الشياطين … في قصر «موجا»!
حيَّاهم «موجا»، ثم طلب منهم أن يستمتعوا بالسهرة دون أن يرتبطوا به؛ لأنَّه لا يبقى في مكانه، وأنهم يستطيعون التصرُّف وكأنه هو نفسه الذي يفعل ذلك. وعندما تركهم وانصرف أسرع «أحمد» بكتابة رسالة سريعة إلى «قيس»، قال فيها إنه لا يجب أن يقول شيئًا الآن ولا يسأل عن شيء؛ لأن «موجا» يرصد كل حركة. وإنهم يستطيعون الانصراف مُبكرًا إذا كانت هناك ضرورة لذلك.
قرأ «قيس» الرسالة ثم طواها ووضعها في جيبه. ولم تمرَّ لحظات حتى كان عدد من الجرسونات يضعون عشاءً فاخرًا، فأخذ الشياطين يتناولون عشاءهم في هدوء لم يستمرَّ طويلًا؛ فقد أخذ «قيس» يدقُّ بملعقتِه دقات فهمها الشياطين. رد «أحمد» بدقات مماثلة جعلتْهم يُسرعون في الانتهاء من العشاء.
أشار «أحمد» إلى الجرسون الذي أسرع إليه فسأله: هل أستطيع لقاء السيد «موجا» الآن؟
قال الجرسون في أدب: لقد انصرف السيد «موجا» منذ قليل، وأظنه سوف يتأخر بعض الوقت!
أعطى «أحمد» بقشيشًا طيبًا للجرسون وهو يقول: أرجو أن تشكر السيد «موجا»، وسوف آتيه مرة أخرى.
الجرسون: هل ستُحدِّد موعدًا لذلك؟
أحمد: لا، غير أني سوف أُحاول ذلك غدًا أو بعد غد!
انصرف الشياطين بسرعة. ولم يَمضِ وقت طويل حتى كانوا داخل المقر السري، أخرج «قيس» ورقة منزوعة من مفكِّرة ثم قدمها ﻟ «أحمد» الذي قرأها بسرعة، وظهرت الدهشة على وجهه. قالت «ريما»: ماذا هناك!
قرأ «أحمد» الورقة فظهرت الدهشة على وجوه الشياطين، وقال «رشيد»: إنني لا أكاد أُصدِّق! فلقد كانت الورقة التي وجدها «قيس» في فيلَّا «بول كاتيفي» تُشير إلى «موجا» نفسه … إن «موجا» هو الذي اتَّفق مع «كاتيفي» على تقديم الحقائب الجلدية البيضاء التي تُنتجها شركته، وعندما اكتشف تسرُّب خطة «شركة مدن المستقبل» في واحدة من تلك الحقائب كان من الضروري التخلُّص من «كاتيفي». هكذا استَنتَج الشياطين.
قال «رشيد»: يجب أن نتحرَّك بسرعة.
قالت «ريما»: ينبغي أن نرحل فورًا إلى «جنوة».
وقال «فهد»: إنني أفكر في انصراف «موجا» الليلة.
ابتسم «أحمد»، فأضاف «فهد»: أظن أنك تُفكِّر في نفس الشيء!
قال «أحمد»: ينبغي أن نتحرك فعلًا.
أسرع إلى التليفون، ثم تحدث إلى عميل رقم «صفر». الذي قال: سوف أتَّصل بك خلال دقائق!
كان «أحمد» قد طلب تدبير السفر فورًا إلى «إيطاليا»، ولم تمضِ دقائق حتى رنَّ جرس التليفون، فأسرع «أحمد» برفع السماعة، وكان المتحدث هو عميل رقم «صفر». قال: هناك طائرة بعد ساعة، وقد حجزت لكم عليها. شكره «أحمد» ثم وضع السماعة ونقل المكالمة إلى الشياطين، فأخذ كلٌّ منهم يستعد.
قال «أحمد»: اسبقُوني إلى المطار؛ أمَّا أنا فسوف أذهب إلى ملهى «الويست»؛ قال ذلك وانصرف فورًا، وفي نفس الوقت كان الشياطين قد انتهوا واستعدوا للخروج.
قالت «ريما»: إن أمامنا بعض الوقت، فهل نَنصرِف فورًا؟ فأجاب «قيس»: من يدري؟ قد تكون الظروف في صالحنا!
انصرف الشياطين مباشرةً، عندما أغلقوا الباب خلفهم كانت هناك أضواء سيارة تقترب، كان ضوءُها مُبهرًا، حتى إنَّ الشياطين كانوا يَشعرون أنهم يغرقون في ضوئها … وتوقفت السيارة أمامهم فعرفوا أنها لعَميل رقم «صفر»، فاستقلُّوا السيارة بسُرعة فانطلقت بهم إلى المطار الذي يقع خارج مدينة «ليدز».
كان الليل هادئًا، وأضواء الشوارع خافتةً، واستغرق الشياطين في أفكارهم؛ لقد كانوا جميعًا يُفكِّرُون في «أحمد» ووصلَت السيارة إلى المطار فنزلوا بسُرعة، وأخذوا طريقهم إلى الداخل بعد أن تسلَّم «قيس» من السائق خمس تذاكر إلى «جنوة» …
كان المطار يبدو كأنه شعلة من الضوء، وكانت الحركة فيه نَشِطة تمامًا. ويبدو أن طائرة ما قد وصلت لتوِّها، ونزل ركابها فأحدثوا هذه الحركة النشطة. واقترب الشياطين من باب الدخول إلى أرض المطار، غير أن صوتًا أوقفهم؛ كان صوت مذيعة المطار التي قالت: إن الطائرة المتجهة إلى «جنوة» في الرحلة رقم «٩٥٩» سوف تتأخَّر نصف ساعة! نظر الشياطين إلى بعضهم، فقالت «ريما»: ما رأيكم لو دخلنا الكافيتريا؟
لم يرد أحد بسرعة غير أنهم تحركوا فعلًا في الاتجاه الذي اقترحته «ريما» وجلسوا في هدوء دون أن ينطقوا بكلمة؛ فقد كانوا يُراقبُون حركة الكافيتريا، وقطع «رشيد» صمتهم بقوله: لقد كنتَ بارعًا يا «قيس» في أنك لم تقَع في يد الشرطة السرية داخل الفيلَّا!
ابتسم «قيس» وهو يقول: إن الوقوع في أيديهم يمكن أن يسبب لنا بعض المشاكل، أو على الأقل يُعطِّلنا، وكان «قيس» قد شرح لهم في المقرِّ السري لماذا طلب منهم أن يبتعدوا عن الفيلَّا بعد أن اكتشف أن رجال الشرطة السريِّين كانوا يُطاردونه داخل الفيلَّا، وأنَّ الأضواء التي كانت تتحرَّك في الحديقة هي أضواء بطارياتهم عندما كانوا يَبحثُون عنه، وهم يتصوَّرون أنه قد اختبأ في الحديقة بعد أن خدعهم خدعةً بارعةً؛ لقد ألقى من نافذةِ حُجرة المكتب في الفيلَّا طفاية سجاير أحدثت صوتًا بين النباتات فظنُّوا أنه قد قفَز إلى الحديقة.
مرَّ الوقت سريعًا، وعندما رفع «فهد» يده لينظر في الساعة هاله أن الوقت قد انقضى دون أن يظهر «أحمد»، وجاء صوت مذيعة المطار يقول: ركاب الرحلة «٩٥٩» يتوجهون إلى الطائرة! فقاموا بسرعة، وعندما كانوا يقطعون صالة المطار إلى باب الدخول كانت أعينهم تبحث عن «أحمد» … تجاوزوا الباب وأخذوا طريقهم إلى الطائرة، وعندما بدءوا يصعدون السلم امتلأت وجوههم بالدهشة؛ لقد كان «أحمد» يصعد معهم في نفس الوقت.
قال مبتسمًا: لا بأس. المهم أنَّني جئت في الوقت المناسب! لكنه ما كاد يَنتهي من جملته حتى كانت هناك يدٌ فوق كتفه، والتفت بسرعة، ثم ظهرت علامة دهشة، إنه لم يكن يتوقع ما يراه، كان يمكن أن يحدث أي شيء إلا ما شاهده؛ لقد كان «موجا» خلفه مباشرة.
ابتسم «أحمد» ابتسامة سريعة وهو يقول: أتمنَّى أن تكون ضيفنا غدًا! فقال «موجا»: كنتُ أظنُّ أنكم ما زلتم في «الويست»!
دخلوا الطائرة، وكان الشياطين في المقدمة، حتى إن أحدًا منهم لم يرَ ما حدث. أخذ «موجا» طريقه إلى مكانه الذي كان يقع في مقدمة الطائرة في الوقت الذي كان الشياطين جميعًا في نصفها الخلفي، وعندما جلسوا سأل «فهد»: هل هناك شيء جديد؟ شرد «أحمد» لحظة ثم ابتسم قائلًا: لا أظنُّ أنكم سوف تُصدِّقون!
ظهر التفكير على وجوه الشياطين، وقالت «ريما»: ماذا؟ صمت «أحمد» قليلًا، حتى إن «رشيد» قال: هل قابلت «موجا»؟
هزَّ «أحمد» رأسه قائلًا: نعم!
فهد: ثم ماذا؟
ابتسم «أحمد» ولم يُجب مباشرة، مرت لحظة وأعين الشياطين مُعلَّقة بوجهه، قال أخيرًا: لقد دعوتُه ليكون ضيفَنا غدًا!
قال «قيس» بدَهشة: ماذا؟ ضيفنا غدًا؟!
أجاب «أحمد»: نعم ضيفنا غدًا!
قيس: أين؟
أحمد: في «جنوة» … أو «ليفورنو»!
نظر الشياطين إلى بعضهم، ثم إلى «أحمد»، وقال «رشيد»: لا بُدَّ أنك تمزح!
هزَّ «أحمد» رأسه وهو يقول: إنه شيء كالمزاح. هل تَعرفون أين قابلت «موجا»؟
قالوا في صوت واحد: أين؟
أحمد: على سُلَّم الطائرة!
ظهر عدم التصديق على وجوه الشياطين، وأوشكت «ريما» أن تُعلِّق بكلام، لكنها لم تُتمَّه؛ فقد جاء صوتٌ أوقف تعليقها: يبدو أن السهرة لم تُعجبْكم!
رفعوا وجوههم ناحية الصوت فرأوا «موجا»، كان يَبتسِم ابتسامةً هادئة، لكنه لم يجد الفرصة ليُكمِل كلامه؛ فقد جاء صوت المذيع الداخلي يقول: نرجو أن تربطوا الأحزمة؛ فسوف نُقلع فورًا!
قال «موجا» بسرعة وهو ينصرف: فيما بعد!
ظلَّت أعيُن الشياطين مُتتبِّعة «موجا»، إلا «أحمد» الذي استغرق في التفكير لحظات، ثم بدأت أجهزة الطائرة تعمل حتي انطلقت، ولم تمضِ دقائق أُخَر حتى كانت تأخذ طريقها إلى الفضاء … وكان الشياطين يشعرون بالسعادة؛ فقد وضح أمامهم كل شيء، وها هو صيدهم الثمين معهم في طائرة واحدة. لقد وفَّر عليهم «موجا» بحثهم في «جنوة»، ولم يكن ذلك إلا بسبب اللحن الشعبي الذي يعرفه «أحمد».
كانت الساعة تقترب من الرابعة صباحًا، وكلُّ مَن في الطائرة قد استغرق في النوم، الوحيد الذي لم يكن نائمًا هو «أحمد»، الذي كان يضع خطة الشياطين القادمة … عند الوصول إلى مطار «جنوة» قطع عليه تفكيره صوتُ أقدام هادئة جعلتْه يفتح عينَيه، فأبصر مضيفة حسناء تمرُّ بجواره. سألها: هل لا تزال أمامنا ساعاتٌ أخرى؟ ابتسمت المضيفة وقالت: هل أنت متعجل؟
أحمد: مجرد سؤال!
المضيفة: لا يزال أمامنا بعض الوقت. إننا سوف نصل في الخامسة إذا ظلَّ الطقس على هذه الدرجة من الجودة، وصمتت لحظة ثم قالت: لماذا لم تنَمْ والوقت متأخِّر؟
ابتسم «أحمد» وهو يقول: أريد أن أرى المطار ساعة الاقتراب منه، إنه يَبدُو كلؤلؤة لامعة وسط ظلمة الليل!
قالت المضيفة وهي تبتسم: إنك شاعرٌ، نَمْ ودعْني أُوقظك عندما نقترب!
ابتعدت المضيفة فأغمض عينَيه، كان لا يزال يفكر في لحظة الوصول وماذا سوف يَحدُث مع «موجا»! غير أنه شيئًا فشيئًا أخذ النوم يداعبه حتى استغرق فيه … وفي تلك اللحظة كان «موجا» يقترب من الشياطين، وعندما أصبح بجوارهم … رمقهم بنظرة سريعة ثم هزَّ رأسه وعاد إلى مكانه في مقدمة الطائرة.
اقتربت المُضيفة وهزت «أحمد» في هدوء. فتح عينيه ثم ابتسم فقالت: ها نحن نقترب، وقد بدأ مطار «جنوة» في الظهور!
نظر من النافذة التي كانت تنام بجوارها «ريما» فرأى المطار وكأنه بقعة ضخمة من الضوء فوق سجَّادة سوداء، فنظر إلى المضيفة التي كانت تَرقُبه مُبتسمة وشكرها، قالت: صورة بديعة!
ثم انصرَفَت.
ظلَّ «أحمد» يرقب المطار والطائرة تدور حوله بسرعة. لحظة ثم أخذت عجلات الطائرة تمسُّ أرض المطار إذ أصبح قريبًا، بدأ يوقظ الشياطين الذين استيقظوا وهي تندفع بسرعة، ثم أخذت تدور حتى توقفَت، وبدأ الركاب يستعدُّون، وفجأةً ظهر «موجا» مبتسمًا: صباح الخير أيها الأصدقاء!
رد «أحمد» بسرعة: صباح الخير أيها السيد «موجا»!
موجا: هل حجزتم في أحد الفنادق هنا؟
أحمد: ليس بعدُ يا سيدي!
موجا: إذن هيَّا معي!
بدأ الركاب ينزلون، وتبع الشياطين «موجا» … وكان النهار قد بدأ يُلوِّن الوجود بلونٍ رماديٍّ رائق، غير أن أضواء المطار كانت تأخُذ البصر … وصلوا إلى صالة المطار الخارجية وكان «موجا» يتقدَّمهم … فجأة ظهر رجل ضخم اقترب من «موجا» فحيَّاه، ثم التفت «موجا» إلى الشياطين وهو يقول للرجل: أصدقائي. ثم إلى الشياطين: السيد «مولر»!
حيَّاه الشياطين، وتقدَّم الجميع. كانت هناك سيارة في انتظار «موجا» الذي قال: من سيركب معي ومن سيتبعُني؟
نظر الشياطين إلى بعضهم، إلا أن «مولر» قال: هناك سيارة أخرى خالية!
ركب الشياطين السيارة فانطلقت خلف سيارة «موجا» وعندما كانت تبتعد عن المطار كانت أضواء النهار تتحوَّل من الرمادي إلى الأزرق شيئًا فشيئًا. ثم بدأ الأزرق يتحوَّل إلى لونٍ أقرب إلى اللون الأبيض، ثم أخذت أشعة الشمس التي لم تَظهر بعد تُلوِّن الأفق بلونٍ برتقالي أخذ يزداد حتى ظهرت الشمس فغطَّت الوجود، وطوال الطريق كانت تظهر معالم الحياة شيئًا فشيئًا، وسار بعض الفلاحين في الطريق إلى مزارعهم.
ومن بعيد ظهرت مدينة «جنوة». غير أن السيارة لم تأخذ طريقها إلى المدينة. لقد كانت تبتعد عنها حتى إن «أحمد» سأل السائق وهو يُحاول أن يكون عاديًّا: هل الفنادق خارج المدينة؟
ولم يردَّ السائق، غير أن الصوت الذي ردَّ كان صوت «موجا» يتحدَّث من السيارة الأمامية.
قال «موجا»: أنتم ضيوفي هنا، وسوف تنزلون في قصري!
نظر الشياطين إلى بعضهم في هدوء، ولم يَنطِق أحدهم بكلمة. لقد حدَث ما لم يُفكِّروا فيه.