعل الإنسان العادي، هل لأنها تقيم صلب العلم؟ فماذا بقي لفلسفته إذن؟ صرَّح
مل بإمكانية رد معلول واحد إلى عدة علل، ومع هذا تجد منهجَي الاتفاق والاختلاف يردان
المعلول إلى علة واحدة … ويمكن أن نستأنف المسير طويلًا في تعداد المآخذ على نظرية مل
المنهجية، خصوصًا بسبب تطرف تجريبيته حتى بلغت حد التسطيح.
بيد أن هذا التطرف التجريبي ذاته هو الذي جعلها صلب النزعة الاستقرائية، وبنظرة واحدة
نلاحظ كيف أنها تساير إبستمولوجيا العلم الكلاسيكي المطروحة في الفصل السابق؛ فقد كانت
الروح العلمية آنذاك تنزع نحو التجريبية المتطرفة. وحين أتى عام ١٨٥٠م كان هذا المنزع
التجريبي مصوغًا جيدًا بفضل جون ستيوارت مل وكتابه «نسق المنطق» إنه النزعة الاستقرائية
التي أفلح مل في تأكيدها حين أسهب في تبيان أن كل المفاهيم العلمية يجب أن ترتد إلى
دوال قابلة للملاحظة عن طريق الاستقراء الذي تنشأ عنه النظرية العلمية، والاستقراء
يستند على العلية العامة التي لا تعدو أن تكون اطراد التعاقب في الطبيعة؛ لذلك يقوم
منهج العلم على تعميم الوقائع الملاحظة، وسار خلف مل جمع غفير من فلاسفة العلم ذوي
المنزع الوضعي، تواصلت مسيرتهم حتى بلغت النصف الثاني من القرن العشرين، بدا هؤلاء —
أصحاب النزعة الاستقرائية — وكأنهم المعبرون الشرعيون عن العلم وفلسفته، على الرغم من
أن تجريبيتهم الحادة فجة ومباشرة، لا تولي اعتبارًا كافيًا لدور العقل الإنساني في
ملحمة العلم المجيدة، فضلًا عن أنها ملغومة بمشكلة الاستقراء … أشهر مشكلات فلسفة
العلم.
وقبل أن ننتقل إلى مشكلة الاستقراء لا بد من العود إلى كلود برنار، الذي رأيناه، في
الفصل السابق مقوضًا لفرض القوى الحيوية ومؤسسًا لعلم وظائف الأعضاء الحديث على أساس
من
الحتمية الشاملة والعلية والنظرة الميكانيكية، لقد انطلق من الخلفية الوضعية التي صيغت
في وطنه فرنسا، اتخذ الموقف التبريري اللاتاريخي فلم يعارض النزعة الاستقرائية كما فعل
هيوول، بل على أساس من استيعاب توجهاتها، حاول أن يداوي قصوراتها، ويضيف إلى النظرية
المنهجية الاستقرائية إضافات ثاقبة سوف تفتح الطريق للحركة النقدية، وهذه سوف يتعاظم
أمرها حتى تعصف في النصف الثاني من القرن العشرين بالنزعة الاستقرائية، عصفًا مواكبًا
ومتسقًا مع نواتج ثورة الفيزياء الكبرى في هذا القرن.
وقد كان كلود برنار أيضًا من الشخصيات النبيلة حقًّا في مسار العلم وفلسفته على
السواء، تخرج في كلية الطب، وتنازل تمامًا منذ بدء حياته العملية عن الممارسة
الإكلينيكية والعمل في العيادات، مضحيًا بفرص الكسب المالي لكي يتفرغ تمامًا للبحث
العلمي في الفيزيولوجيا، تكرس له طوال حياته، حتى بعد أن وهنت صحته وغزاه المرض كان
يُحمل إلى قلب معمله، علَّم البشرية كيف يكون التفاني بين جدرانه كما يتبتل العابد
الصوفي في محرابه، لم يكن يتوقف إلا إذا قهره الإرهاق. وذات مرة طلب فنجانًا من الشاي
ليقاوم الإرهاق ويجدد نشاطه، وبهدوء وضعه الخادم الذي تعلَّم ألا يقطع تركيزه، امتدت
يد
برنار للفنجان، لكنه سحب كأسًا به عينة من بول أرانب جيء بها من أجل التجارب على
فيزيولوجيا الجهاز الهضمي. الوعي كله مكرس للتجربة العلمية، وبلا وعي أخذ برنار رشفة
من
بول الأرانب! ربما انتفض الإنسان العادي اشمئزازًا وتقززًا إن حدث هذا، لكن العالم
المتبتل برنار انتبه فجأة على خبرة تجريبية لا تُعوض، فلم يهدرها ولاحظ المذاق السكري
لبول الأرانب التي لم تتناول طعامًا منذ فترة. طرح برنار السؤال: من أين جاء المذاق
السكري؟ وللإجابة عليه دخل في سلسلة أبحاث معملية طويلة انتهت إلى اكتشاف وظيفة
البنكرياس ومرض السكر الذي يُعاني منه الكثيرون.
وما يعنينا من أمر كلود برنار الآن، أنه توقف هنيهة في خضم أبحاثه العلمية التي لا
يشغله عنها شاغل؛ ليضع في عام ١٨٦٥م كتابه «مدخل إلى دراسة الطب
التجريبي» Introduction a l’etude de la medicine experimental.، حيث يؤكد أن فن البحث العلمي حجر الزاوية من كل العلوم
التجريبية، لكن قواعد المنهج لا تُفرض على العالم من الخارج، بل تنبع من صميم ممارساته،
وتتطور وفقًا لمتطلبات البحث العلمي ذاته، من هنا شرع في تطوير النزعة الاستقرائية
تطويرًا نقديًّا يكاد يفتح طريقًا جديدًا.
وقد رأينا كيف كان كلود برنار كعلماء عصره شديد التمثل لإبستمولوجيا العلم الحديث
الحتمية، وبالتالي العلية واليقين والضرورة، وتراتب العلوم الفيزيوكيماوية والحيوية في
نسق واحد. وإذا كان يشق طريقًا جديدًا، طريقًا نقديًّا لحدود المعرفة التجريبية، فإنه
حريص على تأكيد الطابع النقدي للعلم ذاته ولمنهجه التجريبي، فيقول: «عندما تكون الواقعة
التي تواجهنا متعارضة والنظرية السائدة، يجب قبول الواقعة ونبذ النظرية، حتى ولو أخذ
بها الجميع؛ نظرًا لتأييد مشاهير العلماء لها.»
١٥
ويؤكد برنار أن الفارق بين التفكير المدرسي في العصر الوسيط والتفكير العلمي، يتمثل
في أن المدرسيين يبحثون دائمًا عن نقطة بدء مطلقة الصدق كي يبدءوا منها. أما العالم
المجرب فعلى العكس من ذلك؛ يشك في كل شيء دائمًا، حتى في نقطة بدئه، وذهنه بالضرورة
متواضع مرن؛ لأن العلم الصحيح يعلم الشك والتورع والإحجام عند الجهل. ومن هنا يؤكد
برنار على ضرورة تسلح الباحث بروح النقد المتشككة؛ لأن القاعدة العامة التي تمثل أساس
المنهج التجريبي هي الشك. نتيجة الاستدلال العلمي يجب أن تظل دائمًا ظنية، فالعلم يتقدم
دومًا في طريقه نحو إدراك الحتمية الشاملة، والحالة الراهنة مصيرها إلى زوال لا محالة
…
إلى هنا ويتوقف برنار ليؤكد أن «النقد التجريبي يشك في كل شيء ما عدا مبدأ الحتمية
العلمية والعقلية المسيطرة على الوقائع»،
١٦ وحتى النظريات نفسها يجب أن يزول الشك فيها بمجرد الوقوف على الحتمية التجريبية،
١٧ ومن السهل ملاحظة أن برنار بهذا ينقض نفسه، فما هو إذن الفارق بين العلماء
والمدرسيين؟ طالما أن مبدأ الحتمية هو نقطة البدء المطلقة للعلماء والغير قابلة
للشك.
وفي إطار مثل هذا التسليم بالحتمية، مبدأ الإبستمولوجيا دعا برنار إلى التجريب
المقارن بين الوقائع ومحاولة تعيين الشدة العددية لها بمعنى تكميم الوقائع إذا أمكن.
ومع هذا لم يرحب برنار كثيرًا بإدخال الرياضيات في العلوم الحيوية؛ لأن الرياضيات
الملائمة للتطبيق فيها هي الإحصاء وحساب الاحتمال التي تهز من دعائم الصورة الحتمية
المكينة، وهذا هو بالضبط موقف أوجست كونت نفسه في علم الاجتماع، فقد أسماه في البداية
«الفيزياء الاجتماعية»، حتى أخرج عالم الفلك البلجيكي المهتم بالاجتماع أودلف كيتليه
كتابه «الفيزياء الاجتماعية ١٨٦٩م»، حيث يعالج الظواهر الاجتماعية معالجة رياضية
إحصائية دقيقة تأسيسًا للعلم بها. فثار كونت، ومن أجل رفض الإحصاء وحساب الاحتمال ترك
مصطلح «الفيزياء الاجتماعية» إلى «علم الاجتماع»، وسحقًا للسمة واللغة الرياضية بجلال
قدرها، فلا رياضة ولا فيزياء المهم علم حتمي بأي شكل كان ولندعوه علم الاجتماع. أجل
سحقًا لكل ما يمس الحتمية العلمية، وليس هذا تعبيرًا إنشائيًّا بل دلاليًّا، فقد «أدان
كونت المجهر؛ لأنه هدم الصورة البسيطة لقوانين الغازات»!
١٨ وقد رأينا النظرية الحركية للغازات من مواطن أزمة الفيزياء الكلاسيكية
وبوادر الثورة على الحتمية.
وبهذا التمثل للإبستمولوجيا الكلاسيكية وحتميتها، انطلق كلود برنار من فلسفة العلم
المواكبة لها والمتسقة معها، الوضعية والنزعة الاستقرائية، لم يرفض حجة التعميم
الاستقرائي كما فعل هيوول، سلم بها ثم واصل المسير في طريقه النقدي، فأضاف إليها الفرض.
وبفضل برنار استقر الفرض في منظومة المنهج الاستقرائي، ومنذ برنار فصاعدًا أصبح منهج
العلوم الإخبارية يقوم على دعامتين هما الفرض والتجريب.
لقد علمنا الفيلسوف العظيم إيمانويل كانط أن النقد كمصطلح فلسفي لا يعني فقط تصيد
الأخطاء، بل أيضًا وقبلًا سبر الإمكانيات وتعيين الحدود. وبهذا نتفهم تسليم برنار
النقدي بالنزعة الاستقرائية، إنه يقبلها بمنحاها التبريري اللاتاريخي ثم يعين حدودها
وقصوراتها. ومن أجل استئناف مسار البحث العلمي يصبح الفرض ضرورة، وفي هذا يميز برنار
تمييزًا قاطعًا بين الملاحظة observation، والتجربة experiment. إن الملاحظة إمبيريقية empirical أي تجريبية خالصة، وهي تمهيدية عامة
بسيطة، تلاحظ الواقعة الغفل كما تحدث لجمع المعلومات بتعميم استقرائي مباشر، أما
التجربة والبحوث التجريبية experimental فهي موجهة في
إطار محدد ومسلحة بالأجهزة المعملية الدقيقة، تخلق الظواهر خلقًا في المعمل، ويكون
التعميم الاستقرائي نتيجة اختبار فرض. إذن الفارق الكبير بين الملاحظة والتجربة يعود
إلى الفرض، يفرق برنار بين الطب الإمبيريقي القائم على الملاحظة ومحض تراكم وقائع
الخبرة، وبين الطب التجريبي الذي يطمح في معرفة قوانين الجسم السليم والمريض، بحيث لا
نتمكن من توقع حدوث الظواهر فحسب، بل نتمكن أيضًا من تنظيمها وتعديلها في حدود معينة.
الطب التجريبي هو العلمي حقًّا، هو القائم على الفرض مع التجربة، وكتاب برنار المذكور
في المنهج بعنوان مقدمة أو مدخل إلى دراسة «الطب التجريبي»؛ إذن إثبات دور الفرض مرماه
الأساسي.
بغير الفرض يكون الاستقراء منهجًا إمبيريقيًّا للملاحظة فقط، وتكون النزعة
الاستقرائية التقليدية التي تمسكت به هكذا، أي فلسفة إمبيريقية، فلسفة للملاحظة أكثر
منها للتجربة، ربما تعبر عن مراحل تمهيدية في العلم، لكنها لا تكفي، فلا علم بغير فرض.
هاجم برنار بشدة إغفالهم لقيمة الفرض وإفراط الإمام بيكون في التحذير منه ومن الأفكار
المسبقة، وأوضح أنهم خلطوا بين ابتداع التجربة وبين تسجيل نتائجها، يقول برنار:
صحيح أنه من الواجب تسجيل نتائج التجربة بذهن خلا من الفروض وتجرد من الأفكار
السابق تصورها، لكن واجب المجرب في الوقت نفسه أن يحذر العدول عن استخدام
الفروض والأفكار، حين يكون الأمر خاصًّا بوضع التجربة أو تصور وسائل الملاحظة.
وعلى المرء أن يفعل عكس هذا فيطلق لخياله العنان؛ ذلك أن الفكرة هي أصل كل
استدلال واختراع، وإليها يرجع الفضل في البدء، ولا يجوز للمرء وأدها أو
استبعادها، بحجة أنها قد تضر، وكل ما يقتضيه الأمر هو تنظيمها وإخضاعها لمقياس.
١٩
يشدد برنار على أهمية الفكرة والفرض، ويراها أسبق من التجريب، وقد تتولد عن الحدس
أو
العقل أو الشعور أو الملاحظات الإمبيريقية العامة، لكن الفرض هو الذي ننتقل منه إلى
التجريب ونصمم التجربة على أساسه ولكي نختبره. الفكرة أو الفرض أسبق من التجريب وأيضًا
أهم منه، ويستشهد برنار بالعالم الطبيعي الفرنسي فرانسوا هوبر Francois Huber وهو أيضًا من القرن التاسع عشر وترك أبحاثًا وتجارب
علمية جديرة بالإعجاب، على الرغم من كفاف بصره؛ إذ كان يتصور هذه التجارب ثم يعهد
بتنفيذها إلى خادمه الذي كان خالي الذهن من أية فكرة علمية. فكان هوبر الذهن المدبر
ينشئ التجارب ويديرها، ولكنه لكفاف بصره مضطر لاستعارة حواس غيره، يقول برنار إن الخادم
يقوم بعمل الحواس المنفعلة التي تطيع العقل لتحقيق التجربة المنشأة تبعًا لفكرة سابقة،
إن الفرض هو العقل المدبر والتجارب هي الحواس التي تعمل تبعًا للعقل وفي الإطار الذي
يحدده.
يقول برنار إن الفروض حتى ولو كانت فاسدة تفيد في اهتدائنا إلى الاكتشافات، وينطبق
هذا على جميع العلوم، فقد تأسس علم الكيمياء في محاولة العصور القديمة لتحقيق فرض فاسد
هو تحويل المعادن إلى ذهب. الفروض فقط هي التي تمكننا من تجاوز الوقائع الحسية المحدودة
والسير بالعلم قدمًا إلى الأمام. الفروض لا تفتح الطريق للتجارب الجديدة فقط، بل أيضًا
تجعلنا نكتشف وقائع جديدة ما كنا لنلحظها دون الفرض. ويشير برنار إلى أهمية العمليات
المنطقية كالاستنباط والقياس، في العلوم التجريبية. الفرض قد يكون مستنبطًا من نظرية،
مع هذا لا بد دائمًا من التحقق التجريبي، أي إن الاتساق المنطقي لا يغني عن وقائع
التجريب.
إن العالم ليس طفلًا يجلس بين يدي الطبيعة ليتعلم منها ما تمليه عليه كما تومئ النظرة
التي تغفل أهمية الفرض، بل هو — في رأي برنار — أشبه بقاضٍ يحقق مع الطبيعة، وإن كان
لا
يواجه أفرادًا يضللونه بالشهادات الكاذبة، بل يتناول ظواهر طبيعية أشبه بأشخاص يجهل
لغتهم ويريد أن يعرف أغراضهم ومراميهم، وهو يستخدم من أجل ذلك كل ما يستطيعه من حيل،
أو
بعبارة أخرى يبدع قصارى ما يستطيعه من فروض، ما دامت ستخضع لمحكات التجريب.
وسوف نرى لاحقًا أن دخول الفرض في منظومة المنهج التجريبي ليس مجرد عنصر أضيف، بل
إيذانًا بتغيير جذري في طبيعة المعرفة العلمية وفي علاقة العقل الإنساني بالعالم. إذا
لم يكن التطوير النقدي للنزعة الاستقرائية مع برنار أمرًا هينًا، وله أيضًا افتراقه
البين عن أساسها الوضعي بما يمثل إضافة حقيقية، فقد حرصت الوضعية على أن تنعى الفلسفة
وتعلن انتهاء عصرها بمجيء المرحلة العلمية الوضعية. أما كلود برنار فقد دافع عن الفلسفة
والحاجة إليها بقوة. هناك فارق واضح بين الفلسفة والأدب وبين العلم، الفلسفة — بتعبير
برنار — معبرة عن طموحات العقل البشري من حيث هو عقل في أي زمان ومكان، الأدب يعبر عن
عواطف غير قابلة للتغير؛ لذلك فهما من آيات التراث الإنساني، تظل إلى الأبد جديرة
بالبحث والدراسة. أما العلم فأمره مختلف، إنه يعبر عن وقائع تجريبية تكشفت أمام الباحث،
ولما كانت هذه الوقائع في ازدياد مستمر كان العلم في تقدم مستمر، وعلم الأمس غير ذي
جدوى اليوم لا ينبغي إهدار الوقت في كتب الأقدمين، وحتى الفروض والنظريات لا نهتم بها
كثيرًا، بل يكون البحث دومًا في الوقائع ذاتها واليقظة لملاحظة كل ما يظهر ويستجد أثناء
التجربة، فالعلم في صعود مستمر. ومع هذا الفلسفة والعلم كلاهما ضروري ومطلوب، وكلاهما
مفيد للآخر، الفلسفة تضيف للعلم أبعادًا فلسفية، والعلم يطامن من غرورها وتحليقها في
آفاق المطلق — كما يرى برنار.
بهذه التوجهات النقدية التطويرية نجد كلود برنار أقرب إلى فلاسفة المنهج في القرن
العشرين منه إلى المعاصرين له. لقد كان فيلسوف علم عظيمًا، كما كان عالمًا عظيمًا شغل
مناصب علمية رفيعة وحاز جوائز عديدة على كشوفه في الهضم والسموم والتخدير وسواها. ومع
كل هذا النفاذ في نظرة برنار الميثودولوجية — أي المنهجية — كان يعمل في إطار تسليم
عصره المطلق بالحتمية ووجهها الآخر وهو العلية الشاملة التي هي أساس التعميم
الاستقرائي، وإذ يدخل الفرض في هذا الإطار يغدو قبوله مستندًا أيضًا على تعميم
استقرائي، مما يعني أن مشكلة الاستقراء ما زالت ملحة، فما هي هذه المشكلة؟
ثالثًا: مشكلة الاستقراء
رأينا كيف نشأت فلسفة العلم معنية بتبرير المعرفة العلمية، وأنها وجدت هذا التبرير
في
تقنين الانتقال من الملاحظات إلى النظرية العلمية، أي في حجة التعميم الاستقرائي التي
هي في الوقت نفسه معيار يميز العلم ويرسم حدودًا للمنشط المعرفي الذي يعطينا محتوى
إخباريًّا عن العالم التجريبي الواقعي الذي نحيا فيه، فإذا كانت العبارة تعميمًا لوقائع
مستقرأة من هذا العالم التجريبي فلا بد أنها إخبار عنه، هكذا حققت حجة التعميم
الاستقرائي الهدف، فهي معيار يميز المعرفة العلمية كتبرير كافٍ لها.
ولكن ما هو تبرير التعميم الاستقرائي ذاته؟
إن العالم في معمله يلاحظ عددًا محدودًا من الحالات، مثلًا القطعة (١) من الحديد
تمددت بالحرارة … القطعة (٢) … القطعة (٣) … القطعة (٤) … القطعة (ن) … فيخرج بتعميم
استقرائي: الحديد يتمدد بالحرارة. أو مثلًا افترض باحث أن المضاد الحيوي «س» فعال في
علاج التيفود، وجربه على المرضى الذين يعالجهم وهم عشرة أو عشرون أو حتى ألف، وهب أنهم
شفوا جميعًا، سيخرج بتعميم استقرائي: المضاد الحيوي «س» يشفي من التيفود، القانون
العلمي طبعًا عبارة عامة تحكم الحالة المطروحة للبحث بصفة كلية، وليس مجرد حصر أو تعداد
ساذج لأمثلة لوحظت، إن العالم يلاحظ ويجرب على عدد من الوقائع الجزئية مهما كان كبيرًا
فهو عدد محدود، ثم يخرج منه بعبارة كلية تنطبق على كل الوقائع المماثلة في أي زمان
ومكان.
والسؤال الآن: بأي مبرر يخرج من وقائع جزئية محدودة إلى قانون كلي عام؟ كيف يسحب
الحكم مما لاحظه على ما لم يلاحظه؟ لماذا يفترض أن الوقائع التي لم يشاهدها تماثل تلك
التي شاهدها؟ من أدرانا أن الحديد منذ مليون عام أو بعد ألف سنة أو على كوكب المريخ أو
في مجرة أخرى يتمدد أيضًا بالحرارة؟ ما الذي يضمن عدم وجود عينات من الحديد هنا أو هناك
لا تتمدد بالحرارة ولم يصادفها الباحثون؟ مشكلة الاستقراء هي مشكلة تبرير القفزة
التعميمية من عدد محدود من الوقائع التجريبية إلى قانون كلي عام، على أي أساس تمارس
التعميم الاستقرائي وهو صلب عملية إنتاج المعرفة العلمية؟ «وهذا التساؤل ليس إثارة لكشف
جديد، فأرسطو لاحظ الفارق بين الحجة الصورية المنطقية والحجة الاستقرائية التجريبية،
وأن الأخيرة ليست مبرهنة،
٢٠ ولكنه تساؤل اكتسب خطورة كبيرة لما تصدر العلم التجريبي مسيرة العرفان في
العصر الحديث.
أول ما يتبادر إلى الذهن أن الاستقراء يمارس — كما أوضحنا — على أساس الحتمية والعلية
والاطراد. والعلية بالذات هي اطراد التعاقب في الطبيعة وهي الوجه الآخر للحتمية التي
افترض العلماء أنها تحكم عالم الظواهر. وبفضل الحتمية الكونية تغدو العلية شاملة لا
تعرف استثناءً ولا جوازًا، وكما حكمت الوقائع الماثلة سوف تحكم كل الوقائع المماثلة.
فيمكن تعميم ما لُوحظ على ما لم يُلاحظ. هكذا سلم فلاسفة العلم «بقانون العلية» كمبدأ
للاستقراء نمارس على أساسه التجريب ونعمم الوقائع، وانقسموا في هذا إلى فريقين يعبران
عن اتجاهي الفلسفة الأساسيين:
إن كانط ورسل فيلسوفان عملاقان بلا شك، لكنهما لم يثبتا العلية. ورسل بالذات — بحكم
حداثته وأنه أدرك فلسفة العلم في القرن العشرين — انتهى من تحليلاته إلى أن الحتمية
والضرورة والعلية دعاوى غير ذات بأس شديد. وعلى أية حال يصعب موافقة الاتجاه العقلي على
أن قانون العلية كامن في الذهن سلفًا؛ لأن المبادئ والقوانين العقلية لا تكون إلا تحصيل
حاصل. العقل لا يستقل بنفسه إلا في العلوم الصورية التحليلية كالمنطق والرياضة، فيقتصر
عمله على تحليل الرموز وإعادة تركيبها دون أن يأتينا بفتوى عن الواقع، أما قانون العلية
فهو قضية إخبارية تركيبية بشأن العالم الواقعي، وقضية هائلة فكيف يكون العقل الخالص
مصدرها كما ذهب كانط، وأيضًا رسل في مراحل تفكيره الأسبق.
هكذا لا يمكن أن نجعل قانون العلية سابقًا على الخبرة التجريبية — أي قبلها — كما
يذهب العقليون، ولا أمكن أن نجعله بعدها، أي تاليًا للخبرة ومشتقًّا منها كما ذهب
التجريبيون.
نلاحظ مما سبق أن مشكلة الاستقراء في جوهرها هي مشكلة العلية، وتتبدى خطورتها حين
نجد
العلية قائمة في التفكير العادي للحياة اليومية والتفكير الفلسفي والتفكير العلمي على
السواء، اعتبرها المعلم الأول أرسطو ذات مبادئ أربعة هي الصورة والمادة والفاعل
والغاية، قادرة على تفسير شامل للوجود بأسره. كان الإمام الغزالي سبق وشكك فيها، وتبعه
الأب نيقولا مالبرانش في العصر الحديث، بينما كان ديكارت يعتبرها علاقة ضرورية.
وعلَّمنا بيكون أنها تفسر طبائع الظواهر الطبيعية واطرادها، حتى قامت بهذا الدور الكبير
في إبستمولوجيا العلم الحديث ومنهجه على السواء.
وأول متحد لقانون العلية في عصور العلم الحديث هو الفيلسوف المادي توماس هوبز، اتفق
مع أستاذه بيكون في أن الحواس مصدر المعرفة، ثم أشار إلى أن الحواس لا تعطينا ذلك
الكائن الغيبي المسمى بالعلية. لكن هوبز على الرغم من نزعته العلمية ومن ماديته، وأيضًا
على الرغم من تواضع قدراته الرياضية، كان مفتونًا بالرياضيات وقوة الاستنباط الرياضي،
ولم يتوقف كثيرًا أمام التجريب ومشاكله، فكان أول متحد حقيقي ذي خطر لقانون العلية هو
ديفيد هيوم الذي رأيناه يرد المعرفة إلى انطباعات الحس. لقد بدأ معه تاريخ مشكلة العلية
في العلم الحديث.
أجل تشكك الغزالي ومالبرانش وأمثالهما في العلية، لكن كان هذا مقدمة لسحب الثقة من
المعرفة الحسية والتجريب، إنه إنكار للترابط بين الأحداث والوقائع ليسفر إدراكنا الحسي
لها عن ركام لا يفضي إلى شيء ولا تعود الحواس مصدرًا للمعرفة. فكان إنكار العلية أداة
في يد الراغبين في تقليص سطوة العلم التجريبي وهدم النظرية الحسية في المعرفة أصلًا.
وأتت خطورة هيوم من أنه أول فيلسوف علمي النزعة يشكك في العلية من أجل النظرية الحسية
في المعرفة وبناءً عليها وإخلاصًا لها.
وقد كان هيوم شكاكًا كبيرًا، يرى أن منهج الشك هو الكفيل بأن يقي الفلسفة مغبة التطرف
والحيود في هذا الاتجاه أو ذاك وسائر الأشكال غير الملائمة للتفلسف، يقول هيوم:
على أية حال هناك نوع واحد من الفلسفة يبدو أقل تعرضًا لأن يكون بهذا الشكل
غير الملائم؛ وذلك لأنه لا ينبثق عن نزوع أهوج للعقل الإنساني، ولا يمكن أن
يختلط بأي ميل طبيعي أو وجدان، وتلك هي الفلسفة الأكاديمية أو الفلسفة الشكية،
ودائمًا يتحدث الأكاديميون عن الشك وتعليق الحكم، وعن خطورة التحديدات الرعناء،
وعن أن نحصر تساؤلات الفهم الإنساني في حدود ضيقة جدًّا، وعن إنكار كل التأملات
التي لا تقع داخل حدود الحياة والممارسة المألوفة.
٢٢
بهذا النبذ للميتافيزيقا — إذ تتجاوز تلك الحدود — راح يعرض كل شيء لمنظار الشك؛ لكي
يتثبت من أنه مردود إلى انطباعات الحس، وإلا كان خرافة بلا معنى.
وكانت تحليلات هيوم قد انتهت إلى أن العلاقة العلية هي العلاقة الوحيدة التي تنقل
الذهن إلى أبعد مما هو محسوس، إنها المبرر الوحيد للاستدلال على الوقائع،
٢٣ ومع هذا راح يتشكك فيها ويفحصها متسائلًا: على أي أساس نستنتج أن العلل
المعينة سوف يكون لها بالضرورة تلك المعلولات المعينة؟ لماذا نستدل من إحداهما على
الأخرى، وذلك هو التساؤل الذي اتخذ فيما بعد شكلًا أكثر عمومية كالآتي: لماذا نخرج من
الخبرة التجريبية الراهنة بأية استنتاجات تتجاوز الحالات الماضية التي مرت بخبرتنا؟ أي:
لماذا نمارس الاستقراء؟ وهي الأسئلة التي لم نجد إجابة عليها، وأوضح هيوم أن أية إجابة
لا بد أن تلتجئ إلى مبدأ عام — من قبيل العلية — يحكم بأن الحالات التي لم تمر بخبرتنا
لا بد وأن تماثل تلك التي مرت، وأن مسار الطبيعة يسير دائمًا بصورة مطردة،
٢٤ وقد رأينا آنفًا أن مشكلة الاستقراء في جوهرها مشكلة العلية؛ لذلك لا يختلف
الوضع حين نلاحظ أن هيوم لم يتعرض لمشكلة الاستقراء بصورة مباشرة، بل فقط أثار مشكلة
العلية، وبينما نجد مصطلح «الاستقراء» شديد الحضور في كتابات بيكون، وأيضًا جون لوك،
فإنه لا يرد في كتابات ديفيد هيوم إلا لمامًا وعرضًا، وبدلًا من الاستقراء أو حجة
التعميم، يستعمل هيوم مصطلحات من قبيل الاستدلال أو الحجج المحتملة أو التعقل من
الخبرة، ثم تركزت في مصطلح الدليل البيِّن والحجج المستنبطة.
٢٥
ويستخدم هيوم هذه المصطلحات وسواها بالمغزى التجريبي المعروف عن فلسفته، وما كان
ليشك
لحظة واحدة في الحسية والتجريبية، بل يشك ليرد كل شيء إلى التجريبية، أو بمصطلحاته
المتطرفة، إلى انطباعات الحس، ونحن لا نجد في انطباعات الحس أبدًا هذه العلية، لا أحد
رآها أو سمعها أو لمسها، إننا لا نلاحظ إلا تعاقبًا بين الأحداث، أما العلية فهي ملاط
غيبي لنربط بين هذه الأحداث، ولا مرد لها إلا العوامل السيكولوجية. إن العلية مجرد عادة
نفسية! يقول هيوم في نص طويل نسبيًّا لنتبين مجمل حجته:
هب أن شخصًا ما جيء به على حين غرة إلى هذا العالم، على أنه مزود بأمضى ملكات
العقل والتفكير، حقًّا سيلاحظ للوهلة الأولى تتابعًا متصلًا للأشياء، وأن حادثة
ما تعقب الأخرى، لكنه لن يستطيع البتة أن يستكشف أي شيء أبعد من هذا، وفي
البداية لن يكون قادرًا على الوصول إلى فكرة العلة والمعلول بأي شكل من أشكال
التفكير، ما دامت القوى التي تحدث بفعلها سائر العمليات الطبيعية لا تظهر أبدًا
للحواس، وليس من المعقول أن يستنتج أنه ما دامت حادثة في مثال ما قد سبقت أخرى،
فلا بد أن تكون الأولى علة والثانية معلولًا، فقد يكون الارتباط بينهما جزافًا
أو عرضًا عليًّا، وقد لا يكون ثمة ذريعة لأن يستدل على وجود واحدة من ظهور
الأخرى، وبعبارة موجزة، فإن مثل هذا الشخص، بغير مزيد من الخبرة، يستحيل عليه
أن يوظف حدسه أو تفكيره فيما يتعلق بأي أمر من أمور الواقع، أو أن يكون على ثقة
من أي شيء يتجاوز ما هو حاضر حضورًا مباشرًا أمام ذاكرته وحواسه.
وهب، مرة أخرى، أنه اكتسب خبرة أوسع، وعاش فترة طويلة في العالم تكفي لأن
يلاحظ كيف ترتبط الأشياء والاحداث المألوفة معًا ارتباطًا ثابتًا، فماذا عساه
أن ينجم عن هذه الخبرة؟ إنه لا يلبث أن يستدل على وجود شيء ما من ظهور الآخر،
إلا أنه وبكل الخبرة التي تزود بها، لا يكتسب أبدًا أية فكرة أو أية معرفة
بالقوة السرية التي عن طريقها ينتج شيء ما شيئًا آخر، كلا ولا توجد أية عملية
من عمليات التفكير تلزمه بأن يخرج بهذا الاستدلال، لكنه يجد نفسه لا يزال
ملزمًا بأن يستنتج هذا الاستدلال، وعلى الرغم من أنه لا بد مقتنع بأن الفهم لا
يلعب دورًا في هذه العملية، فإنه مع هذا يظل سائرًا في هذا المسار للتفكير،
فثمة مبدأ آخر يحتم عليه أن ينتهي إلى مثل هذه المحصلة، هذا المبدأ هو العادة
أو الطبع.
٢٦
معنى هذا أنه لا يوجد في العالم الحسي التجريبي، عالم العلم، شيء اسمه العلية، إنها
مجرد عادة سيكولوجية تجعلنا نتوقع الاطراد في الحالات المستقبلة، إذا تكرر في الخبرات
الماضية، وإذا كانت العلية عادة أو
طبعًا Custom or habit، فلا بد أن يكون وجهها الآخر، أي افتراض الاطراد في الطبيعة،
بدوره هكذا، ولا شيء يضمن وجوده فعلًا في الطبيعة. وحين نلاحظ الحادثة «أ» تتبعها
الحادثة «ب» في أكثر من مرة أو حتى في كل المرات، لا نستطيع القول إن ذلك يحدث لأن «أ»
علة معلولها «ب»، وما دامت العلية والاطراد قد ارتدا إلى مجرد عادة سيكولوجية أو طبع،
فكل ما نستطيع أن نقوله إن «أ» قد أعقبتها «ب» فحسب، وليس لدينا ما يبرر توقع الحادثة
«ب» حين نرى «أ» مرة أخرى، أو أن نفترض قانونًا يربطهما، فكل ما في الأمر أن تكرار
الخبرات التجريبية أو الانطباعات الحسية يخلق فينا عادة الاعتقاد في قانون. إنَّ
معرفتنا بالعالم الخارجي، أو بالأحرى «معتقداتنا» بشأنه من قوانين علية مطردة مجرد
عوائد نفسية، وليس ثمة مبرر للزعم بمثولها الفعلي في عالم التجربة الخارجي، وانطلق هيوم
في تحليلات سيكولوجية للاعتقاد ولأثر تكرار الانطباعات الحسية، وهي طبعًا تحليلات
بدائية بالنسبة لعلم النفس اليوم، لكنه يخلص منهما إلى أن العلية والاطراد — مبدأي
الاستقراء — هما تكويننا النفسي ولا نملك أن نحيد عنه.
لقد كان هيوم من السائرين في مسار النزعة النفسية التي تنكر استقلال المنطق عن الحياة
والنفس، وتحاول رد العلوم والحقائق وكل شيء إلى الحياة النفسية ومكوناتها، وهذا اتجاه
قديم يعود إلى ما قبل سقراط، إلى السفسطائي بروتاجوراس حين قال إن الإنسان مقياس
الأشياء جميعًا. وسار فيه ميشيل دي
مونتاني
M. Montaigne (١٥٣٢–١٥٩٢م) داعية الشك المذهبي بغية توطيد الدين والعلم
المنزَّل من الله. ولعل ديفيد هيوم أشد أقطار النزعة النفسية تطرفًا، أخرج أول عمل له
باسم «رسالة في الطبيعة البشرية»، رغم أنها في المنطق ونظرية المعرفة، وهي تسمية واضحة
الدلالة على أن العقل البشري لا ينفصل في رأيه عن الطبيعة البشرية، بل إن العقل على نحو
ما معبر عن هذه الطبيعة وثمرة لها.
٢٧
وبالغوص في الدروب النفسية أوضح هيوم أن تكرار الخبرة الحسية التي تقع فيها «ب» بعد
«أ» يخلق عادة لتوقع «ب» كلما شوهدت «أ»، في الإنسان وفي الحيوان أيضًا، فكما يقول
برتراند رسل، الحيوانات المنزلية تتوقع الطعام حين ترى الشخص الذي يطعمها عادة، ولكن
أَوَليس يمكن أن يأتي يوم يطيح فيه برقبة الدجاجة الشخص نفسه الذي اعتادت أن تتلقى منه
الطعام كل يوم؟ إذن تكرار الوقائع التجريبية لا يعني شيئًا ولا يضمن شيئًا، فمن أدرانا
أن الطبيعة لن تفعل بنا ذلك في الغد، فتسممنا ثمرة فاكهة اعتدنا أنها شهية.
٢٨
هكذا اتضح أن مبدأي الاستقراء، العلية والاطراد، يقومان على شفا جرف هار، ومردودان
إلى عادة سيكولوجية أو طبع، فهل يمكن أن نقيم نسق العلم العظيم الذي علَّم البشرية
المعنى الحق للموضوعية على مجرد عادة سيكولوجية؟! وإذا أخذنا في الاعتبار أننا سنرى في
الفصل القادم توًّا كيف اهتزت أركان الحتمية أيضًا، اتضح أمامنا كيف تتفاقم مشكلة
الاستقراء، وأصبحت حجة التعميم لا عقلانية! ما دامت لا تقوم على أساس مقبول، لا
منطقيًّا ولا تجريبيًّا، وأصبح على الجميع — شاءوا أو أبوا — الاعتراف بأن قوانين العلم
تفتقر إلى أساس مطمئن وحجة تثبت مصداقيتها، طالما أن القانون العلمي — مهما كان عدد
الوقائع التي تؤيده — يتجاوز بعموميته الخبرة التجريبية والمنطق على السواء، حتى إن
التأمل في أصول المعرفة العلمية جعل نفرًا من الفلاسفة التجريبيين شكاكًا أو لا
عقلانيين أو متصوفة. لا عجب إذن أن يدين رسل هيوم بأنه المسئول عن الشيزوفرنيا «انفصام
الشخصية» التي أصابت التجريبيين العلميين. وعن اللاعقلانية التي تفشت في الفكر الأوروبي
في القرن التاسع عشر، يقول رسل:
لقد أثبت هيوم أن التجريبية الخالصة لا تُشكل أساسًا كافيًّا للعلم، في حين
أننا إذا سلمنا بتلك القاعدة الوحيدة، أي الاستقراء، كل شيء بعد ذلك يتلاءم مع
النظرية القائلة إن كل معرفتنا قائمة على الخبرة، ويجب التسليم بأن هذا افتراق
خطير عن التجريبية الخالصة. فقد يتساءل بعض التجريبيين لماذا نسمح بالخروج عن
نطاق التجربة في هذه النقطة المتعينة ونمنع في غيرها؟! وعلى أية حال هذه
تساؤلات لا تثيرها مناقشات هيوم بصورة مباشرة، ولكن ما تثبته تلك المناقشات —
ولا أعتقد أن هذه الحجة يمكن معارضتها — هو أن الاستقراء كقاعدة منطقية مستقلة
لا يمكن أن نستدل عليها من التجربة، ولا من قواعد منطقية أخرى، وأنه بغير هذه
القاعدة يصبح العلم مستحيلًا.
٢٩
هذه هي مشكلة الاستقراء التي حيَّرت الفلاسفة منذ هيوم، و«عُدت واحدة من أعقد المشاكل
الفلسفية وأكثرها إثارةً للمناقشة والجدل».
٣٠ وكانت طبعًا شغلًا شاغلًا لفلاسفة العلم، قل أن يمر أحدهم دون أن يبذل
قصارى جهده لمواجهتها، حتى ذهب البعض إلى محاولة حلها عن طريق القياس الأرسطي ذاته الذي
نهض الاستقراء أصلًا في القرن السابع عشر لكي يناهضه ويلغيه، ويحل محله كأسلوب للتفكير
ومنهج للبحث. قال هؤلاء القياسيون إن كل استدلال استقرائي يتضمن قياسًا مقدمته الكبرى
عقلية قبلية مؤداها «الصدفة لا تتكرر دائمًا ولا حتى كثيرًا»، ومقدمته الصغرى هي «أ»
و«ب» اقترنتا في كل الحالات المستقرأة والنتيجة: إذن «أ» علة «ب».
٣١ والمناقشة السابقة للاتجاه العقلي في التسليم بالعلية كمبدأ قبلي، ورفض ما
ينطوي عليه هذا من نزعة أولانية
Apriorism … ذلك يعني
بالضرورة رفض التسليم بالمقدمة الكبرى في هذا القياس، فمن أين أتينا بها؟ وما الذي يمنع
أن تتكرر الصدفة؟!
ولكن ماذا عن أصحاب النزعة الاستقرائية أنفسهم، الاستقرائيين الخلص أو أكثر
الاستقرائيين استقرائية، كيف واجهوا مشكلة الاستقراء؟ إنهم لا ينكرون أن هيوم أثبت
استحالة وضع تبرير حاسم للاستقراء، وراح بعضهم يزعم أن الاستقراء ليس في حاجة إلى
تبرير؛ لأن المنهج ذاته لا يُبَرر، فقط يمكن تطويره وتحسينه،
٣٢ وبإعفاء أنفسهم من التبرير غاصوا في مستنقع ما يمكن أن نسميه باللاعقلانية
التجريبية، حين نجدهم يقولون: إن العلم يتقدم سواء حُلت هذه المشكلة أم لا، فلا داعي
لإثارتها! ويجعلون التقدم العلمي تبريرًا برجماتيًّا — أي عمليًّا نفعيًّا — للاستقراء،
فنسلم به؛ لأنه نافع ومفيد. بيد أن منطق العلم ليس مرابيًا يتنازل عن الاعتبارات مقابل
الفائدة والربح، وفتح الباب لقبول أي شيء غير مبرر وبلا حجة ولا سند، فقط لأنه نافع
ومفيد، يؤدي إلى نتائج وبيلة، كما يسلم نقاد الفلسفة البرجماتية الكثيرون والرافضون
لها.
أما أصحاب النزعة الاستقرائية في القرن العشرين، حيث انتهت الضرورة والحتمية
الميكانيكية، وأصبح الاحتمال هو منطق العلم — كما سنرى، فقد ذهبوا إلى أنهم كان يمكن
أن
يتركوا الاستقراء لو أنهم يبحثون به عن اليقين، لكن طالما أن جميع القوانين العلمية
احتمالية، فلا بأس أن يكون أساس الاحتمال ليس ثابتًا.
٣٣ وببساطة نلاحظ أنهم لم يفعلوا شيئًا أكثر من سحب السمة اللاعقلانية من
القوانين اليقينية لتغطي أيضًا القوانين والفروض الاحتمالية. والمحصلة أن الاستقراء
يجعل العلم — سواء يقينيًّا أو احتماليًّا — قائمًا على غير أساس.
ليس فقط أصحاب النزعة الاستقرائية، بل جُل فلاسفة العلم التجريبي حاولوا جاهدين حل
مشكلة الاستقراء ولم يفلح أحد. فما دام البدء من وقائع تجريبية محدودة، يستحيل العثور
على مبرر للقفزة التعميمية، وفي النهاية يحق القول الدارج: الفلسفة لا منها ولا كفاية
لشرها! لم تستطع أن تنجز ما أنجزه العلم، وحين قنعت بمحاولة تبريره وتمييزه بمعيار يحدد
معالمه، انتهت إلى ما لا يمكن تبريره وما لا يعني إلا أن العلم التجريبي بجلال قدره
قائم على غير أساس، وأسفر الوضع بفلسفة العلم عن موقف مأساوي وهزلي: العلم الحديث هو
النحيب الأثير للعقل الإنساني وآيته ودرة ما أنجزه «ولكن منذ زمان هيوم أصبحت البدعة
المستحدثة في العلم هي إنكار عقلانيته!»
٣٤ لذا يقول وايتهد
A. N. Whitehead
(١٨٦١–١٩٤٧م) إن مشكلة الاستقراء هي «يأس الفلسفة» وأسماها برود «فضيحة الفلسفة»! إن
فلسفة العلم من الأعضاء الجدد في الأسرة الفلسفية، فهل حقًّا جلبت للأسرة العريقة
النبيلة كل هذا العار والشنار … الفضيحة واليأس؟!
كلا وألف كلا! والسؤال الحاسم: هل مشكلة الاستقراء — غير القابلة للحل — دليل على
عقم
المباحث الفلسفية؟ أم هي برهان وتبيان لمدى ثقوب النظر الفلسفي؟
الواقع أن التطورات اللاحقة للعلم وفلسفته في القرن العشرين تجعل كل الشواهد تؤكد
البديل الثاني، تؤكد قدرة التفلسف الفذة على استشراف الآفاق المستقبلية واستبصار ما
ينبغي أن يكون، قدرة الفلسفة على كشف عقم وقصور ظروف حضارية ومعرفية معينة وضرورة
تجاوزها بعد أن أدت دورها واستنفدت مقتضياتها، ووجب الصعود إلى مرحلة أعلى من التقدم،
والمقصود على وجه التحديد قصورات ظروف حضارية معينة دفعت العلماء والمعنيين بظاهرة
العلم آنذاك إلى تأكيد أن الملاحظة هي نقطة البدء، والقانون العام هو النهاية التي نخلص
إليها، في حين أن العكس هو الصحيح، ولا يمكن إيضاح هذا إلا من موقع يرابط في قلب القرن
العشرين.
رابعًا: الملاحظة أم الفرض: آفاق القرن العشرين
إن مشكلة الاستقراء شاهد قوي على مكانة الفلسفة ومآلها؛ لأنها — بنظرة شاملة وعميقة
—
ليست مجرد مشكلة تقنية منهجية وأسلوب عمل خاص بقوم يحترفون مهنة جليلة اسمها «البحث
العلمي»، بل إن مشكلة الاستقراء من أمهات مشاكل الموقف الفلسفي إطلاقًا؛ لأنها مشكلة
العلاقة بين التجريب والتنظير … الحواس والعقل … اليد والدماغ … الواقع والفكر،
وبمصطلحات فلسفة العلم وقد أضحت فلسفة العصر: الملاحظة والفرض «إن بينهما انفصالًا
وتمايزًا لا يمكن تجاهله، وتأييد أحدهما للآخر مسألة لا تخلو من الغموض، حتى إن العلاقة
بينهما ملتبسة أمامنا»،
٣٥ مما يجعلها دائمًا من المحاور المركزية لفلسفة العلم.
والسؤال الآن الذي ظل ردحًا طويلًا ماثلًا هو: أيهما أسبق: الملاحظة أم الفرض؟ وليس
الأمر تلاعبًا بأطراف منظومة معرفية، بل هو طرح انقلابي لطبيعة العلم وطبيعة موقع العقل
في هذا الكون، فلو كانت الملاحظة هي الأسبق والفرض أو القانون يتبعها — كما ينص
الاستقراء — فإن العلم تعميم آلي للوقائع ودور العقل الإنساني تابع للحواس سلبي هامشي،
فقط يخدم الملاحظة الحسية ليخرج بقوانين مستقرأة من صلب الواقع التجريبي فتكون يقينية
ضرورية حتمية، ويغدو نسق العلم بناء مشيدًا راسخًا ثابتًا، يعلو ولكن لا تبديل ولا
تعديل، أما إذا كان الفرض هو الأسبق، فإن العقل الإنساني المبدع للفرض هو الذي يخلق
ملحمة العلم المجيدة، لا يخدم الملاحظة الحسية، بل يستخدمها لتمحيص وتقنين الفروض،
لقبولها أو رفضها، وتظل دائمًا إبداعًا إنسانيًّا، وكل شيء في عالم الإنسان متغير
ومتطور، فلا يعود نسق العلم بناءً مشيدًا، بل فعالية إنسانية حية نامية ومتطورة دائمًا،
ويتضح لماذا نجد التقدم العلمي مفطورًا في صلب البحث العلمي.
هكذا قدمت فلسفة العلم نظريتين في المنهج التجريبي، متقابلتين ومتعاقبتين، الأولى
تبدأ بالملاحظة والثانية تبدأ بالفرض:
- أولًا: نظرية البدء بالملاحظة، أي الاستقراء التقليدي الذي رأيناه فيما سبق،
ويثير المشكلة الشهيرة، وهي نظرية منهجية تواكب العلم الحديث حتى نهاية
القرن التاسع عشر، العلم الكلاسيكي الذي تؤطره فيزياء نيوتن، فكان
نيوتن هو الممثل الرسمي لهذه النظرة، جسَّدها بقوله: أنا لا أفترض الفروض Hypotheses non Fingo،
بمعنى أن القوانين العلمية مأخوذة من تعميم الوقائع التجريبية مباشرة،
وحتى بعد أن تدخل الفرض في القرن التالي ظل مردودًا أيضًا لنفس هذا
المصدر: الوقائع التجريبية الملاحظة، من أجل تفسير تعميمها.
- ثانيًا: نظرية البدء بالفرض، والهبوط منه إلى وقائع التجريب والملاحظة لتحدد
مسير ومصير الفرض، وهذا ما لاح لعبقرية كلود برنار وذهب إليه وليم
هيوول، في القرن التاسع عشر بيد أنها نظرية منهجية تفرضها طبيعة العلم
والإبستمولوجيا العلمية في القرن العشرين، المختلفة تمامًا عن المرحلة
الأسبق المعروضة آنفًا، من هنا كان عنوان هذا الفصل «فلسفة العلم
الحديث الكلاسيكي» كمرحلة سابقة ومختلفة ومتمايزة عن فلسفة العلم في
القرن العشرين.
العلم في القرن العشرين أملى نظرية البدء بالفرض، وإذا كان آينشتين — كما سنرى —
هو
الذي تربع على عرش نيوتن، فإنه بدوره خير ممثل لهذه النظرية، فقد رأى أن منهج البحث
يتلخص في أن يتخذ الباحث لنفسه مسلمات عامة أو مبادئ يستنبط منها النتائج، فينقسم عمله
إلى جزئين: يجب عليه أولًا أن يهتدي إلى المبادئ التي يستند إليها، ثم يتبع ذلك بأن
يستنبط من هذه المبادئ النتائج التي تترتب عليها، ويؤكد آينشتين تأكيدًا حاسمًا على أن
الوقائع التجريبية بمفردها تظل عديمة النفع للباحث ما لم يهتد إلى قاعدة لاستنباطاته.
٣٦
وقد صيغت نظرية المنهج التجريبي البادئ بالفرض فيما يُعرف بالمنهج الفرضي الاستنباطي Hypothetical deductive Method،
يبدأ بفرض صوري عام لا يُشتق من الخبرة ولا يخضع هو ذاته للتحقيق التجريبي المباشر،
فيلجأ الباحث إلى منهج الاستنباط؛ كي يستنبط منطقيًّا ورياضيًّا النتائج الجزئية التي
تلزم عنه، وهنا يأتي التجريب ودور الملاحظة، فيقابل بين النتائج المستنبطة من الفرض
وبين وقائع التجريب، إن اتفقت معها تم التسليم المؤقت بالفرض، وإن لم تتفق يكون تعديله
أو الاستغناء عنه والبحث عن غيره، مع ملاحظة أن مصدر الفرض لا يعنينا، فقد يأتي به
العالم من الحصيلة المعرفية السابقة أو من وقائع التجريب أو من صفاء ضوء القمر أو رؤية
وجه المحبوبة، أو من أيِّ أين تستطيع العقلية العلمية المبدعة الخلاقة أن تستلهمه
فرضًا.
أهم ما يميز هذا المنهج أن الاستدلال الرياضي عموده الفقري وأهم من وقائع التجريب
ذاتها. الاستدلال الرياضي عملية استنباطية، فلا يعود التجريب مقابلًا تمامًا للاستنباط
كما كان الحال مع الاستقراء، على أن الاستنباط هنا لا يعود طبعًا إلى القياس الأرسطي،
ولا علاقة له بأرسطو ولا حتى في استنباط النتائج الجزئية من الفرض؛ لأن الاستنباط هنا
منطقه هو المنطق الرمزي الحديث الذي تنامى في القرن العشرين، منطق العلاقات، والفروض
العلمية الآن لم تعد تحكم وقائع بقدر ما تحكم قوانين وعلاقاتها ببعضها.
وحتى هذه الآونة قد يرد في الأحاديث الجارية مصطلح «الاستقراء» كمرادف للمنهج
التجريبي، ولكن في سياق المعالجة الدقيقة عبر هذه الصفحات يعني الاستقراء منهج البدء
بالملاحظة، وهو حالة خاصة للمنهج التجريبي، فضلًا عن أنها متخلفة وقاصرة، منهج العلم
التجريبي فعلًا هو المنهج الفرضي الاستنباطي.
وكان الاستقراء بهذا التعريف قرين فلسفة العلم الحديث الكلاسيكي، إنه يساوق التفسير
الميكانيكي للكون ومبدأه الحتمي، وأيضًا يماثله من حيث كونه افتراضًا ساد مرحلة مر بها
العقل العلمي، كانت مهمة وضرورية في أوانها، ولكن به وبها من المزالق والأخطاء
والقصورات المعرفية التي تكشفت للعقل العلمي أثناء سيره أو تقدمه المطرد، فوجب أن
يتجاوزها، بعد أن أدت دورها واستنفدت مقتضياتها ودواعيها، وارتفع التقدم العلمي إلى
مرحلة أعلى من سابقتها.
والحق أن استيعاب الإبستمولوجيا العلمية في القرن العشرين يرتهن بالرفض المنطقي لمنهج
الاستقراء بمعنى البدء بالملاحظة. ولم يكن هذا أمرًا يسيرًا؛ لأن الاستقراء أكد حركة
العلم الحديث وتأكد بها.
ولكي يتضح هذا ونتمكن من استقبال إبستمولوجيا العلم في القرن العشرين بمجامع الصدور
لا بد من العودة مرة ثانية إلى نشأة العلم الحديث؛ لكي نلقي الضوء على أبعاد وعوامل لم
يتسع لها المجال فيما سبق، وتغدو الآن ضرورية لتفسير سيادة الزعم بالبدء بالملاحظة
الحسية، على الرغم مما في هذا الزعم من قصور وأغاليط. فقد رأينا كيف انبثق العلم الحديث
في أعقاب العصور الوسطى التي تحددت معالمها بكتب سماوية جعلت القياس الأرسطي هو المنهج
الملائم للعصر ومنهج رجال الكنيسة، وأن هذا القياس استدلال هابط، استنباط يتطرف في
التنظير والعزوف عن التجريب، ويمكن الآن أن نفهم كيف تمخض في العصر الحديث عن رد فعل
معاكس في الاتجاه ومساوٍ في المقدار من حيث إنه يتطرف في التجريب والعزوف عن التنظير،
بعد أن أثبتت العصور الوسطى الأوروبية عقم التنظيرات المنبتة الصلة بالطبيعة النابضة
والواقع المتأجج الحي، فبدا للعقول الناهضة آنذاك أن شق الطريق الحديث للعلم الحديث
يعتمد على نبذ القياس الأرسطي والاستنباطات العقلية طرًّا، وسلك الطريق العكسي وهو
الاستقراء، منهج البدء بالملاحظة ثم تعميمها، يقول برتراند رسل:
لم يكن الصراع بين جاليليو ومحاكم التفتيش صراعًا بين الفكر الحر والتعصب، أو
بين العلم والدين، بل كان صراعًا بين الاستنباط والاستقراء.
٣٧
محاكم التفتيش تستدعي العوامل الخارجية المحيطة بنشأة العلم الحديث، لنجد أنه حين
كان
يشق أولى خطواته الغضة في القرن السادس عشر لم يكن يتفتح كالزهر، بل كان ينبجس كالدم،
وتفاصيل الصراع الدامي بينه وبين السلطة المعرفية التي كانت آنذاك لا تزال في يد رجال
الكنيسة معروفة جيدًا، ورجال الدين استمدوا سلطانهم هذا، لا لأنهم مبدعون أو يفترضون
فروضًا جريئة، بل العكس تمامًا؛ لأنهم فقط أقدر البشر طرًّا على قراءة الكتاب المقدس،
ولكي يستطيع رجال العلم احتلال مواقع معرفية والاستقلال بنشاطهم، بدا من الحمق الصراح
والخسران المبين إقحام فكرة الفرض صنيعة العقل الإنساني الخطَّاء، القاصر في المواجهة
مع رجال الدين المتوسلين بالكتاب المقدس والحقائق الإلهية، فأصر العلماء على أنهم هم
الآخرون أقدر البشر طرًّا على قراءة كتاب آخر لا يقل عن الأناجيل عظمة ولا دلالة على
قدرة الرب وبديع صنعه، إنه كتاب الطبيعة المجيد. وأصبح تعبير «قراءة كتاب الطبيعة المجيد»
٣٨ — ومنذ أن استعمله جاليليو قائلًا: إنه مكتوب بلغة الرياضيات — تعبيرًا
شائعًا في تلك المرحلة للدلالة على نشاط العلماء. إنه محض قراءة مصوغة باللغة الرياضية،
محض مشاهدة لوقائع التجريب ثم تعميمها، فلا إبداع ولا فروض، بل وفي تجسيد وتجريد
الفلسفة لروح الموضوع وعصره، عمل فرنسيس بيكون على تحذير العلماء من مغبة الفروض،
وأسماها «استباق الطبيعة» موضحًا طرق تجنبها، كما رأينا، هكذا لم ينحصر الاستقراء في
تلك المرحلة المبكرة من تاريخ العلم الحديث في البدء بالملاحظة، بل وأيضًا الاقتصار
عليها.
ومع انتهاء الصراع مع سلطة رجال الدين، واستقلال حركة العلم الطبيعي، ثم تحررها التام
بفضل قوتها المنطقية المتنامية، شهد القرن الثامن عشر فكرة الفرض العلمي تتقدم على
استحياء، خصوصًا على يد عالم الكهرباء الفرنسي أمبير، ثم تعاظم شأنها وأثبتت ذاتها في
القرن التاسع عشر بفضل العالم الفرنسي أيضًا المتوقد الذهن كلود برنار الذي أكد أن عماد
البحث العلمي شقان: الفرض والملاحظة.
وإذا تركنا العوامل الخارجية وعدنا إلى قلب حركة العلم وعواملها الداخلية، نجد أن
المنهج الاستقرائي يتواكب أيضًا وأكثر مع إبستمولوجيا العلم الحديث زمانيًّا
وتاريخيًّا. وهو هكذا؛ لأنه على تمام التساوق والاتساق المنطقي مع تفسيرها الميكانيكي
للكون ومبدأها الحتمي. وإذا كانت فرضية الاستقراء كمنهج قد مكَّنت رجال العلم من خوض
صراعهم مع رجال الدين والانتصار عليهم، فإن الحتمية الميكانيكية قد مكَّنت لفرضية
الاستقراء من التربع جاثمة على صدر حركة العلم الحديث «الكلاسيكي»، فيستند التعميم
الاستقرائي على قانون العلية الذي هو وجه آخر للحتمية، وكل وجوه أو عناصر الحتمية
الميكانيكية، هي الأخرى تتساوق وتتسق مع الاستقراء كمنهج. فإذا كانت الحتمية تعني — كما
ذكرنا — ضرورية قوانين الطبيعة المطردة دائمًا وثبوتها ويقينها، فلا تخلف ولا مصادفة
ولا احتمال موضوعي … فسوف يكون الجزء شاهدًا على الكل، وتكفي ملاحظة بسيطة، وقائع
تجريبية محدودة ثم تعميمها، لا سيما وأن العلم الكلاسيكي تعامل مع ظواهر كبرى، جميعها
واقعة في خبرة الحواس، فتبدو موضوعًا قابلًا للملاحظة المباشرة، وبموضوعية مطلقة بلا
أدنى تدخل من الذات العارفة، ويكاد يقتصر عملها على تعميم وقائع الملاحظة المحدودة في
قوانين كلية، وسنصل في النهاية إلى الصورة الكاملة لكون ميكانيكي، آلة ضخمة مغلقة على
ذاتها، من مادة واحدة متجانسة، وبواسطة عللها الداخلية، وتبعًا لقوانينها الخاصة تسير
تلقائيًّا في مسارها المحتوم.
فكانت كل خطوة ناجحة يحرزها العلم الكلاسيكي في إطار مشروعه الحتمي الميكانيكي، تؤكد
الاستقراء، ويتأكد بها. ومنذ الوهلة الأولى بدا للعيان أن هذا النجاح المنقطع النظير
الذي أحرزه العلم، دونًا عن كل المحاولات المعرفية التي بذلها الإنسان من قبل، لا بد
وأنه يدور وجودًا وعدمًا مع العنصر المستحدث في هذا النسق المعرفي الجديد — العلم.
العنصر المستحدث هو التجربة: الاعتماد النظامي على معطيات الحواس فبدأ العلم تجريبيًّا
متطرفًا — لردة الفعل العكسية للاستنباط الأرسطي — ثم جعله نجاحه يتطرف أكثر وأكثر في
تجريبية. إن الاستقراء، الذي يبدأ بالملاحظة التجريبية ليتقهقر دور العقل والإبداع
الإنساني — إن لم يُلغَ — هو طبعًا تجريبية متطرفة، إمبيريقية صاغتها النزعة
الاستقرائية وإمامها جون ستيوارت مل.
هكذا كان العلم الحديث منتشيًا بتجريبيته المتطرفة، وتحرص النزعة الاستقرائية على
تأكيدها والتطرف بها أكثر. ولكن في قلب تلك الأجواء، وقبل جون ستيوارت بقرن من الزمان،
نهض ديفيد هيوم ليلفت الأنظار إلى أن التعميم الاستقرائي ينطوي على مغالطة هي قفزة غير
مبررة، فكانت مشكلة الاستقراء، يأس الفلسفة وفضيحتها؛ إذ بدا أنها وصلت بالميثودولوجيا
— أي فلسفة أو نظرية المنهج العلمي — إلى طريق مسدود. والواقع أنها كانت إيذانًا
بالطريق المسدود الذي ستصل إليه الفيزياء الكلاسيكية ذاتها وضرورة الانقلاب على
إبستمولوجيتها، كما فعلت نظرية الكوانتم ونظرية النسبية لآينشتين في القرن
العشرين.
لذلك أكدنا أن مشكلة الاستقراء التي أثيرت قبل أزمة الفيزياء الكلاسيكية بمائة عام
ونيف ليست يأس الفلسفة أو فضيحتها، بل هي تأكيد لقدرة الفلسفة على استشراف الآفاق
المستقبلية. إن استعصاء مشكلة الاستقراء على الحل وفقًا لإبستمولوجيا العلم الكلاسيكي
الحديث (حتمية، علية، اطراد، ضرورة، يقين …) لم يكن يعني عقم الميثودولوجيا وضرورة وأد
فلسفة العلم، بل كان يعني عقم الاستقراء ذاته وضرورة الانقلاب عليه من أجل الوقوف على
الكُنه الحقيقي للنشاط العلمي، بعبارة أخرى، لم تكشف المشكلة عن مثلب في الفلسفة، بل
عن
مثلب أو مثالب منطقية في فرضية الاستقراء ذاتها، كالآتي:
- (١)
استحالة تبرير القفزة التعميمية.
- (٢)
لو كان القانون العلمي محض تعميم لوقائع مستقرأة، فكيف يتسلل إليه الخطأ،
وهو طبعًا أمر واقع في العلم؟!
- (٣)
إذا عجزنا عن تبرير الخطأ، وبالتالي تبرير التصحيحات، فكيف يتأتي التقدم
العلمي.
- (٤)
البدء بالملاحظة يرسم طريقًا إلى الفرض أو القانون، كل من يسلكه، ويتبع
خطوات الاستقراء يصل إلى قانون، إلى اكتشاف حقيقة كما أوضحت مناهج جون
ستيوارت مل، وأوضح بيكون أن البحث العلمي متاح لذوي العقول المتوسطة. إذن
العلم — بتعميماته الاستقرائية — نشاط آلي، فكيف يمكن أن نفلسفه كفعالية
إنسانية نامية باستمرار؟!
- (٥)
إذا كان العلم نشاطًا آليًّا، ولا نجد دورًا للذكاء والإبداع الإنساني،
فما هو تبرير التفاوت في قدرات العلماء وإنجازاتهم؟!
- (٦)
والأهم، ما هو تبرير بقاء مشاكل علمية (مثلًا السرطان) بغير حل، مع توافر
كم هائل من المعطيات التجريبية بشأنها يمكن ملاحظتها ثم تعميمها.
ثم تقدمت فلسفة العلم في القرن العشرين خطوة منطقية أبعد وأجرأ؛ لتؤكد أن الاستقراء
كمنهج للعلم التجريبي ليس به مثالب وأغاليط منطقية فحسب، بل به استحالة منطقية أصلًا،
بعبارة موجزة البدء بالملاحظة يستحيل أن يفضي إلى شيء، والمسألة — كما طرحها جاستون
باشلا — أن الواقع هو نقطة نهاية التفكير العلمي لا نقطة بدايته. وهذه فكرة انطلق فيها
فلاسفة العلم في النصف الثاني من القرن العشرين وأمعنوا في الانطلاق، فقد أصبح من
الممكن بعد كل هذا الشوط من التقدم العلمي والإحاطة الوصفية بالوقائع — من الممكن أن
يناقش بول فيبرآبند فكرة علم طبيعي بغير خبرة تجريبية، بغير عناصر حسية!
٣٩
وكما سنرى كان كارل بوير أول وأهم من اعتنوا بتوضيح وإثبات أن البدء بالملاحظة
الخالصة فقط، ثم تعميمها فنصل إلى قانون أو نظرية علمية وبغير أن يكون في الذهن أي شيء
من صميم طبيعة النظرية … هذه فكرة مستحيلة خلف محال، وقد مثَّل بوبر لهذا بأقصوصة عن
رجل كرَّس حياته للعلم فأخذ يسجل كل ما استطاع أن يلاحظه، ثم أوصى أن تورث هذه المجموعة
من الملاحظات التي لا تساوي شيئًا إلى «الجمعية الملكية للعلوم بإنجلترا»؛ لكي تستعمل
كدليل استقرائي! وهي طبعًا لن تفيد العلم في شيء ولن تفضي إلى شيء. وإذا افترضنا
كومبيوتر يقوم بدور آلة استقرائية فيجمع المعطيات الحسية المتماثلة ليعممها في قانون،
فإن عمله هذا مستحيل بدون فرض مسبق، لا بد قبلًا من برنامج يحدد للكومبيوتر ما هي أوجه
التماثل التي يبحث عنها ومتى يأخذ الوقائع التجريبية أو المعطيات الحسية على أنها
متماثلة. وقد حاول بوير أن يؤكد هذا أكثر، فبدأ إحدى محاضراته في فيينا بأن قال لطلاب
الفيزياء: «أمسك بالقلم والورقة، لاحظ بعناية ودقة، سجل ما تلاحظه.» بالطبع تساءل
الطلاب عما يريدهم بوبر أن يلاحظوه، وهنا أوضح لهم كيف أنَّ «لاحظ!» فحسب لا تعني
شيئًا، العالم لا يلاحظ فحسب، الملاحظة دائمًا منتقاة، توجهها مشكلة مختارة من موضوع
ما، ومهمة محددة، واهتمام معين، ووجهة من النظر نريد من الملاحظة أن تختبرها. المشكلة
هي ما يبدأ به العالم وليس الملاحظة الخالصة كما يدعي الاستقرائيون، فماذا عساه أن
يلاحظ ويسجل؟ بائع جرائد ينادي وآخر يصيح، وناقوس يدق … أم يلاحظ أن كل هذا يعرقل بحثه؟
إن العالم يحتاج مسبقًا لنظرية يلاحظ على أساسها، فهو يبدأ من الحصيلة المعرفية السابقة
لتحدد له موقف المشكلة وتعين على فهمها، فيقدح عبقريته العلمية ليتوصل إلى الفرض الذي
يستطيع حلها، ها هنا فقط يلجأ إلى الملاحظة ليختبر فرضه تجريبيًّا عن طريق النتائج المستنبطة؛
٤٠ تلك هي الصورة العامة لمسار البحث التجريبي، إنه المنهج الفرضي
الاستنباطي.
ومن الرائع أن نحسم الأمر بشهادة أعظم عالم فيزياء نظرية الآن، يزهو القرن العشرون
حقًّا به مستقبلًا القرن الحادي والعشرين، وهو الوحيد الذي يمكن مضاهاته بآينشتين، إنه
ستيفن هوكنج
S. Hawking (١٩٤٢–؟):
٤١ «لم أسمع عن أية نظرية كبرى قد طرحت على أساس من التجربة فحسب، فالنظرية هي
التي تأتي دائمًا أولًا، ويتم طرحها بسبب الرغبة في الحصول على نموذج رياضي رائع ومتسق.
ثم تعطي النظرية تنبؤات، وهذه يمكن اختبارها بالملاحظة، وإذا اتفقت الملاحظات مع
التنبؤات فإن هذا لا يبرهن على النظرية، وإنما تظل النظرية باقية لتصنع تنبؤات جديدة،
يتم مرة أخرى اختبارها بالملاحظة. وإذا لم تتفق الملاحظات مع التنبؤات، نتخلى عن النظرية.»
٤٢ وحين يعرض الفصل السادس لنظرية كارل بوبر المنهجية سوف نلاحظ أن قول هوكنج
هذا بمثابة تلخيص لنظرية بوبر بأسرها، وليس فقط تأكيدًا لأسبقية الفرض مع الملاحظة التي
بات مسلمًا بها من قبل الأطراف المعنية. وهذا عالم الفيزياء الرياضية بولكين هورن، الذي
ينعم بزمالة النابغة الفذ ستيفن هوكنج في قسم الرياضيات التطبيقية والفيزياء النظرية
بجامعة كمبردج، يقول إن الملاحظة لا تفضي إلى الفرض أبدًا؛ لأن الفرض قراءة للوقائع
التجريبية بواسطة فعل فردي خلاق، إبداع لعقلية علمية، ثم يمحص المجتمع العلمي تلك
البصيرة الخلاقة جيدًا قبل أن يصدق عليها. والواقع أنه لا كوبرنيقوس ولا جاليليو ولا
نيوتن، ولا أي رائد من الرواد الذين شيدوا صرح العلم الحديث، ولا أي من العلماء الأقل
حجمًا ولا من العلماء طرًّا، توصل إلى إنجازاته عن طريق الاستقراء، أي عن طريق البدء
بالملاحظة ثم تعميمها لكي يصل إلى القانون العلمي، بل جميعهم يبدأ بفرض يستنبط نتائجه
ثم يقوم باختبارها تجريبيًّا، ولكن بفعل العوامل الداخلية والخارجية لحركة العلم الحديث
ران الوهم الاستقرائي على العقول، من حيث ران الوهم الحتمي الميكانيكي.
وقد تبددت هذه الأوهام في ضوء ثورة الكوانتم والنسبية، ثورة الفيزياء الكبرى في القرن
العشرين، وسوف يتكرس لها الفصل التالي توًّا. وأصبح العلم الإخباري التجريبي يتعامل مع
كيانات غير قابلة للملاحظة أصلًا، فلا يمكن رصد الجسيمات الذرية، يمكن فقط رصد آثارها
على الأجهزة المعملية، لقد انتهى القرن العشرون مهللًا للإنجاز العبقري للعالم المصري
أحمد زويل، وقد فاز عن جدارة بجائزة نوبل، فعن طريق أشعة الليزر استطاع لأول مرة في
التاريخ تصوير ميلاد الجزيئات، أي رصده تجريبيًّا وهو يحدث في زمن يُقدر بالفمتو ثانية؛
أي واحد على مليون بليون من الثانية، والجزيئات وحدة كبيرة نسبيًّا، على مدار القرن
العشرين يتعامل العلماء مع ما هو أصغر كثيرًا كثيرًا، الذرة والإلكترون وسائر الجسيمات
الذرية التي ارتدت إلى الكواركات، وأنجز علم القرن العشرين ما أنجزه وسائر هذه الكيانات
غير قابلة للملاحظة والرصد، لكن يمكن الملاحظة التجريبية الدقيقة لتأثيراتها على
الأجهزة المعملية، مما يعني أن التجريب يشترط قبلًا فرضًا نصمم التجربة والآثار
المتوقعة على أساسه، وإلا سيدخل العالم معمله ولا يجد شيئًا يفعله. تبعًا لما ترسمه
نظرية المنهج الفرضي الاستنباطي التي وضعت الإصبع على حقيقة المنهج التجريبي، لا بد من
فرض يفترضه العقل، يخلقه خلقًا ويبدعه إبداعًا، ثم يستنبط نتائجه وهنا ينزل إلى
الملاحظة التجريبية، بل وأحيانًا كثيرة يصعب إجراء التجربة لأسباب فنية أو لأنها باهظة
التكاليف فيحتكم العلماء إلى «التجارب العقلية»، أي تخيل التجربة وافتراض نتائجها
المتوقعة، وعلماء الفيزياء النظرية في القرن العشرين مغرمون «بالتجارب العقلية»
هذه.
وفي كل حال «العلم تجريبي» كما أن «أ هي أ»، ولكن في ضوء المنهج الفرضي الاستنباطي
ليست الملاحظة التجريبية مصدرًا للفرض العلمي، بل محكًّا له، فهو لا يحدد الطريق إلى
الفرض، هذا الطريق لا يمكن أن يكون تحديده مسألة منطق أو قواعد منهجية؛ لأنه يعتمد على
عنصر العبقرية والإبداع والذكاء الإنساني، فيمكن أن يُترك مثلًا للدراسة السيكولوجية
للإبداع العلمي. معنى هذا ببساطة أن العلم صنيعة الإنسان، وقد تبدو هذه حقيقة أوضح من
شمس النهار، لكنها غابت بفعل الغيوم الاستقرائية، ولم تتبلور إلا في القرن العشرين،
الذي أدرك أن العلم ليس البتة نشاطًا آليًّا متاحًا لذوي العقول المتوسطة كما رأى
بيكون، أو مجردَ قراءة لكتاب الطبيعة المجيد كما قال جاليليو. وبغير حاجة لتفصيلات
واستطرادات يمكن إدراك كيف أن كل المثالب المنطقية المحيقة بالاستقراء تنداح كما تنداح
دوائر في لجة ماء أُلقي فيه بالحجر، مع رؤية المنهج الفرضي الاستنباطي.
إن العلم صنيعة الإنسان أي فعالية نامية باستمرار، كل خطوة قابلة للتجاوز، للتقدم؛
لذلك يجعل المنهج الفرضي الاستنباطي كل قانون مجرد فرض ناجح، في حين أن المنهج
الاستقرائي يجعل كل فرض ناجح قانونًا، اكتشافًا لحقيقة. إن الاستقراء — منهج البدء
بالملاحظة الصلبة — هو منهج لتأسيس وتبرير العبارات العلمية على أساس مكين هو الوقائع
التجريبية، في حين أن العلم التجريبي بناء صميم طبيعته الصيرورة والتقدم المستمر، وها
هنا نجد المنهج الفرضي الاستنباطي نظرية في الإبداع والتقدم المستمر.
إن وضع الفرض قبل الملاحظة بمثابة ثورة منهجية، تكاد تشابه الثورة الكوبرنيقية التي
وضعت الشمس بدلًا من الأرض كمركز، فتغيرت منظومة الكون والنظرة إلى طبيعته وحُلت
إشكاليات فلكية جمة وارتسم طريق لتقدم متسارع للعلم. وبالمثل تغيرت منظومة المنهج
والنظرة لطبيعة المعرفة العلية وحُلت إشكاليات إبستمولوجية جمة وارتسم طريق لتطور
متسارع في فلسفة العلم.
على أن النظرية الميثودولوجية (أي نظرية المنهج العلمي) التي تبدأ بالفرض لا يقتصر
مردودها على عقر دارها — الإبستمولوجيا وفلسفة العلم — بل أيضًا هي القادرة على صياغة
المنهج التجريبي من حيث هو العقلانية التجريبية، وبوصفه قوة إيجابية امتلكها الإنسان
وفعالية حضارية يمكن استغلالها وتسخيرها في كل تعامل مع الواقع المتعين.
وقبل أن نوضح هذه النقطة الهامة والمجدية كثيرًا، نلاحظ قبلًا أن المنهج العلمي واحد
وهو كثير! واحد على مستوى النظر الفلسفي وكثير متعدد على مستوى التطبيقات
العينية.
ذلك أن النظرية الفلسفية الميثودولوجية ليست مجرد توصيف لما يفعله العلماء، ولا هي
محض معيار صوري يُفرض عليهم، بل مركب جدلي من الوصفية والمعيارية. إن الفلسفة دائمًا
هي
الوعي بموضوعها، الوعي المتميز عن الفهم التفصيلي التفتيتي، متميز بأنه أشمل نظرة لما
هو كائن؛ تأصيلًا له واستشرافًا لما ينبغي أن يكون، استشراف الطبائع العامة المميزة
للبحث العلمي، أي المعالم المحورية أو الثوابت البنيوية، علم مناهج البحث — الذي رأيناه
صلب فلسفة العلم — حين يتعرض للمنهج التجريبي بهذه النظرة الجذرية التأصيلية والشمولية
الاستشرافية، يحاول الاهتداء إلى سمات البنية والقسمات الجوهرية، فيكون المنهج الفرضي
الاستنباطي — كما كان المنهج الاستقرائي — هو التصور الفلسفي المنطقي للهيكل العام الذي
يرسم أسلوب التعامل العلمي مع الواقع؛ لذلك فهو واحد.
لكن الواقع العلمي متنوع، فالعالم التجريبي للبكتريا مختلف عن العالم التجريبي للفلك،
وغير العالم التجريبي للنفس … إلخ، وبطبيعة الحال لا بد أن تختلف طرائق البحث وأساليبه
الإجرائية وتقاناته الإمبيريقية من علم إلى علم، بل إنها تختلف داخل العلم الواحد،
أولًا تبعًا لدرجة تقدمه، وثانيًا تبعًا لزوايا ومستويات تناوله لموضوعه. على هذه
الاختلافات الإجرائية ينصب اهتمام العلماء المتخصصين، كلٌّ يسخره لخدمة موضوعه، وبما
يتلاءم مع الطبيعة النوعية لمادة بحثه، بكل تميزها وخصوصيتها عن مواد العلوم الأخرى.
بهذا المنظور التخصصي تظهر علوم لمناهج البحث ملحقة بفروع العلوم المختلفة لتعالج
الأساليب التقانية والوسائل الاختصاصية المتكيفة مع موضوع البحث ومادته التي تختلف من
علم لآخر، فنجد مثلًا «مناهج البحث في علم الاجتماع»، و«مناهج البحث في علم الفلك»،
و«مناهج البحث في الهندسة الوراثية»، و«مناهج البحث في علم النفس» … إلخ، وكل فرع قد
ينقسم بدوره إلى فروع، فنجد «مناهج البحث في علم النفس الاجتماعي»، و«مناهج البحث في
علم نفس الشخصية»، و«مناهج البحث في علم النفس الإكلينيكي» … إلخ هذه المسائل المتعلقة
بنوعيات الإمبيريقيات وأساليب الممارسة الإجرائية، مسألة تخصصية يعالجها كل علم وفقًا
لطبيعة مادته، والعلماء المنشغلون بها هم الأخبر.
والفلسفة دائمًا هي النظرة الكلية الباحثة عن المبادئ العمومية الكامنة في الأعماق
البعيدة، وبهذا المنظور نجد الميثودولوجيا — أي علم مناهج البحث الذي رأيناه صلب فلسفة
العلم — يبحث من وراء هذه الاختلافات عن الأسس العامة التي يمكن تجريدها من المواقف
العلمية المختلفة، لنجدها أسسًا منطبقة لا على الفلك دون الاجتماع أو النفس دون
الكيمياء، بل هي منطبقة على كل بحث علمي من حيث هو علمي. معنى هذا أن المنهج الفرضي
الاستنباطي هو المنهج التجريبي في العلوم الطبيعية الفيزيوكيماوية والعلوم الحيوية
والعلوم الإنسانية على السواء.
وكما ذكرنا لا يقتصر أمره على تجريد روح العلوم الإخبارية وطرائق تناميها، والتصور
الفلسفي للمنهج التجريبي حين يقف على المعالم المحورية والثوابت البنيوية في شتى
متغيرات المناهج العلمية التجريبية، فإنه يعطينا خلاصة وفحوى آلية تعامل العقل الإنساني
— الملتزم والمثمر — مع الواقع الذي نعيش فيه، ولا غرو أن تأتينا من العلم، فمهما تمخضت
البحوث العلمية في النهاية — أو في تطبيقاتها — عن إنجازات تلغي الزمان والمكان، كالسفر
بسرعة الصوت والتواصل بسرعة الضوء، وغزو الفضاء والذرة، وتحويل مجاري الأنهار واخضرار
الصحاري، مقاومة الأمراض ومداواة العاهات الجسدية والنفسية والاجتماعية … مهما تحققت
إعجازات تتضاءل بجوارها معجزات الأساطير، سيظل المغزى الأعظم للبحث العلمي هو أنه تجسيد
لطرائق التفكير السديدة المثمرة، لقوة إيجابية وآلية فعالة امتلكها عقل الإنسان وأحسن
تشغيلها وتطويرها، ويمكن تسخيرها في تعاملات شتى مع الواقع وليس البحث العلمي فحسب،
فتمثل قوة دافعة للحضارة بجملتها.
ربما لهذا رأى جون ستيوارت مل أن المنهج الاستقرائي هو آلية الاستدلال الوحيدة التي
يمتلكها العقل ومنطق العلم ومنطق العمل ومنطق الحياة، وكما رأينا، التعميم الاستقرائي
الساذج محاط بقصورات وصعوبات وإشكاليات جمة. أما حين تقدم النظرة الفلسفية المنهج
العلمي التجريبي بوصفه المنهج الفرض الاستنباطي الذي ينطلق من فرض أبدعه عقل الإنسان
ثم
يخرج منه بنتائج جزئية يهبط بها إلى الواقع التجريبي ليختبر الفرض، فيقبله أو يعدله أو
يرفضه، فإن النظرية الفلسفية بهذا تقدم صياغة مُثلى للعقلانية التجريبية، للعقل حين
يرسم سبلًا موجهة ناجحة، حين ينطلق بمجمل طاقاته وقدراته أقصى انطلاقة في محاولاته
الجسورة لوضع الفروض العلمية، لكنها دونًا عن كل انطلاقات العقل ملتزمة بالواقع بما
تنبئ به التجربة لتتعدل الفروض أو تُقبل أو تُلغى وفقًا له. منهج العلم التجريبي ينصت
لشهادة الحواس ومعطيات الوقائع، فتعين موضع الخطأ والكذب في الفرض حين يتعارض معها، يتم
تصحيحه والبحث عن فرض جديد متلافٍ لذلك الخطأ، يُعرض بدوره على محكمة التجريب، ويتم
تعديله بفرض جديد … وهكذا دواليك في متوالية لتقدم لا يتوقف أبدًا، حتى ليكاد أن يكون
البحث العلمي هو التمثيل العيني لمقولة التقدم، كفعالية مستمرة تحمل في صلب ذاتها عوامل
تناميها المتواصل دومًا، كل إجابة يتوصل إليها العلم تطرح تساؤلات أبعد، فيؤدي كل تقدم
إلى تقدم أعلى، ومهما علونا في مدارج التقدم لن تغلق المعامل أبوابها، ولن ينتهي البحث
العلمي أبدًا. لذلك لم يكن العلم بناءً مشيدًا من حقائق قاطعة، بل هو نسق من فروض
ناجحة، كل يوم فروض أنجح من سابقتها، أجدر وأقدر على الوصف والتفسير والتنبؤ والسيطرة،
كل يوم جديد يتلافى أخطاء وقصورات القديم، فيلغيه أو على الأقل يستوعبه ويتجاوزه، ويقطع
في طريق التقدم خطوة أبعد منه، في صيرورة — تغير مستمر نحو الأقرب من الصدق، الأفضل
والأقدر.
وفي خضم هذه الحركية التقدمية الجبارة ينتصب مارد المنهج العلمي بوصفه الثابت
الديناميكي إن جاز التعبير، أو القوة المثمرة الولود لكل ما يتواتر من تغيرات. في أعطاف
هذا المارد تقوم وقائع التجريب بدور ناقد قاسٍ لا يعرف الرحمة حين تعيينه لمواضع الخطأ،
دور الفيصل والفاروق بين الصدق والكذب، القاضي الحاتم ذي الحكم الموجب النفاذ: إنها
مسئولية عسيرة أمام الواقع والوقائع لا يقوى على الاضطلاع بها إلا المنهج العلمي، فهو
التآزر الجميل المثمر الخصيب بين العقل والتجريب، الفهم والحواس، اليد والدماغ، الفكر
والواقع، إنه العقلانية التجريبية.
هكذا يستقي المنهج العلمي أرومته من قلب معامل العلماء ومعترك كفاحهم الضاري والنبيل،
لكنه ينصب في قلب البناء الحضاري ليس البتة كتقنية خاصة بذوي الاحتراف، بل كبلورة
مستصفاة للتفكير المثمر الملتزم بالواقع والوقائع؛ لتعقيل السير نحو الهدف، وكل لحظة
من
لحظات زماننا الظافر ببلورة المنهج العلمي — بفضل فلاسفة العلم في بحثهم الدءوب عن
صياغة طرائق التفكير العلمي السديد — تشهد بتصديق مستديم على أن هذا المنهج أنجع وسيلة
امتلكها الإنسان للسيطرة على واقعة، إنه سبيل إلى الظفر المبين في خضم عالم الواقع
ومشكلاته.
لقد امتد هذا السبيل واضحًا ممهَّدًا بفضل جهود القرن العشرين في العلم وفلسفته.
وتَرسَّم عبر الصفحات السابقة في هذا الفصل حدٌّ واضح بين فلسفة العلم الحديث حتى نهاية
القرن التاسع عشر وفلسفة العلم في القرن العشرين، حد أو فارق يتبلور حول مغزى
التجريبية، فبعد أن كانت معينًا نغترف منه الفروض العلمية أصبحت في القرن العشرين
محكًّا نلتجئ إليه لاختبار الفروض وقبولها أو تعديلها أو رفضها، فاتضح أن التجريبية في
جوهرها هي الاختبارية. ويمكن أن نلاحظ عبقرية اللغة العربية التي وضعت مصطلح «المختبر»
مرادفًا للمعمل، ورمزه النمطي أنبوبة «الاختبار» الشهيرة. وأخيرًا إذا كانت نظرية
المنهج الفرضي الاستنباطي قد ارتهنت بها كل تلك الإيجابيات الجمة، فالواقع أنها انعكاس
لإيجابيات التطورات العلمية التي تسارعت في القرن العشرين واقتحمت أعماق الذرة وأغوار
الفضاء السحيق. ألم نتفق قبلًا على أن نظرية المنهج خير تجريد وتجسيد لروح العصر
والقرن؟!
والحق أن المحصلات الباذخة للعلم وفلسفته ونظريته المنهجية في القرن العشرين، كانت
نتاجًا للثورة المباركة التي اقترنت بها مطالع القرن العشرين.
فما خطب هذه الثورة؟