تحليل الدي إن إيه: صرف الانتباه عن القضية الأساسية
كان الطاعون النزفي، منذ عام ١٣٤٧ حتى نحو عام ١٦٧٠، قاصرًا على أوروبا، ومن حين إلى آخر على سواحل شمال أفريقيا. من ناحية أخرى، كان الطاعون الدَّبْلِي منتشرًا ومستفحلًا في أنحاء آسيا والشرق الأوسط إبَّان الثلاثة قرون التي كان فيها الطاعون الغامض محكِمًا قبضته على أوروبا. في الواقع، تغلغل حتى وصل إلى أعتاب أوروبا. ندرك الآن أن الطاعون الدَّبْلِي لم يكن من الممكن أن يُرَسِّخ أقدامه بإحكام هناك؛ حيث إنه لم تكن توجد قوارض مقاومة بإمكانها أن تشكِّل مستودعًا دائمًا للمرض، بالإضافة إلى أن الظروف المُناخية لم تَكُنْ مُواتية بالمرة في أنحاء الكثير من هذه المنطقة الواسعة كما رأينا. وهكذا كان لكلا الطاعونين معاقل منفصلة.
إلا أنه ثمة استثناء واحد: كان جراهام تويج أول من أظهر أن مُناخ ودرجة حرارة سواحل البحر المتوسط كانتا مناسبتين لتكاثر البراغيث إبَّان الصيف. فحتما كانت السفن القادمة من بُلدان شرق البحر المتوسط وشمال أفريقيا تجلب بانتظام الفئران السوداء المصابة بالطاعون الدَّبْلِي إلى موانئ إيطاليا وإسبانيا وجنوب فرنسا إبَّان عصر الطَّوَاعِين. هل رست أي من هذه الفئران على الشاطئ وتسببت في وباء سريع وسط الفئران السوداء المحلية والقوارض الأخرى التي لديها قابلية للإصابة؟
عقدنا العزم على فحص سجلات الموانئ المحتملة، واكتشفنا أنه كانت توجد بالفعل أدلة على نوبات تفشٍّ صغيرة للطاعون الأسود بمحاذاة سواحل البحر المتوسط.
في إيطاليا أطلقت السلطات الصحية للدول-المدن الشمالية على هذه النوبات للطاعون الدَّبْلِي «طواعين صغيرة» لتميزها عن «الطَّوَاعِين الكبيرة» (التي كانوا يأخذونها بجدية أكثر). كانت الأوبئة تبدأ في الموانئ، وفي بعض الأحيان تنتشر لمسافة محدودة برًّا، لكنها لم تستمر ولم يصبح المرض مستوطنًا قَطُّ.
ضربت إحدى عشرة نوبة طاعون دَبْلي على الأقل ميناء برشلونة على البحر المتوسط في الفترة بين عامي ١٣٧٠ و١٥٩٠، إلا أنها أسفرت عن وَفَيَات محدودة للغاية، وكانت تحدث على نحو متقطع. في القرن الخامس عشر كانت برشلونة مدينة عامرة بالتجار والملاحين والباعة والمحترفين، وكان لها تجارة مع جميع بُلدان المتوسط، وهكذا كانت تستقبل بانتظام أعدادًا كبيرة من الفئران السوداء والبراغيث المصابة. لم تنتشر الأوبئة لمسافة بعيدة برًّا أو إلى أية مدينة أخرى، والأهم أن الخسائر في الأرواح لم ترتفع إلى نقطة ذروة ثم تهبط بعد ذلك كما رأينا في أي وباء معتاد لمرض معدٍ. على سبيل المثال، شهدت نوبة التفشي التي وقعت في برشلونة عام ١٤٩٧ وَفَيَات فردية يوميًّا من شهر يوليو إلى سبتمبر، وهذا على العكس تمامًا من مسار الأحداث في الطاعون النزفي.
الموقف أكثر تعقيدًا ممَّا ظننَّا في البداية؛ فقد كانت توجد بلا شك أوبئة طاعون دبلي عارضة في موانئ البحر المتوسط أثناء تفشي الطاعون النزفي في أنحاء أوروبا. وحتمًا كانت قصيرة لأنها كانت تخمد بمجرد نُفوق جميع القوارض المحلية. لم تكن لأوبئة الطاعون الدَّبْلِي المحلية المتقطعة القصيرة الأمد هذه أهمية، مقارنة بالوفيات المرعبة والمعاناة التي تكبدها الناس جَرَّاء الطاعون النزفي، إلا أنها جعلت مؤرِّخي اليوم يشعرون بالمزيد من الحَيْرَة.
(١) طاعون دبلي مؤكد في مارسيليا عام ١٧٢٠
بعد مرور ٥٠ عامًا على اختفاء الطاعون النزفي تمامًا، عانى ميناء مارسيليا بفرنسا من وباء طاعون كبير جرى توثيقُه بعناية. لقد حللنا تسلسل الأحداث تحليلًا كاملًا ومن دون شك نقول: كان هذا وباء طاعون دبلي حقيقيًّا. وشتان ما بين نمط وتفاصيل نوبة تفشي الطاعون الدَّبْلِي وتلك التي للطاعون النزفي. من ثم كان اقتراح جراهام تويج بأن المُناخ والظروف في موانئ البحر المتوسط كانت مناسبة لإيواء «اليرسينية الطاعونية» بلا شك صحيحًا.
وحتى بالرغم من أن السلطات الصحية لم تشهد وباء طاعون كبير على مدار ٥٠ عامًا، فإنهم أدركوا ما يتحتم عليهم فعله؛ فقد وضعوا التدابير الراسخة القديمة للحجر الصحي الذي مدته ٤٠ يومًا و«أطواق الحجر الصحي» موضع التنفيذ. وفي نهاية المطاف أنشئوا أسوارًا دائرية لمسافة أميال كثيرة. بالطبع كانت هذه الاحتياطات غير مُجدية بالمرة لأنهم كانوا يتعاملون مع مرض لم يعرفوه من قبل. فلا يمكن مكافحة الفئران والبراغيث المصاحبة لها بأطواق صحية، ولا هي تخضع لأي نوع من أنواع الحجر الصحي. كان أهل مارسيليا مقدرًا لهم الموت الحتمي؛ فكل ما تعلموه على مدار ٣٠٠ عام من المعاناة من الطاعون النزفي كان عديم الجدوى أمام هذا العدو الجديد.
بحلول عام ١٧٢٠ كان الفأر البُنِّي قد وصل على الأرجح إلى الميناء وتكاثر بغزارة. في عام ١٩٦٦ روى ريموند روبرتس في أحد اجتماعات جمعية الطب الملكية أن الصيادين جمعوا في شِباكهم ١٠ آلاف فأر ميت في الميناء وجَرُّوا الجثث وألْقَوْها في البحر. يسلط هذا الضوءَ على معدل النفوق الهائل للفئران عندما تصيبها عدوى بكتيريا «اليرسينية الطاعونية».
في نهاية المطاف، تحرك الطاعون الدَّبْلِي نحو الخارج إلى ريف منطقة بروفنس، زاحفًا ببطء نحو القرى والضِّيَاع وبعض البلدات في المنطقة.
(٢) الجدل الثائر اليوم
«نرى أنه بمقدورنا حسم هذا الجدل: الموت الأسود الذي تفشى في العصور الوسطى كان طاعونًا دبليًّا.» هكذا كتب ديديير راؤول وميشيل درانكورت وزملاؤهما بجامعة البحر المتوسط بمارسيليا في أكتوبر عام ٢٠٠٠. وكانوا قد نقبوا هياكل عظمية عُثر عليها في قبور في منطقة بروفنس في السواحل الفرنسية المطلة على البحر المتوسط. وقد زعموا أن هذه الهياكل تخص ضحايا الطاعون الذين ماتوا في الموت الأسود في القرنين السادس عشر والثامن عشر. وقد استخرجوا عينات للحَمْض النووي من لُبِّ الأسنان، وبالاستعانة بأدوات البيولوجيا الجزيئية، زعموا أنهم اكتشفوا وجود اليرسينية الطاعونية.
هذه الأخبار محيرة للوهلة الأولى؛ فهي عكس كل ما أثبتناه. لكن يوجد عدد من الأسباب وراء إمكانية عدم أخذ تأكيدهم غير الناضج والقاطع في الحسبان بثقة.
(٣) التحقق من القبور المُنقبة
من بين الثمانمائة قبر الموجودة في هذا الموقع، يحتمل أن أربعة منها كانت قبورَ كوارث؛ لأنها احتوت على هياكل عظمية دونَ أكفان. أُرِّخت هذه القبور الأربعة على أنها حُفرت في الفترة ما بين القرن الثالث عشر وأواخر القرن الرابع عشر نظرًا لموقعها بأعلى سدٍّ يعود إلى القرن الثالث عشر، خلف جدار يعود إلى النصف الثاني من القرن الرابع عشر … وعليه فقد وضعنا افتراضًا مُفاده أن الهياكل العظمية الموجودة بهذه القبور هي هياكل ضحايا الموت الأسود.
ما من سبب يجعلنا نفترض بِناءً على هذا التنقيب الأثري المتراخي أن الهياكل العظمية كانت تخص ضحايا الموت الأسود بمنطقة بروفنس عام ١٣٤٨. كل ما يمكننا أن نخلص إليه هو أن الجثث دُفنت في وقت ما بين القرنين التاسع والسابع عشر.
اكتُشف ثاني قبر جماعي في بلدية لامبسك بمنطقة بروفنس. وقد احتوى على ١٣٣ هيكلًا عظميًّا و«تشير البيانات التاريخية إلى أن هذه الهياكل لضحايا مستشفيات حَجْر صحي قديم لطاعون دبلي، وقد دُفنوا في الفترة ما بين مايو وسبتمبر ١٥٩٠.» مرة أخرى، الأدلة التاريخية والأثرية ناقصة.
احتوى القبر الثالث على نحو ٢٠٠ هيكل عظمي دُفنت في مايو عام ١٧٢٢ في مارسيليا. كان هذا بعد اختفاء الطاعون النزفي بأكثر من ٥٠ عامًا، وكما رأينا كان هذا موقعًا لنوبة تفشي طاعون دبلي حقيقي، ولا عجب في العثور على آثار لبكتيريا اليرسينية الطاعونية لدى هؤلاء الضحايا.
(٤) هل تقنية اختبار الدي إن إيه يُعتمد عليها؟
في اجتماع للجمعية البريطانية لعلم الأحياء الدقيقة بمانشستر في سبتمبر عام ٢٠٠٣، أشار آلان كوبر، رئيس قسم الجزيئات الحيوية القديمة بجامعة أكسفورد، إلى أن تقنية تحليل الدي إن إيه التي استخدمها راؤول ودرانكورت كانت مَشُوبة بالعُيوب. علاوة على أنه يرى أن عملية شق الأسنان وكحت ما بداخلها، كما فعل الفريق الفرنسي، قد لوثت العينات بالبكتيريا. والأمر المريب، أن كل العينات الفرنسية تقريبًا احتوت على اليرسينية الطاعونية، وهو معدل نجاة مرتفع للدي إن إيه في مُناخ مونبلييه الدافئ.
إن مجال الدي إن إيه هو مجال سريع التطور اليوم، إلا أنه شابَ تاريخه مشكلات تلوث من الدي إن إيه الموجود دائمًا في يَدِ الإنسان والبكتيريا والمصادر الأخرى. على سبيل المثال، أسفر اختبار سِن لأحد رجال الفايكينج بجامعة أكسفورد عن مادة جينية من ٢٠ شخصًا على الأقل. ومما يزيد المشكلة تعقيدًا، أنه حتى العظام الحديثة نسبيًّا تحتوي على كميات صغيرة تكاد لا تُذكر من الدي إن إيه يصعب استخراجها.
لا يزال آلان كوبر مقتنعًا بأن دي إن إيه اليرسينية، الذي عثر عليه راؤول وزملاؤه في أسنان مأخوذة من جثث كانت مدفونة بمارسيليا وبروفنس، مسألة اكتشاف خاطئ نتيجة لتلوث عارض للعينات.
(٥) هل عُثِرَ على آثار لبكتيريا اليرسينية الطاعونية لدى ضحايا طاعون في أماكن أخرى من أوروبا؟
حلل آلان كوبر وزملاؤه، باستخدام تقنيات البيولوجيا الجزيئية التي يَرَوْنَ أنها مصمَّمة خاصة من أجل اليرسينية، ١٢١ سِنًّا من ٦٦ هيكلًا عظميًّا عُثِرَ عليها في خمسة قبور جماعية، منها قبر يقع في إيست سميثفيلد بلندن حُفر من أجل ضحايا الطاعون عام ١٣٤٩. وقد فحصوا أيضًا حُفر طاعون مشتبه فيها بأَبْرَشِيَّة سبيتالفيلدس بلندن، وفودروفسجارد بكوبنهاجن، ومدينتي أنجيه وفردان بفرنسا. لم تَحْتَوِ سِنٌّ واحدة على دي إن إيه بكتيريا يرسينية مميز.
يوضح كوبر أن نتائجه التي تنفي وجود اليرسينية لا تعد دليلًا على أن هذه الضحايا لم تَمُتْ من جَرَّاء الإصابة بالطاعون الدَّبْلِي فلربما لم تخترق البكتيريا الأسنان، أو لعل دي إن إيه اليرسينية لم يَنْجُ.
لا نشعر بأي نوع من الدهشة حِيالَ هذه النتائج الأخيرة؛ فنحن على قناعة بأن هؤلاء الضحايا قد لَقُوا حَتْفَهم على إثر الإصابة بمرض فيروسي هو الطاعون النزفي.
ولسنا مؤهلين للحكم على موثوقية تحليلات الدي إن إيه، ولكن حتى لو تكررت نتائج راؤول ودرانكورت وزملائهما وثبت صحتها، فإنها من المستحيل أن تُثبت بأي شكل من الأشكال أن «الموت الأسود كان طاعونًا دَبْليًّا». كان هذا المرض الذي يصيب الفئران يظهر، كما رأينا، من حين إلى آخر في مارسيليا والمنطقة المحيطة، وعليه فقد كان بقاء آثار اليرسينية الطاعونية ممكنًا.