الموت الأسود يعبر القنال الإنجليزي
لطالما أنقذ القنال الإنجليزي بريطانيا من الغزو على مرِّ التاريخ، بَدْءًا من أسطول الأرمادا الإسباني ووصولًا إلى الحرب العالمية الثانية. وهناك داء الكَلَب، ذلك المرض المستوطن في البرِّ القارِّيِّ الرئيسي، لكن حتى مع وُجود نَفَق للقنال، فإنه لا يزال نادرًا في إنجلترا، إلا أن القنال الإنجليزي لم يَحُلْ دون وُصول الموت الأسود.
في عام ١٣٤٨، عاش شعب إنجلترا في ظل مجتمع إقطاعي، حيث عمل الفلاحون في أراضي عِلْيَة القوم. كانت القرى تتكون من أكواخ ذات أسقف مصنوعة من الأغصان ومُغَطَّاة بالجِصِّ، وكانت تتألف من طابق واحد وغرفة واحدة. وكانت هذه الأكواخ رطبة وباردة ومظلمة حيث لم تَكُنْ توجد مداخن أو نوافذ، وكانت الأرضيات مغطاة بالقش والطين، أما الأثاث فمنضدة مزدوجة الأرجل، وزوج من المقاعد الطويلة ثلاثية الأرجل، وفراش من القش أو أوراق الشجر.
وكان النظام الغذائي للأفراد مكونًا في الأساس من الثَّرِيد والجُبن والخبز الأسود، وبعض الخَضْراوات المزروعة في المنزل. إلا أن صيف هذا العام كان رَطْبًا على نحو غير طبيعي، وتعفَّن الشوفان والقمح والتِّبْن والقش في الحُقول بسبب الأمطار التي كادت لا تنقطع. انتشرت المخاوف من أن يكون المحصول ضعيفًا، ومن أن يكون في انتظارهم شتاء من القحط والجوع، لكنهم كانوا يجهلون أن عدوًّا أسوأ بكثير وشيك الظهور.
أغلب الظن أن الطاعون دخل بريطانيا من بلدة مالكوم ريجيس (يُطلق عليها الآن وايمث) بمقاطعة دورست، التي كانت آنذاك بلدة وميناء مهمًّا على الساحل الجنوبي، وإن كان يُعتقد أيضًا أن مدينتي بريستول وساوثهامبتون هما نقطة الدخول. وربما يكون قد أتى من جُزُر القناة، التي كانت مضطربة بالفعل، وكان الصيادون غير قادرين على دفع الضرائب لأنهم كانوا جميعًا قد أُصيبوا بالطاعون. جرى تأريخ وصوله في أيام مختلفة في الفترة ما بين يونيو ومطلع أغسطس عام ١٣٤٨.
مع أن ثمة قليلًا من الروايات المعاصرة عن الطاعون في بريطانيا (على عكس أوروبا القارِّيَّة)، فإن الشعور السائد بالكرب واليأس يتضح جليًّا في هذا السرد التاريخي لما وقع من أحداث:
سَطَّرتُ أنا الراهب جون كلاين من رهبنة الإخوة الأصاغر ومن دير كيلكني في هذا الكتاب الأحداث البارزة التي وقعت في زماني، والتي شهدتها بعينيَّ أو علمت بها من أشخاص موثوق فيهم. وخشية أن تندثر أمور جديرة بالتذكر مع الزمن، وتسقط من ذاكرة الأجيال الآتية بعدنا، أنا شاهد على هذه الشرور الكثيرة عندما أصبح العالم كله في قبضة إبليس، وسط الموتى منتظرًا قدوم الموت. بناءً على ما سمعت وتحَرَّيْت بحق، اختصرت كل هذه الأمور في كلمات. وخشية أن تَفْنَى الكلماتُ مع كاتبها، والعملُ مع صانعه، أترك هذه المخطوطة كي يُستكمل العمل الذي قمت به، إذا حدث وتصادف أن نجا أي إنسان، وفرَّ أي شخص من نسل آدم من بَراثِن هذا الوباء اللعين، وأكمل العمل الذي بدأته.
يمكن تحديد المسار العام لانتشار الموت الأسود من السجلات الكنسية التي تصف مدى السرعة التي تعين بها على الأساقفة في كل أسقفية أن يعينوا كهنة جددًا ليحلوا محل أولئك الذين لَقُوا حَتْفَهم. اجتاح الطاعون أول ما اجتاح دورست ثم صوَّب حِرَابَه غربًا نحو مقاطعَتَيْ ديفون وكورنوال مُسْفرًا عن عدد الوفيات المعتاد المرتفع، ثم شرقًا نحو مدينة ساوثهامبتون والمقاطعات الجنوبية. أما الصفعة التي تلقاها الشمال فقد كانت بمنزلة الضربة القاضية؛ إذ شق الطاعون طريقه في مقاطعة سومرست (حيث أُصيبت معظم البلدات) إلى ميناء بريستول حيث «قضى الأفراد نَحْبَهم كما لو كان الموت المفاجئ قد اختطف كامل قوة المدينة». «استشرى الطاعون هنا في بريستول عام ١٣٤٨ إلى الدرجة التي لم يستطع معها الأحياءُ في الغالب دفن موتاهم.» ثم واصل الوباء انتشاره إلى مدينة جلوستر حيث حاول السكان عزل أنفسهم بلا طائل؛ فقد وصل عدد الوفيات إلى نسبة صاعقة؛ حوالي ٩٠ بالمائة من السكان.
واصلت موجة الهجوم المدمرة زحفها إلى أكسفوردشير ومنها انتقلت عبر وادي نهر التيمز إلى لندن، حيث وصلها الطاعون في نوفمبر عام ١٣٤٨. في يناير التالي، أجَّل الملك البرلمان بسبب أن «وباءً فتاكًا استشرى فجأة في المكان المُشار إليه ومناطق الجوار، وكان قد ازداد حدة بصفة يومية؛ من ثم أُخذت المخاوف الشديدة في الاعتبار في سبيل سلامة أولئك الوافدين إلى هناك آنذاك.»
أورد روبرت من آفيزبيري أنه كان يجري دفن أكثر من ٢٠٠ جثة كل يوم في مدفن واحد في لندن، حيث كان قائمًا نصب تذكاري على شكل صليب مكتوب عليه أن أكثر من ٥٠ ألف جثة دُفنت هناك، مع أن هذا في الغالب هو على الأرجح مبالغة أخرى في الأرقام بعد انقضاء الحدث. وهكذا استمر عدد الوفيات الهائل، وسرعان ما اكتظت المدافن الموجودة بالجثث وجرى تخصيص وتدشين أراضٍ جديدة للدفن في منطقتَيْ سميثفيلد وسبيتل كروفت.
اجتاح طاعون لم يُسمع بمثله من قبل إنجلترا في هذا العام … يا للحسرة على مصابنا الجَلَل! قضى هذا الموت على جمع هائل من كلا الجنسين حتى إنه لم يتَبَقَّ أحد ليحمل الجثث إلى القبور. كان كل من الرجال والنساء يحملون أولادهم على أكتافهم إلى الكنيسة ثم يُلْقُون بهم في حفرة جماعية. كانت تنبعث من هذه الحفر روائحُ نتنة للغاية حتى إنه لم يَكُنْ أحدٌ يجرؤ على المرور بالقبور.
للأسف كانت هذه هي القصة المألوفة للموت؛ معاناة وحسرة.
يختلف المؤرخون حول إجماليِّ عدد الأفراد الذين لَقُوا حَتْفَهم جَرَّاء الطاعون في لندن؛ فقد أشار البعض إلى أن عدد الوفيات بلغ ١٠٠ ألف نسمة، إلا أن التقدير الأكثر منطقية يتراوح في الغالب ما بين ٢٠ و٣٠ ألف نسمة من الوفيات، من إجماليِّ عدد سكان تراوح ما بين ٦٠ و٧٠ ألف نسمة، وهو ما يتناغم مع معدلات الوفيات في المدن الإنجليزية الأخرى.
آنذاك انتشر الموت الأسود شمالًا على جبهتين رئيسيتين، الجانبين الشرقي والغربي من إنجلترا، وقد تلاقت الجبهتان وسط إنجلترا التي عانت خسائر فادحة في الأرواح.
اتسع نطاق الجبهة الغربية ليصل إلى جنوبي ويلز. في مدينة كارديجان كان معدل الوفيات هائلًا والخوف من العدوى عظيمًا، حتى إنه كاد يستحيل أن تجد أشخاصًا يشغلون وظائف معينة مثل شَمَّاس، أو موظف إداري (حاجب المحكمة أو مراقب) أو عَريف. من إجماليِّ ١٠٤ مستأجرين، مات ٩٧ فردًا أو فَرُّوا قبل منتصف الصيف. تحرك الموت الأسود أيضًا إلى أعلى الحدود بين إنجلترا وويلز ومنها إلى منطقة سنودونيا، وفي آخر المطاف وصل إلى جزيرة أنجلسي. في تلك الأثناء ساعدت الجبهة الشرقية — التي تبدأ على الأرجح من مدينة كامبريدج، ومنطقة إيست أنجليا التي ضربها الطاعون ودخول المزيد من الأوبئة عبر الموانئ التي تقع على الساحل الشرقي — في استفحال الطاعون هناك. انتقل أيضًا الطاعون عبر طريق جريت نورث رود إلى مدن يورك ودرم ونيوكاسل. وفي الغالب عَبَرَ الوباء جبال بيناينز سالكًا الطريق الروماني بمحاذاة سور هادريان، وهكذا وصل كارلايل.
حارب السير ويليام دو ويكبريدج إلى جانب الملك إدوارد الثالث في حرب المائة عام مع فرنسا، وقد ورث ضيعة كريتش (المعروفة باسم كارديل في المسلسل التلفزيوني «بيك براكتيس») بمقاطعة دربيشير. بعدما حلَّ الموت الأسود، كان هذا الرجل قد فقد خلال ثلاثة أشهر والده وزوجته وثلاثة إخوة وأختين وأخت زوجته. ما إنْ رحل الطاعون، حتى أصبح ثمن الأرض بخسًا للغاية، واستطاع السير ويليام أن يُبْرِم مجموعة من الصفقات الناجحة، حيث استفاد من هذا في وهب مَذْبَحين بداخل كنيسة كريتش، كانا كنيستين صغيرتين بداخل الكنيسة الكبيرة مخصصتين لإقامة القداسات اليومية على رُوح مؤسسهما.
وهناك قصة ذلك الفلاح الذي كان يقطن مقاطعة دُرَم وفقد كل أفراد عائلته في الوباء، فما كان من الرجل المسكين إلا أن جال لسنوات في أنحاء الريف بحثًا عنهم.
حتى ذلك الحين كان الطاعون قد تقدم بثبات نحو شمال إنجلترا عبر جبهات منفصلة بطول طرق التجارة، بمعدل انتشار يشير إلى أنه انتقل على الأرجح عن طريق المسافرين الحاملين للعدوى. لقد استنتجنا من فحص السجلات الكنسية أنه حالما كان يصل الطاعون إلى بلدة، فإنه كان يمكث بها نحو تسعة أشهر. إلا أن هذا النمط تغير بعد ذلك وبدأت الأوبئة تظهر حينذاك على نحو غير متوقع في أماكن متفرقة على نطاق واسع. من الظاهر أنه كان هناك نمطان من انتقال العدوى: أحدهما بطيء وتدريجي، والآخر غريب الأطوار وقادر على قطع مسافات طويلة. على الأرجح كان النوع الثاني من انتقال العدوى يحدث عن طريق مسافر على صهوة الجياد.
ظنًّا منهم أن قَصاص الله المريع قد انصَبَّ على الإنجليز، انضموا إلى القوات في غابة سيلكيرك وخططوا لغزو مملكة إنجلترا، إلا أن موتًا قاسيًا حلَّ بهم وحصد بوحشية أرواح الاسكتلنديين على حِينِ غِرَّة. وسرعان ما مات منهم خمسة آلاف شخص، وقرر البقية، المرضى منهم والأصحاء، أن يعودوا أدراجهم، إلا أن الإنجليز تعقبوهم وقتلوا جمعًا غفيرًا منهم.
تشتت الجنود المذعورون في أنحاء اسكتلندا، فمنهم من مات إلى جانب الطريق ومنهم من حمل العدوى معه إلى منازلهم.
كان هناك في مملكة اسكتلندا وباء وطاعون هائل انتشر بين الناس … منذ بدء العالم حتى العصر الحالي لم يُسمع بمثل هذا قَطُّ، ولم يوجد مثله في الكتب بغية توعية الأجيال القادمة؛ لأنه إلى مثل هذه الدرجة صبَّ هذا الطاعون جامَ غضبه على البشر، حتى إن نحو ثلث البشرية قضت نَحْبَها. علاوة على أنه، بسماح من الله، أدى هذا الشر إلى نوع من الموت غريب وغير مألوف، حتى إن لحم المريض كان ينتفخ ويتورم بطريقة ما، وبعده لا تستمر حياته سوى يومين على الأكثر … أصاب الأفرادَ خوفٌ شديد منه حتى إنه خشية العدوى لم يجرؤ الأبناء على رؤية آبائهم وهم في سكرات الموت، وكانوا يفرون كما يفر المرء من مجذوم أو أفعى.
أكد أندرو واينتاون، المعاصر لجون فوردون، أن اسكتلندا عانت بشدة:
انتقلت العدوى أيضًا إلى أيرلندا، وكان ذلك على الأرجح على متن قارب غادر من بريستول في خريف عام ١٣٤٨. الدليل التاريخي غير قاطع، لكن الطاعون ضرب دبلن بشدة، ومن هناك انتقل برًّا إلى داخل البلاد وبمحاذاة الساحل الغربي.
في شهرَيْ سبتمبر وأكتوبر (١٣٤٨)، وفَد مَطارنة وأساقفة وكهَنة ورهبان ونبلاء وغيرهم، النساء كما الرجال، بأعداد غفيرة من كل بقاع أيرلندا إلى مركز الحج. كانت أعدادهم غفيرة حتى إنه كان من الممكن في أيام كثيرة أن ترى آلاف الأشخاص محتشدين هناك، بعضهم أتى من أجل العبادة إلا أن البعض (الأغلبية في الحقيقة) أتوا خوفًا من الطاعون، الذي استشرى بشدة هناك. بدأ الطاعون بالقرب من دبلن في بلدتي هوث ودروهيدا. دُمرت هاتان البلدتان على نحو شبه تام وخلتا من سكانهما حتى إنه في دبلن وحدها مات ١٤ ألف نسمة في الفترة ما بين أغسطس وعيد الميلاد.
يصف أيضًا السرد التاريخي لجون كلاين الأعراضَ التي ظهرت على الضحايا: «مات كثيرون من الخراريج والبُثور والتقرحات التي ظهرت على سِيقانهم وعند آباطهم؛ آخرون ماتوا من آلام في الرأس، كما لو كانوا قد دخلوا في نوبة جُنون، وفريق ثالث ماتوا بعد أن تقيئوا دمًا.» ويقول: إن المرض كان معديًا للغاية حتى إن أولئك الذين لمسوا الموتى أو حتى المرضى، كانوا يُصابون بالمرض في الحال ويموتون. ويضيف قائلًا: إنه كان «يُحمل كل من التائب والكاهن الذي يتلقى الاعتراف معًا إلى نفس القبر.» هكذا كان الخوف والفزع من الطاعون حتى إنه «لم يجرؤ سوى قلة قليلة من الرجال على الإشفاق على الآخرين، وبالأخص زيارة المرضى ودفن الموتى.»
تصف قصة معاصرة أخرى الحُبوبَ السوداء الصغيرة والبقعَ الْمُزْرَقَّة على الصدر. كانت هذه الأمارة الخاصة والمميزة للطاعون، وكانت تُعرف باسم «أمارات الرب». دائمًا ما كان يتبع الموت ظُهورها. كان المرض «سريعًا في أداء مهمته؛ فاليوم الناس يتمتعون بوافر الصحة وغدًا موتى في القبور.»
ثمة خيط مشترك يجمع بين كل هذه الروايات؛ فنفس المرض بالتأكيد انتشر في كل مكان.
(١) عالمٌ تَرْتَعِد فَرَائصُه
قد تكون الرواياتُ التي رواها الناجون من الموت الأسود المقتبسة أعلاهُ مثيرةً في بعض المواضع، إلا أنها تتحدث إلينا بوُضوح عبْر القرون المتخللة، ناقلة شعورًا فعليًّا بالرعب والفزع اللذين استحوذا على أوروبا. يمكننا أن نتصور بسُهولة الهلع الذي يتملك الأفراد لدى العثور على بقع نزفية مخيفة أو أمارات الرب على صدورهم؛ إذ كانت هذه شهادة موتهم ونذيرًا بأربعة أو خمسة أيام من الآلام الْمُبَرِّحة والجُنون والهَذَيان.
كاد هذا الطاعون يجتاح عالمهم المعروف بأكمله. كانت درايتهم بالطاعون قليلة بحق، لكن هذا الوباء اللعين كان في طريقه لأن يمكث معهم طيلة الثلاثمائة سنة التالية. كانت هذه بمنزلة ضربة ساحقة لحضارتهم — حيث كان عصر النهضة قد بدأ انطلاقته — ضربة لم يُرَ لها مثيل من قبلُ قَطُّ، أو منذ ذلك الحين. لقد كانت حقًّا أكبر مأساة شهدها تاريخ البشرية، وكان العالم في طريقه إلى أن يتغير إلى الأبد.
ثمة حقيقة واحدة بَدَهِيَّة: أدرك الجميع من البداية أنه كان مرضًا مُعديًا بغيضًا. كان مألوفًا لهم أن يَرَوْا أمراضًا فتاكة غامضة، إلا أنهم لم يَرَوْا شيئًا مثل هذا من قبلُ قَطُّ. وقد اتخذوا في الحال خطوات لحماية أنفسهم؛ فقد فرُّوا، وحاول أفراد وبلدات بأكملها عزل أنفسهم، كما أنهم تجنبوا التواصل مع أيٍّ من المشتبه في إصابتهم بالمرض.
قرأنا مِرارًا وتَكرارًا عن أنه حتى الآباء تركوا أولادهم المحتضرين بلا عناية، وهو شيء يصعب تخيله. لكننا لم نواجه في حياتنا قَطُّ شيئًا يشبه الرعب الشديد الذي أصاب الناس جرَّاء الموت الأسود، ذلك المرض المعدي الذي ظهر دون سابق إنذار. لم يكن هناك علاج، ولا طريقة لتخفيف الآلام المُبَرِّحة، ولا مستشفيات نظيفة يموت فيها المرء بسلام، ولا مُسَكِّنات للألم، لم يَكُنْ يوجد أي شيء على الإطلاق يمكن للمرء أن يفعله. كان الناس خائفين وعاجزين تمامًا وهالكين لا محالة إذا احتَكُّوا بشخص مصاب.
هناك أيضًا الكثير من الروايات البطولية والتضحيات، روايات عن أشخاص ظلوا في أماكنهم ولم يَفِرُّوا، عن أطباء وممرضات اعتَنَوْا بمرضاهم وماتوا. والشيء الجدير بالملاحظة، فيما خلا بضعة استثناءات خاصة، أنه لم يحدث خرق كامل للنظام والقانون في إنجلترا.
من المحتمل أن يتفوق الإيدز على الموت الأسود باعتباره أسوأ جائحة في التاريخ. في القرن الرابع عشر اجتاح الموت الأسود أوروبا وآسيا مُودِيًا بحياة نحو ٤٠ مليون شخص. الآن بعد مرور قرابة السبعمائة عام، يكرر التاريخ نفسه؛ فبنهاية هذا العقد سيكون مرض نقص المناعة البشرية، أو الإيدز، قد حصد أرواح ٦٥ مليون نسمة. ومع أن الملاريا والسل يصيبان الآن أشخاصًا أكثر من مرض نقص المناعة البشرية، فإن تأثيرهما الاجتماعي والاقتصادي أقل وطأة من الإيدز.
هذه استهانة بتأثير الموت الأسود. لقد اكتشفنا الإيدز منذ ٢٠ عامًا، وخلال هذا الوقت انتشر ببطء في أنحاء العالم. وإجمالي عدد وفيات الإيدز بعد هذه المدة الذي بلغ ٤٠ مليون نسمة هو جزء بسيط فحَسْبُ من عدد سكان العالم اليوم الذي يبلغ مليارات. علاوة على أنه، بفضل العلم والطب الحديثين، أصبح مرض نقص المناعة البشرية/الإيدز مفهومًا تمامًا، ويمكن الاستدلال على وجوده بفحص عينات الدم. فلا هلع ولا غموض حول المرض؛ إذ نعلم أنه ينتقل من خلال الجماع الجنسي غير الآمن، ويمكن وقف انتشار الإيدز من خلال تغير واعٍ مستنير في السلوك الاجتماعي.
وعلى النقيض، أطاح الموت الأسود في ضربة واحدة بنحو نصف سكان أوروبا، وظل يضرب مرارًا وتكرارًا على مدار الثلاثمائة عام التالية. وكان الناس عاجزين تمامًا أمامه.
ولأن الدمار الذي سبَّبه الموت الأسود فاق قدرة الناس على الاستيعاب، فإنهم قبلوا بلا أدنى تشكك المرسومَ الذي أصدره البابا والكنيسة يعلنان فيه أن هذا الابتلاء هو عقاب من الله على كثرة خطاياهم، كما رأينا في بنريث. راج هذا المرسوم غير المجدي طيلة الثلاثمائة سنة التالية وبعدها. ذكر الكاردينال بول كورديس، رئيس مكتب الفاتيكان للمساعدات الإنسانية، في رسالة الصوم الكبير التي كان يقدمها نيابة عن بابا الفاتيكان في فبراير ٢٠٠٢، أن هناك سلطانًا إنجيليًّا لفكرة أن أولئك الذين يصابون بالأمراض يحدث لهم ذلك لأنهم أخطئوا؛ فقد أكد أن المرض هو عقاب على الخطايا، وأن الأفراد لديهم رغبة فطرية لأن يكونوا أصحَّاء ويظهروا بمظهر جيد.
(٢) ماذا عن الناجين من الموت الأسود؟
بعدما أيقن الناجون أن الطاعون رحل عن مدينتهم — في الغالب بعد انقضاء نحو ثمانية أشهر من وصوله — لا بد أنهم تنفسوا الصُّعَداء وكانوا على أعتاب عالم مختلف؛ ففي الغالب مات نصف أو ثلاثة أرباع سكان بلدتهم، وعلى حد علمهم حينها، كانت نفس القصة تنطبق في كل مكان آخر؛ فقد كانت هناك روايات لا حصر لها عن مدن الأشباح؛ حيث كان الناس في كرب شديد، لكنهم كانوا في الوقت نفسه يحاولون أن يلمُّوا شتات أنفسهم وأن يبدءوا حياتهم من جديد.
لقد انهار النظام القديم، وكان هناك الكثير من العمل الذي يتعين على الناس القيام به. بدايةً، تعين على الأفراد أن يعثروا على طعام؛ لأن الزراعة أُهملت في المقام الأول إبَّان محنتهم. لم تكن قد حُرثت الحقول أو بُذرت فيها البذور، وكان متوقعًا أن يكون المحصول محدودًا ذلك العام. لم يكن هناك قاطفو ثمار ليتم استئجارهم، وحتى الثمار القليلة تعفنت في الحقول. كما أُهملت تربية الحيوانات وكثير من البهائم شَرَدَتْ أو فُقِدَت.
بعد ذلك تعين التخلص من النُّفايات المرعبة؛ إذ كان لا بد أن يستمر دفن الجثث التي لا يزال بعضها متعفنًا في المنازل أو الحقول. هل كانت هذه الأجساد لا تزال مُعديَة؟ هل كان يمكن الإصابة بالمرض من ملابسهم أو من منازلهم التي ماتوا فيها؟ لم يكن مجديًا تمني إغاثة خارجية؛ فالجميع كان في نفس القارب، وسيحتاج الأمر وقتًا طويلًا قبل أن يبدأ أي شخص في موضع سلطة في حل المشكلة.
الأمر الجدير بالملاحظة أنه بعد أن مات نحو ٥٠ بالمائة من السكان على جَناح السرعة، سرعان ما تعافت أوروبا؛ إذ زحف الناس من الريف الذي لم يصبه الطاعون، وشغلوا المساحات الفارغة وفَلَحُوا الأراضي القابلة للاستزراع وشَغَلوا المنازل غير المأهولة، وسرعان ما عاد كل شيء إلى طبيعته؛ ظاهريًّا فقط.
(٣) ماذا نستنتج عن طبيعة هذا الوباء الكارثي؟
ما الخُيوط التي يمكن أن نضيفها إلى دفتر تحرياتنا؟ ثمة القليل نسبيًّا من المعلومات الموضوعية والكمية التي يمكن قَبولها بلا نقاش، إلا أن بعض الاستنتاجات عن الضربة الأولى واضحة. تحرك الموت الأسود من أقصى جنوب أوروبا نحو الشمال، حيث الدائرة القطبية الشمالية المتجمدة غير المواتية للسكنى، التي تبعد نحو ٢٢٠٠ ميل (٣٥٠٠كم)، في أقل من ثلاث سنوات، وهو معدل كبير للغاية في زمن كانت فيه وسائل المواصلات محدودة جدًّا. عَبَرَ الطاعون البحر إلى سواحل شمال أفريقيا وإلى إنجلترا وأيرلندا وإلى جُزر بعيدة عن الشاطئ. ظل الطاعون نشطًا في إنجلترا إبَّان الشتاء مع أنه تبين من فحصنا للسجلات الكنسية أنه انتشر على نحو أبطأ في هذا الوقت من السنة.
كان الطاعون عنيفًا للغاية بحيث يستحيل ردعُه، وقد حصد أثناء تقدمه أرواح نحو نصف سكان العالم الغربي المعروف، مخلفًا وراءه حضارة أوروبية مُدمرة بالكامل. ولم يتراجع قَطُّ، مهاجمًا من جديد بلدات كان قد ضربها من قبلُ، مع أنه واصل توغله خلف الخطوط الأمامية؛ فقد تقدم بلا هوادة للأمام وشمالًا.
كانت القصة نفسها في كل مكان؛ فكل وباء في كل مدينة اتخذ مسارًا مطابقًا وروَّع المواطنين وأثار هلعهم على النحو المتوقع. كان هذا المرض اللعين يفوق تمامًا قدرة الأفراد على الاستيعاب، وإن كانوا يدركون في الحال أنهم أُصيبوا به متى احتَكُّوا بشخص مصاب.
لقد سجلنا عددًا من التقارير عن أشخاص نازعوا الموت أو أُصيبوا بالمرض على نحو شبه فوري عند احتكاكهم بأشخاص مصابين. لا يتفق هذا مع أي مرض معدٍ معروف، ولا مع ما رأيناه في بداية استشراء المرض في بنريث، حيث كان قد مر ٢٢ يومًا منذ دُفِنَت أول ضحية (أندرو هوجسون) إلى أن ماتت الضحية الثانية. في هذه المرحلة من بحثنا، رأينا أنه من الأفضل أن نتجاهل هذه القصص إلى حين، وأن نفترض أن هؤلاء الضحايا قد أُصيبوا في وقت ما في الماضي، وحدث أنهم أدركوا هذه الإصابة على حين غرة عند تواصلهم مع شخص ينازع الموت.
لكن الطاعون من هذا الحين فصاعدًا قَلَّما يكون مرضًا عامًّا؛ فهو يتحول أكثر فأكثر إلى مرض من أمراض البلدات، وعندما يحدث أن يظهر في بلدة، فإنه عادة ما ينتشر في بقاع محدودة.
ما من تشكيك في قدرة المرض المرعبة على العدوى أو التدمير إبَّان استشرائه بلا هوادة، لكن ليس هناك أدلة تفسر سبب نجاة بضعة أفراد ممن احتكُّوا قبلًا بأشخاص مصابين. أكانت لديهم حصانة ضد المرض أم أنهم تعافَوْا؟ كان هذا أحد عناصر البحث التي نَوَيْنا اتباعها.
ظهر أحد الخيوط الضرورية من خلال دراسة السجلات الكنسية الخاصة بالإتيان بكاهن بدل من ذلك الذي تُوُفِّيَ إبَّان الطاعون في إنجلترا. ورغم أن هذه السجلات لم يَجْرِ إعدادها على نحو جيد، فإنها تفي بالغرض، وذات أهمية كبيرة؛ ففي جميع الأسقفيات الإحدى عشرة التي جرى تحليلها، لوحظ أن الوباء استمر في كل بلدية ثمانية أو تسعة أشهر. لا عجب في أنه كان سفاحًا شديد الفتك بالبشر.
عندما اختفى على ما يبدو الطاعون إلى الأبد في القرن السابع عشر، خلَّف وراءه كثيرًا من الأسئلة التي بلا أجوبة عن أكبر حدث كارثي في التاريخ، الحدث الذي هيمن على حياة أسلافنا من القرن الرابع عشر حتى القرن السابع عشر. ماذا كانت حقيقة هذا المرض المعدي الغامض؟ من أين جاء، ولماذا اختفى عام ١٦٧٠ عندما كان في ذروة قوته على ما يبدو ويفرض سطوته على أوروبا بضراوة؟