من منطق التبرير إلى منطق التقدم
أولًا: كارل بوبر … نقطة تحول
تستند فلسفة بوبر بأسرها على أن الخاصة المنطقية المميزة للعلم التجريبي هي إمكانية تكذيب عباراته، هي قابليته المستمرة للمواجهة مع الواقع والوقائع، للنقد والمراجعة واكتشاف الأخطاء وبالتالي التصويب والاقتراب الأكثر من الصدق، التقدم المستمر. بهذا علَّمنا كارل بوبر كيف تكون فلسفة العلم هي منطق قابليته المستمرة للتقدم، بحيث تكون قواعد البحث العلمي قواعد مباراة هي من حيث المبدأ بلا نهاية، أما العالم الذي يقرر يومًا ما أن العبارات العلمية أصبحت لا تستدعي أية اختبارات أخرى ويمكن أن نعتبرها متحققة بصورة نهائية، فإنه ينسحب من المباراة؛ لذا فنحن لسنا في حاجة إلى منطق للتبرير والتحقق أو المواءمة، بقدر ما نحن في حاجة إلى منطق للكشف والتقدم المستمر.
لاحظ بوبر أن كل فلاسفة العلم منذ جون ستيوارت مل، بل كل فلاسفة المعرفة التجريبية منذ ديفيد هيوم حتى ماخ والوضعيين والأداتيين على السواء، ينظرون إلى المعرفة العلمية بوصفها حقائق مثبتة مؤسسة فينشغلون بتبريرها. وصمم بوبر على إحراز الخطوة الأبعد، وأكد أنه على عكسهم جميعًا لا يُعنَى البتة بتبرير المعرفة العلمية أو حدود صدقها وصحتها، بل يُعنَى فقط بمشكلة نمو المعرفة وكيفية تقدمها، فيصوب الأنظار إلى منطق الكشف العلمي واللحظة الدراماتيكية الكبرى المتمخضة عن الجديد، لحظة التكذيب والتفنيد، في إطار من معالجة منطقية منهجية بالغة الدقة والإحكام، بحيث كانت النظرة البوبرية أقدر من سواها على طرح المعرفة العلمية بوصفها قابلة للاختبار البين ذاتي، أي الموضوعي، كمعرفة ديناميكية متحركة لا ثبات ولا جمود فيها. يرى بوبر أن المعرفة على العموم والمعرفة العلمية على أخص الخصوص بناء صميم طبيعته الصيرورة، التقدم المستمر. فلا تكون نظرية العلم نظرية في تبريره، بل في أسلوب هذه الصيرورة أو كيفية التقدم المستمر. الأسلوب أو الكيفية هو ما يُعرف بالمنهج العلمي، ومن ثم تكون نظرية العلم أو فلسفة العلم هي نظرية المنهج العلمي، هي ذاتها منطق الكشف العلمي.
أتت فلسفة بوبر رائدة قادرة على دفع فلسفة العلم إلى آفاق أبعد؛ لأنها انطلقت من موقف الاستيعاب والاستشراف لآفاق ثورة العلم العظمى، ثورة الكوانتم والنسبية، بعقل تحرر تمامًا من رواسب المرحلة النيوتونية الحتمية، فاستطاع بوبر أن يقدم صياغة دقيقة لمنطق الكشف العلمي في أعقد وأدق تفصيلاته حققت استفادة بالغة من تقنيات المنطق الرياضي. وما دام بوبر يؤكد أن منطق العلم ومنهجه وجهان لعملة واحدة، كان من الطبيعي أن تنصب فلسفته الرائدة للعلم في إطار نظرية منهجية.
وسوف نرى أنه ليس هناك حيود أو هجران، بل نماء عادي جدًّا لتوجهات فلسفة بوبر. ولما كانت فلسفة العلم في القرن الحادي والعشرين تنتظرها آفاق مستقبلية واسعة في اتجاه البيولوجيا والمنظورات البيولوجية، أدركنا منذ البداية كيف كان بوبر نقطة تحول، ودفع فلسفة العلم إلى آفاق مستقبلية متتالية.
ومن ناحية أخرى انعكست صياغة بوبر للمنهج العلمي في مجموعة من الآليات والقيم، ترتد نهائيًّا في صورة مجتمع مفتوح للرأي والرأي الآخر، لكل محاولات حل المشاكل؛ ليفوز الحل الأقدر والرأي الأرجح، فيكون الانتقال بهندسة اجتماعية جزئية من المشكلات إلى حلولها في إطار ديمقراطي، يستلزم التسامح وينقض كل دعاوى الديكتاتورية والانفراد بالرأي والتعصب والتطرف، فضلًا عن الإرهاب، ويستحيل معه صب المجتمع داخل الإطار الشمولي الكلي والنسق الموحد، سواء أكان النسق هو الماركسية أو سواها؛ لأن هذا مجافٍ لمنطق العلم ومنطق الواقع ومنطق التاريخ، وإن استحقت الماركسية بالذات نقدًا مكثفًا. هذا هو مضمون كتاب بوبر «المجتمع المفتوح وخصومه ١٩٤٥م» في جزأين، حيث تعقب بوبر جذور الاتجاه الشمولي فيما قبل الماركسية والهيجلية حتى أرسطو وأفلاطون، بل وما قبل أفلاطون ليصل في النهاية إلى أقوى نقد وجه للماركسية. وعلى الرغم من أن بوبر أساسًا ودائمًا فيلسوف علم، فإنه حاز شهرته من هذا الكتاب الذي طبق الخافقين، وتوالت طبعاته منذ صدوره وحتى الآن، وتُرجم إلى عديد من اللغات. وبمجرد انهيار الاتحاد السوفيتي، الذي أتى مصداقًا لمضمون «المجتمع المفتوح»، صدرت ترجمته الروسية عام ١٩٩٢م في خمسين ألف نسخة.
وفي غضون الطريق السائر من فلسفة العلم ومنهجه إلى فلسفة المجتمع والسياسة تترسم فلسفة كارل بوبر كاتجاه قوي مترامي الأطراف، متعدد الجوانب متسق الأبعاد، شديد الولاء والإخلاص لمنطلقات وتوجهات فلسفة العلم، يوسم بالعقلانية النقدية، ويُعد من أهم تيارات فلسفة القرن العشرين وأكثرها خصوبة وأعمقها تأثيرًا، أدلى بوبر بدلوه في ميادين حضارية ومجالات فلسفية عديدة ترك فيها بصماته، بحيث ساهم في تشكيل ملامح الفكر الغربي في النصف الثاني من القرن العشرين.
ويظل أهم ما في فلسفة بوبر أنها دفعت فلسفة العلم دفعة واسعة في اتجاه منطق الكشف والتقدم، فتحت أمامها آفاقًا أوسع، واستحق بوبر أن يكون أهم فلاسفة العلم خصوصًا في العالم المتحدث بالإنجليزية والألمانية. وحتى في فرنسا، حيث لا تتمتع أعماله بالدرجة نفسها من الذيوع والانتشار، سعى إدكار فور المفكر ووزير التعليم المتميز إلى تأسيس مركز للدراسات البوبرية في فرنسا عام ١٩٨٢م، ولا غرو ما دام بوبر عملاق المنهج العلمي، داعية المجتمع المفتوح، نصير الديمقراطية الليبرالية في أكثر صورها إنسانية، مُهاجم الماركسية ذا البأس الشديد الذي سبق الأحداث بنفاذ بصيرة رائع واستبصر ذلك المآل للأنظمة الشمولية المغلقة في أوروبا، العدو الشرس للفلسفة التحليلية والوضعية المنطقية بانكبابها على تحليل عبارات العلم لتنزع عن الفلسفة بهاءها السرمدي، وتحاول سحق الميتافيزيقا. كان بوبر مُجيدًا ومَجيدًا وهو يدافع عن الميتافيزيقا من أجل العلم، فهي الأفق النهائي للفروض العلمية الخصيبة.
ويعنينا من كل هذا أنه إطار فلسفته للعلم، فلسفة التقدم العلمي، وقبل أن نعرض لها نلقي نظرة على حياة الفيلسوف التي كانت مسرحًا مواتيًا لها.
ولد كارل ريموند بوبر في فيينا، في ٢٨ يوليو عام ١٩٠٢م، لأسرة نمساوية خليقة بأن تنجب فيلسوفًا، الأب حاصل على درجة الدكتوراه وكذا أخواه، وكان أستاذًا للقانون في جامعة فيينا ومحاميًا، ويبدو أنه كان مثقفًا ثقافة رصينة، حتى إننا لا نجد — كما يخبرنا الابن كارل بوبر — حجرة واحدة في منزله غير مكتظة بالمراجع الكبرى وأمهات الكتب الفلسفية وآيات التراث الإنساني، باستثناء حجرة المعيشة كانت بدورها مكتظة بمكتبة موسيقية تحوي أعمال باخ وهايدن وموزار وبيتهوفن … وبوبر يعتز كثيرًا بأنه يمتلك نسخة من طبعة القرن السابع عشر لكتاب لجاليليو، ونسخة من طبعة القرن الثامن عشر لكتاب لإيمانويل كانط فيلسوفه الأثير. وقد كان الأب حريصًا على تنشئة ابنه، ومنذ نعومة أظفار الصبي كارل بوبر، ووالده يحفزه على قراءة الكتب الفلسفية الكلاسيكية، ويُناقشه في مشاكل اللامتناهي والماهية والجوهر، وحينما تعييه حذلقة الصبي يعهد به إلى عمه ليستأنف المناقشة.
أما عن أمه جيني تي شيف، جيني بوير، فهي تنتمي لأسرة تسري في دمائها الموهبة الموسيقية، كانت هي وشقيقاتها شأن غالبية مواطني فيينا — عاصمة الألحان وكعبة الموسيقى — عازفات ماهرات على البيانو، أختها الكبرى وأبناؤها الثلاثة عازفون محترفون. وقد لعبت الموسيقى دورًا كبيرًا في حياة الابن بوبر، فهو أيضًا عازف على البيانو، ومتذوق عميق لها، مما ساعد في صقل شخصيته وإرهاف مشاعره، ويخبرنا في تفصيلات مسهبة كيف أن الموسيقى الأوروبية البوليفونية كانت ملهمة ببعض توجهاته الفكرية. ولم يسلم بوبر الروح إلا بعد أن حقق حلم حياته وقام بتأليف قطعة موسيقية وهو في التسعين من عمره!
والحق أن كل ما في سيرة الفيلسوف مدعاة للإجلال والإكبار، فهو ذو حس إنساني رفيع، شديد التعاطف مع مظاهر البؤس والحرمان والشقاء، وكانت منتشرة في أحياء فيينا الفقيرة — نتيجة حرب أهلية — إبان صبا الفيلسوف، وكان أول حب خفق له قلبه — وهو طفل صغير يرفل في الخامسة من عمره — لطفلة صغيرة في روضة أطفال ذهب إليها مرة واحدة، برؤية وجهها انفطر قلب الطفل بوبر، وهو لا يدري: ألروعة ابتسامتها الأخاذة؟ أم لمأساة كف بصرها؟
وحينما شب عن الطوق ورث عن أبيه العمل الاجتماعي من أجل الأطفال المهملين والأيتام، ولما وضعت الحرب العالمية الأولى أوزارها (١٩١٩-١٩٢٠م) وهذا العام حاسم في فلسفته، ترك منزل والديه رغم توسلاتهما، كي يستقل بنفسه، وكي لا يشكل عبئًا عليهما، فقد أصبح أبوه شيخًا جاوز الستين، فقد كل مدخراته في التضخم المالي الذي استشرى في أعقاب الحرب، وأقام بوبر في مبنى قديم لمستشفى عسكري مهجور، حوَّله الطلبة إلى بيت طلاب بدائي جدًّا. عمل بغير أجر في عيادة النفساني ألفرد آدلر، وبأجور زهيدة في أعمال أخرى كتدريس أو تدريب لطلبة أمريكيين، أو كمساعد لنجار … هذا النجار أثَّر كثيرًا على شخصية بوبر، ولكن ترك في نفسه رد فعل عكسيًّا عنيفًا حين كان بوبر يراه دائمًا يؤكد أنه يعرف كل شيء وأنه على صواب ولا يخطئ أبدًا، فأصبحت احتمالية الخطأ الكامنة في كل موقف هي جذع الفلسفة البوبرية. لم يكن بوبر يدخن أو يحتسي خمرًا، كان يأكل قليلًا ويرتدي ثيابًا متواضعة. المتعة الوحيدة التي لم يستطع التخلي عنها آنذاك هي التردد على حفلات الموسيقى السيمفونية، وكانت التذاكر رخيصة؛ لأنه كان يستمع واقفًا.
بخلاف العمل الاجتماعي من أجل الأيتام، والموسيقى، كان اهتمام بوبر الثالث في يفاعته هو الفلسفات السياسية اليسارية، أمضى إبان مراهقته ثلاثة أشهر ماركسيًّا، لكنه انقلب بحماس إلى الاشتراكية الديمقراطية … وأصبح في النهاية داعية ما يمكن أن نسميه: ليبرالية معدلة، ليبرالية النصف الثاني من القرن العشرين، التي اقترنت باسم بوبر.
التحق بوبر بجامعة فيينا عام ١٩١٨م، حضر مختلف المحاضرات: تاريخ الموسيقى والأدب وعلم النفس والفيزياء … بل وحتى العلوم الطبية، وسرعان ما ترك هذا، وقصر حضوره على محاضرات الفيزياء النظرية والرياضة البحتة … إذ كان يرى تلك المحاضرات «رائعة بحق».
وفي عام ١٩٢٢م قيد طالبًا منتظمًا بالجامعة، فأمضى عامين للحصول على إجازة للعمل في المدارس الابتدائية، حصل عليها إبان عمله كنجار، وواصل دراساته حتى حصل على إجازة التدريس في المدارس الثانوية. ظل بوبر لآخر يوم في حياته على اعتقاد راسخ بأن تربية النشء والتعليم — في كل صوره — أقدس مهمة عرفتها البشرية. حصل على إجازته تلك من معهد تربوي أنشئ حديثًا، وفيه تعرف بوبر على محبوبته، التي أصبحت زوجته حتى آخر العمر، وما فتئ بوبر في كل موضع أن ينوه بفضلها وفضل حبها العظيم عليه. وبعد تخرجه استأنف دراساته، حتى حصل على شهادة الدكتوراه في الفلسفة، من جامعة فيينا عام ١٩٢٨م.
وكسب عيشه من العمل كمدرس طبيعة ورياضة في المدارس الثانوية، ولم يكن هذا شيئًا يسيرًا في النمسا آنذاك.
ألحق بوبر بالترجمة الإنجليزية «منطق الكشف العلمي» ملحقًا مطنبًا بعنوان «بعد عشرين عامًا» أثبت فيه بضعة مستجدات، منها محصلة لقائه بآينشتين ومحاولات بوبر لكي يقنعه بالعدول عن الإيمان بالحتمية العلمية التي تبخرت، جرى هذا اللقاء عام ١٩٥٠م، حين ذهب بوبر إلى أمريكا تلبية لدعوة تلقاها كي يلقي محاضرة بجامعة هارفارد في ذكرى وليم جيمس. ما زالت طبعات «منطق الكشف العلمي» تتوالى حتى يومنا هذا، وتُرجم إلى سبع عشرة لغة منها العربية، كما تُرجمت أربعة كتب أخرى لبوبر إلى اللغة العربية.
ثانيًا: بوبر ضد الوضعية والاستقرائية
والواقع أن اضمحلال الوضعية المنطقية لا يعزى إلى فرد بعينه، بل إلى صعوبات داخلية وإلى إصرارها على مواصلة طريق التحقق الاستقرائي المباشر … إلى آخر ما رأيناه. ولكن بوبر على أية حال استنشق أجواء مشبعة بسيادة الوضعية المنطقية في فيينا، ولاحقته هذه الأجواء في إنجلترا حين هاجر إليها، ثم زفرها ثورة ضد الوضعية المنطقية. كانت أولى المهام الإجرائية التي اضطلع بها بوبر في فلسفة العلم هي وقف المد الوضعي، ثم الإطاحة بأساسها الأبعد وهو النزعة الاستقرائية، هذا وذاك رفضًا لمنطق التبرير.
الوضعيون المنطقيون هم قادة الهجوم في القرن العشرين، وبوبر هو المدافع المستخف به عن الفلسفة التقليدية الذي يصر على أن مشاكلها حقيقية. وليس هناك شيء على وجه الإطلاق — في نظر بوبر — يعز على النقد أو حتى يستغنى عنه. ولما كان بوبر يرى أن الفلسفة هي الدراسة النقدية، للخبرة الحسية وسواها، بدا بوضوح لماذا يعادي بصراحة هذا التوجه الذي يعادي وجود الفلسفة أصلًا. النقد دائمًا هو حجر الزاوية من أفكار بوبر، وهو الآن يصوبه على الوضعية المنطقية.
ليس معنى هذا أن بوبر لا يعتبر اللغة مهمة، إنها في نظره أخطر مكونات العالم الإنساني، لكن لا ينبغي أن تدور فلسفة اللغة في متاهات لفظية، بل يجب أن تعمل على شرح الوظائف الأربع الأساسية للغة، وهي: الوظيفة التعبيرية بمعنى التعبير عن النفس، والوظيفة الإشارية والوظيفة الوصفية والوظيفة الجدلية بمعنى النقاشية. ويوضح بوبر أن اللغة — أيًّا كان مستواها — لن تكون لغة إلا إذا كانت قادرة على إثارة استجابة من كائن حي آخر. لغات الحيوان أو وسائل تواصله من رقص أو تلامس أو إصدار أصوات أو غيره، قادرة على أداء الوظيفتين التعبيرية والإشارية، ثم تتميز اللغة الإنسانية فقط بقدرتها على أداء الوظيفتين العليتين الوصفية والنقاشية. اللغة الإنسانية بوظائفها الأربع — لا سيما العُليتين — هي علة خروجنا من مملكة الحيوان وعلة كوننا بشرًا، فالوعي نتيجة لها. إننا ندين بعلمنا وحضارتنا للغة، فهي التي كفلت تواصل الأجيال واستئناف المسير. هكذا يعلي بوبر من قدر اللغة، بينما يحط من قدر الفلسفات اللغوية التحليلية المتطرفة التي عرضها الفصل السابق كالتحليل العلاجي وفلسفة اللغة الجارية في أكسفورد، ومن قبل ومن بعد الوضعية المنطقية، فلسفة العلم التي اقتصرت على التحليل المنطقي اللغوي وأرادت قصر الفلسفة عليه.
هذا هو الخلاف الأساسي بين بوبر والوضعية، إصراره على أن المشاكل اللغوية لم تكن أبدًا مشكلة فلسفية، فضلًا عن أن تكون المشكلة الفلسفية الوحيدة. يؤكد بوبر أن المشكلة الفلسفية الوحيدة هي عينها المشكلة العلمية الوحيدة: المشكلة الكوزمولوجية، أي مشكلة فهم العالم بما في ذلك نحن أنفسنا كجزء من العالم. العلم والفلسفة معًا يساهمان في حل هذه المشكلة، وإنهما ليفقدان كل روعتهما وجاذبيتهما إذا ما تخليا عنها. قد يساعدنا فهم وظيفة اللغة على الحل، أما أن نحيل المشكلة بأسرها إلى متاهات لغوية فإن هذا مرفوض، ولا يمكن أبدًا إحلال دراسة اللغة وأنساقها الاصطناعية الرمزية محل دراسة الإبستمولوجيا لنمو المعرفة العلمية وتطور محتواها. لقد أخطأ الوضعيون المنطقيون حين حددوا الفلسفة بمشكلة معينة واحدة هي المشكلة اللغوية.
وأخطئوا قبلًا حين حددوا منهج الفلسفة بمنهج واحد لا سواه هو التحليل المنطقي. يرى بوبر أن التحليل إذا طُرح أصلًا لا يكون فقط للغة، بل تحليلًا لموقف المشكلة العلمية بأسره وللمناقشات الدائرة حولها، ولا يمكن تكثيف ماهية الفلسفة وتعريفها بممارسة منهج محدد، وهي المتميزة عن العلم بأنها مبحث لا تقيده حدود قاطعة. كل المناهج الفلسفية مشروعة، طالما ستفضي إلى نتائج يمكن مناقشاتها ونقدها، وليس الذي يعنينا في الفلسفة هو المنهج أو الأساليب الفنية، تحليلية كانت أم تركيبية، بل الحساسية للمشكلات واستنفاد كل الجهد من أجل حلها.
يروم بوبر التعامل الديناميكي مع النظرية العلمية، أي البحث في صيرورتها: كيفية تقدمها وعوامل هذا التقدم ودرجته، تكريسًا لمنطق التقدم. أما التحليل المنطقي فيتعامل مع النظرية بصفة استاتيكية: يحلل منطوقًا معينًّا للنظرية أو تعريف مصطلح معين أو يحلل عبارة معينة من نسق يفترض أنه محدد، كل هذا تكريس لمنطق التبرير والتسويغ؛ لذلك يناصب بوبر التحليل المنطقي العداء، إنه يحلل ما هو كائن ولا يبحث عن الجديد، ولن يجدي في نمو المعرفة العلمية، ولن يصل بنا أبدًا إلى أعتاب منطق الكشف والتقدم.
يرى بوبر أن هدف الإبستمولوجيا — سواء مثالية أو تجريبية — هو المساهمة في تقدم المعرفة. والفلسفة يحدوها دائمًا الأمل في أن تعرف أكثر عن المعرفة العلمية، حتى جاء الوضعيون المنطقيون ليفقدوها هذه النغمة الحلوة المتفائلة التي ألهمتها يومًا بالتقليد العقلاني، فهم يقصرون مهمة تقدم العلم على العلماء وحدهم، ويعرفون الفلسفة بنفس الذي سوف تصبح عليه طالما ستنحصر في تحليل معاني اللغة ودراسة أنساقها، وتصبح بحكم التعريف غير قادرة على أدنى مساهمة في معرفتنا بالعالم إنهم يجعلون الفلسفة خواءً وفراغًا؛ إذ يجردونها من مشكلاتها أو يقصمون جذور هذه المشكلات، ويحترفون ممارسة منهج مستحدث كموضة، فتغدو الفلسفة معهم تطبيقات وممارسات وليست بحثًا وطرح أفكار. والفلسفة ليست احترافًا أو تخصصًا، إنها انشغال ومعاناة.
إن بوبر يعادي التخصص الاحترافي المنغلق حتى في العلم، يقول: إن العظام من العلماء أمثال كبلر وجاليليو ونيوتن وآينشتين ونيلز بور، هم الرجال الذين يكرسون حياتهم بتواضع من أجل البحث عن الحقيقة ونمو المعرفة العلمية، وحياتهم هي أفكارهم الجريئة، يمكن أن نضم إليهم مساعديهم الأقل ألمعية، لكن لن ينضم إليهم أبدًا أولئك الذين لا يعني العلم بالنسبة لهم أكثر من احتراف ومهنة فنية.
أما إذا كان التحليل من أجل هدفه المعروف وهو تحقيق الوضوح والدقة، فإن الوضوح في حد ذاته له قيمته العقلية الكبرى، أما الدقة فليست هكذا، إنها طبعًا مرغوبة، دقة التنبؤ مثلًا لها قيمة كبرى، لكن البحث عن الدقة — كما يؤكد بوبر — يكون فقط ذا طابع برجماتي، فلا نبحث عن الدقة فقط من أجل الدقة؛ لأن هذا إهدار للوقت والجهد في مسائل جانبية. ولم يعتد الفيزيائيون الدخول في مناقشات حول معاني المصطلحات التي يستخدمونها أو تعريفاتها، مثل الطاقة أو الضوء … إنهم يعتمدون عليها وهي ليست محددة بدقة، ولم يعق هذا تقدم العلوم الطبيعية.
تردى الوضعيون في متاهات التحليل اللغوي والبحث عن الدقة بهدي رائدهم فتجنشتين الذي شبه الميتافيزيقيين بفراشة دخلت في زجاجة وأخذت تذهب هنا وهناك وتزن، وهو يزعم أن التحليل اللغوي سيوضح لهذه الفراشة طريق الخروج من الزجاجة لينتهي الزن الميتافيزيقي إلى الأبد. لكن بوبر يرى أن فتجنشتين هو الذي دخل الزجاجة وراح يزن ولم يستطع الخروج منها؛ لأنه نسي أن اللغة وسيط للتعبير، ربما هدف من تحليلاته إلى الوضوح، إلى تلميع النظارات اللغوية؛ كي يحظى برؤية واضحة للعالم، غير أنه أمضى العمر كله في هذا التلميع ولم يستفد منه، فاندفع في ممارسة التحليلات بطريقة مملة مللًا عقيمًا ولا يطاق، شأنه في هذا شأن نجار أمضى العمر كله في صقل أدواته وشحذها ببعضها البعض وفاته أن يستخدمها في صنع شيء مفيد.
إن فتجنشتين بلا ريب تطرف، لكنه قمة فلسفية على أية حال، وما ينبغي أن يتحدث بوبر عنه بهذه اللهجة. إن بوبر — بصراحة — يتجاوز حدود اللياقة حين الحديث عن فتجنشتين أو معه فهو خصمه الفلسفي اللدود، حتى إن بوبر يقسم الفلاسفة إلى فريقين متقابلين، أحدهما يأتم بفتجنشتين، والآخر يأتم بإيمانويل كانط الذي جعل العقل يفرض تصوراته على الطبيعة، الوضعيون المنطقيون في الفريق الأول، وبوبر في الفريق الثاني الكانطي. وعلى الرغم من حدة صراع بوبر مع فريق الوضعيين فإنه أحيانًا قليلة يشير إلى إيجابياتهم كاقتدائهم برسل ومنحاهم التنويري وتأكيدهم للعقلانية وحرب العقل ضد السلطة التعسفية وضد الخرافة، وأنهم بلا مراء علامة بارزة في فلسفة القرن العشرين ومنطقه على السواء. ويعترف بوبر بأن كتابي كارناب «التركيب المنطقي للعالم»، و«القابلية للاختبار والمعنى» من أهم نصوص فلسفة العلم في تلك المرحلة. أما بالنسبة للإمام فتجنشتين فلا تفاهم ولا هوادة في القتال.
والواقع أن موقف فتجنشتين وأتباعه الوضعيين من الميتافيزيقا هو الذي دفع بوبر إلى هذا العداء السافر، فهو يرى أن الميتافيزيقا ضرورية لتقدم العلم ذاته؛ لتوسيع الخيال العلمي فتلهم بفروض خصيبة. وبالنظر إلى هذه المسألة من الزاوية السيكولوجية، فإن بوبر يرى الكشف العلمي مستحيلًا بغير الإيمان بأفكار من نمط تأملي خالص، لعل النظرة العلمية الصارمة لا تبيح هذا الهامش الميتافيزيقي، لكنه الأمر الواقع.
وربما عاقت بعض الأفكار الميتافيزيقية طريق التقدم العلمي، وأبرزها فكرة أفلاطون بتحقير المادة وكل ما يتصل بالحواس كأداة للمعرفة. لكن إذا تركنا الأمثلة القليلة، وأيضًا بعضًا من الشطحات الميتافيزيقية التي يمكن أن نعدها فعلًا ثرثرة ولغوًا، وجدنا أفكارًا ميتافيزيقية جمة ساعدت على تقدم العلم، بل كانت ضرورية له، وبعضها أوحى بصورة مباشرة بنظريات علمية تطورت عن فروض ميتافيزيقية صريحة أبرزها مركزية الشمس وفرض الذرة ذاته الذي طرحه ديمقريطس في القرن الخامس ق.م وظل حتى عام ١٩٠٥م غير قابل للاختبار التجريبي، أي أقرب إلى الميتافيزيقا؛ لذلك رفضه هلهولتس وماخ ودوهيم.
وبوبر ككل إبستمولوجي جاد في القرن العشرين، شديد التقدير والإكبار والولاء لبرتراند رسل، ويرى نظريته في الأنماط المنطقية إنجازًا عظيمًا وعالجت مفارقات كانت في حاجة إلى التحليل المنطقي ليكشف عنها، لكن الخطأ جاء من فتجنشتين والوضعيين حين عمموا هذه الفكرة وعدوا جميع المشاكل الميتافيزيقية قائمة على مغالطات منطقية ونتيجة لسوء استعمال اللغة. ونلاحظ أن رسل نفسه انتقد تعميمهم لأفكاره في شكل معيار التحقق الذي وضعوه لتمييز العلم، وكانت معاييرهم لتمييز العلم جبهة ساخنة لهجوم ضارٍ ومفصل من بوبر.
يرى بوبر أن معايير الوضعية لم تهدف إلى تمييز العلم حقيقة، بل لتحقيق الغرض المسبق والمستحيل وهو استبعاد الميتافيزيقا بأسرها بوصفها لغوًا بغير معنى، ولا يمكن استبعاد كيان ثري مهيب كالميتافيزيقا بجرة قلم، ولو أرادوا استبعاد اللغو حقًّا فعليهم أن يقوموا بفحصها فحصًا نقديًّا مفصلًا، ولو فعلوا لاكتشفوا كنوز الأفكار الخصيبة التي تحويها الميتافيزيقا. وكما رأينا استبعاد الميتافيزيقا بجرة قلم ألقى بالنظريات العلمية البحتة في نفس هوة العبارات الزائفة؛ لأنها لن ترتد إلى وقائع الملاحظة ولن تقبل التحقق التجريبي أكثر مما تقبله عبارات الميتافيزيقا. وقد نفذ الوضعيون من هذا بالتفسير الأداتي كما أوضحنا.
فكان الخطأ الكبير الذي تعثرت فيه الوضعية ولا مخرج منه هو المطابقة بين العلم والمعنى واللاعلم واللامعنى، هذه المطابقة هي التي ردت سهامهم إلى نحورهم وجعلت مناقشاتهم عن المعنى بغير معنى، وبهذا المنظور يغدو كثيرًا مما قيل في العلم والرياضيات — لا سيما — في الكلاسيكيات ينبغي أن يُعد بغير معنى. يضرب بوبر مثالًا بحساب التفاضل والتكامل في عهوده الأولى حتى القرن الثامن عشر، فكان بلا شك لغوًا وتناقضات بغير معنى وفقًا لمعايير فتجنشتين وأتباعه الوضعيين، فهل كان عليهم أن يشهروا أسلحتهم في وجه رواد هذا الحساب وينجحوا في استبعاد جهودهم، بينما فشل في هذا نقادهم المعاصرون لهم كجورج باركلي الذي كانت أحاديثه في هذا الصدد ذات معنى ومطابقة تمامًا لمعايير الوضعية! إن تهمة الخلو من المعنى فضفاضة ولا يمكن وضع خط فاصل قاطع بين المعنى واللامعنى. وكما يوضح المثال إذا أمكن وضع هذا الخط تبعًا لتصور مسبق ومحدد لمفهوم المعنى، فلن يكون هذا في صالح التقدم العلمي أبدًا.
من ناحية أخرى يطابق الوضعيون بين معنى القضية وأسلوب تحققها وصدقها، لكن التحقق نهائي ما دام واقعًا، فهل يعني هذا أن الصدق نهائي وكل قضايا العلوم التجريبية يقينية؟! إنهم أول من يرفض هذا، ومع ذلك جعلوا التحقق منهجًا لتمييز الكلمات أيضًا فيما يعني تأويلًا عدديًّا لمعنى الكلمة بإحصاء الأشياء التجريبية التي تسميها الكلمة، وهذا يفضي بنا إلى لغة اسمية لا تناسب إطلاقًا الأغراض العلمية! وينتهي بوبر إلى أن معيار التحقق لن يميز العلم، بل هو مكنسة تكنس الكثير كالنظريات البحتة والقوانين العلمية العمومية، وتكنس القليل لأن قضايا العلوم الزائفة كالتنجيم والفراسة يمكن الزعم بأساليب للتحقق منها. وليس معيار القابلية للتأييد والاختبار أسعد حظًّا، بل هو أكثر غموضًا والتباسًا في موقعه من المعنى وتمييز العلم.
ويرى بوبر أن لغة العلم الموحد هي الأخرى لن تميز العلم ولن تستبعد الميتافيزيقا. الميتافيزيقيون يعلمون أن عباراتهم ليست تجريبية ولن يتخلوا عنها؛ لأنها لا تصاغ داخل لغة مناسبة للعلم التجريبي، فهناك لغات أخرى كثيرة يمكن أن تناسب الميتافيزيقا، بل وضع بوبر فرضًا ميتافيزيقيًّا موغلًا هو: توجد روح مشخصة عالمة بكل شيء وقادرة على كل شيء وحاضرة في كل مكان. وراح بوبر في تفاصيل منطقية مسهبة يوضح كيف يمكن التعبير عن هذا الفرض داخل لغة العلم الموحد! فضلًا عن أن قيام هذه اللغة على حمل البروتوكول جعلها تقيم نسق العلم على خبرات ذاتية. وجمل البروتوكول في حقيقتها مخلَّفٌ أثريٌّ وذكرى باقية من زعم النزعة الاستقرائية البائد بأن العلم يبدأ من وقائع تجريبية ثم تعميمها. وبالمثل لم يكن معيار التحقق إلا رد العبارة إلى معطياتها الاستقرائية، أما معيار القابلية للاختبار والتأييد، فلأنه حرص على الناحية الميثودولوجية، كان صريح الارتباط بالمنهج الاستقرائي مباشرة. وكما أوضح الفصل السابق، كانت فلسفة دائرة فيينا معالجة منطقية للنزعة الاستقرائية؛ ليبقى تبرير العلم على أساس ارتكازه على الوقائع التجريبية وخروجه منها.
وهنا نصل إلى حجر الزاوية ومفترق الطرق في فلسفة العلم، ولعل هجوم بوبر الضاري على الوضعية المنطقية انطلق من عزمه الأكيد على استئصال شأفة النزعة الاستقرائية من فلسفة العلم، وتلك هي معركة بوبر الكبرى حتى لو أردنا تلخيص فلسفته التجريبية في كلمة واحدة لكانت: ضد الاستقراء أو اللااستقراء، فما من محاضرة يلقيها أو مقالة يكتبها وإلا ويؤكد فيها أن الاستقراء خرافة، لا هو يصف ما يفعله العلماء في الواقع ولا ما يجب أن يفعلوه ولا حتى ما يمكن أن يفعلوه؛ لأن البدء بالملاحظة الخالصة مستحيل ولن يفضي إلى شيء. ويدخل في مناقشات تفصيلية مسهبة ليوضح أن أيًّا من نظريات العلم يستحيل أن تكون قد انتشرت نتيجة للتعميمات الاستقرائية.
يقول بوبر: إن النزاع الضاري بينه وبين الاستقرائيين يتلخص في السؤال: ما الذي يأتي أولًا الملاحظة «ﺣ» أم الفرض «ض»؟ وهذا يشبه السؤال التقليدي: ما الذي أتى أولًا الدجاجة «ﺣ» أم البيضة «ض»؟ وبوبر يجيب على كلا السؤالين ﺑ «ض»، نوع أولي بدائي من البيض، وأيضًا نوع أولي بدائي من الفروض هي التوقعات الفطرية التي يولد الذهن مزودًا بها لتمثل أولى تعاملات العقل مع العالم التجريبي. ويمتد إنكار دور الملاحظة الحسية في التوصل إلى الفرض أو القانون حتى أعمق الجذور.
في نهايات الفصل الثالث طُرحت إشكالية الفرض والملاحظة، وأوضحنا أن القرن العشرين استقر على أن الأسبقية للفرض، وكان هذا بفعل عدة عوامل أهمها تطورات البحث العلمي ذاته وجهود بوبر المستميتة في هذا الصدد.
ونحن الآن في حاجة لتحديد المعالم الأساسية لإبستمولوجيا بوبر وأركان نظرية المعرفة عنده، وهذا بعبارة أخرى هو تخطيط لاستراتيجية الحرب الضروس ضد منطق التبرير سواء في الشكل الذي صاغته النزعة الاستقرائية أو في امتداداته المتطورة مع الوضعية المنطقية.
- المعرفة بالمغزى الذاتي: وهي تتكون من اعتقادات الذات ونزوعاتها ومشاعرها وما تراه أو تقره أو تنكره، وبوبر يرى أن المعرفة بهذا المغزى من اختصاص علم النفس.
- المعرفة بالمغزى الموضوعي: وهي تتكون من كل مخزونات الكتب وأجهزة الكومبيوتر، أي كل الأفكار المطروحة سواء فلسفية أو علمية، ما دامت مصاغة لغويًّا إنها موضوع الإبستمولوجيا التي تبحث في محتواها المعرفي وعلاقاتها المنطقية وأسسها المنهجية … تفكير نيوتن في نظريته ونزوعه نحو صياغتها مثال للمعرفة الذاتية، أما اللحظة التي صاغها فيها فهي الحد الفاصل الذي نقلها من بحوث علم النفس إلى بحوث الإبستمولوجيا؛ هذا لأن الصياغة اللغوية هي التي تجعلها قابلة للنقد والنقاش والتداول بين الذوات فتصبح موضوعية.
- العالم ١: هو العالم الفيزيقي المادي.
- العالم ٢: هو العالم الذاتي، عالم الوعي والشعور والمعتقدات والإدراكات والحالات العقلية والميول السيكولوجية.
- العالم ٣: عالم المحتوى الموضوعي للفكر كالعلم والفلسفة والأعمال الأدبية والفنية والنظم السياسية والتقاليد والقيم والأعراف … محتوى هذا العالم هو محتوى الكتب والصحائف وأجهزة الكومبيوتر والمتاحف والمعارض.
والعلاقة بين العوالم الثلاثة متداخلة، لكن العالم ٢ هو الوسيط الذي يربط بين العالم ١ والعالم ٣ بفضل علاقاته بكليهما، فهو يدرك العالم ١ بالمفهوم الحرفي للإدراك، ويخلق العالم ٣ ويظل يدرسه ويضيف إليه ويحذف منه، حتى القوة التكنولوجية في العالم ٣ تمارس تأثيرها على العالم ١ بفضل العالم ٢.
يقول بوبر: إن هذه النظرية في جوهرها موقف تعددي جديد، يرفض الواحدية والثنائية، يرفض بوبر أيضًا الواحدية المحايدة مع ماخ وجيمس ورسل وتعدديتها المفرطة، ويحل مشكلة العقل والمادة عن طريق طرف ثالث يربط بينهما، ويرجع أصولها إلى سائر النظريات الميتافيزيقية التعددية كالأفلاطونية والهيجلية ومونادات ليبنتز الروحية … كلها في رأي بوبر نظريات تقول بوجود عالم غير عالمي العقل والمادة مثل العالم ٣، لكن بوبر يتلافى تطرفاتها الميتافيزيقية فلا يجعل العالم ٣ سرمديًّا مطلق الثبات كعالم المثل الأفلاطوني نتأمل فيه كما لو كان نجومًا في السماء، العالم ٣ من صنع الإنسان، ومكوناته واقعية، إنها المشاكل وحلولها، ويحوي دائمًا الخطأ بجانب الصواب، وهو دائم التقدم والتغير والنمو، وهذه المرونة تجعله ملائمًا للعلم الحديث.
على هذا يفرق بوبر في مكونات العالم ٣ بين المنتجات المقصودة التي اجتمع أشخاص معينون وبذلوا جهدًا موجهًا لخلقها مثل الأديان والمؤسسات والأعمال الفنية والعلمية والقوانين والدساتير … وبين المنتجات الجانبية الثانوية التي لم يخلقها الإنسان بقصد، بل انبثقت من تلقاء ذاتها، والغريب أنها قد تكون أكثر أهمية من المنتجات المقصودة. فأهم كيانات العالم ٣ طرًّا اللغة، وليس هناك جماعة اجتمعت لتخطيطها، بل تبدأ بنشاط أولي توجهه الحاجة، ثم يتسع ويتطور ويتحسن تدريجيًّا بغير خطة سابقة. إنها أشياء صنعها الناس بغير أن يصنعها واحد منهم، وحين تتبدى فائدتها تتطور وتتحسن، العالم ٣ هو الذي يميز الإنسان عن الحيوان. موضوع الإبستمولوجيا يقطن فيه ولا شأن لها البتة بالعالم ٢. وأهم مكونات العالم ٣ اللغة والنقد، وبفضل النقد يكون تطوره ونماؤه الدائم نحو الأفضل.
والعقلانية أساسًا هي الاتجاه التنويري الذي يثق في الإنسان وقدراته فيرفع كل وصاية من عليه ويتركه يبحث عن الحقيقة بلا سلطة تفرضها. وترتبط العقلانية في الفلسفة الغربية بالثورة على خضوع العصور الوسطى الطويل للسلطة الدينية وأرسطو، واتخذت شكلين يمثلان العقلانية الكلاسيكية هما الاتجاه التجريبي مع بيكن وأشياعه الذين يرون التجربة هي الوسيلة التي تمكنا من قراءة الحقيقة فتثق في الطبيعة وفي حواس الإنسان ليعتمد عليها في الوصول بنفسه إلى الحقيقة. والاتجاه الثاني هو الاتجاه المثالي الذي افتتحه ديكارت مؤكدًا الثقة في العقل كوسيلة امتلكها الإنسان للوصول إلى الحقيقة.
إن السؤال الذي يحدد البحوث الإبستمولوجية ليس عن المصدر، بل هو: كيف نكتشف أخطاءنا ونستبعدها لكي تنمو المعرفة وتتطور ويكون دائمًا الكشف والإضافة والتقدم؟ وقد أجاب بوبر على هذا بالنقد، واتخذ موقف العقلانية النقدية.
وعلى الرغم من هذا الخلاف الحاد في الرؤية الإبستمولوجية بينه وبين العقلانية الكلاسيكية، فإنه يشترك معها في الموقف الذي يجعلها عقلانية، أي في رفض أية سلطة معرفية على الإنسان وضرورة استقلاله بنفسه في البحث عن الحقيقة رغم أنها ليست بينة، وفي اكتشاف المعرفة رغم أنها ليست يقينية. ليس هناك سلطة معرفية، وأيضًا ليس هناك مصدر معين للحقيقة، المعرفة لا تتمتع بأية أسس غير قابلة للخطأ، لا في الحواس ولا في العقل، كل فرض وكل اقتراح وكل مصدر للمعرفة على الرحب والسعة، ما دام كل اقتراح وكل مصدر يمكن تعريضه للنقد، واكتشاف أخطائه وتصويبها، والانتقال إلى وضع أفضل في صيرورة نحو التقدم المستمر. من هنا كانت العقلانية نقدية، وكانت بدورها موقفًا فلسفيًّا شاملًا قادرًا على تأطير منطق الكشف العلمي والتقدم الدائم.
وبهذه الرؤية الإبستمولوجية المحددة والموقف الفلسفي الشامل، يمكن أن يواجه بوبر النزعة الاستقرائية ومنطقها لتبرير المعرفة العلمية الذي واصلته الوضعية المنطقية، مواجهة هي بدورها شاملة.
وفي كل هذا السياق العريض، لم يتوقف أحد لمناقشتها مناقشة نقدية حتى جاء ديفيد هيوم ليقوض أركان العلية فأثار مشكلة الاستقراء. وبوبر يتمسك بالدلالة الإخبارية للنظرية العلمية ومحتواها المعرفي ومعيار الصدق … وفي هذا لا بد له أن يواجه مشكلة الاستقراء.
لم يتوان بوبر في هذا أبدًا، بل يحلو له التأكيد على أن أهم إنجازاته في فلسفة العلم هو حل مشكلة الاستقراء. وقد عُني عناية بالغة بفحص تفصيلي مستجد لأعمال يهوم. ويرى بوبر أنه أثار بشأن الاستقراء مشكلتين وليس مشكلة واحدة كما هو شائع. فثمة المشكلة المنطقية المتعلقة بتبرير صحة الاستقراء، فهل لدينا تبرير للانتقال من الحالات التي وقعت في خبرتنا إلى تلك التي لم تقع بعد؟ وأجاب هيوم على هذا بالنفي مثيرًا مشكلة الاستقراء. ولكن ثمة أيضًا مشكلة ثانية، هي المشكلة السيكولوجية المتعلقة بأثر التكرار على حياتنا النفسية، فلماذا نتوقع جميعًا بثقة كبيرة أن الحالات التي لم تقع في خبرتنا سوف تطابق تلك التي وقعت؟ وكما رأينا، أجاب هيوم على هذا بالعادة أو الطبع، وبعد أن نسف التبرير الاستقرائي، أو طرده من الباب المنطقي، عاد ليسمح له بالدخول من الشباك السيكولوجي، فظل الاستقراء جاثمًا على الصدور.
وبطبيعة بوبر، يصب جام نقده على هيوم، فيجده قد انتهى إلى أن التكرار قد خلق فينا عادة الاعتقاد في قانون، غير أن بوبر يؤكد أن هذا خطأ والعكس تمامًا هو الصحيح، فالتكرار يحطم الوعي بالقانون ولا يخلق اعتقادًا فيه. فمثلًا في حالة عزف قطعة موسيقية صعبة على البيانو، يبدأ العازف مركزًا وعيه وشعوره، وبعد قدر كافٍ من التكرار يتم العزف بلا انتباه لقانون. وحين البدء في قيادة الدراجة نتعلم أن ندير الدفة في الاتجاه الذي نخشى السقوط فيه، وتبدأ المحاولات الأولى للركوب وأذهاننا مركزة تمامًا على هذا القانون، وبعد قدر كافٍ من التكرار ننساه تمامًا. إذن فالتكرار يحطم الوعي بالقانون ولا يخلقه كما ذهب هيوم. فنحن لا نشعر بدقات الساعة المنزلية لكن نشعر أن الساعة توقفت. ومن ناحية أخرى نجد أن السلوك — كالأكل أو النوم في ساعة معينة — لكي يكون عادة، فإنه ينشأ أولًا ثم يتكرر ثانيًا. معنى هذا أن نشأة العادة لا ترجع إلى التكرار كما ذهب هيوم.
وكان التكرار الذي عناه هيوم قائمًا على التماثل بين الوقائع أو تشابهها، وفي هذا يحرص بوبر على تبيان أن العقل البشري هو الذي يحكم على الوقائع بأنها متشابهة أو متماثلة، وبالتالي بأنها تكرارات. ليس هناك تكرارات في صلب الطبيعة، بل هناك وقائع يحكم العقل عليها بأنها متماثلة، وبالتالي متكررة، وتبعًا لمنظور معين في العقل سابق على إدراك الوقائع ذاتها. هكذا نجد بوبر يلف ويدور في نفس محور أسبقية الفرض على الملاحظة والعقل على الواقع.
وينتهي بوبر إلى أن هيوم غرق في متاهات النزعة الذاتية، وانشغل بالاعتقاد في مشابهة الماضي للمستقبل والخبرة والعادة والطبع، وكلها بحوث أليق بعلم النفس وليس بالإبستمولوجيا، أو بمصطلحات بوبر متصلة بالعالم ٢، وليس العالم ٣، ومع هذا لم تكن صائبة حتى من المنظور السيكولوجي ذاته. لكن في خضم هذه الغياهب السيكولوجية ثمة جوهرة ثمينة تظفر بها المعرفة الموضوعية، وهي ببساطة التفنيد المنطقي لأن يكون الاستقراء تبريرًا كافيًا للمعرفة العلمية، أو ما يُعرف بمشكلة الاستقراء. وهذه المشكلة التي أخرجها هيوم في مصطلحات سيكولوجية ذاتية مثل الاعتقاد والعادة والخبرة سوف يصبها بوبر في قالب المنطق الموضوعي بحيث لا تكون مشكلة الاستقراء مشكلة لمعتقداتنا وتبريرها أو مشكلة العلاقة بين الحالات الماضية التي مرت بخبرتنا والحالات المستقبلة التي لم تمر بعدُ بخبرتنا، بل هي مشكلة العلاقة المنطقية بين الوقائع التجريبية «أو العبارات الجزئية التي تصفها» وبين النظريات العمومية التفسيرية «أو العبارات الكلية».
وعلى هذا الأساس الموضوعي يطرح بوبر السؤال: هل يمكن للوقائع التجريبية أن تبرر الدعوى بصدق النظرية العمومية التفسيرية؟ وأجاب بوبر على هذا نفس إجابة هيوم، أي بالنفي مهما كان عدد الوقائع كبيرًا.
وهنا يصل إلى السؤال الثاني: هل يمكن للوقائع التجريبية أن تبرر الدعوى بأن النظرية العمومية كاذبة؟ وبوبر يرد على هذا بالإيجاب فالوقائع التجريبية لا تبرر الدعوى بصدق النظرية، لكنها تبرر الدعوى بكذبها.
القضية: كل البجع أبيض «لن يثبت صدقها ملايين البجعات البيضاء، فمن أدرانا أنه توجد بجعة ليست بيضاء، لكن لم تصادفنا ولم نرها بعدُ، أما رؤية بجعة واحدة غير بيضاء فهي كافية لإثبات كذب القضية. وعلى هذا الأساس يمكن الانتقال إلى السؤال الثالث في صياغة بوبر لمشكلة الاستقراء، وهو: هل يمكن للوقائع التجريبية أن تبرر تفضيل بعض من النظريات العمومية المتنافسة مع الأخرى؟
بوبر يرد على هذا بالإيجاب بناءً على ما سبق، فإذا توصلنا إلى إثبات كذب بعض من المفروض المتنافسة، أي تم تفنيدها، أصبح من الواضح منطقيًّا تفضيل الفروض التي لم يتم تفنيدها بعدُ. وهذه نتمسك بها مؤقتًا بوصفها حد التقدم العلمي حتى اللحظة الراهنة، ثم نستأنف الجهود العلمية التالية المسير منها بأن نحاول تفنيدها هي الأخرى، ونحاول أن تضع بدلًا منها فروضًا أكثر اقترابًا من الصدق، نأخذ أفضلها نسبيًّا ونتمسك بها مؤقتًا فقط؛ لأنها أفضل ما لدينا حتى الوقت الراهن إلى أن يتم تفنيدها هي الأخرى والوصول إلى فروض أفضل، نسلم بها بصفة مؤقتة … وهلم جرًّا.
هكذا لا يتوقف العلم أبدًا، بل يسير سيرًا متصلًا في إطار منطق للتقدم المستمر. ولا توجد فجوة أو قفزة لا عقلانية كتلك التي تمثلت في التعميم الاستقرائي، فأين اللاعقلانية في معرفة تسير بمنهج نقدي، يبحث عن الخطأ في النظريات المتنافسة؟! إنه منهج التفضيل العقلاني تمامًا، الذي يتحول إلى لا عقلاني فقط حين نبحث عن التبرير، عن اليقين والنظرية الصادقة أبدًا. وكما أوضح مفهوم الصدق والتناظر، التخلي عن مطلب اليقين لا يعني أبدًا التخلي عن الصدق. والبحث العلمي محكوم دائمًا بفكرة الكشف عن نظرية أكثر اقترابًا من الصدق، أكثر تقدمًا. وعلى هذا النحو تتسق تمامًا الأسس المنطقية للعلم التجريبي، بلا مشاكل استقرائية، ما دامت منطقًا للكشف والتقدم وليس للتبرير.
إن الحياة العملية لا بد أن تسير، وهي لن تسير إلا إذا اخترنا من بين البدائل أو الاحتمالات المطروحة بديلًا نتصرف على أساسه، ومن هذه الزاوية العملية البرجماتية نهمل البدائل الضعيفة — كاحتمال عدم شروق الشمس غدًا — ونتصرف على أساس اعتقاداتنا القوية الناجمة عن البدائل المختبرة جيدًا، والتي صمدت أمام النقد ومحاولات التفنيد، أي نتصرف — مثلًا — على أساس شروق الشمس غدًا، بغير أن يعني هذا يقينًا مبررًا.
هكذا لم يعد أمامنا استقراء من أي نوع كان، لا في أية مرحلة من مراحل المعرفة ولا في أي مجال من مجالات العلاقة بين العقل والواقع التجريبي. وبهذا يرى بوبر أنه حل مشكلة الاستقراء وتخلص نهائيًّا من المعضلة التي أعيت العقول منذ هيوم وحتى برتراند رسل.
والسؤال الآن: هل حل بوبر مشكلة الاستقراء فعلًا؟ لا شك أنه أخرج منطقًا للمعرفة التجريبية بلا مشاكل أو قفزات تعميمية، لكنه لم يحل مشكلة الاستقراء ليصل إلى هذا، بل فقط اجتث جذوره تمامًا، زعم أنه سيعيد صياغة مشكلة هيوم كي تصبح مشكلة موضوعية، لكنه في واقع الأمر استغل براعته المنطقية لكي يصيغ المشكلة في صورة تساؤلات حول ما إذا كان هناك استقراء أم لا؛ وذلك لكي يجيب بلا فيتخلص من الاستقراء ومن مشكلته معًا. إنه حل ينطبق عليه المثل الدارج «حل العقد بالمنشار»، بمعنى حل المشكلة بأسلوب لا يسمح لها بأن تقوم، ولا يسمح أيضًا للنزعة الاستقرائية بأن تقوم لها قائمة بعد الآن.
لقد اجتث بوبر جذور الاستقراء تمامًا، ليس فقط كتبرير وتمييز للمعرفة العلمية، بل أيضًا كمنهج، كمجرد آلية منهجية يمكن أن تتمثل في اكتساب أي شكل من أشكال المعرفة التجريبية. باختصار لا يوجد شيء اسمه المنهج الاستقرائي، أي لا يوجد منهج يبدأ بالملاحظة التجريبية، أو بتعبير بوبر الأثير: الاستقراء خرافة.
وإذا قبلنا هذا، لا بد أن يجيب بوبر على السؤال: ما هو منهج العلم إذًا؟
ثالثًا: منهج العلم … الإبستمولوجيا التطورية
بوبر لا يعتبر نظرية دارون نظرية علمية متكاملة ذات مضمون معرفي ومحتوى إخباري متكامل كنظرية نيوتن مثلًا، بل هي أساسًا برنامج بحث ممتاز، ومع هذا اشتهر بوبر دائمًا بأن فلسفته داروينية تطورية، وهذا هو ضلعها الأساسي المأخوذ من توجهات بيولوجية والذي استقطبه كثيرًا في أيامه الأخيرة.
ولأن بوبر أولًا وقبل كل شيء فيلسوف المنهج العلمي، فلا بد وأن تتمثل هذه الداروينية التطورية في نظريته في المنهج العلمي، التي تتلخص في كلمة واحدة هي آلية المحاولة والخطأ كما تتمثل في صياغته الشهيرة «م١ – ح ح – أ أ – م٢» فترسم قصة العلم وقصة الحضارة، وقصة الحياة بأسرها على سطح الأرض كما تصور الداروينية نشوءها وارتقاءها أو تطورها.
ينظر بوبر إلى العلم والمعرفة نظرة واحدة، فليس العلم إلا مرحلة متقدمة من المعرفة، بل من علاقة الكائن الحي بالبيئة، حتى إننا لو كشفنا القصة كلها مرة واحدة، منذ الأميبا حتى آينشتين لوجدناها تعرض النمط نفسه.
فأنماط السلوك أيًّا كانت، سلوك العالم في معمله، أو سلوك الكائن الحي في صراعه مع البيئة من أجل البقاء، أو ما بين هذا وذاك، أي سلوك ليس إلا محاولة لحل مشكلة معينة، والمعرفة بدورها ليست إلا نشاطًا لحل مشاكل معرفية.
لذلك يبدأ أي موقف بمشكلة محددة لتكن «م١»؛ لتأتي محاولة حلها «ح ح»، لكن لا بد من مناقشة أو اختبار الحل و«استبعاد الخطأ» «أ أ»، وإلا لن تستمر الحياة، بعد حذف الخطأ يبرز موقف جديد، وأي موقف يحتوي على مشاكل؛ لينتهي إلى مشكلة جديدة «م٢» هكذا نجد الصورة المنهجية لأية محاولة: «م١ – ح ح – أ أ – م٢».
وقد تُقترح كثرة من الحلول تُختبر جميعها من أجل الوصول إلى أفضل «م٢» بالصورة:
أما حين يصعب حسم القول في أفضل الحلول المتنافسة، فإن الصياغة تتخذ الشكل:
إنها صورة تعدد الاتجاهات السياسية والمذاهب الفلسفية مثلًا، وهي أيضًا صورة تطور الحياة على وجه الأرض في أنواع بيولوجية عديدة.
هذه الصياغة من أخصب أفكار بوبر، وضع عليها سرجًا جيدًا، وامتطى صهوتها خلال الكثير المتباين من حقول التساؤل الإنساني، وحتى المجالات التي لم يطرقها هو طرقها أحد أتباعه، طبقها مؤرخ الفن إرنست جومبريش في تفسير تطور الفنون، كما دعا إمرى لاكاتوش إلى تطبيقها في مجال تفسير بناء الاستدلال الرياضي. أما النتائج الخصبة التي تنتج عنها فتفوق الحصر. لعل أهمها أن المعرفة تسير في حلقات متتالية، لكنها ليست دائرية، فهي لا تنتهي من حيث بدأت، بل تنتهي بموقف جديد ومشاكل جديدة، هذه الجدة هي التي تكفل التقدم المستمر. الخطأ داخل في صميم كل محاولة ويستحيل تجنبه، وهو ذاته طريق التقدم المستمر عن طريق استبعاده. معنى هذا أن الصياغة قادرة على تجسيد منطق التقدم، ومنطق الكشف العلمي.
- م١: يبدأ العالم بحوثه من مشكلة، إما مشكلة عملية تجريبية، وإما مشكلة نظرية أي فرض وقع في صعوبات، العالم يجد في العلم دائمًا مواقف معينة لمشاكل، فيختار منها المشكلة التي يأمل في استطاعته حلها. البدء إذًا ليس بالملاحظة، بل بالمشكلة. وهذه المشكلة بدورها ليست نتيجة للملاحظة أو حتى للتجريب، بل هي مأخوذة من البناء المعرفي السابق.
- ح ح: الفكرة عن المشكلة تكون غامضة، التعرف الكامل عليها لن يكون إلا بطرح حل ونقده فهم المشكلة يكون بفهم صعوباتها، بأن يعرف العالم لماذا لا يسهل حلها، لماذا لا تصلح الحلول الواضحة، بهذا يفهم المشكلة جيدًا، يعرف تفرعاتها ومشاكلها الجانبية وعلاقاتها بالمشاكل الأخرى. إنه يحيط بموقف المشكلة فيتمكن من طرح الحل الملائم، الحل دائمًا اختباري، وهو فرضي، محاولة الحل قد تفضي إلى طرح عدة حلول، عدة نظريات تتنافس لحل نفس المشكلة، أو تتنافس بأن تمنح حلولًا لبعض المشاكل المشتركة، على الرغم من أن كلًّا منها قد تمنح — بالإضافة إلى هذا — حلولًا لمشاكل لا تشترك فيها مع النظريات الأخريات. كيف يمكن الاختيار بين مجموعة النظريات المتنافسات والاستقرار في هذه الخطوة على «ح ح» محددة؟ أولًا على الباحث استبعاد ما يمكن تفنيده، أي اكتشاف الاختبار الفاصل، التجارب الحاسمة التي تستطيع تفنيد واستبعاد بعض منها، ثم يختار الباحث النظرية الأفضل من بين المجموعة المتبقية، والنظرية الأفضل هي الأكثر قابلية للتكذيب؛ لينتهي بتعيين «ح ح» أي محاولة حل.
- أ أ: ثم يحاول العالم نقد «ح ح»، أي فرضه الجديد. لا بد من إيجاد الخطأ في
الحل المقترح، بل ومحاولة تفنيده. قد يصمد الفرض أمام اختبارات النقد،
وقد ينهار سريعًا، إذا كان ضعيفًا. لكن القاعدة أن العالم سيجد افتراضه
الحدسي قابلًا للاختبار التجريبي، وإلا لما كان علميًّا، وقد يجد أنه
لا يحل المشكلة، بل يحل جزءًا منها فقط، وسيجد حتى أفضل الحلول، أي
الذي يقاوم أعنف نقد لألمع العقول، من شأنه أن يثير صعوبات جديدة، فهو
نظرية لم تفند حتى الآن. ولما كانت لا بد أن تفند يومًا ما، فعلى
الباحث محاولة هذا دائمًا، فيحاول إقامة مواقف اختبارية قاسية. لذلك
فإن هذه الخطوة «أ أ» قد تفضي إلى بناء قانون مفند، قانون قد تكون درجة
عموميته منخفضة، فقد لا يستطيع شرح مواطن نجاح النظرية، لكن يستطيع
الأهم: اقتراح اختبار حاسم وتجربة تفند النظرية، وتبعًا لنتيجتها إما
يأخذ العالم بهذا القانون المفند، وإما بالنظرية موضع الاختبار.١٥ ولإحكام منهجية هذه الخطوة، يمكن حصر أساليب إجرائها، أي
أساليب اختبار النظرية واستبعاد الخطأ، في أربع طرق:
- (أ) مقارنة النتائج الاستنباطية بعضها ببعض، والتثبت من اتساقها معًا وخلوها من التناقض، أي اتساق النظرية مع نفسها.
- (ب) فحص النظرية نفسها فحصًا منطقيًّا، لنرى هل هي من نطاق العلم التجريبي، وهل هي إخبارية؛ فقد تكون تحصيل حاصل.
- (جـ) مقارنة النظرية بالنظريات الأخرى في البناء المعرفي لنرى هل تتسق معها، وهل تمثل تقدمًا علميًّا عليها.
- (د) اختبار النظرية تجريبيًّا، أي عن طريق التطبيقات التجريبية للنتائج المستنبطة منها.١٦
بالنظر إلى هذه الأساليب، نجد المنهج المتبع أساسًا هو الاختبارات الاستنباطية، وليس البتة أدلة استقرائية، رغم أن الأهمية القصوى للملاحظة والتجريب تبرز في هذه الخطوة؛ فهي التي تفصل القول أولًا وأخيرًا في قبول أو رفض النظرية المتسقة منطقيًّا. إن اتفقت الملاحظات مع النتائج المستنبطة من النظرية، سلمنا بها مؤقتًا، إن تناقضت استبعدناها، ولا أثر إطلاقًا للاستقراء، فليس هناك أي انتقال من الوقائع إلى النظريات، ما لم يكن انتقالًا تكذيبيًّا. حقًّا إن الاستدلال هنا من أدلة تجريبية، ولكنه استدلال استنباطي صرف.
وكلما كانت النتائج المستنبطة أبعد، كلما كانت أهم، ليس هناك عالم يبلغ من السذاجة حدًّا بحيث يضع نظرية يمكن اكتشاف الخطأ فيها هي ذاتها، في صميم منطوقها، أو في نتائجها القريبة، وكلما كانت النتائج المستنبطة أبعد، كلما كانت أهم، ليس هناك عالم يبلغ من السذاجة حدًّا بحيث يضع نظرية يمكن اكتشاف الخطأ فيها هي ذاتها، في صميم منطوقها، أو في نتائجها القريبة.
ومهما كانت نتيجة الاختبار، فلا بد وأن العالم قد تعلم منها شيئًا، فإذا فشل الاختبار، واجتازته المحاولة، فقد عرف الباحث الكثير، عرف أن حله هو الأكثر ملاءمة، وهو أفضل ما لدينا حتى الآن، وأنه هو الذي ينبغي الأخذ به. أما إذا نجح النقد وفند النظرية، فقد عرف الباحث الكثير أيضًا، عرف لماذا أخطأ، فَيَلُم بالمشكلة أكثر، وربما فشلت النظرية في حل المشكلة المطروحة للبحث، ولكنها قد تنجح في حل مشكلة بديلة، وقد تعطي شحنة تقدمية أكثر مما لو كانت المشكلة الأصلية قد حُلت، وحتى وإن لم تُحل، لا المشكلة الأصلية، ولا أية مشكلة بديلة، فإن العالم يجب أن يهتم أيضًا بالتكذيب في حد ذاته؛ لأن اكتشاف كذب نظرية يعني اكتشاف صدق نقيضها، وإن كان نفي النظرية التفسيرية ليس بدوره نظرية تفسيرية.
- م٢: وعلى أية حال، لا بد وأن ينتهي العالم إلى موقف جديد، يحمل بين طياته مشاكل
جديدة ليأخذ العالم منها م٢ … يبدأ بها الحلقة الجديدة.
بالطبع ليس من اليسير إدخال فكرة المحاولة والخطأ البسيطة في ذات الهوية مع المنهج التجريبي المعقد، إنما هي الأصل والإطار العام الذي تفرعت شتى التعقيدات داخل خطواته، إن منهج المحاولة والخطأ، أي «م١ – ح ح – أ أ – م٢» هو أسلوب التعلم، أسلوب تعرف الكائن الحي على بيئته، وقد تطور قليلًا قليلًا حتى بدأ في اتخاذ سمة المنهج العلمي التجريبي الحديث، الذي هو على وجه الدقة: منهج الحدوس الافتراضية الجريئة «المحاولة» والاختبارات العملية الحاذقة البارعة لتكذيبها وتصويب الخطأ فيها.
خلاصة المنهج هي أن يتعلم الباحث أن يفهم المشكلة فيحاول حلها، ويفشل في هذا الحل فيردفه بحل آخر أقوى يفشل فيه هو الآخر، العالم يسير من حلول سيئة إلى حلول أفضل، عارفًا في كل حال أن لديه القدرة على طرح تخمينات جديدة، فطريق التقدم العلمي الوحيد هو طريق الكشف، هو طريق طرح فروض أفضل.
وبطبيعة الحال تحدد هذه النظرية المنهجية منطق العلم وطبيعته، من حيث إنه دائمًا غير يقيني، مؤقت نسلم به الآن لأنه الأفضل، وفي وقت لاحق لا بد من التوصل إلى ما هو أفضل، فالمسألة نسبية وهي متغيرة من حيث هي دائمة التطور والتقدم.
إن الصياغة «م١ – ح ح – أ أ – م٢» تجعل نمو المعرفة العلمية يسير من المشاكل القديمة إلى المشاكل الجديدة، بواسطة الافتراضات الحدسية وتكذيباتها، بواسطة التعديلات والتكييفات المستمرة للموقف الراهن، والحلول المطروحة لمشاكله، مما يجعل تطور العلم زجزاجيًّا متعرجًا وليس خطًّا مستقيمًا، إنه منهج التصحيح الذاتي، أي الذي يجعل العلم يصحح نفسه بنفسه تصحيحًا مستمرًّا استمرارية البحث العلمي، طالما أن النظريات كلها مجرد حدوس افتراضية، تتفاوت في درجة اقترابها من الصدق، وأن العالم حتى لو توصل جدلًا إلى نظرية صادقة، فلا هذا المنهج — ولا أي منهج آخر — يتمكن من تبرير صدق النظرية العلمية، وكيف نبحث عن تبرير الصدق ونحن عالمون أن النظرية قد تجتاز كافة اختبارات النقد والتكذيب، فقط لأن العلم لم يتوصل بعدُ إلى الاختبار الحاسم لها، أي القانون المفند، والباحث لا يفضل النظرية فقط لأنها الأقرب إلى الصدق، ولكن أيضًا لأنها محتملة الكذب، إنها موضوع شيق لاختبارات أكثر، أي محاولات تكذيب، وتكذيب أي نظرية علمية يشكل مشكلة لكل نظرية جديدة؛ إذ إن عليها أن تنجح فيما نجحت فيه سابقتها، وفيما فشلت فيه أيضًا، فهذا المنهج يعني الترابط المتسلسل بين النظريات، بحيث تكون كل نظرية أقرب إلى الصدق من سابقتها.
- (١)
المشكلة «وهي عادة تفنيد لنظرية موجودة».
- (٢)
الحل المقترح «أي نظرية جديدة».
- (٣)
استنباط القضايا القابلة للاختبار من النظرية الجديدة.
- (٤)
الاختبار، أي محاولة التفنيد بواسطة الملاحظة والتجريب، من ضمن وسائط أخرى.
- (٥)
الأخذ بأفضل الحلول، أي النظرية الأفضل من بين مجموعة النظريات المقترحة المتنافسة.
والعالم حينما يدرس موقف مشكلة، فهو بهذا يحاول مواصلة مسار طويل يستند على كل حصيلة البشر، البدء من الصفر استحالة، وإن أمكن فإن حياة العالم لن تسفر عن تقدم أكثر مما أحرزه آدم، أو بعبارة علمية: أكثر مما أحرزه إنسان نياندرتال. وهذه واقعة يرفض كثيرون من ذوي المنعطفات الجذرية والمستقلة في حياتهم أن يقبلوها. في العلم يجب أن نحرز تقدمًا وهذا يعني أننا نقف على أكتاف الأجيال السابقة. العالم معقد لدرجة كبيرة، ونحن لا نعرف من أين ولا كيف نبدأ تحليله، إننا نعرف فقط من أين وكيف بدأت المحاولات السابقة، وأنها محاولات إقامة بناء العالم خلال إطار معين، وهي أطر لم تكن محكمة كثيرًا. نحن نحاول أن نجعلها أكثر إحكامًا بأن نطورها، فنستبدل بها محاولات أقرب إلى الصدق، والمحاولات مستمرة على صورة تلك الصياغة في طريق التقدم المستمر.
المعرفة، في هذا المسار الطويل والبادئ منذ إنسان نياندرتال حتى اليوم، تمر بمرحلتين، هما مرحلة التفكير الدوجماطيقي القبل علمي ومرحلة التفكير النقدي «العلمي».
مرحلة التفكير الدوجماطيقي أي القطعي الجامد الجازم تتمثل في الحضارات البدائية «السابقة على حضارة الإغريق» بتعبير بوبر! فهو يجهل تمامًا الميراث المشرقي العظيم وكل ما هو خارج حدوده الغربية التي صنعت العلم الحديث! على العموم الحضارات مهما كانت بدائية لها موقف معرفي يتمثل في تفسير العالم بواسطة الأساطير والخرافات، والتمسك بها يكون قطعيًّا صارمًّا حيث يُعتبر الشك أو النقد جريمة، بعبارة أخرى لا تُمارس الخطوة «أ أ» لا تستبعد الخطأ، وبالتالي لا تخرج بجديد «م٢»، وطالما أنه لا تغيير للاعتقاد الخاطئ، فإن المخطئ يهلك بهلاك عقيدته الخاطئة، فكان التقدم — كما يقول بوبر — مأساويًّا وخطيرًا إن أمكن أصلًا. وهنا نتوقف هنيهة لنقول: لو كان بوبر قد اطلع مثلًا على شكوك قدماء المصريين في الآلهة ونقدهم للديانات والأفكار المطروحة وعلى تقدمهم العلمي لما قال هذا، ولما جرؤ على ضم هذه الحضارات إلى المرحلة البدائية، ولما واصل طريقه ليعتبر الإغريق هم الذين بدءوا مرحلة التفكير العلمي النقدي، والنقد ذاته من اكتشاف المدرسة الآيونية، أول مدرسة فلسفية إغريقية حيث ينقد أنكسمندر أستاذه طاليس ويطرح فرضًا أفضل.
المهم أن التفكير العلمي هو ذاته التفكير النقدي، ربما يصنع العلم أساطير، لكن الأساطير تظل ثابتة على حالها دائمًا بسبب التفكير الدوجماطيقي، أما الاتجاه النقدي للعلم فيغير الأساطير في اتجاه التقدم والاقتراب الأكثر من الصدق؛ لأن النقد يحذف الخطأ ويقلل دومًا نطاقه، وكما يقول بوبر: ليس التعاقب بين المرحلتين زمانيًّا أو حادًّا قاطعًا، فكل إنسان — حتى العالم نفسه — يعيش في إسار توقعاته وجهازه المعرفي بقدر من الدوجماطيقية ولا يخرج منها إلا حينما يحاول النقد واستبعاد الخطأ، كما أن العلاقة بين المرحلتين تبادلية، فإذا كانت المرحلة النقدية ضرورية للمرحلة الدوجماطيقية كي تقيها شر هلاك محتوم، فإن المرحلة النقدية أيضًا في حاجة إلى قدر من الدوجماطيقية حتى في البحث العلمي ذاته. فالعالم — أثناء اختبار نظريته — لا بد أن يستمسك بها استمساكًا دوجماطيقيًّا إلى حد ما، فلا يتخلى عنها بسهولة، كما أن الدفاع عنها في مواجهة النقد من شأنه أن يطورها ويحسنها في معركتها من أجل البقاء.
ولعلنا لاحظنا أن منهج تطور العلم ذاته يماثل إلى حد كبير ما أسماه دارون بالانتخاب الطبيعي، إنه الانتخاب الطبيعي بين الفروض. العلم يتكون دائمًا من تلك الفروض التي أوضحت ملاءمتها في حل المشاكل وصمودها أمام النقد، إنها الفروض التي ناضلت للبقاء حتى الوقت الراهن، كما أنها استبعدت تلك الفروض الأضعف منها، أو التي حاول واضعوها أن يعدلوها ويكيفوها، فلم يكن تكييفًا مطابقًا للمطلوب، وحكمت عليها الفروض الأقوى بالفناء، وبوبر في هذا تطوري داروني وليس لاماركيًّا.
وبوبر يفسر التقدم العلمي بكلمة واحدة هي النقد؛ لأن النقد يبرز ثورية التقدم العلمي، الكشف الجديد تكذيب للفرض المطروح، إنه يحطم ويبدل مجسدًا الإيجابية الداروينية، ويلح بوبر على قسوة النقد للفروض والنظريات العلمية، على وعورة محاولات الاختبار التجريبي والتكذيب؛ لأنها تماثل وعورة الظروف البيئية التي تؤدي بالكائن الحي إلى مزيد من التكيف والتحدي، من التطور والارتقاء، أما الاستقرائية فهي اللاماركية، تفسر التقدم العلمي بتراكم النظريات والمعلومات، تراكم تأثيرات البيئة، كمخزن بضائع أو مكتبة نامية باستمرار.
هكذا كان بوبر داروينيًّا في تفسيره لتطور النظريات العلمية ومنطق تقدمها، وهو أيضًا داروني في تفسيره لموقف العالم وطرحه لفروضه، بينما الاستقرائيون لاماركيون في هذا وذاك، إنهم يجعلون دور العالم سلبيًّا يتلقى وقائع التجريب التي تمليها الطبيعة، فيعممها في فرض علمي. أما بوبر فيجعل للعالم دورًا إيجابيًّا في طرح الفرض وخلق قصة العلم، كما جعل دارون للكائن الحي دورًا إيجابيًّا في خلق قصة الحياة وتطوراتها. إننا لا نعرف — كما يؤكد بوبر — من خلال معطيات البيئة، بل من خلال تحديها ومحاولة فرض تصوراتنا عليها، وكما قُدر للداروينية الانتصار وانزوت نظرية لامارك في تاريخ العلم، قُدر للبوبرية الانتصار، وفي نهايات القرن العشرين أصبحت النزعة الاستقرائية مرحلة منتهية من مراحل تطور فلسفة العلم، ولم يعد لها نصير.
لكن كان الاستقراء ذا خطوات تبدأ بالملاحظة وتنتهي إلى الفرض العلمي، بينما لم يفضِ بنا منهج بوبر إلى طريق محدد للكشف العلمي، إلى ذات اللحظة التي تخلق فيها النظرية خلقًا. أجل الخطوة «أ أ» تعني طرح فرض جديد، لكنها لم توضح كيف ولا من أين نأتي به.
لقد اتضح الآن كيف أطاح بوبر بمنطق التبرير وأحل محله منطق التقدم، وفي هذا ليس المنهج العلمي طريقًا للكشف، بل هو منطق للعلم، ولا يرسم طريق الوصول إلى النظرية — كما حاول الاستقراء أن يفعل — بل يرسم أسلوب التعامل مع الفرض وكيفية اختباره والتحكم في نتائج الاختبار. نظرية المنهج تبدأ من الفرض، أما ما قبله وأفضى إليه فليس من اختصاص الإبستمولوجيا والميثودولوجيا، بل من اختصاص علم النفس التجريبي الذي يدرس ظاهرة الإبداع.
وأخيرًا … سبق أن انتهى الفصل الثالث بإيضاح عام لمعالم التقدم الذي أحرزته فلسفة العلم ذاتها في القرن العشرين، حين استوعبت آفاق ثورة الفيزياء الكبرى وانتقلت نظريتها المنهجية من البدء بالملاحظة إلى البدء بالفرض، أي حين انتقلت إلى المنهج الفرضي الاستنباطي وتجاوزت الاستقرائية بكل قصوراتها التي فرضتها ظروف حضارية وحدود معرفية سابقة. والآن نرجو أن تكون معالم هذا التقدم المنهجي قد استُبينت أكثر، واستُبين أيضًا الدور الكبير الذي قام به كارل بوبر في هذا الانتقال، الذي كان بمثابة انتقال من منطق التبرير إلى منطق التقدم.
رابعًا: معيار القابلية للتكذيب
كان الاستقراء منهجيًّا لتبرير وأيضًا تمييز المعرفة العلمية، وتم تجاوز النزعة الاستقرائية. حاول الوضعيون المنطقيون تداركها بمعاييرهم لتمييز العلم التي يصعب قبولها بسبب تطرفهم الحاد. وبوبر نفسه في طليعة الرافضين لمعيار التحقق، وأيضًا لغة العلم. وإذا سلمنا بأن النظريات العلمية ليس مجرد أداة، بل ذات دلالة إخبارية، فلا بد وأن نسأل بوبر ما هو معيار العلم الذي يضمن أن العبارة علمية، أي ذات محتوى معرفي ومضمون إخباري عن العالم التجريبي، فيميز العلم عن سواه من ضروب الأنشطة العقلية، خصوصًا وأن المنهج — منهج المحاولة والخطأ — في جوهره ليس تقنية خاصة بذوي الاحتراف، بل هو صورة متبلورة متطورة للشكل النمطي للتعامل الإيجابي الفعال مع العالم الواقعي، ولا يميز العلم.
يمعن بوبر في الانفلاق عن الاستقرائية والوضعية، ولا يريد معياره تطويرًا أو تعديلًا أو حتى بديلًا لتلك المعايير، ويصر على منطلق منفصل ومستقل تمامًا عن ذلك المسار التبريري، فيقول إن أجواء فيينا في صدر شبابه هي التي جعلت مشكلة التمييز تلح على عقله، فقد كان جو يسيطر عليه سقوط الإمبراطورية النمساوية، وامتلأ بأفكار وشعارات ثورية ونظريات جديدة ثار حولها الكثير من الجدل والصخب. وبينما لم تكن المنزلة العلمية للنظرية النسبية قد ثبتت بعدُ، كان الإعجاب شائعًا بعلمية النظرية الماركسية، وأيضًا التحليل النفسي لفرويد وعلم النفس الفردي لآدلر وهما نمساويان، بدت هذه النظريات وكأنها قادرة على تفسير كل شيء يحدث في مجالاتها ولا بد أن تجد حالات ووقائع تؤكدها في كل مكان، وامتلأت الدنيا بإثباتات لها حتى بدا أن المنكرين قوم لا يُريدون أن يروا صدقها الجلي، إما لأنه ضد مصالحهم الطبقية أو بسبب عُقد مكبوتة لديهم. وفي ذلك الوقت — خريف ١٩١٩م — كان بوبر ضمن طلبة يدرسون نتائج بعثة إدنجتون التي رأيناها امتحانًا عسيرًا للنظرية النسبية وقامت بتصوير النجوم إبان كسوف الشمس، وتوقع الجميع نتائج مخالفة للنظرية النسبية التي كان من الممكن أن تبدو غير متوافقة مع نتائج معينة محتملة للملاحظة، أي إنها كانت قابلة للتكذيب، لكن النظرية النسبية اجتازت هذا الاختبار العسير، وثبتت منزلتها العلمية، واجتازت اختبارات تجريبية متوالية.
غير أن ثمة نوعًا آخر من الجرأة لا يتعمق، بل هو متعلق بالمظاهر البادية: إنه جرأة التنبؤ، جرأة المواجهة المسبقة المسئولة مع الواقع. هذا النوع من الجرأة هو الأهم وهو ما يميز الفرض العلمي بالذات. الفرض الميتافيزيقي يمكنه أن يحقق الجرأة بالمعنى الأول، يمكنه أن يحدس الحقيقة الكامنة التي لا تبدو للعيان، لكن لا يمكنه أن يحقق الجرأة بالمعنى الثاني. لا يمكن للفرض الميتافيزيقي الخروج بمشتقات أو التنبؤ بوقائع تجريبية تحدث أمامنا في العالم التجريبي وقابلة للملاحظة. إنه لو فعل هذا لتعرض لمخاطرة كبيرة، مخاطرة الاختبار والتفنيد، مخاطرة التصادم مع الخبرة. إنها مخاطرة لا يقوى عليها إلا العلم. لذلك نكتشف كل يوم أخطاء بعض من نظرياته، فنتركها ونصل إلى الأفضل.
والقابلية للاختبار قد ترتبط بالقابلية للتحقق، ولكن الخاصة المنطقية المميزة للعبارة العلمية هي إمكانية التكذيب، أي التفنيد والنفي، وليس مجرد التحقق، مثلًا العبارة «السماء ستمطر غدًا» عبارة علمية؛ لأنها قابلة للاختبار التجريبي بمجيء الغد، وقد تمطر السماء، أي قد نتحقق منها، ولكن ليس هذا هو المناط في علميتها، بل المناط في إمكانية ألا تمطر السماء غدًا، إمكانية تكذيبها. وبالبحث عن التكذيب وليس التحقق يمكن استبعاد عبارات مثل «غدًا قد تمطر السماء أو لا تمطر»، وهي واجبة الاستبعاد؛ لأنها لا تعطينا محتوًى إخباريًّا، فهي تحصيل حاصل، وحينما يأتي الغد فأيًّا كانت الخبرة الحسية، فسوف نتحقق منها، ولكن تكذيبها مستحيل، فنستطيع الحكم بأنها لا علمية. هكذا يمكِّننا معيار القابلية للتكذيب من استبعاد تحصيلات الحاصل المتنكرة في هيئة إخبارية، وهي واضحة متجلية في الفروض الميتافيزيقية الموغلة في غياهب العقل الخالص، وأيضًا في الفكر الثيولوجي «الإلهيات»، وهما نمطان من التفكير غير قابلين للتكذيب، لا أصلًا ولا فروعًا، ولا مطلوب منهما هذا، فهما ليسا علمًا تجريبيًّا.
- التكذيب: نحكم به على النظرية إذا لم تكن نتيجة الاختبار في صالحها، أي إذا تناقضت النتائج المستنبطة منها مع الوقائع التجريبية؛ لأن تكذيب النتائج تكذيب للنظرية ذاتها، فتُستبعد من نسق العلم، رغم أنها علمية، لكننا وضعنا الإصبع على مواطن خطأ أو كذب، فيمكن تلافيه فيما سيحل محلها، فيكون أكثر اقترابًا من الصدق، وأغزر في المحتوى المعرفي وفي القوة التفسيرية … لذلك فكل تكذيب ظفر علمي جديد، وليس خسارة كما قد يبدو للنظرة العابرة.
- التعزيز: إذا تجاوزت النظرية الاختبار، والتعزيز هو جواز مرور الفرض إلى النسق العلمي، المرور من اختبارات منهج العلم القاسية، وكلما كانت الاختبارات أقسى كلما حازت النظرية التي تجتازها على درجة تعزيز أعلى، وكانت أعظم — أي أغزر في المحتوى المعرفي، وأجرأ في القوة التفسيرية … لذلك يؤكد بوبر دائمًا على قسوة الاختبارات، حتى لا تستطيع النظرية أن تعزز وتعبر إلى نسق العلم بسهولة. إن التعزيز هو النتيجة الإيجابية لكل ممارسة منهجية ناجحة، فالنجاح يعني التوصل إلى فرض جديد يحل المشكلة بكفاءة أعلى من سابقه.
أما العبارات الوجودية غير المحددة مثل «هناك س في مكان ما من زمان ما» فهي تبعًا لمعيار القابلية للتكذيب ليست علمًا؛ ذلك لأنها لا يمكن أن تخبر بشيء ما، ما لم ننسب إليها الشروط التي تحددها — أي التي تجعلها وجودية محددة. وهذه العبارات تمثل عمود التكذيب الفقري ودماءه، وهي التي خولت له إمكانياته في منطق العلم التجريبي.
-
فئة كل العبارات الأساسية التي لا تتسق النظرية معها، أي التي تستبعدها وتمنعها، فإن حدثت أصبحت النظرية كاذبة، وهذه هي فئة المكذبات المحتملة Potential Falsifiers للنظرية.
-
فئة كل العبارات الأساسية التي تتسق النظريات معها ولا تناقضها، وهي العبارات التي تسمح بها النظرية.
الخطورة والتعويل في السمة العلمية على الفئة الأولى، بحيث ننتهي إلى الآتي: «تكون النظرية قابلة للتكذيب إذا كانت فئة مكذباتها المحتملة ليست فارغة»، هكذا تتم عملية الكشف عن القابلية للتكذيب — أي التحقق من السمة العلمية — وعملية التكذيب — أي إمكانية مواجهة — ومواجهة القضايا بالواقع التجريبي بناءً على العبارات الأساسية.
ولكن هل مجرد استنباط عبارات مفردة من النظرية بمساعدة عبارات مفردة أخرى، هي عينها القابلية أو إمكانية التكذيب التي تميز النظرية العلمية؟ بالطبع كلا! فأية عبارة لا تجريبية، مثلًا ميتافيزيقية أو تحصيل حاصل، يمكن استنباط عبارات مفردة أخرى منها، مثلًا: «إذا كانت أ هي أ، لكانت السماء ستمطر غدًا، لكن أ هي أ، إذن السماء ستمطر غدًا»، وهي نتيجة تمثل عبارة أساسية، فهل يمكن أن نبحث عن إمكانية استنباط عبارات مفردة تخبر بشيء جديد لم تخبر به العبارات المفردة التي خدمت كشروط مبدئية؟
هذه الإضافة سوف تستبعد تحصيلات الحاصل، لكن لن تستبعد العبارات الميتافيزيقية، مثلًا «كل حادث لا بد له من علة غائية، وقد حدث اليوم زلزال في أثينا، إذن زلزال أثينا له علة غائية»، إنها أكثر من المقدمات، لكنها ليست عبارة تجريبية مفردة، ولكي نتجنب كل هذا، وتصبح القابلية للتكذيب معيارًا يميز العلم بكفاءة، نضع مطلب القاعدة الآتية: «يجب أن تسمح النظرية بأن نستنبط منها عبارات تجريبية مفردة، أكثر من العبارات التي يمكن استنباطها من العبارات التجريبية التي تمثل الشروط الأولية فقط». فإذا سمحت النظرية بهذا أمكن مواجهة تلك العبارات المستنبطة بالوقائع التجريبية التي قد تكشف عن كذبها، أي كانت النظرية قابلة للتكذيب، فهي إذن علمية. هذه العبارات المستنبطة منها تمثل محتواها المعرفي الذي تخبرنا به عن العالم التجريبي.
وكلما منعت النظرية أكثر، كلما أخبرتنا أكثر، وعرضت نفسها لإمكانية انتهاكات أكثر، وبالتالي زادت قابليتها للتكذيب. فمثلًا أبسط عبارات العلم «الماء يغلي في درجة ١٠٠°» طبعًا يمكن مواجهتها بالواقع، ويمكن — منطقيًّا — ألا يغلي الماء في هذه الدرجة. هي إذن قابلة للتكذيب، لكن نلاحظ أن العبارة تمنع حدوث غليان الماء في أية درجة أخرى، في ٦٠° أو ٨٠° … وإذا أضفنا إليها تحديدًا آخر، وقلنا: إن «الماء يغلي في درجة ١٠٠° في مستوى سطح البحر» كانت هذه العبارة تخبر أكثر؛ لأنها منعت أكثر، فقد منعت كل ما منعته سابقتها، بالإضافة إلى أنها منعت غليان الماء في ١٠٠° فوق سفح جبل أو في هوة سحيقة، أو في أي مكان ضغطه الجوي مختلف عن الضغوط فوق سطح البحر. وإذا أضفنا إليها تحديدًا آخر، وقلنا: «في مستوى سطح البحر يغلي الماء في درجة ١٠٠° في الأوعية المكشوفة» كانت هذه العبارة تخبر أكثر؛ لأنها تمنع غليان الماء في هذه الدرجة عند سطح البحر، في الأنابيب أو في المراجل المغلقة. إنها تمنع الأكثر؛ ولهذا قابليتها للتكذيب أكثر.
هذا المثال يوضح كيف ترتبط القابلية للتكذيب بالمحتوى المعرفي ارتباطًا مباشرًا، يجعل العلاقة بينهما تناسبًا طرديًّا. فمثلًا تزيد عمومية العبارة بزيادة المحتوى، النظرية الأكثر عمومية ذات محتوى معرفي يفوق محتوى النظرية أو النظريات الأقل منها عمومية؛ إذ إنها تمنع ما تمنعه، بالإضافة إلى منع ما جعلها أعم؛ لذلك فهي أكثر قابلية للتكذيب، وهي أيضًا أغزر في محتواها المعرفي؛ لأنها تضم محتوى العديد من العبارات التي تعممها. إن العبارة العلمية، هي العبارة ذات المحتوى المعرفي الإخباري عن العالم التجريبي، وهي لذلك العبارة القابلة للتكذيب، والفيزياء الأكثر قابلية للتكذيب؛ لأنها الأكثر عمومية.
وليس رجحان الصدق فقط، بل كل مفاهيم منطق التكذيب هي الأخرى نسبية. القابلية للتكذيب ذاتها مسألة نسبية، مسألة درجات، وتتفاوت درجات القابلية للتكذيب على أسس منطقية — حددها بوبر بدقة — تتصاعد جميعها في سلم التقدم العلمي المطرد.
هكذا كان معيار القابلية للتكذيب في معالجته الدقيقة لبنية النظرية العلمية بمثابة التمثيل العيني لمنطق التقدم العلمي، وما كان من الممكن طبعًا تصور هذا المعيار في إطار العلم الكلاسيكي النيوتوني الحتمي. إنه أقوى وأنضج المحصلات الفلسفية لثورة الفيزياء الكبرى في القرن العشرين.
والمعيار في كل هذا كفؤ تمامًا في أداء مهمته، وهي تمييز المعرفة العلمية عن الميتافيزيقا واللاهوت وسواهما من مباحث ذات معنى وأهمية، لكنها ليست علمًا وليس مطلوبًا منها أن تخبرنا عن وقائع العالم التجريبي. المهم فعلًا أن المعيار قادر على استبعاد العلوم الزائفة التي تدعي الإخبار عن الواقع وتتذرع بما يبدو من تأكيد وتحقيق لها فتختلط بالعلم، وهذا هو الخطر المعرفي الداهم. مثلًا علم التنجيم القائم على افتراض زائف؛ وهو أن حركة الكواكب لها تأثير على الأحداث الأرضية، يسهل العثور على الوقائع المؤيدة للتحقق منه، فلو قيل: إن مواليد برج الميزان سعداء، فإنه من السهل الإتيان بألف شخص من مواليد هذا البرج السعداء. وطالما انخدع المنجمون وخدعوا بما اعتقدوه من وقائع مؤيدة لنظرياتهم، ويتغاضون عن الوقائع المفندة لها. ودع عنك الاختبار ومحاولة التفنيد، إن البعد المنهجي للتكذيب غير قائم في أمثال هذه العلوم الزائفة. ومن الواضح الآن أن المعيار ومحاولات الاختبار التجريبي والتكذيب كفيلة باستبعادها.
وليس التحليل النفسي لفرويد وعلم النفس الفردي لآدلر علومًا؛ لأنهما ببساطة نظريات غير قابلة للتكذيب إطلاقًا، وليس لها أية فئة مكذبات محتملة، فليس ثمة أي سلوك إنساني يمكن أن يعارضهما، وليس ثمة أي سلوك إلا ويمكن تفسيره وفقًا لمصطلحات هاتين النظريتين. والمثال الذي يضربه بوبر على هذا هو رجل يدفع بطفل إلى الماء بقصد إغراقه، ثم رجل آخر يُضحي بحياته محاولًا إنقاذ الطفل، كل من هذين السلوكين المتناقضين يمكن تفسيره بنفس السهولة بنفس المصطلحات في نظرية فرويد، وأيضًا بنفس المصطلحات في نظرية آدلر. فتبعًا لفرويد يمكن أن نفسر موقف الرجل الأول بأنه يعاني من الدوافع المكبوتة، مثلًا إحدى مركبات عقدته الأوديبية. أما الرجل الثاني فنفسر سلوكه بنفس الدوافع المكبوتة، ولكنها في حالة إعلاء وتسام. وطبقًا لنظرية أدلر نجد الرجل الأول يُعاني من شعور بالنقص سبِّب له الرغبة في إثبات جرأته على ارتكاب جريمة ما، ونفس الشعور بالنقص سبَّب للرجل الثاني الرغبة في إثبات جرأته على إنقاذ الطفل! على هذا النحو نجد النظريات التحليلية دائمًا يمكن تطبيقها، دائمًا يمكن تأكيدها، تفسر كل شيء وتشرح كل شيء، ولو جاء رجل ليؤكد أنه لم يشعر إطلاقًا بعقدة أوديب ولم يصدر عنه أي سلوك ينم عنها — وهذا ما لا بد أن يؤكده الأسوياء — فلن يعتبر التحليليون هذا تفنيدًا لنظرياتهم، بل على الفور سيتملصون من هذا التكذيب بأن عقدة أوديب مكبوتة في اللاشعور، والنظرية بهذا غير قابلة للاختبار، وبالتالي غير قابلة للتكذيب. ويمكن على هذا النحو إدخال كل الأحداث الممكنة وكل الوقائع الممكنة وكل النماذج السيكولوجية الممكنة في نطاق هذه النظريات، بل وكتأكيدات لها، وهذه القدرة الظاهرية على تفسير كل شيء وأي شيء بدت في نظر العوام معلمًا على قوة النظرية الفائقة، لكنها من وجهة نظر معيار القابلية للتكذيب تبدو نفس سبب ضعفها الحقيقي وخوائها، فالنظرية تشرح كل شيء وتفسر كل شيء لذلك تعجز عن التنبؤ بأي شيء، ولا يترتب عليها — أو على الغالبية العظمى من أجزائها — نتائج تجريبية.
لا يُنكر بوبر أن فرويد وآدلر رأيا أشياء معينة بطريقة صحيحة، وأن بعضًا مما قالاه له أهميته ويمكن تطويره ليلعب دوره في علم نفس قابل للاختبار والتكذيب، لكن النظريتين بالصورة المطروحة من قبلهما تفتقران إلى السمة العلمية ولا تُخبرانا بشيء.
أما النظرية الماركسية فوضعها مختلف، فهي كما طرحها ماركس نظرية علمية، ما دامت ترتبت عليها تنبؤات معينة تجعلها قابلة للاختبار التجريبي والتكذيب، غير أن وقائع التاريخ أتت لتنقض كل تنبؤات ماركس وتكذبها، لكن المأخوذين بها رفضوا الاعتراف بهذا التكذيب — كما يقضي منطق العلم — وأعادوا تأويل كل من النظرية والوقائع المكذبة ليجعلوهما متوافقين، ويعود كل شيء يؤكد النظرية ويحققها، فأصبحت الماركسية على أيدي أنصارها غير قابلة للتكذيب، غير علمية، بل باتت — بتعبير بوبر — عقيدة دوجماطيقية مقواه، وإذا شاء أنصارها يمكنهم الانصراف عن العلم والسمة العلمية، فلا يستطيع معيار التكذيب التطاول عليهم، ولكنهم مع كل هذا يصممون على الإبقاء عليها بوصفها نظرية علمية، بل والتفسير العلمي الوحيد للتاريخ. في أواسط القرن العشرين ناضل بوبر كثيرًا من أجل هذه القضية، ثم أتت نهايات القرن بتعزيز لموقفه يعفيه من مواصلة النضال.
وظل بوبر حتى آخر لحظة يؤكد على القضية الأوسع، وهي أن علم التاريخ ذو طبيعة مختلفة ويتعامل مع وقائع منفردة ويستحيل أن نماثله بالعلوم الطبيعية لكي نصل فيه إلى نظريات تنبوئية، فلا يمكن التنبؤ بمسار التاريخ أبدًا.
وهذا سعي مشكور من بوبر، لكن لا نستطيع الاكتفاء به؛ لأن مشكلة العلوم الإنسانية من أمهات مشاكل فلسفة العلم. والمدهش حقًّا أن معيار القابلية للتكذيب يفتح أمامها آفاقًا مستقبلية لم يفطن إليها بوبر نفسه، وسنحاول أن نستكشفها، وربما نكون في هذا بوبريين أكثر من بوبر نفسه!
خامسًا: مشكلة العلوم الإنسانية
تمثل العلوم الإنسانية بدورها ما يضاف حقًّا إلى الرصيد العلمي للقرن العشرين، فعلى مدار عقوده قطعت شوطًا طويلًا، وبذلت جهودًا مضنية وناجحة إلى حد كبير في تحديد موضوعاتها وتعريف ظواهرها وصياغة مفاهيمها ومصطلحاتها، وقد أرست مناهجها وأساليبها الإجرائية، كالتحليلات الرياضية — مثلًا الاقتصادية — والمناهج الإحصائية والقياسات العددية، والوسائل الأمبيريقية (أي التجريبية الخالصة) كالاختبارات والمقاييس السيكوميترية والسوسيوميترية، والتجربة المعملية والتجربة الميدانية، والعينة التجريبية والعينة الضابطة، والاستبار وقوائم الاستبيان وكشف الأسئلة واستمارة المقابلة والمشاهدة بالمشاركة، فضلًا عن الأساليب الدقيقة لتحليل وتنظيم واستخلاص ما تفيد به المعطيات … إلى آخر ما يدرب عليه الباحثون — تبعًا لتخصصاتهم المختلفة — من منهجيات إجرائية دقيقة، أفضت بالعلوم الإنسانية إلى محصلات جليلة الشأن، ولا تزال تُفضي، خصوصًا بعد تطور الكومبيوتر الذي يسر السيطرة على جماع هائل من المعطيات الإمبيريقية.
ومنذ الربع الثاني من القرن العشرين، كان قد اتضح تمامًا أن الدراسات الإنسانية الإخبارية قد شقت لنفسها طريق «العلم» بالمعنى الدقيق، وقطعت منه شوطًا كبيرًا واستقام عودها. وهذا النضج اللافت جعلها في منزلة تؤهلها للمقارنة بالعلوم الطبيعية، ومن هنا تثار مشكلة العلوم الإنسانية والتي تتمثل في تخلفها النسبي عن العلوم الطبيعية، أحرزت العلوم الإنسانية — ولا شك — قدرًا ملحوظًا من التقدم والنجاح، لكنه أقل كثيرًا مما حققته العلوم الطبيعية، ولم يتكون بعدُ نسق متكامل من القوانين التفسيرية في أي مجال من مجالات العلوم الإنسانية، يماثل من حيث القوة المنطقية أنساق القوانين التفسيرية في أقل فروع العلوم الطبيعية حظوة من التقدم.
وكما لاحظنا مما سبق، الهدف من أي علم تجريبي إخباري هو الإجابة على السؤال كيف ولماذا تحدث الظاهرة موضوعه؟ لينجز العلم أربع مهام بشأنها هي الوصف والتفسير والتنبؤ والسيطرة. المرحلة الأولى من العلم هي المرحلة الوصفية التي تجيب على السؤال: كيف تحدث الظاهرة؟ كيف تتبدى؟ ولكن هذا لا يكفي، فتمهيد الطريق لإحكام السيطرة على الظاهرة، فيما يُعرف بالتقانة «التكنولوجيا» التي ارتهنت بنسق العلم التجريبي الحديث، دونًا عن سواه من أنساق جمة أنشأها العقل البشري … هذا يستلزم الانتقال من المرحلة الوصفية، وبناء عليها، إلى المرحلة التالية عليها، وهي المرحلة التفسيرية التي تجيب على السؤال: لماذا تحدث الظاهرة؟ أما التنبؤ، وهو الغاية النهائية المرومة من العلوم الطبيعية، فليس يفترق عن التفسير، بل هو محك لنجاح التفسير. والواقع أن التفسير هو الإحاطة الحقيقية بالظاهرة، وإذا كان الوصف هو محك وجود العلم أو عدم وجوده، فإن التفسير هو محك التقدم العلمي. ويمكن أن تُقاس درجة تقدم العلم بمدى توغله في المرحلة التفسيرية ونجاحه فيها، أو درجة دقة هذا النجاح. وتبلغ المرحلة التفسيرية اكتمالها المنطقي في النظرية العامة أو البحتة، التي تعني الدامغ المعتمد للنسقية العلمية.
وفي هذا نلاحظ أن حصاد العلوم الإنسانية قد تنامى تناميًا ناجحًا في المرحلة الوصفية، دونًا عن المرحلة التفسيرية، فضلًا عن البحتة، وإذا كنا بإزاء أية ظاهرة إنسانية، مثلًا التفوق الدراسي أو الإرهاب أو تعاطي المخدرات، يمكن أن نتوقع من العلوم الإنسانية توصيفات علمية دقيقة للظاهرة، أي إجابة على السؤال كيف تحدث؟ أما عن التفسير، فمن الصعب أن يتفق باحثو الإنسانيات على إجابة للسؤال: لماذا يحدث التطرف الديني مثلًا، ويمكن أن نتوقع إجابات متعددة وأيضًا متناقضة.
ومن أوضح الأمثلة على تناقضات العلوم الإنسانية تحليلية فرويد وسلوكية واطسن اللتان تصدرتا علم النفس في أواسط القرن العشرين، وبينما نجد خطأ التفسير التحليلي في أنه يُبالغ في تعميق وتعقيد الظاهرة النفسية وعلى حساب منهج العلم ومنطقه، نجد خطأ السلوكية في أنها تبالغ في تسطيح الظاهرة النفسية وتبسيطها، وإن كان تبسيطًا لحساب منهج العلم فإنه في النهاية يقتصر على الوقوف على سطح الظاهرة والاستسلام الكامل للمعطى التجريبي، وتفتيت موضوع الدراسة إلى ذرات مغفلة الطبائع التكاملية للكيانات الإنسانية. وبتأكيد السلوكية على أن التجريب المعملي هو فقط الذي يؤدي إلى نتائج يُعتمد عليها تراخى اهتمامها بعمليات التفكير والمعرفة في الذهن، وعجزت عن تفسير الظواهر النفسية شديدة التعقيد التي لا يمكن الإحاطة بها عن طريق تعميم تجريبي مباشر يفترض أن الإنسان مجرد متلقٍ سلبي لعوامل البيئة والوراثة. وأدى هذا إلى تجاوز السلوكية منذ الستينيات بعلم النفس المعرفي المستفيد حقًّا من إبستمولوجيا القرن العشرين وتقاناته وطرح إمكانات مستقبلية تقدمية أمام علم النفس، لكن لا تزال مشكلة التفسير قائمة. ولا يزال هذا التناقض بين التفسيرات وعجزها عن التكامل ماثلًا في فروع شتى من العلوم الإنسانية كأن تسرف مدارس الوضعية والوظيفية والبنيوية وقرائنها في التركيز على ثبوت المجتمع واستقراره، بينما تُسرف مدارس أخرى في التركيز على حركية المجتمع وتغيره.
والسؤال الآن: لماذا تتناقض التفسيرات؟ أو لماذا تعجز العلوم الإنسانية عن خوض المرحلة التفسيرية باقتدار ونجاح؟ لعل الإجابة على هذا هي نفسها تحديد حيثيات مشكلة العلوم الإنسانية أو أسباب تخلفها النسبي.
وقد قيل الكثير في هذا الأمر الذي أصبح مألوفًا بقدر ما هو عجيب؛ لأن مسائل العلوم الإنسانية كانت منذ الأزمنة البعيدة موضع الاهتمام الأكبر وتستقطب أعاظم العقول، فكان تناولها أكثر نضجًا من تناول مسائل العلوم الطبيعية، وأبسط مقارنة بين دساتير أرسطو وبين فيزيائه أو بين تناول أفلاطون وفلاسفة الإسلام لمسائل الأخلاق والمجتمع والسياسة وبين تناولهم لمسائل الكواكب والمعادن تبين هذا. ولعل الفروق النوعية للظواهر الإنسانية وما تختص به من مثاليات غائية وإسقاطات حميمة هي التي جعلتها موضع الاهتمام الأكبر في الأزمنة القديمة، وهي نفسها التي جعلتها عصيَّة إلى حد ما على مثاليات العلم الحديث، ومتعثرة في محاولات التفسير العلمي. تدور كثير من محاولات تحديد أسباب التخلف النسبي حول خصائص تتميز بها الظاهرة الإنسانية دونًا عن الطبيعية، هذا من قبيل صعوبة التكميم واستخدام ألفاظ كيفية، وبالتالي صعوبة صياغة قوانين دقيقة، وأن الباحث جزء لا يتجزأ من الظاهرة التي يبحثها؛ فلا بد وأن يشعر تجاهها بميول وأهواء معينة تفرضها البيئة الثقافية والحضارية التي ينتمي إليها. نفس الظاهرة (تعدد الزوجات مثلًا) تُبحث في بيئة على أنها عُرف محمود وفي بيئة أخرى كعُرف مذموم، وفي بيئة ثالثة كجريمة يُعاقب عليها القانون، فيؤدي هذا إلى إضفاء الأحكام الخلقية والإسقاطات التقييمية على موضوع البحث. ثمة قيم الباحث التي تؤثر على أحكامه، بل ومجرد رصده للوقائع وثمة القيم الموجهة لموضوع البحث ذاته، لن يتعامل الباحث مع العينة في حالة دراسته لظاهرة الدعارة نفس تعامله مع العينة حين دراسة الإبداع العلمي مثلًا …
ويمكن أن نضيف إلى هذا معوقات البحوث الإنسانية لا سيما في البلاد المتخلفة، من قبيل ضعف التمويل نتيجة التشكيك في جدواها وحصائلها التطبيقية مقارنة بالعلوم الطبيعية، والانبهار بالآلة عنوان التقدم لحد اعتبار الدراسات الإنسانية ترفًا يمكن بل يجب تأجيله! وانعدام التخطيط والتساوق بين هيئات البحث، وثمة نظام التعليم وإعداد كوادر الباحثين الذي يركز على باحثي العلوم الطبيعية ويخصهم بالقروض والمنح والبعثات والمراكز، دونًا عن باحثي العلوم الإنسانية، فتستأثر الأولى بالطلبة النابهين؛ على أن تلك المعوقات تخرج عن مجال فلسفة العلم وتندرج تحت سوسيولوجية العلم أو عوامله الاجتماعية.
وبالعود إلى فلسفة العلم نجدها عن طريق الاختزال المنطقي تستطيع رد كل حيثيات أو أسباب مشكلة العلوم الإنسانية إلى عاملين أساسيين، هما: أولًا: نوعية الظاهرة الإنسانية، وثانيًا: طبيعة العلاقة بين الباحث وموضوع بحثه حين دراستها. وتفاعل هذين العاملين معًا ينجم عنه افتقاد البحث العلمي للحدود المحكمة، أي افتقار العلوم الإنسانية إلى التقنين المنطقي الدقيق مما يجعل حدودها مستباحة، ومن هنا تأتي عوامل تعثر المرحلة التفسيرية.
إن المحتوى المعرفي للعلوم الطبيعية ينصب على ظواهر محايدة لخلوها من الوعي والإرادة، فيمكن للإطار الثقافي والسياق الحضاري أن يرفع يده تمامًا، وحين رفض هذا — كما حدث حين فرضية مركزية الشمس لكوبرنيقوس أو التطور لدارون — انهزم السياق الثقافي تحت القوة المنطقية للنظرية العلمية، حتى إن درجة التقدم التي أحرزتها العلوم الطبيعية الآن جلبت لها استقلالًا معرفيًّا تامًّا، وأصبح السياق الثقافي لا يجرؤ على التدخل في صوغ فروضها أو عناصر نظرياتها، أي في محتواها المعرفي، ويقتصر فقط على التفاعل مع حصائلها التطبيقية وتكنولوجياتها. مثلًا يتدخل السياق الحضاري لمناقشة استضافة الجنين في رحم آخر، أو نقل الأعضاء، أو الاستنساخ، أو التحكم في الصفات الوراثية للجنين، أو إنتاج القنبلة الهيدروجينية … هل هذه التطبيقات مشروعة أم لا؟ مطلوبة أم غير مطلوبة؟ كيف يمكن توجيهها؟ … إلخ. ولكن لا يتدخل في منطوق النظرية العلمية ذاتها أو يحاول استبدال فرض تفسيري بآخر مضمونه أقرب إلى ما يريد السياق الثقافي، أي إنه يتعامل مع العلوم الطبيعية من الخارج فقط، ولا يُحِدث خلطًا منطقيًّا في محتواها المعرفي من الداخل.
وهكذا تجري العلوم الطبيعية في طرق حددت معالمها ممارساتٌ عريقة وراسخة متفق عليها. فتسير عبر تخوم واضحة وتصاغ فروضها وقوانينها ونظرياتها في حدود منطقية مقننة بدقة، فقدر لها أن يتوالى تقدمها، واستقلت تمامًا عن الأوضاع والمؤثرات الخارجية.
أما بالنسبة للعلوم الإنسانية فالأمر يختلف، وافتقارها للإحكام المنطقي يجعل البدائل الأخرى تتدخل في مناقشة منطوق النظريات ذاتها، ويمكن للحس المشترك ببساطة أن يُعارض مضمون نتيجة بحوث شاقة وطويلة أسفرت عن الأثر السيئ لضرب الأطفال مثلًا أو تزويج الفتيات القاصرات، والمثل يحدث من قبل البدائل الحضارية الأخرى كالأعراف والتقاليد والفلسفات والمنحى السياسي وتوجهات الطبقة السائدة، وما تبثه وسائل الإعلام والإعلان والمصالح القومية وفي النهاية الأيديولوجيا … كلها تنافس العلوم الإنسانية في صلب حلبتها وصميم مفاهيمها وتصوراتها ومنطوق نظرياتها وتتبرع بالتفسيرات التي تميل إليها للظواهر الإنسانية والاجتماعية؛ لتنافس التفسيرات العلمية أو تستوعبها أو توجهها وتؤثر عليها. وفي النهاية لا نظفر بتفسيرات علمية متكاملة للظواهر الإنسانية.
إن تكامل التفسيرات الطبيعية يتمخض فعليًّا وإجرائيًّا في التساوق والتآزر بين النظرية والتجربة، الأولى ترسم للثانية خطاها وتحدد أطرها، والثانية تحمل اختبارات الأولى ومحكاتها وشواهدها، وأيضًا مواطن كذبها وضرورة تعديلها أو حتى رفضها، وسرعان ما يستجيب المنظرون، كما حدث مثلًا حين أثبتت تجرية ميكلسون/مورلي كذب الأثير. وفي المقابل نجد تناقض التفسيرات الإنسانية يرتد في الانفلاق الذي تشهده العلوم الإنسانية بين اتجاهات التنظير واتجاهات التجريب، مما يساهم في تباطؤ معدلات التقدم. والجدير بالذكر أنه في الثلث الأول من القرن العشرين ساد علم الاجتماع، بتأثير من المدرسة الأمريكية — خصوصًا مدرسة شيكاغو — انكباب محموم على التجريب وعزوف عن التنظير ربما على سبيل التمثل الأكثر لروح العلم. وسرعان ما أثبتت التجريبية المحضة عقمها وقصورها. ولعل سيادة البنيوية في المرحلة التالية من مسار علم الاجتماع في القرن العشرين بمثابة رد فعل عكسي لهذا. وتعتمد البنيوية التجريد غير الرياضي لأقصى حد ممكن في بحثها الدءوب عن الهيكل الثابت. والمحصلة أن تزايد فيما بعد إحساس الباحثين بالبون الذي أخذ يتسع بين التنظير والتجريب، بحيث كادت منهجيات علم الاجتماع أن تنفلق إلى شقين، أحدهما غارق في النظرية والآخر منغمس تمامًا في رصد الوقائع التجريبية، والحال يشبه هذا في علم الاقتصاد. أما في علم النفس فيبز السلوكيون جميع باحثي العلوم الإنسانية في انكبابهم على التجريب وعزوفهم عن التنظير، حتى عن مناقشة النظرية السلوكية ذاتها، ربما كرد فعل عكسي على ما كان من إفراط التحليليين المضجر بشأن الصروح النظرية الشاهقة والسحيقة التي ابتدعها خيال فرويد وأودعها في دياجير مفترضة للنفس الإنسانية. مرة أخرى وأخيرة نشير إلى علم النفس المعرفي كوسط ذهبي يحمل آفاقًا تقدمية بتدارك هذا الانفلاق.
والخلاصة أن تناقض التفسيرات في العلوم الإنسانية ومعها قصور الممارسات سواء أغرقت في التنظير أو أفرطت في التجريب ترتد إلى تأثير العوامل الخارجية المذكورة التي تجعل المشروع العلمي يمتزج ويتشابك مع أمور ليست علمية ولا تهدف إلى أهداف العلم، فيتعرقل مساره نحو التفسير المتكامل وتتباطأ معدلات التقدم. وعلى هذا يبدو أن الطريق نحو حل مشكلة العلوم الإنسانية يتطلب التمييز بين ما هو علمي وما هو لا علمي يتعلق بأيديولوجيا أو فلسفة أو عرف أو رأي شائع بحيث تكون حدود العلم واضحة لا تسمح بتسلل كل ما هو لا علمي.
عدنا إذًا إلى المشكلة الأم لفلسفة العلم، أي تمييز المعرفة العلمية، وأنضج حل لها وهو معيار القابلية للاختبار التجريبي والتكذيب الخاصة المنطقية المميزة. ومن الواضح أن هذا المعيار يطرح أمام العلوم الإنسانية محكًّا حاسمًا لتحديد ما هو علمي إخباري ويحول دون تسرب الأيديولوجيات والإسقاطات التقويمية وأحكام الحس المشترك … وكل ما هو لا علمي ينجم عن اقتحامه بنية العلم افتقاد الإحكام في المشروع العلمي وافتقاره للتقنين المنطقي. والواقع أن هذا المعيار لا يعدو أن يكون الصياغة المنطقية الصورية المقننة الدقيقة للسمة التجريبية التي هي العلاقة المسئولة مع الواقع والتآزر الحميم بين العقل والممارسة المعملية أو بين التنظير والتجريب. وكان نضج العلوم الإنسانية ونموها راجعًا إلى أنها وجدت أساليبها التجريبية الإمبيريقية وأحكمتها، ويبقى أن مضاعفة درجة التقدم وتجاوز التخلف النسبي سوف يعتمد على التقنين المنطقي الأدق والأشمل لهذه التجريبية، خصوصًا أن التكالب عليها أدى إلى تدفق سيل من التعميمات التجريبية بغير أن تؤسس حصيلة مثمرة. في ذلك الانفلاق الضار بين التنظير والتجريب، وتلك السمة التجريبية، أي القابلية للاختبار والتكذيب تطرح أمام العلوم الإنسانية محكًّا لضبط التجريب وتوجيهه نحو فروض محددة، مما يداني بين التنظير والتجريب.
والأخذ بهذا المعيار لا يشترط قبلًا إلا إمكانية العلم بالظواهر الإنسانية والاجتماعية، وأنها ليست قائمة في ملكوت السموات ولا في عالم الغيب، بل هي قائمة في عالم الشهادة الذي نحيا فيه. وأثبت منطق العلم التجريبي أنه أصدق من يأتينا بخبر عنه، وأكفأ من يقوم بمحاولة وصفه وتفسيره في سلسلة متوالية كل حلقة أنجح من سابقتها وأكثر تقدمًا. ولا ينطوي هذا البتة على رد العلوم الإنسانية إلى العلوم الطبيعية. فنحن بإزاء إبستمولوجيا العلم الراهنة وآفاقها المستقبلية، بينما كان المشروع الردي في إطار الإبستمولوجيا الكلاسيكية وتفسيرها الميكانيكي للكون الذي أضحى أثرًا بعد عين. ثم كانت محاولة إحياء المشروع الردي في إطار العلم الموحد أو لغة العلم التي عكف الوضعيون المنطقيون على بنائها، وكلاهما انتهينا منه فيما سبق، وليس ثمة نموذج مفروض ولا وصاية على علم ولا وحدة حديدية للعلوم تردها جميعًا إلى الفيزياء، بل فقط الاستفادة من الأسس الصورية لمنطق التقدم في العلوم التجريبية، كما هي متمثلة على أكمل وجه في الفيزياء، ويمكن أن تقترب منها سائر العلوم بدرجات متفاوتة، وحين تقترب منها العلوم الإنسانية لن تتسرب العناصر الأخرى للإطار الحضاري والسياق الثقافي إلى المشروع العلمي بسهولة؛ لأنها لا تستطيع اجتياز المواجهة مع الواقع التجريبي التي يتطلبها اختبار التكذيب، ولا من المطلوب منها أصلًا أن تجتاز هذا الاختبار، طالما أنه ليس مطلوبًا منها القيام بمهام العلم والإخبار عن الواقع التجريبي، بل المطلوب منها مهام حضارية أخرى هامة. فليس العلم كل شيء ولا حتى أهم شيء، لكنه بالتأكيد شيء هام جدًّا، ومن الأفضل أن يشق طريقه ويؤدي مهامه الدقيقة على الوجه المنشود، وتلتزم البنيات الثقافية الأخرى موقعها في السباق الحضاري.
ومن الناحية الأخرى ليس مطلوبًا أيضًا عزل العلوم الإنسانية عن واقعها الحضاري، ومتطلباته وأهدافه، ولا خضوع أو تكريس له بزعم الحياد العلمي، أو ثورة عليه لمجرد الشغب والفوضى والرفض تحت اسم العلم المجيد. على هذا يمكن التأكيد أنه ليس منشودًا البتة — ولا حتى متصورًا — اجتثاث الأصول والجذور الحضارية للمشروع العلمي في المباحث الإنسانية. إن السياق الحضاري والثقافي والقيمي رافد لها، إن لم يكن منبعًا، وهو ذاته صلب موضوعها ومسرح ظواهرها، لكن إثراء السياق الحضاري وإثراء العلوم الإنسانية، وحل مشكلتها ومشاكل عديدة له يتطلب التفاعل المثمر السليم بينهما، ويشترط هذا أن يكون كلٌ في موقعه لأداء دوره، ولا يقتحم حدودًا مميزة للآخر وخاصة به.
وكما حرصنا على تحقيق هدف مؤداه ألا تقتحم البنيات الحضارية والأيديولوجيات المشروع العلمي، فإننا نحرص أيضًا على ألا يقتحم منطق العلم البنى الحضارية والمشاريع الأيديولوجية. ومنطق العلم لا يملك حكمًا، لا قبولًا ولا رفضًا، لمشروع حضاري معين أو بنية أيديولوجية دون سواها. معنى هذا أنه لا خوف إطلاقًا على عناصر هويتنا وقيمنا ومنطلقاتنا من صرامة منطق العلم ومعيار التكذيب، فإن المنابع الأيديولوجية في حد ذاتها محتمية بحدودها، حتى ولو كانت مصدرًا لفرض علمي، فإن الفرض هو فقط وفي حد ذاته الذي يخضع للاختبار التجريبي، فيتم تكذيبه أو تعديله أو تعزيزه، أما المصادر الحضارية الكبرى، فلا علاقة لمنطق العلم ومعاييره بها.
وأخيرًا، ليس في هذا إنشاء خطة عمل مستحدثة أو برنامج مستجد للعلوم الإنسانية، أو أمثال هذه التصورات الهوجاء. كل ما في الأمر محاولة للخروج من واقع العلم الراهن بالأسس المنطقية المتجهة صوب الإمكانيات المستقبلية، لكي تتلاقى شعاب التوجهات الواعدة في العلوم الإنسانية على محك موضوعي معتمد، توسلًا إلى الأمل المفتقد إلى حد ما في العلوم الإنسانية، والمتحقق بأجلى صورة في العلوم الطبيعية، أي الاتفاق على معيار مشترك يصون أهداف العلم ويرسم نحوها حدودًا واضحة، يتلاقى داخلها الرأي والرأي الآخر؛ لأن الاتفاق بين العلماء هو السبيل إلى الإحاطة بالظواهر الإنسانية، وصفًا وتفسيرًا، ومن ثم تنبؤًا وتحكمًا وسيطرة.
والواقع أن تبرير كل هذا وتسويغه إنما هو في حقيقة تنامي اقتفاء العلوم الإنسانية لمنطق العلم، وتدفق أبحاثها وفق الفروض القادرة على الخضوع لإجراءات منهجية دقيقة، فيها يتردد كثيرًا مصطلح الاختبار والقابلية للاختبار، ولولا هذا الواقع الواعد وحصائله المتنامية كمًّا وكيفًا لما كان ثمة جدوى لتوضيح سبل التقنين المنطقي الأدق. إن منطق العلم تجريد للقوالب الصورية المتضمنة لتدفقات واقعه المنهجي، فيزداد الطريق وضوحًا ويزداد التقدم صعودًا.
تلك هي مهمة منطق التقدم العلمي.
وقارن كتابنا فلسفة كارل بوبر: منهج العلم … منطق العلم، ص٣٢٤-٣٢٥، حيث اعتبرت هذا التغيير في العنوان ثغرة وإهمالًا من بوبر لعنصر الدقة! وهذا الكتاب في أصله القطاع الأكبر من رسالتي لنيل درجة الماجستير عام ١٩٨١م من جامعة القاهرة تحت إشراف أستاذتي الجليلة الدكتورة أميرة حلمي مطر. وكانت هذه الرسالة أول دراسة عربية لفلسفة كارل بوبر، وأتت في حوالي ستمائة صفحة من القطع الكبير. وعلى الرغم من الجهد الجهيد المبذول فيها للإحاطة بفلسفة بوبر لم أتبين تمامًا سبب تغيير العنوان من «منطق البحث العلمي» إلى «منطق الكشف العلمي»، ثم كشفت دراساتي التالية لتطورات فلسفة العلم بعد بوبر عن خطورة التأثير الذي أحدثه بنقلها من منطق التبرير إلى منطق الكشف إلى آخر ما هو معروض هنا.
والمعالجة الشاملة في: د. يمنى الخولي، مشكلة العلوم الإنسانية: تقنينها وإمكانية حلها، الطبعة السادسة، دار قباء للطباعة والنشر، القاهرة، ٢٠٠٢م، وخصوصًا ص٥٤–١٣٤.