كشف التاريخ
يتنافى جميع ما أمطنا اللثام عنه حتى الآن تمامًا مع التعليم التقليدي على مدار القرن العشرين بأكمله، الذي يشير إلى أن جميع الطَّوَاعِين لم تكن نتاج مرض مُعْدٍ عاديٍّ. اعتقد الجميع أن الطاعون كان ينتقل عن طريق الفئران والبراغيث، لكن كما رأينا، اعتقد على الفور كلُّ من كان في أوروبا في القرن الرابع عشر أنه لربما تنتقل إليه هذه العدوى المريعة من شخص التقاه المرء، وقد استمر هذا الاعتقاد طيلة عصر الطَّوَاعِين (ولسبب وجيه، فالأدلة كانت أمام أعينهم) واستمر على مدار ما يزيد عن المائتي عام حتى نهاية القرن التاسع عشر.
بسبب الطبيعة المعدية للمرض، لعله كان ينتشر عن طريق أشخاص يبدون أصحَّاء في الظاهر ويأوون المرض، إلا أن الأعراض لم تظهر عليهم بعد. كان يُعد مثل هذا الشخص في الحقيقة سامًّا ومدمرًا، يتحرك ربما لأسبوع أو أسبوعين قبل مماته، والذي ربما يكون قد دمر أولئك الذين كان سيجازف بحياته كي ينقذهم … ناقلًا الموت إليهم، ربما حتى بقبلته وأحضانه الحانية لأطفاله.
يتضح من هذا أنه، على الأقل في القرن السابع عشر، فَهِمَ الناس البيولوجيا الأساسية للطاعون، وبالأخص، النطاق الزمني الذي يمكن أن ينقل المصابُ المرضَ خلاله، والخطر المحدد للعدوى الرَّذاذية. إن فهمهم لهذا دونَ المعرفة الطبية الحديثة يكشف بشدة عن قدرتهم على الملاحظة الموضوعية. ومع ذلك، سار الناس عكس المنطق السليم تمامًا على مدار القرن العشرين بأكمله؛ فقد جرى الاعتقاد دائمًا وعلى نحو قاطع بأن كافة الطَّوَاعِين كان سببها مرضًا يصيب القوارض يُدعى الطاعون الدَّبْلِي، وأن العدوى كانت تنتقل من الفئران إلى الناس عن طريق البراغيث. إن الفئران والبراغيث هي الاعتقاد الراسخ في كافة كتب التاريخ اليوم. بكل أسف لم ينتبه الناس جيدًا إلى ملاحظة ديفو.
يشرح هذا الفصل كيف تكَّون هذا التفكير المشوش ويصف الجدل العلمي العنيف الثائر الآن.
(١) الطاعون الدَّبْلِيُّ
يخفى على معظم الناس أن مرضًا مختلفًا تمام الاختلاف لطالما كان كامنًا في هدوء في الهند وأماكن أخرى من آسيا لقرون، وعادة ما كان هذا المرض فتاكًا متى ظهر لدى الإنسان، وقد تميز بتورم «الغُدَد» أو العُقَد اللمفاوية في منطقة الإبْط والمنطقة العليا من الفخذ، تلك الأورام التي كانت تُسمى دَبْل؛ فأُطلق على هذا المرض الطاعون الدَّبْلِي.
نحو نهاية القرن التاسع عشر، استشرى الطاعون الدَّبْلِي وصار مشكلة طبية خطيرة في الهند، وقد انتشر أيضًا على نطاق واسع في جنوب شرق آسيا. أُرسلت فرق الأبحاث، وبالطبع فالعالم مدين بالجميل لألكسندر يرسين — وهو عالم أحياء دقيقة فرنسي مولود في سويسرا — ولبعثة الطاعون الهندية؛ لما قدموه من بحث ممتاز في مجال التفتيش العلمي الذي أماطوا فيه اللثام بدقة متناهية عن البيولوجيا المعقدة للطاعون الدَّبْلِي والأساس العلمي له ومنشئه وأسبابه.
تدرب يرسين على يد باستير في باريس، ووصل هونج كونج عام ١٨٩٤ بناءً على تلبية لطلب استغاثة من المستعمرة المضروبة بالطاعون التي كانت راضخة تحت وطأة جائحة كبيرة. نظرًا لأن يرسين اشتغل بمساعدة محدودة جدًّا في كوخ من القش بناه بنفسه، حيث رفض المسئولون في هونج كونج توفير مختبر له، فإنه انحط إلى درجة رشوة حراس المشرحة ليسمحوا له بالدخول إلى الجثث التي خلفها الطاعون. برهن يرسين على نحو قاطع أن الطاعون الدَّبْلِي مرض يصيب القوارض، وينتشر من أحد القوارض إلى آخر عن طريق البراغيث. وقد أثبت أن مسار الوباء بين البشر يتوقف على عوامل كثيرة نتيجة لتعدد العوائل المُقحمة في الأمر، وأنه يختلف تمام الاختلاف عن وباء عدوى بسيطة تنتقل مباشرة من إنسان إلى آخر. أثبت يرسين أن عامل العدوى الذي ينتقل من الفأر إلى البرغوث ومنه إلى الإنسان هو بكتيريا، سمُيت «يرسينية طاعونية»: يرسينية نسبة إلى مكتشفها يرسين، وطاعونية على اسم المرض (الطاعون) الذي اعتُقد أن هذه البكتيريا تسببه.
لتجنب التشويش وسوء الفهم، نطلق الآن على أوبئة الموت الأسود وجميع الطَّوَاعِين اللاحقة «الطاعون النزفي» (لأن النزيف الممتد كان أحد الأعراض المهمة) لنفرق بوضوح بينها وبين الطاعون الدَّبْلِي.
إن العَرَض المميز (وإن كان غير قاطع) للطاعون الدَّبْلِي هو ظهور الدَّبْل. بمجرد أن أعلن يرسين نتائجه المهمة، أدرك الناس أن ضحايا الطاعون النزفي ظهرت عليهم أيضًا في بعض الأحيان أورام الغدد الليمفاوية. على ما يبدو فإن الناس افترضوا في الحال أن الطاعون الدَّبْلِي هو المسئول عن الموت الأسود. لم يكلف أحد نفسه عناء عَقْد مقارنة موضوعية بين المرضين، وطيلة القرن العشرين بأكمله كُتب هذا الرأي، الذي اكتفى بالاستناد إلى ظهور عرَض واحد، على ألواح مقدسة، وقُبِلَ عمومًا بلا نقاش.
لا ينبغي لأي عالم أن يبني استنتاجات أو يكوِّن افتراضات بِناءً على ملاحظة أو تجربة وحيدة؛ فما من طبيب يشخص مرضًا بِناءً على عرَض وحيد، وإنما بالأحرى سوف يفحص المريض بدقة متفقدًا جميع العلامات والأعراض، بل في الغالب سوف ينتظر نتائج المزيد من التحاليل المختبرية، وسوف يصنع قرارًا عندما يتمكن من رؤية الصورة الكلية. ينبغي أيضًا على العلماء والأطباء أن يكون لديهم استعداد لتغيير آرائهم إذا فشلت التجارب اللاحقة في التأكيد على فرضياتهم المبدئية، أو إذا لم يَسْتَجِبِ المريضُ للعلاج الموصوف.
بطبيعة الحال، كان هذا القَبول العمومي والمطلق — في نحو عام ١٩٠٠ — للرأي القائل بأن الطاعون النزفي لم يَزِدْ عن كونه سلسلة من أوبئة الطاعون الدَّبْلِي مناقضًا بالمرة للرأي الذي طالما اعتنقه الناس فيما مضى طيلة ٥٠٠ عام، وكان لا بد من معاودة كتابة التاريخ من جديد، ومِنْ نَسْج العديد من روايات الطَّوَاعِين المبالغ فيها من وحي الخيال أو حتى تعديلها، كيما تتفق مع قصة الطاعون الدَّبْلِي الجديدة.
بل حتى باحثون بارزون ساهموا في هذا التشويش، مثل عالم الميكروبيولوجيا البروفيسور شروزبري، الذي تعرضنا له من قبل، ففي عام ١٩٧٠ نشر أثناء تقاعده دراسة أكاديمية رائعة بعنوان «تاريخ الطاعون الدَّبْلِي في الجزر البريطانية». لقد بحث وجمع بدقة متناهية كل معلومة مرتبطة بالطَّوَاعِين في بريطانيا، وإن كان لم يَبْسُط دراساته لتغطي أوروبا القارِّيَّة، وكانت النتيجة مرجعًا موثوقًا به لجميع دارسي الطَّوَاعِين الجادِّين.
وكما تستنتج من العنوان، آمن شروزبري والجميع بقوة أن الطاعون الدَّبْلِي كان المسئول عن جميع الطَّوَاعِين في بريطانيا، ومع ذلك كان عالمًا متمرسًا بالإضافة إلى كونه ممارسًا كُفْئًا للطب. لقد رأى بوضوح أنه في الكثير من نوبات التفشي كان يستحيل من الناحية البيولوجية أن يكون الطاعون الدَّبْلِي هو السبب. لقد كان هو بالأخص يعرف، أكثر من أي شخص آخر، ماهية ما كان يتحدث عنه، ولعله كان أول من أشار إلى العيوب الكامنة في أساسات القصة المقبولة.
لقد بدأ باستبعاد (على نحو صحيح كما سنرى) احتمالية كون الكثير من الأوبئة طاعونًا دَبْلِيًّا، مشيرًا عادة (على نحو غير صحيح) أن داء التيفوس هو المسبب لها. عندما وردت الأنباء عن أوبئة في المناخ البارد (غير الملائم لانتشار الطاعون الدَّبْلِي)، رجح أن يكون هذا المناخ شتاءً معتدلًا. وعندما اكتشف أن السجلات أشارت إلى أن نحو ٥٠ بالمائة من السكان ماتوا على إثر الإصابة بالموت الأسود (وهي نسبة مرتفعة للغاية بالنسبة للطاعون الدَّبْلِي) اضْطُرَّ إلى اقتراح أنه من المحتمل أن السجلات كان مبالغًا فيها بشدة، وأن عدد الوفيات الحقيقي ربما اقترب من ٥ بالمائة (وهو تقدير منخفض على نحو غير معقول).
على أن شروزبري ظل مدافعًا صارمًا عن الرأي القائل بأن الكثير من الأوبئة في بريطانيا كانت نوبات تفشي للطاعون الدَّبْلِي، وأنه كان يندهش من النقد الذي قُوبل به تقييمه الأمين. على ما يبدو، لم تكن جريمته تتمثل في قَبول المستحيل، وإنما في الإشارة إلى عدم وجود ثغرات على الإطلاق في الفرضية المعمول بها، وأنه لم تكن كل الأوبئة نوبات تفشٍّ للطاعون الدَّبْلِي.
(٢) الموت الأسود: إعادة تقييم بيولوجية
الدكتور جراهام تويج هو عالم حيوان بارز تخصص طَوَال حياته المهنية في بيولوجيا القوارض بصفة عامة والفئران بصفة خاصة، وهو أحد الخبراء البارزين في العالم اليوم في بيولوجيا الطاعون الدَّبْلِي، وقد نشر كتابًا بعنوان «الموت الأسود: إعادة تقييم بيولوجية» عام ١٩٨٤، الذي جمع فيه بدقة جميع الأدلة. الكتاب يتضح تمامًا من عنوانه، فهو تقييم نقدي ودقيق للموت الأسود (لا يتناول الطَّوَاعِين التالية) قام به رجل مُحَنَّك، وهو يَخْلُص إلى أن هذا الوباء لم يَكُنْ ناجمًا عن الطاعون الدَّبْلِي. كان تويج أول شخص يدرك ذلك ويصرح به على الملأ. كان هذا بمنزلة عمل ريادي بارز.
لكن، وبكل أسف، تجاهل الناس هذا العمل بالمرة، واستمر مجرى الكتب والبرامج التليفزيونية التي تصف سلوك الفئران والبراغيث في أوبئة الطاعون في التدفق. قال المؤرخ آر إس براي ببساطة إنه «ثمة الكثير من الاعتراضات على بحث تويج وحصرها كلها أمر مضجر.»
يواصل جراهام تويج بكل فرح بحثه في مجال الطَّوَاعِين، وهو يصب تركيزه الآن على الأوبئة اللاحقة في إنجلترا. ويستمر في نضاله من أجل أن تلقى آراؤه المهمة قبولًا، ويكتب بانتظام أبحاثًا تعكس منطقه السليم وخبرته الواسعة من خلال نثره المنمَّق.
(٣) الخطوة التالية
لو كان صحيحًا الاعتقاد السائد بأن الطاعون الدَّبْلِي و«اليرسينية الطاعونية» كانا المسئولَيْنِ عن العدد الهائل من أوبئة الطاعون النزفي المريعة، فسيبطل سؤالُ: هل سيعود الموت الأسود أم لا؟ فالطاعون الدَّبْلِي لم يَنْمَحِ قَطُّ؛ فهو في واقع الأمر، منذ اكتشاف يرسين والطاعون الدَّبْلِي ينتشر في كل أنحاء المعمورة، وقد تعلمنا أن نتعايش معه. ثمة العديد من الحالات الفردية وبعض الأوبئة الصغيرة كل عام، لكن ما من سبب للخوف من نوبة تفشٍّ؛ فهو سهل العلاج إذا شُخِّصَ في الوقت المناسب، ولا يمثل تهديدًا للبشر.
لقد رأينا بالفعل أن الطاعون النزفي، المسبب للطاعون الأسود وطواعين أخرى، كان مرضًا معديًا ينتقل بالاحتكاك المباشر. في الفصل التالي، نشرح طبيعة الطاعون الدَّبْلِي، ونفحص إلى أي مدًى لا تتطابق الحقائق.