بيولوجيا الطاعون الدَّبْلِي: تناول الخرافة من منظور مختلف
أيها السيدات والسادة أعضاء لجنة المحلفين الموقَّرين، إن المتهم الرَّثَّ الهيئة الماثلَ أمامكم في قفص الاتهام مع حاشيته من البراغيث، هو السيد «فأر». ودائمًا ما كانت تُوجَّه إليه إصبع الاتهام طيلة القرن العشرين بأكمله بتهمة أنه المسئول غير المباشر عن الموت الأسود، أبشع مرض ضرب البشرية على الإطلاق. ولسوف أُثبت بالدليل القاطع أن موكلي جَرَى تلطيخ سُمعته بشدة، وأنه بريء تمامًا من التُّهَم المنسوبة إليه على نحو جائر منذ ١٠٠ عام. أطالب بإطلاق سَراحه طاهر اليدين.
عانى الإنسان من الطاعون الدَّبْلِي لمئات السنين، وبالأخص في منطقة الهضبة الآسيوية الوسطى التي اعتُبرت مسقط رأس المرض؛ حيث قيل إنه وقع هناك ٢٣٢ نوبة تفشٍّ في الصين ما بين عامي ٣٧ و١٧١٨ ميلادية. وقد أصبح مستوطنًا في إقليم يونان الصينية، وفي عام ١٨٥٥ أُرسلت قوات لقمع تمرُّد حدث هناك حيث انتشر بعدها مباشرة الطاعون الدَّبْلِي أكثر، ربما نتيجة لتنقل اللاجئين. وقد وصل عاصمة الإقليم كونمينج عام ١٨٦٦ ثم مدينتي كانتون وهونج كونج بعدها بثماني سنوات، وهو معدل انتشار بطيء إلى حدٍّ ما. ثم تحركت العدوى إلى الوراء نحو الهند عبر مدينة كلكتا عام ١٨٩٥ ونحو مومباي في العام التالي. وبدأت جائحة القرن العشرين الكبيرة. انتقل الطاعون الدَّبْلِي إلى القارَّتين الأفريقية والأمريكية، واستمر هناك وفي آسيا حتى يومنا هذا، مع أن الطَّوَاعِين اختفت من أوروبا نحو عام ١٦٧٠، منذ أكثر من ٣٠٠ عام.
(١) قوارض منيعة: المفتاح إلى فهم الطاعون الدَّبْلِي
الطاعون الدَّبْلِي هو مرض يصيب القوارض ولا ينتقل إلى الإنسان إلا من حينٍ لآخر أو على نحو عارض، والمفتاح إلى فَهْم هذا المرض يكمن في الفروق الواضحة أيما وضوح بين القوارض من حيث قابلية الإصابة بالعدوى عن طريق البكتيريا. الفئران معرَّضة بشدة للموت من اليرسينية الطاعونية، في حين أن قوارض أخرى مثل اليرابيع وفئران الحقل، مقاوِمة للطاعون، ويمكنها أن تنجو من العدوى دونَ الكثير من الضرر على ما يبدو. هذا الفرق له أهمية كبرى في تحديد استمرارية نوبة تفشٍّ لطاعون دبلي في إحدى جماعات القوارض؛ ذلك لأن المرض سوف يخمد إذا كانت جميعًا لديها قابلية شديدة للإصابة، في حين أنه يستمر في المناطق التي يوجد فيها توازن بين العوائل التي لديها قابلية للإصابة بالعدوى والعوائل المقاومة. على سبيل المثال: في كولورادو الوسطى مَحا المرض عن وجه الأرض تمامًا مستعمرةً معزولة من كلاب البراري عندما وصل إلى هناك؛ لأن الكلاب كان لديها قابلية كبيرة للإصابة وماتت جميعها. الدرس المستفاد هو أن الطاعون الدَّبْلِي يمكن أن يستمر لدى القوارض المحلية فقط إن كان يوجد بينها مستودع من الأنواع المقاومة.
(٢) أوكار الطاعون الدَّبْلِي
عادة ما ينتقل الطاعون الدَّبْلِي حول موانئ العالم عن طريق الفئران المصابة الموجودة على متن القارب. لدى وصول الميناء في الموضع المناسب، ينتقل المرض من الفئران عن طريق براغيثها إلى أنواع القوارض المحلية المقاومة، مثل اليرابيع أو السناجب الأرضية، وبهذه الطريقة يمكنه أن يستمر لفترات زمنية طويلة. ثم من حين إلى آخر ينتقل المرض على نطاق واسع وسريعًا إلى القوارض التي لديها قابلية للإصابة؛ مما يترتب عليه هلاك أعداد هائلة. في بعض هذه النوبات كانت تُكدس الفئران الميتة أكوامًا في عربات، وغالبًا ما كانت جثثها من الأمارات الأولى على وجود الطاعون الدَّبْلِي في المنطقة.
إن التوزيع الجغرافي للقوارض (باستثناء الفئران) التي ورد إصابتها بعدوى اليرسينية الطاعونية مهم للغاية:
أمريكا الشمالية | ٥١ |
أمريكا الجنوبية | ٤٢ |
آسيا (باستثناء الهند) | ٤٤ |
أفريقيا | ٤٤ |
الهند | ١١ |
أوروبا | ٠ |
إبَّان القرن العشرين، أشار تطوير واستخدام سفن بخارية أسرع إلى أنه أمكن نقل الطاعون الدَّبْلِي بسهولة أكثر إلى الموانئ في أنحاء المعمورة قبيل موت جميع الفئران الموجودة على متن السفن؛ ومن ثم انتشر المرض من آسيا، وصار مستوطنًا في أمريكا الشمالية وأمريكا الجنوبية وجنوب أفريقيا.
النقطة الضرورية هنا هي أنه على الرغم من هذه السهولة في الانتشار، فإن اليرسينية الطاعونية لم تَدُمْ قَطُّ في أي قوارض أوروبية (التي ليست منيعة)؛ ومن ثم لم يكن ممكنًا أن يكون الطاعون الدَّبْلِي قد استوطن هناك إبَّان عصر الطَّوَاعِين، والأهم أنه حتى لم يستوطن هناك في القرن العشرين حينما كان المرض منتشرًا في مكان آخر من العالم. ولا مفر من النتيجة النهائية: من المستحيل أن يكون الطاعون الدَّبْلِي هو السبب وراء الطَّوَاعِين النزفية في إنجلترا وأوروبا القارِّيَّة.
(٣) الفئران المخيفة
في أوروبا اليوم لا يوجد سوى نوعين من الفئران: الفأر البُنِّي والفأر الأسود. الفأر البُنِّي حيوان قوي، وهو الفأر الذي نراه عمومًا اليوم. والأهم من وجهة نظرنا أن هذا النوع من الفئران نشأ في روسيا في مطلع القرن الثامن عشر، ولم يَصِلْ إلى بريطانيا إلا بعد نحو ٤٠٠ عام على الموت الأسود، وبعد ٦٠ عامًا من آخِر طاعون؛ لذلك فمن المستحيل أن يكون لهذا النوع علاقة بانتشار الطاعون، بل ربما من المستبعد أن يكون له أي دَوْر محتمل في قصتنا.
من ناحية أخرى، ينحدر الفأر الأسود من حيوان نشأ غالبًا في الهند واستوطن في المنطقة الاستوائية في كل من البلدات والمناطق الريفية. ومع أن التاريخ الدقيق غير مؤكد، فيُعتقد أنه وصل إلى إنجلترا في وقت ما في العصور الوسطى.
إذا وصل هذا النوع من القوارض إلى أحد الموانئ في المنطقة الاستوائية حيث لا يوجد منافسون، فإنه ينتشر سريعًا. إلا أنه عند خطوط الاعتدال يقتصر وجوده على المباني لأنه في معظم أوقات السنة تكون درجة الحرارة بالخارج شديدة الانخفاض إلى حد لا يناسبه. وعلى عكس الفأر البُنِّي، يتمتع الفأر الأسود بقدرة عالية على التسلق، ويمكنه بسهولة الوصول إلى السفن التي كانت تحمله لأنحاء كثيرة من العالم، وهو يعيش في أسقف المنازل، لكن نادرًا ما يسكن الجحور أو الخنادق في الأرض.
في العصور الوسطى، ربما استطاع الفأر الأسود أن يحيا في مناطق جنوب فرنسا وإسبانيا وإيطاليا الأكثر دفئًا، ولربما تواجد في موانئ الحبوب بشمال فرنسا وجنوب بريطانيا، وإن كان بأعداد صغيرة فقط. ومن المحتمل أن تكون الفئران السوداء في بلدة من البلدات قد اختفت بعد بضع سنوات دون معاودة الوصول إلى هناك.
الموطن الأصلي لهذا النوع من القوارض اليوم هو منطقة البحر المتوسط، ويوجد في بعض الأحيان في إنجلترا في الموانئ، لكن لا ينتشر عادة لأكثر من بضعة كيلومترات برًّا. اعتمدت جماعات الفئران في بقائها في إنجلترا في القرن العشرين على استكمال التعبئة المتكرر عن طريق الاستيراد في شحنات، لكن مع توقف حركة التجارة بالقنال الإنجليزي وإحلال الحاويات محكمة الإغلاق محل الشحنات السائبة، بدأ الحيوان يختفي حتى من الموانئ لدرجة أنه بات من الثدييات النادرة في بريطانيا الآن. ولا تزال جماعات صغيرة موجودة في جزر لوندي بقناة بريستول وجزر شاينت في جزر هيبرايدز الخارجية.
كان الفأر الأسود النوعَ الوحيد من القوارض الموجود الذي كان بمقدوره حمل الطاعون الدَّبْلِي في أوروبا في العصور الوسطى، إلا أنه يحتاج الدفء المنبعث من المساكن البشرية ولا ينتشر بعيدًا عنها. حتى عندما يظهر الطاعون الدَّبْلِي في الإنسان في البلدان الدافئة، فإن المناخ يتحكم في انتشاره. من المستحيل أن يكون الفأر الأسود قد استطاع نقل الطاعون الدَّبْلِي بسرعة وعلى نطاق واسع في الشتاء.
(٤) ريف إنجلترا خالٍ من الفئران
واصل الدكتور تويج دراسته الدقيقة للفأر الأسود في إنجلترا إبَّان عصر الطَّوَاعِين وقد جمع أدلة في غاية الأهمية لم تُنشر من قبل تفيد بأنه لم ينتشر في المناطق الريفية. ونحن نُكِنُّ له الامتنان لأنه أخبرنا بمثالين على هذه الأدلة: لم يتغير مطلقًا تصميم أبراج الحَمَام في إنجلترا حتى عشرينيات القرن الثامن عشر، أي بعد اختفاء الطاعون بخمسين عامًا؛ إذ لم يَكُنِ الحَمَام عرضة لافتراس الفئران. على أنه لدى وصول الفأر البُنِّي وانتشاره في الريف، سُرعان ما اكتَشف كيف يخرب الأعشاش ملتهمًا كلًّا من الطيور وبيوضها، واضطر الناس إلى إعادة تصميم أبراج الحمام بحيث تكون مضادة للفئران.
لم يعانِ الفلاحون أيضًا من مشكلات الخسائر في الحبوب المخزنة حتى ظهور الفئران البُنِّية. وبُنيت مخازن الذرة المصنوعة من القش على الأرض، فبعد عام ١٧٣٠ تعين لأول مرة تخزين الحبوب في بنايات صُممت خاصة على شكل عش الغراب مضادة للفئران أُطلق عليها قواعد القش التي كان محفورًا عليها تاريخ إنشائها. يمكن تمييز انتشار الفأر البني بالتواريخ المحفورة على هذه القواعد الحجرية.
إن هذه أجزاء من دراسة أكاديمية رائعة تؤكد على استحالة نقل الفئران السوداء للطاعون الدَّبْلِي في أنحاء ريف إنجلترا إبَّان الثلاثة القرون التي ثار فيها الطاعون النزفي بحُرِّية.
(٥) الطَّوَاعِين في أيسلندا
رأينا أن الطاعون الدَّبْلِي انتقل عبر البحر إلى أيسلندا وأنه كان هناك وباءان حادان وحقيقيان في القرن الخامس عشر. ومع ذلك من المعروف يقينًا أنه لم توجد فئران في الجزيرة إبان القرون الثلاثة من الطَّوَاعِين. فلم تظهر الفئران إلا بعد مئات السنين.
كان معدل الوفيات بين البشر مرتفعًا ولقي ٦٠٪ من السكان المبعثرين في أنحاء الجزيرة حتفهم في النوبة الأولى من الطاعون. وتوالت العدوى خلال الشتاء عندما كان متوسط درجة الحرارة ثلاث درجات مئوية تحت الصفر؛ ومِنْ ثَمَّ كان انتقال العدوى عن طريق براغيث الإنسان مستحيلًا. هذا الدليل وحده قاطع وحاسم؛ فمن المستحيل قطعًا أن يكون الطاعون الدَّبْلِي هو الذي سبب الوباءَيْن في أيسلندا.
(٦) غياب الفئران الميتة
كثيرًا ما ترددت أنباء عن أن بداية انتقال نوبة تفشي الطاعون الدَّبْلِي إلى الإنسان كان يُنذر بها ظهور الفئران الميتة في الشوارع، بأعداد قليلة ربما في إحدى القرى الصغيرة، لكن بملء عربات كثيرة كما في إحدى البلدات الريفية بجنوب أفريقيا. ومع ذلك، فثمة إجماع عام على أنه لم يَرِدْ ذكرٌ في أيٍّ من الروايات لأي حالات نُفوق من الفئران إبَّان أوبئة عصر الطَّوَاعِين في أوروبا. كان هناك تعليق واحد فحسب يقول: «أشار المؤرخون إلى أن الروايات المعاصرة تحذف أي ذكر لحالات نُفوق من الفئران»، لكنهم قرروا إغفال هذه النقطة الهامة.
(٧) سرعة الانتشار
في إنجلترا، وفي فرنسا بالأخص، كان الطاعون يقفز لمسافات كبيرة، كانت هذه المسافات تصل في بعض الأحيان إلى ١٠٠ ميل (١٥٠ كيلومترًا) في غضون بضعة أيام، دون حدوث نوبات تفشٍّ تخللية. وكما رأينا في أَبْرَشِيَّة مالبس بمقاطعة تشيشير عام ١٦٢٥، انتقل الطاعون مسافة ١٨٥ ميلًا (٣٠٠ كيلومترًا) من خلال شخص عائد من زيارة إلى لندن. وانتقل الموت الأسود من جنوب إيطاليا إلى الدائرة القطبية الشمالية في خلال ثلاث سنوات.
يتعارض هذا القفز السريع مع انتشار الطاعون الدَّبْلِي الذي يعتمد على نشاط القوارض المحدود. قدمت لجنة أبحاث الطاعون بالهند مثالًا على ذلك؛ إذ استغرق الطاعون الدَّبْلِي في عام ١٩٠٧ ستة أسابيع للانتقال مسافة ١٠٠ ياردة (١٦٠ مترًا). وفي جنوب أفريقيا في الفترة ما بين عامي ١٨٩٩ و١٩٢٥ كان يتحرك لمسافة تتراوح من ٨ إلى ١٢ ميلًا (من ١٣ إلى ٢٠ كيلومترًا) فقط في العام.
(٨) قوارض تعرضت لهجوم البراغيث
رأينا أن الطاعون الدَّبْلِي يستطيع أن ينتشر بين البراغيث والفئران والإنسان والقوارض المقاوِمة. من الواضح أن هذا المرض هو أكثر تعقيدًا مما ظننَّا. سنفحص الآن دور البرغوث.
البراغيث البالغة هي حشرات صغيرة عديمة الأجنحة لديها القدرة على التعلق عن طريق خطاطيف، وأرجلها ملائمة للقيام بقفزات كبيرة، وهكذا تنتقل إلى مختلف عوائلها. إن أجزاء فم البرغوث مصممة لثقب جلد الثدييات ذوات الدم الحارِّ الملائمة، حيث يُسَحب الدم بعدها مباشرة من وريد صغير إلى معدة البرغوث. يمتص البرغوث عددًا كبيرًا من البكتيريا في وجبة الدم التي يحصل عليها من أحد القوارض المصابة، التي تكوِّن عندئذ كتلة صلبة من خلال الانقسام السريع. عندما يهاجم البرغوث المصاب أحد القوارض الأخرى، تتجه اليرسينية مباشرة إلى مجرى دم العائل الذي تعرض للهجوم، وبهذه الطريقة تنتقل البكتيريا من كائن ثديي إلى آخر.
في الحياة البرِّية، يتوقف بقاء البرغوث على قيد الحياة على قدرته على التكاثر وتربية المزيد من البراغيث، الأمر الذي يتوقف بدوره على عوامل بيئية وعوامل أخرى. يمكن أن يضع برغوث الفأر من ٣٠٠ إلى ٤٠٠ بيضة تقريبًا (البرغوث البالغ هو ماكينة إنجاب فعلية)، لكن تضر درجة الحرارة والرطوبة في البيئة المحيطة بشدة بكل من البيض الموضوع ونمو اليرقات. تعتبر درجة الحرارة ما بين ١٨ و٢٧ درجة مئوية والرطوبة النسبية البالغة ٧٠٪ هي ظروف مثالية لوضع البيض، في حين أن درجة الحرارة الأقل من ١٨ درجة مئوية تعيق هذه العملية.
جمع جراهام تويج جميع البيانات الْمُناخية المتاحة لوسط إنجلترا في الفترة ما بين عامي ٩٠٠ و١٩٠٠ ميلادية، وبرهن أنه لم يحدث أن تخطَّى متوسط درجة الحرارة في شهري يوليو وأغسطس ١٨٫٥ درجة مئوية بحيث تكون مناسبة لفقس البيض. لم تَمُرَّ بريطانيا بمُناخ قادر على إيواء نوبات تفشٍّ موسمية منتظمة للطاعون الدَّبْلِي الذي تنقله البراغيث، حتى في شهور الصيف، وبالطبع ليس في الشتاء. في حقيقة الأمر، ربما لم تتوفر ظروف مناخية مواتية في أوروبا إلا في منطقة الجنوب الغربي، في المنطقة الساحلية للبحر المتوسط وشبه الجزيرتين الإيطالية والإيبيرية.
لا يمكن تقبل فكرة أن البراغيث استطاعت أن تتكاثر وأن الفئران السوداء كانت نشطة إبَّان الأوبئة في لندن واسكتلندا، وكذلك الحال في أيسلندا والنرويج القريبتين من الدائرة القطبية الشمالية. من الضروري أن نضع في الحُسبان أنه إبَّان العصر الجليدي الصغير، حينما كان الطاعون على أَشُدِّه، أكدت الظروف المُناخية أن تكاثر البراغيث كان مستحيلًا.
(٩) الطاعون الدَّبْلِي عند الإنسان
النقطة المهمة التي تأكدَتْ سابقًا هي أن الطاعون الدَّبْلِي مرضٌ طبيعيٌّ يصيب القوارض، ولا يصيب الإنسان إلا من حينٍ لآخَر أو على نحو عارِض من خلال لدغات براغيث الفئران «التي هجرت عائلها الطبيعي بعد موته.» وعليه، فظهور الطاعون الدَّبْلِي في الإنسان غير متوقع بالمرة. إذا شَرَدت إحدى القوارض البرِّية المصابة بالقرب من سُكنَى البشر، وعندئذ نقلت براغيثها مع الفئران التي تعيش في الجوار، فإن اليرسينية يمكن أن تنتقل من هذا القارض إلى الفأر، ومن الفأر إلى الإنسان. الفأر مجرد وسيط وليس مستودعًا للطاعون الدَّبْلِي؛ إذ يقتصر دوره على الموت ثم تمرير العدوى.
ثمة العديد من الطرق الأخرى التي يمكن أن يُصاب بها البشر، فعندما يخرجون — على سبيل المثال من أجل الصيد أو التنزه — ربما ينتقل إليهم الطاعون الدَّبْلِي مباشرة من البراغيث التي تعيش على القوارض البرية. عادة ما يحدث هذا النمط من العدوى على نطاق ضيق عند حبس الحيوانات أو سَلْخ جِلدها أو تناول القوارض البرية، وإن كان قد أُصيب في منشوريا بين عامي ١٩١٠ و١٩١١ نحو ٦٠ ألف صياد بالطاعون الدَّبْلِي من حيوان المرموط الذي كانوا يصطادونه من أجل الحصول على فِرائه، ومن حين إلى آخر يُصاب شخص بالطاعون الدَّبْلِي عند تناول لحم حيوان من الحيوانات المنزلية (مثل الماعز أو الجمل) التي كانت ترعى في منطقة يسكنها قوارض برية مصابة.
يلعب البرغوث دورًا محوريًّا في نشر الطاعون الدَّبْلِي بين عوائله المختلفة. ولا عجب في أن معدل وفيات البشر في نوبات تفشي الطاعون الدَّبْلِي منخفض نسبيًّا دائمًا؛ لأنه مرض يصيب القوارض وتنشره البراغيث على نحو عشوائي، في حين أنه عندما ضرب الطاعون الدَّبْلِي السكان المحليين في إنجلترا أو أوروبا القارِّية كانت الخسائر في الأرواح تصل في الغالب إلى نحو ٣٠ إلى ٤٠ بالمائة، وإن كان واردًا أن تكون هذه النسبة قد ارتفعت لتصل إلى ٦٠ بالمائة من السكان.
ثمة نوعان من الطاعون الدَّبْلِي لدى البشر: الدَّبْلِي والرِّئَوي (الذي سنتناوله على نحو أكثر تفصيلًا). في أي نوبة من نوبات التفشي بين البشر اليوم، يوجد مرضى الطاعون الدَّبْلِي في عنابر مفتوحة؛ فقد أُصيبوا من خلال البراغيث، وعمومًا هم غير ناقلين للعدوى للأشخاص الآخرين.
الدَّبْل هو عرَض مميِّز للطاعون الدَّبْلِي (لكنه لا يظهر في حال الطاعون الرِّئَوي) وقد سُمِّيَ المرض على اسمه. وهو كتلة متنوعة الأحجام تتكون من خلال تورم الغدة اللمفاوية التي توجد عمومًا في المنطقة العليا من الفخذ، إلا أن مكانه يعتمد على الموضع الذي لَدَغَ فيه البرغوث الإنسان، الأمر الذي يعتمد بدوره على شكل ملابس الضحية. يقول الدكتور إيه بي كريستي، الذي كتب تقريرًا دقيقًا عن الأمراض المعدية إن الفلاح الإندونيسي الذي لا يرتدي سوى سروال تحتي وقبعة، يمكن أن تلدغه البراغيث في أي مكان، وعلى الأخص ساقاه. أما المزارع الليبي الذي يرتدي حذاءً عالي الساق وبنطالًا قصيرًا لركوب الخيل وثيابًا فضفاضة متدلية، فيحتاج البرغوث أن يستخدم كل ما أُوتي من قوة للوصول إلى جلده، ولعل الذراع أو الرقبة أسهل في الوصول إليهما من الساق. عندما يُصاب المريض بالطاعون من سلخ جلد حيوان ما، ستكون الإصابة من خلال يديه وسوف يتكون الدَّبْل في منطقة الإبْط. أما إذا تناول لحم الحيوان، فربما تستقر البكتيريا على اللوزتين وسوف يتكون الدَّبْل في رقبته. من الواضح أن إصابة الإنسان باليرسينية الطاعونية مسألة عشوائية.
يظهر الدَّبْل في مرحلة مبكرة من المرض، في اليوم الأول أو الثاني، وعادة ما يكون مؤلمًا ولينًا للغاية. في المرضى الذين يعيشون لفترة طويلة بما يكفي أو يظلون على قيد الحياة، ينفتح الدَّبْل ويفرغ الصديد.
ثمة تنوع كبير في بَدْء المرض ومساره؛ إذ ربما يكون طفيفًا على نحو لا يمكن ملاحظته أو ربما يظهر بقوة. والأهم أن فترة الحضانة عادة ما تتراوح ما بين يومين إلى ستة أيام فقط بعد الإصابة، وهي مدة مختلفة بدرجة كبيرة عن التقدير الذي استنتجناه عن الطاعون النزفي.
لقد فحصنا تقريرًا تشريحيًّا لبَحَّار لَقِيَ حَتْفَه على إثر الإصابة بطاعون دَبْلي فِعْلي عام ١٩٠٠، ولاحظنا أن الأعضاء الداخلية لم تُظهر سوى أمارات محدودة على موت أنسجتها. ستتجلى أهمية هذه النقطة فيما بعد عندما نتناول تقارير التشريحات المبدئية لجثث المتوفين بسبب الطاعون النزفي في القرن السابع عشر.
(١٠) الطاعون الرئوي: نسخة مختلفة فتاكة من الطاعون
في نحو ٥ بالمائة من حالات الطاعون الدَّبْلِي، قبل أن تموت الضحية تصل البكتيريا إلى الرئتين، وإذا عاش المريض لوقت طويل للغاية فإنه يسعل البكتيريا في بَلْغَمه. وأي شخص في احتكاك مع المريض ربما يستنشق البكتيريا ويُصاب بالطاعون الرِّئَوي. منذ ذلك الحين فصاعِدًا، يمكن لمريض واحد أن ينقل مباشرة إلى شخص آخر عدوى الطاعون الرِّئَوي بنفس الطريقة وبدون تدخل بُرْغوث واحد. ويكون بَدْء المرض مباغتًا وحادًّا، والأهم أن المرض يقهر الضحية سريعًا وتموت في اليوم الثالث تقريبًا، ولا تعيش أبدًا بعد اليوم السادس. إن الطاعون الرِّئَوي دونَ العلاج الطبي الحديث فتاك دائمًا.
إن الفهم الكامل للطاعون الرِّئَوي له أهمية خاصة لدى فحص الطَّوَاعِين في أوروبا؛ إذ لم يكن بمقدور الطاعون الدَّبْلِي أن يقفز فجأة لمسافات بعيدة في مُناخ بارد حيث لا توجد أنواع مقاوِمة من القوارض ولا براغيث نشطة، إنما فقط فئران سوداء خاملة لنقل المرض. لهذا السبب زعم كثيرون أن عدوى الطاعون الرِّئَوي التي تنتقل مباشرة من شخص إلى آخر كانت السبب وراء أوبئة طاعون أوروبا.
إلا أنهم يتجاهلون ثلاث نقاط مهمة؛ أولًا: ثبت بكل وضوح أن الطاعون الرئوي لا يمكن أن يحدث دونَ الطاعون الدَّبْلِي وأنه لا يمكن أن يستمر بمعزل عنه. وعليه فلا تزال جميع الاعتراضات على وجود الطاعون الدَّبْلِي قائمة. في الغالب أدَّت الإصابة بالطاعون الرئوي إلى استفحال أعداد الوفيات الناجمة عن نوبات الطاعون الدَّبْلِي على نحو ملحوظ، إلا أن تأثيرها الرئيسي انحصر بين أفراد العائلة، والعائلة التي اعتنت بالمريض، والجيران الذين وفدوا لزيارته.
ثانيًا: ثمة إجماع عام على أن الفترة الفاصلة ما بين بدء الإصابة والموت بسبب الطاعون الرئوي قصيرة، ربما نحو ٥ أيام، بل إن المريض يكون معديًا لفترة أقصر. ومن المستبعد أن شخصًا أصابه المرض الشديد، وسرعان ما أُنهك تمامًا لدى إصابته بالطاعون الرئوي، ولم يكن بينه وبين الموت سوى ثلاثة أيام، كان بمقدوره أن ينشر المرض عبر مسافات طويلة سواء برًّا أو بحرًا؛ ونتيجة لذلك، ستكون نوبة تفشي الطاعون الرئوي قصيرة الأمد، وسرعان ما يندثر الوباء. وهذا عكس ما رأيناه تمامًا في منحنى الجرس لوباء الطاعون الدَّبْلِي طويل الأمد.
ثالثًا: يستبعد ظهور الدَّبْل إبَّان طواعين أوروبا احتمالية أن الطاعون كان رِئَويًّا لأن الدَّبْل لا يظهر في هذا النوع من الأمراض.
(١١) هل كان بُرْغوث الإنسان هو المسئول؟
خَطَرَتْ لمؤرخين آخرين ممَّن قَبِلوا على مَضض أن الطاعون كان ينتقل مباشرة من شخص إلى آخر فكرةً جديدة، فقد زعموا أن الطاعون الدَّبْلِي كان ينتشر عن طريق براغيث الإنسان. لكن مع أن انتقال العدوى عبر هذا المسار ممكن ويحدث بالفعل، فإنه أقل فعالية من مسار براغيث الفئران بدرجة كبيرة، لدرجة أن جميع الاعتراضات الموجهة نحو تورط البراغيث التي حصرناها سابقًا لا تزال سارية، بل وبدرجة أكبر.
على أي حال، لا يذكر مؤيدو هذا الاقتراح بعيد الاحتمال، الذي يبدو مثالًا على محاولة طَرْق كل الأبواب حتى تلك المستبعدة، كيف حدث أن أُصيبت براغيث الإنسان ببكتيريا «اليرسينية الطاعونية» في المقام الأول. لو كانت قد أُصيبت بها من وباء مبدئي للطاعون الدَّبْلِي العادي مع القوارض المقاوِمة والفئران والبراغيث، لانطبقت كل الحجج المطروحة سابقًا، مع تعقيدات إضافية غير ضرورية تجعل هذا السيناريو مستبعدًا أكثر.
(١٢) استمرار خرافة
-
انعدام القوارض المقاوِمة في أوروبا.
-
عدم وجود فئران في ريف إنجلترا.
-
الطاعون الدَّبْلِي ينتشر ببطء شديد.
-
درجة الحرارة قارسة البرودة على أن تعيش فيها البراغيث.
-
وَفَيَات الطاعون الدَّبْلِي منخفضة للغاية.
-
انتشار الطاعون الدَّبْلِي كان مستحيلًا في ظل الظروف المناخية بأيسلندا.
لماذا استمرت إذن نظرية الطاعون الدَّبْلِي؟ لا يملك معظم المؤرخين معرفة مفصلة بالبيولوجيا المعقدة للطاعون الدَّبْلِي؛ ولهذا السبب خصصنا فصلًا كاملًا لشرح التفاعلات بين البراغيث والقوارض المقاوِمة والفئران والإنسان والبيئة الضرورية لحدوث وباء بهذا المرض.
قليلون هم مَنْ دَرَسوا نوبات تفشي أوروبا القارِّية إلى جانب تلك التي وقعت في إنجلترا. على سبيل المثال، لو أن البروفيسور شروزبري قد درس الطَّوَاعِين في أوروبا، لما كان قَطُّ ليصف البعض منها بأنه داء التيفوس، وما كان قَطُّ ليقدِّر الخسائر في الأرواح إبَّان الموت الأسود بخمسة بالمائة فقط، إلى حد أنه اضْطُرَّ إلى فعل ذلك كي يبرر اعتقاده بأن الطاعون الدَّبْلِي كان العامل المعدي.
عندما أعلن يرسين عن نتائج أبحاثه البارزة، كان من السهل جدًّا أن يقفز الأفراد إلى استنتاج أن اليرسينية الطاعونية هي المسئولة أيضًا عن جميع طواعين أوروبا دون أن يكلفوا أنفسهم عناء فحص الأدلة والحقائق بموضوعية. ما إن قرر المؤرخون، فإنهم تمسكوا برأيهم بكل عِناد، وقَبِلَ الجميع رأيهم بلا نقاش طِيلة القرن العشرين بأكمله.
مع توافر جميع الأدلة أمام أعيننا، فمن المستحيل التمَلُّص من استنتاج أن الطاعون النزفي ليس له علاقة بالطاعون الدَّبْلِي. وفعليًّا، بخلاف حقيقة أن ضحايا كلا المرضين عانوا من تضخم الغدد وأورام تحت الجلد، فآخر ما يمكن الإشارة إليه بإصبع الاتهام على أنه العامل المعدي للطاعون النزفي هو اليرسينية الطاعونية. لقد رفضنا بشكل قاطع احتمال أن يكون للطاعون الدَّبْلِي أي دور في قصتنا. ومع ذلك، فهل تفشى المرض على نحو متقطع، وإن كان لفترات قصيرة، في مناطق مناسبة من أوروبا؟