الصلة المدهشة بين الإيدز والموت الأسود
عند اجتياح الموت الأسود للمرة الأولى عام ١٣٤٧، وتوغله في أنحاء أوروبا، يبدو أن كل شخص احتَكَّ احتكاكًا قويًّا بأحد المصابين أُصيب بالمرض ولَقِيَ حَتْفَه. يُعزى هذا إلى أن أحدًا لم يتعرض للمرض من قبلُ. بعدها بثلاثمائة سنة، وفي القرن السابع عشر، كانت هناك أدلة على أن في البلديات التي سبق أن ضربها الطاعون، تَشَكَّلَ لدى بعض سكانها نوعٌ من المقاومة المتأصلة. كما رأينا أن الصِّبْيان والخُدَّام في لندن، الذين كانوا وافدين من الريف والبلديات الإقليمية الصغيرة التي نادرًا ما كانت تشهد أيَّ موجة وباء كبيرة (إن كان هناك وباء من الأساس)، غالبًا ما كانوا أول من يصابون بالطاعون. على الناحية الأخرى، بدا أن نسبة السكان الذين كانت عائلاتهم تعيش في العاصمة لعدة أجيال، كانوا يتمتعون بشيء من المقاومة للعدوى.
يوضح الفحص الدقيق لسجلات الأَبْرَشِيَّة أن أشخاصًا كثيرين حَتْمًا كانوا في اتصال مباشر بالمصابين داخل المنازل لكنهم لم يُصابوا بالطاعون، ويشير هذا إلى أنه في ذلك الوقت كانت نسبة من العائلات، ولا سيما تلك التي كانت تقيم في لندن لوقت طويل، تتمتع بقدرة على مقاومة المرض. واصل صمويل بيبيس أعماله في لندن (وإن كان قد اتخذ بعض الاحتياطات الأولية) ولم يُصَبْ بالطاعون أثناء موجة التفشي الكبيرة في عامَيْ ١٦٦٥-١٦٦٦. وقد رأينا أن بعض الأشخاص في إيم وبنريث كانوا على اتصال مباشر مع الضحايا لكنهم لم يموتوا.
فكيف كانت آليةُ العمل في هذه الحالات؟ يمكننا الحُصول على بعض الأفكار المتعلقة بالوراثيات الجزيئية لمقاومة الطاعون منذ ٦٠٠ عام من مصدر مهم ومختلف إلى حد مثير للدهشة اليوم.
(١) فيروس نقص المناعة البشرية والإيدز
ليس من بيننا مَنْ لم يعرف عن وباء نقص المناعة البشرية، لكن ليس معلومًا على نطاق واسع أن نسبة كبيرة من الأشخاص من ذوي الأصول الأوروبية لا يُصابون بالمرض، حتى بعد التعرض المستمر له؛ فهم مقاوِمون لعدوى فيروس نقص المناعة البشرية.
عندما يدخل فيروس نقص المناعة البشرية الأساسي إلى جسم الإنسان، فإنه يستهدِف مباشرةً خلايا بيضاءَ بعينها في مجرَى الدم ثم يدخل إليها من خلال مركب جزيئي موجود على غشائها الخارجي يُطلق عليه باللغة التقنية المتخصصة «مستقبِل سي سي آر ٥». يعمل هذا المُستَقبِل كممر دُخول الفيروس (أو مدخل كيميائي له) إلى خلية الدم، وحالما يصبح الفيروس بداخل الخلية، يمكن أن يظل خاملًا لسنوات عديدة قبل أن تظهر أعراض الإيدز أخيرًا على الضحية. بَيْدَ أنه حالما يكون الفيروس بالداخل فإنه سرعان ما يبدأ في ممارسة أعماله الدنيئة، وسرعان ما تصبح الضحية مسبِّبة للعدوى لسبب غير معروف لأحد. هنا تكمن المشكلة الأساسية في مكافحة انتشار فيروس نقص المناعة البشرية. نعلم أن المرض له فترة حضانة طويلة بنحو استثنائي تُقاس بالسنين. يعمل مُستقبِل سي سي آر ٥ أيضًا كوسيلة لدُخول فيروس الجدريِّ الذي يسبب الورم المخاطي عند الأرانب، ويحتمل أن عوامل أخرى متعددة مُسببة للعدوى تستخدم هذا المُستقبِل نفسه كمدخل سوف تُكتشف قريبًا.
(٢) الطفرة دلتا ٣٢
وَرِثَ الأوروبيون الذين يتمتعون بمقاومة لعدوى فيروس نقص المناعة البشرية طفرةً جينية في مستقبِلات سي سي آر ٥ الموجودة على خلايا الدم البيضاء لديهم، التي من شأنها الحيلولة دون عمل المستقبِلات كممر لدخول الفيروسات. يُطلق على هذه الطفرة سي سي آر ٥-دلتا ٣٢، والأشخاص الذين وَرِثُوا زوجًا من هذه الجينات الطافرة من كلا الأبوين يتمتعون تقريبًا بمقاومة كاملة لعدوى فيروس نقص المناعة البشرية، في حين أن أولئك الذين لديهم نسخة واحدة فحسب من الطفرة يتأخر بَدْء ظهور أعراض الإيدز عليهم.
مع أن هذه الطفرة تحدث بمعدل كبير في الجماعات العِرْقية الآسيوية الأوروبية اليوم، فإنها منعدمة بين سكان أفريقيا جنوب الصحراء والهنود الحمر والجماعات العِرْقية الشرق الآسيوية. وقد يكون هذا هو السبب وراء الانتشار السريع لفيروس نقص المناعة البشرية في أفريقيا جنوب الصحراء، في حين ربما تأخر تقَدُّم حَمْل الطفرة في أوروبا.
(٢-١) متى ظهرت هذه الطفرة الواقية؟
متى ولماذا نشأت هذه الطفرة في المقام الأول؟ على أية حال، ظهر فيروس نقص المناعة البشرية/الإيدز لتنغيص عَيْش الجنس البشري فقط منذ بِضْعة عُقود (وهي مدة زمنية لا تُذكر من المنظور التطوري)، وعلى ما يبدو فإن الطفرة لم تَكُنْ ذات مِيزة انتخابية في سباق التطور البشري المحموم قبل هذا الوقت.
يمكن أن نعبر عن هذا بعبارة أخرى: أي طفرة جديدة تكون عُرضةً بنسبة كبيرة للتلاشي في غُضون بِضْع عشرات الأجيال لو لم تتمتع بمِيزة انتخابية واضحة في الأشخاص الذين يملكونها. إن حمل طفرة سي سي آر ٥-دلتا ٣٢ هو مِيزة واضحة اليوم؛ إذ يمنح الحماية من مرض فيروس نقص المناعة البشرية الفتَّاك. لكن تُرى ماذا كان يحتمل أن تكون فوائد حمل هذه الطفرة قبل ظُهور فيروس نقص المناعة البشرية/الإيدز وانتشاره في أنحاء العالم في القرن العشرين؟ من المستبعد جدًّا أن تكون طفرة مستقبِل سي سي آر ٥ التي لم تمنح مِيزة انتخابية للأفراد التي ظهرت لديهم قد تمكنت من الانتشار عشوائيًّا بين سكان أوروبا. بلغة مبسطة: إذا لم تقدِّم طفرةٌ جديدةٌ مِيزةً في الصراع من أجل البقاء، فإنها ستختفي في نهاية الْمَطاف من الجماعة.
قدَّر علماء البيولوجيا الجزيئية باستخدام تِقنياتهم البالغة التعقيد أن طفرة سي سي آر ٥-دلتا ٣٢ ربما ظهرت أول ما ظهرت في أوروبا منذ حَوَالَيْ ٢٠٠٠ عام. ثمة إجماع عام على أن معدل حُدوثها لا بد أن يكون قد ارتفع إلى النسب الحالية التي تشهدها أوروبا التي تبلغ ما بين ٥ إلى ٢٠ بالمائة بفعل حدث تاريخي وقع منذ حوالي ٧٠٠ سنة، الذي يحتمل أن يكون وباءَ مرض معدٍ استخدم نفس ممر الدخول الموجود على سطح الخلايا البيضاء، على غرار النوع الأول من فيروس نقص المناعة البشرية اليوم.
من الواضح أن الموت الأسود مرشح جيد لمثل هذه الكارثة؛ فالتوقيت مطابق لتوقيت ظُهور الطفرة، وثمة طرحٌ واسع النطاق وإجماع عام على أن الأشخاص القليلين الذين حالفهم الحظ في أوروبا إبَّان زمن الموت الأسود وكانوا يحملون طفرة سي سي آر ٥-دلتا ٣٢ قد نَجَوْا بحياتهم وأنجبوا أطفالًا حملوا أيضًا الجين الطافر. بلغ معدل حُدوث طفرة سي سي آر ٥-دلتا ٣٢ بين الأوروبيين في ذلك الوقت فردًا واحدًا في كل ٤٠٠٠٠ شخص تقريبًا. كل أولئك الذين لم يحملوا طفرة سي سي آر ٥-دلتا ٣٢ (الأغلبية العظمى) والذين كانوا على اتصال فعلي بأحد المصابين لَقُوا حَتْفَهم لا مَحالة. بهذه الطريقة، ارتفعت نسبة السكان الحاملين للطفرة ارتفاعًا هائلًا. ولعل بعضًا مِمَّن كانوا يحملون الطفرة أُصيبوا بالطاعون النزفي لكنهم تعافَوْا، وعاشوا ليقاوموا ليوم آخر، واستمروا في إنجاب أطفالٍ حَمَلَ معظمُهم طفرة دلتا ٣٢.
(٢-٢) مشكلة هذه الفرضية لنشأة طفرة دلتا ٣٢
-
لا تخترق بكتيريا مثل اليرسينية الطاعونية الخلية عبر المستقبِل سي سي آر ٥، ذلك الممر الذي تستخدمه بعض الفيروسات. يشير هذا إلى أن فيروسًا وليس بكتيريا هو المسئول عن الطاعون النزفي.
-
معدل الوفيات الناجمة عن الطاعون الدَّبْلِي منخفض دائمًا؛ ومن ثم فإنه معدل غير كافٍ لأن يكونَ ذا تأثيرٍ كبيرٍ في رفع معدل حدوث أي طفرة وقائية.
-
لا تحدث طفرة سي سي آر ٥-دلتا ٣٢ إلا بين الأفراد من ذَوِي الأصول الأوروبية، المنطقة الوحيدة التي اجتاحتها الطَّوَاعِين. على النقيض من ذلك، لا تظهر الطفرة لدى شعوب شرق آسيا، ولا شعوب أفريقيا جنوب الصحراء، ولا لدى الهنود الحمر، وهي المناطق التي كان الطاعون الدَّبْلِي متفشِّيًا فيها. وكلها أدلة إضافية — إن كنا بحاجة إلى المزيد من الأدلة — على أن الطاعون الدَّبْلِي ليس السبب وراء الموت الأسود.
(٣) أخيرًا: تفسير مقاومة الطاعون
وهكذا ثمة سببٌ وجيه وراء اقتراح أن وباء الطاعون النزفي الفيروسي إبَّان الموت الأسود مَنَحَ فجأة مِيزةً انتخابيةً قوية لتلك القلة القليلة المحظوظة من الأفراد الذين كانوا يملكون طفرة سي سي آر ٥-دلتا ٣٢، وبذلك رفع من معدل تكرارها بشدة. إلا أن هذا التفسير الشائع مُبسط أكثر من اللازم؛ فوباء واحد مثل الموت الأسود لم يَكُنْ بمقدوره أن يكون له مثل هذا التأثير واسع النطاق طويل المدى، لكنه أنذر بعصر الطَّوَاعِين. وفي رأينا فإن كل موجة متعاقبة من موجات التفشي على مدار الثلاثمائة عام التالية زادت على نحو ثابت عددَ الأفراد الذين وَرِثُوا طفرة سي سي آر ٥-دلتا ٣٢؛ فإن لم يَكُنِ المرء حاملًا الطفرة، فثمة فرصة كبيرة أن يموت لدى موجة انتشار المرض التالية.
إلا أن هذا لا يزال إفراطًا في تبسيط الموقف، فحالات التفشي الوبائي الكبرى للطاعون النزفي كانت قاصرةً في الأساس على مجتمعات يُنيف حجمُها على حدٍّ أدنى معين، وكانت هناك مناطق ريفية شاسعة من أوروبا تمارس الاقتصاد الزراعي غير المنظم، التي نادرًا ما كان الوباء يضربها، هذا إن ضربها من الأساس. أما ضُغوط الانتخاب الطبيعي القوية المستمرة التي تدفع إلى زيادة معدل تَكرار حُدوث طفرة سي سي آر ٥-دلتا ٣٢ فلا تعمل إلا في الحَضَر، ولا سيما في لندن؛ لأن الطاعون النزفي بات دائم الحُضور هناك بعد عام ١٥٨٠. نتيجةً لذلك، فلا بد أن التوزيع الإجمالي لطفرة سي سي آر ٥-دلتا ٣٢ في أوروبا لم يكن منتظمًا خلال القرن السابع عشر؛ إذ لا بد أن معدل الأشخاص الذين تمتعوا بقدرة على مقاومة المرض في الحضر كان يزيد بكثير عن النسبة الحالية التي تصل إلى ٢٠ بالمائة، ويقل عن ذلك هذه النسبة بكثير في المناطق الريفية.
ويُعْزَى المعدل الحالي لتَكرار ظُهور الجين الطافر في أوروبا إلى نسبة الاختلاط والهجرة الكبيرة على مدار الثلاثمائة والخمسين سنة الأخيرة منذ اختفاء الطاعون؛ عملية مساواة عامة اختفت في خِضَمِّها الفُروق بين حياة الريف وحياة الحضر.
كما رأينا، كان الطاعون موجودًا باستمرار في لندن عبر القرن السابع عشر مع حدوث موجات تفشٍّ كبرى على فترات زمنية غير منتظمة، وإن كانت نسب الوَفَيَات منخفضة نسبيًّا. وعليه فإنه مع معاناة سكان لندن من الهجمات الشرِسة للمرض، بالإضافة إلى انخفاض مستوى توطن العدوى، فإن ذلك يرجح أن نسبةً كبيرةً منهم كانوا يحملون الطفرة على الأغلب وكانوا مقاوِمين للمرض. انخفضت نسب الوفيات إلى أدنى من ١٥ بالمائة في ذلك الوقت، وغالبًا ما كان أولئك الذين يموتون جَرَّاء الإصابة بالطاعون في لندن خلال القرن السابع عشر من النازحين والغِلمان والخَدَم؛ فكل وباء أو مجاعة كانت تجلب معها موجات جديدة من المهاجرين السُّذَّج من الريف مِمَّن لم يَكُنْ لديهم مقاومة للمرض، وكانوا يشكلون جزءًا كبيرًا من الموتى خلال موجات تفشي الطاعون.
(٤) إرث إيم
أَتذْكُر قصةَ مارجريت بلاكوول — واحدة من أهل قرية إيم — التي نَجَتْ من الطاعون على ما يبدو بتناولها دُهْنًا دافئًا؟ زارت مجموعة من علماء البيولوجيا الجزيئية قريةَ إيم عام ٢٠٠١ وأخذوا عيِّنات من أفواه مائة شخصٍ من أهل القرية «مِمَّن أمكن تتبُّعُ أنسابهم إلى أقدم سَلَفٍ مُمْكِن» ووجدوا أن طفرة سي سي آر ٥-دلتا ٣٢ موجودةٌ في ١٤ بالمائة منهم، وهي على الأرجح نسبة تعلو قليلًا عن متوسط المعدل الأوروبي. والأهم من كل هذا أن جون بلانت — التي تعيش اليوم في إيم — هي سليلة مباشرة من فرانسيس أخو مارجريت بلاكوول الناجي من الطاعون، وتحمل طفرة سي سي آر ٥-دلتا ٣٢.
وقد فسرنا هذه المعلومات على النحو التالي: كانت مارجريت بلاكوول تحمل طفرة سي سي آر ٥-دلتا ٣٢، وقد أُصيبت بالمرض إلا أنها لم تَمُتْ منه كما رأينا، ولم يُصَبْ أخوها فرانسيس بالطاعون على الإطلاق، وكان مقاوِمًا تمامًا للمرض، وقد وَرَّثَ نُسَخًا من الطفرة إلى حفيدته جون بلانت.
غير أن قصة إيم الكاملة يَشُوبها الغُموض؛ إذ لم نستطع اقتفاء أثر أي بيانات مسجلة تشير إلى أن الطاعون قد ضرب إيم قبل عام ١٦٦٥؛ ومن ثم فلا توجد أدلةٌ على حَدَثٍ أدى إلى زيادة معدل حُدوث طفرة سي سي آر ٥-دلتا ٣٢ هناك. ونخلص من ذلك إلى أن العائلات في إيم (أو آباءهم) ممن كانوا مقاوِمين للمرض في زمن الطاعون كانوا قد تعرضوا للطاعون في وقت أسبق وفي مكان آخر ثم انتقلوا للعيش في القرية، ففي عام ١٥٣٨، كان الطاعون قد اجتاح بعنف قرية ثورب التي تبعد ١٨ ميلًا (٢٩كم) جنوبًا وكذلك ضيعة كوربار القريبة قبل ٣٠ عامًا من ذاك الوقت، كما اجتاح الطاعون مقاطعة دربي مِرارًا وتَكرارًا، بَدْءًا بالموت الأسود الذي صالَ وجالَ في أنحاء المقاطعة وسُجل انتشاره في قرية كريتش، التي تبعد ١٧ ميلًا (٢٧كم) إلى جنوب إيم. وعلى ما يبدو، كان الأب مومبسون مقاوِمًا للمرض، وقد ذُكِرَ أنه قد شهد الطاعون في مرحلة أسبق من حياته في مكان آخر.
هكذا حمل عدد من أولئك الناجين في إيم طفرة سي سي آر ٥-دلتا ٣٢؛ ومن ثم كانت نسبة الجماعة السكانية المقاوِمة للمرض تزداد في الجيل التالي؛ بَيْدَ أنهم لم يكونوا يتمتعون بمِيزة انتخابية لأن المرض اختفى الآن. وقد انتقل الأفراد إلى القرية لملء الفراغ البيولوجي، وعلى مدار الثلاثمائة عام التالية، فإن أعدادًا هائلة من كلٍّ من الأفراد المقاومين وغير المقاومين للمرض نَزَحَتْ وهاجرت إلى إيم. ونتج عن كل هذا الامتزاج وجود ١٤٪ من الأشخاص المقاومين للطاعون في إيم اليوم.
لم يَكُنْ أهالي قرية إيم محظوظين؛ ذلك أن الوباء هناك كان تقريبًا آخر موجة تفشٍّ للطاعون على الإطلاق. لقد نَجَوْا على مدار ٣٠٠ عام كونهم جمعًا قليلًا يقطنون منطقة نائية، لينال منهم الطاعون في ضربته الأخيرة.
(٥) ماذا حدث للطفرة بعد الطَّوَاعِين؟
ما إن اختفى الطاعون تمامًا من أوروبا بحُلول عام ١٦٧٠، حتى انتهى على ما يبدو أي نفع يعود على أي شخص من حمل الجين الطافر. وعليه، تغيرت الطفرة على الأرجح من طفرة مفيدة إلى طفرة لا تنفع ولا تضر، وعلى مدار الثلاثمائة عام التالية (وحوالي ١٢ جيلًا)، كان من المتوقع أن تنخفض تكرارية وُجودها بين السكان الأوروبيين بالتدريج، وتتأرجح نسبة تكراريتها اليوم ما بين ٥ إلى ٢٠ بالمائة، وهي نسبة أقل مما كانت عليه في القرن السابع عشر على الأغلب، إلا إذا كانت طفرة سي سي آر ٥-دلتا ٣٢ قد منحت حامليها المحظوظين مَزِيَّة انتخابية أخرى لا نعرفها …
في سبتمبر عام ٢٠٠٣، أُعلنت أنباء مذهلة ومثيرة. كانت عديد من التقارير السابقة قد طرحت فكرة وُجود صِلات بين الوقاية من فيروس الجدريِّ والوقاية من فيروس نقص المناعة البشرية؛ فالأفراد الأكبر سنًّا الذين قد حصلوا على تطعيم ضد الجدريِّ كانوا أقل عرضة للإصابة بفيروس نقص المناعة البشرية. والآن أثبتت التجارِب الأولية التي أجريت على خلايا الدم البشرية بجامعة جورج ميسن بولاية فيرجينيا أن التطعيم يحد من قدرة فيروس نقص المناعة البشرية على العدوى أربع مرات في المتوسط، كذلك يستخدم فيروس الورم المخاطي الجديريِّ، وهو ينتمي إلى عائلة فيروس الجدريِّ، مُستقبِل سي سي آر ٥ للدُّخول إلى خلايا الدم التي يستهدفها.
لدى اختفاء الطاعون، حَلَّ محلَّه الجدريُّ باعتباره الابتلاء المرعب، فهل من الممكن أن يكون حَمْلُ الأوروبيين طفرةَ سي سي آر ٥-دلتا ٣٢ في القرن الثامن عشر قد وفر لهم أيضًا حماية ولو جزئية على الأقل، سواء من عدوى الجدريِّ أو الموت بسببه؟ إن كان الأمر كذلك، إذن لبقيت الطفرة أو حتى زادت بقدر معقول حتى عام ١٩٠٠ عندما قُضي بنجاح على الجدريِّ في أوروبا. مما تقدم، ربما يُتوقع من المنظور التاريخي أن تكون الأجناس غير الأوروبية كانت عرضةً إلى حدٍّ بعيد للإصابة بالجدريِّ، فكلٌّ من السكان الأصليين للأمريكتين الشمالية والجنوبية قد ضربهم الجدريُّ بقوة عندما جَلَبَهُ إليهم الغُزاة الأوروبيون.
ومن ثَمَّ يدين هؤلاء الأوروبيون الأصليون الذين يتمتعون اليوم بالمقاومة لفيروس نقص المناعة البشرية لحُسن حظهم إلى حدث جيني تصادُفي في أجدادهم أمدَّهم بالحماية من الطاعون.