لماذا اختفى الطاعون النزفي فجأة؟
كان الطاعون في إنجلترا وفي أوروبا القارِّيَّة الشمالية يجتاز فصل الشتاء بصُعوبة، وكما بَرْهَنَّا، كان استمراره على مدار القرون معتمدًا بالكامل على الوُصول المتكرر للمصابين من فرنسا. اختفى الطاعون من اسكتلندا عام ١٦٤٩، وسرعان ما اندثر من إنجلترا بعد عام ١٦٦٦ لأنه لم يستطع أن يجتاز أشهر الشتاء، ولم يكن هناك المزيد من المصابين الذين يَفِدون من أوروبا القارِّيَّة لأنه اختفى من هناك. إذن فالسؤال المهم الآن هو: لماذا اختفى الطاعون أخيرًا من معقِله في فرنسا؟
في الغالب لا يوجد جواب وحيد لهذا السؤال، إنما بالأحرى لا بد أن مجموعة من العوامل — بعضها أهم من بعض — اتَّحدت معًا للقضاء على المرض من مستودَعه في فرنسا. من بعدها لم يَكُنْ هناك أمل للطاعون أن يعيش طويلًا، كانت المسألة مسألة وقت ليس أكثر.
(١) العصر الجليدي الصغير
صار المُناخ العالمي باردًا بدرجة كبيرة في القرنين السادس عشر والسابع عشر، واتسمت بداية العصر الجليدي الصغير بانخفاض نشاط البُقَع الشمسية، وزحف الكُتَل الجليدية، وانخفاض درجات الحرارة. ولم تبدأ فترة البُرودة الأساسية حتى عام ١٥٦٠، إلا أنه حتى في وقت سابق نحو عام ١٥٠٦، قاسى جنوب فرنسا من شتاء قارس وتجمد البحر المتوسط عند مارسيليا.
في أوروبا، كان شهر مارس هو الذي يعكس التغير المُناخي دائمًا تقريبًا. صار هذا الشهر باردًا شتويًّا مع سُقوط الأمطار الخفيفة، وغالبًا كان يسود الطقسَ في هذا الوقت من السنة مرتفعاتٌ جوية حاجزة ورياح شمالية. علاوة على أنه كانت تعقبه أشهر ربيع باردة وجافة، وكان شهر يونيو باردًا ورطبًا.
من ثم ربما كان استمرار المناخ البارد خلال الربيع وأوائل الصيف هو العامل المهم الذي كبح قدرة الطاعون على إعادة توطين نفسه بعد الشتاء؛ ومن ثم إخماد كثيرٍ من الأوبئة الوشيكة.
كانت هذه الظروف المُناخية الأشد بُرودة ستسهم في اختفائه من إنجلترا، لكن الأمر الأهم من أجل خدمة أهدافنا هنا هو أن هذه الظُّروف ربما حدَّتْ أيضًا من انتشار الطاعون وساهمت في زواله من جنوب فرنسا.
إلا أن ثلاثينيات القرن السابع عشر شذَّت عن النمط المناخي العام للعصر الجليدي الصغير؛ لأن الطقس كان دافئًا نسبيًّا إبَّان هذا العقد. كان هذا هو الوقت الذي كان فيه الطاعون في أوروبا القارِّيَّة في أسوأ حالاته — إذ انتشرت الأوبئة على نطاق واسع في فرنسا وألمانيا — في حين كانت أربعينيات نفس القرن هي الأكثر بُرودة على الإطلاق من بين كل عُقود عصر الطَّوَاعِين، وكان هذا هو الوقت الذي بات فيه المرض أقل حِدَّة بكثير، فلم يَكُنْ هناك سوى بضعة موجات تفشٍّ محدودة فحَسْبُ في القارَّة.
(٢) تدابير الصحة العامة
صارت السلطات الصحية في أنحاء أوروبا أكثر كفاءة بالتدريج في رصد المرض ومنع الأوبئة من الظُّهور والانتشار. بحُلول القرن السابع عشر، سرعان ما كان يجري التعرف على حالات الطاعون — حتى في الأقاليم — وتقديم التدابير المناسبة لها، التي شملت العزل في مستشفى مخصص لمرضى الوباء، والتطويق، والحَجْر الصحي.
أُنشئت خدمة استعلامات منتظمة غير رسمية بين البلدات، وكانت المراكب الداخلة إلى الموانئ، وكذلك الغرباء الذين يصلون يشكلون مثارًا لشكٍّ عارمٍ إذا كانوا وافدين من مكان كان معروفًا بانتشار العدوى فيه. وفي فرنسا كان يُشترط أن يقدِّم المسافرون شهادات صحية تثبت خلوَّهم من الأمراض قبل دُخولهم المدن.
لم تنجح هذه التدابير كثيرًا في احتواء الأوبئة، مع أنها قللت من معدل الوَفَيَات على الأرجح. ومع ذلك فلعلها ساعدت بعد عام ١٦٤٦ — عندما كان المرض ينحسر بالفعل في فرنسا — في تحجيم انتشاره إلى حد بعيد ومن ثم عجَّلت من اندثاره.
(٣) اختفاء الطاعون من بلاد الشام
إذا كانت هناك نقطة تمركز للطاعون في منطقة شرق المتوسط، فلعلها اندثرت بسبب انعدام وُفود المسافرين المصابين عبر وادي النيل الذين كانوا يجددون الطاعون ويعززونه. في ذلك الوقت، انعدمت الفرص لاستحضار المرض من جديد إلى جنوب فرنسا لتعزيز الأوبئة هناك.
(٤) تحسُّن التغذية
ربما أدى التحسن العمومي في التغذية — بالأخص في جنوب فرنسا — إلى زيادة قوة الجماعات السكانية وتحسين صحتهم وتعزيز أجهزتهم المناعية لتصبح قادرةً على مقاومة المرض. يضاهي هذا تقليل خُطورة السُّعال الدِّيكي في إنجلترا في القرن التاسع عشر، الذي ارتبط بوضوح بتحسن النظام الغذائي.
في فترة عامي ١٦٢٨-١٦٢٩، عَمَّتْ مجاعة شمال إيطاليا؛ إذ ارتفعت أسعار الحُبوب بشدة، وأعقب ذلك أكبر موجة تفشٍّ للطاعون على الإطلاق في أوروبا القارِّيَّة. بعد عام ١٦٦٢، انخفضت أسعار الحُبوب في فرنسا؛ مما أدى إلى تحسن تغذية الغالبية العظمى من السكان.
(٥) تطور مقاومة المرض
كان هذا أهم عامل أدى إلى اختفاء الطاعون؛ فبحُلول القرن السابع عشر، صار بعض سكان أوروبا المحظوظين إما مقاوِمين تمامًا وإما جزئيًّا للفيروس لأنه كان لديهم — كما رأينا — طفرة سي سي آر٥-دلتا ٣٢. كانت هذه النسبة من الأشخاص المحميين تزيد بمعدل ثابت على مرِّ السنين، وبالأخص في البلدات المهمة التي تقع على الطرق التجارية في فرنسا؛ فترتب على ذلك انخفاض عدد وكثافة الأشخاص الذين كان لديهم قابلية للإصابة بالمرض في هذه الأماكن الحيوية.
كي يتمكن وباء كبير من البقاء، فلا بد من توافر كثافة سكانية كافية من الأشخاص الذين لديهم قابلية للإصابة بالمرض. ومع ارتفاع أعداد الأفراد المقاوِمين، راحت الأوبئة في البلدات الكبرى في فرنسا تواجه صُعوبة متزايدة في الانطلاق وإنتاج موارد من المسافرين لنقل العدوى إلى أماكن أخرى، وهكذا فقد الطاعون نقطة انطلاقه في فرنسا. كانت هذه بداية النهاية المُفاجِئَة للطاعون النزفي.
(٦) نهاية عصر
لربما تضافرت هذه الزيادة المستمرة في نسب المقاومة في المدن الفرنسية مع العوامل الأخرى المدرجة سابقًا. وعلى ما يبدو فإنها أدت معًا في نهاية المطاف إلى اختفاء مفاجئ للفيروس. وكان يتعين أن تنكسر سلسلة العدوى نهائيًّا في غُضون عام كي يختفي الفيروس. بعدها لا يمكن للأوبئة أن تظهر إلا في أعقاب وُصول جديد للمرض من خارج أوروبا.