ما بعد الموت الأسود: حلقة الوصل الفرنسية
ما إن خمد الموت الأسود عند حواف الدائرة القطبية الشمالية واختفى على ما يبدو، حتى ظن الناس أنه ربما يكون قد اندثر إلى الأبد. للأسف لم يكن هذا هو الحال؛ ففي العام التالي، ١٣٥١، وردت أنباء عن ظهور الطَّوَاعِين في ١١ مكانًا على الأقل (منها البندقية) في أنحاء متفرقة من أوروبا القارِّيَّة. وبالفعل عندما فحصنا السجلات، وجدنا أنه كان موجودًا في مكان ما في فرنسا — حتى لو كان في بضع بلدات متفرقة فحسب — كل عام على مدار الثلاثمائة عام التالية. كل هذا كان بمنزلة لغز كامل لنا؛ لأنه وفقًا لكل أساسيات الأمراض المعدية، كان من المفترض أن يكون الموت الأسود قد اختفى لدى انتهائه. شعرنا أن الخيط الحيوي التالي الذي من شأنه أن يفسر سبب نجاح الطاعون في الهيمنة على أوروبا على مدار ثلاثة قرون مستتر هنا؛ فقررنا أن نتقصى بدقة عن سلوك الطاعون في فرنسا في رحلة بحثنا عن إجابات.
(١) خلفية حربية
عانت فرنسا على نحو أقل قسوة إبَّان الفترة من عام ١٤٥٠ إلى ١٥٢٠، التي شهدت نهاية حرب المائة عام، ونهضة في الرفاهة وإعادة الإعمار العام للأماكن التي خربتها المعارك، ونقص الغذاء والكوارث الطبيعية. حدث أسوأ انتشار للطاعون في هذه الفترة في الأعوام ١٤٦٤، و١٤٧٨–١٤٨٤، و١٤٩٤، و١٥٠٢، و١٥١٤–١٥١٩.
إلا أن العواقب المشئومة للطواعين كانت واسعة التأثير، ولأنها كانت تظهر دون سابق إنذار، فقد نشأ اعتقاد شائع بأن السَّحَرة هم من كانوا يستحضرونها. كان يُحاكم المشتبه بهم، وحُكم على رجال ونساء كثيرين بالإعدام؛ زعمًا أنهم يزاولون فنون السحر الأسود. استشرى أحد الطَّوَاعِين في باريس عام ١٤٦٦ وكان شديد الشراسة — حصد أرواح ٤٠٠٠٠ شخص — وكالعادة سعى أهلها إلى تقديم كِباش فداء، من بينها سَحَرة ويهود وبُرْصان وظواهر فلكية. كانوا يلقون باللوم أيضًا على ارتفاع الحرارة الشديد لشهر أغسطس، ولجأ المواطنون إلى التوسلات الدينية وصنعوا موكبًا دينيًّا عظيمًا يجوب الشوارع، ولكن دون جدوى؛ فقد كان الوباء لا يزال في مرحلته الثائرة، بل ازداد عنفًا حيث توغل في ضواحي المدينة.
تأخرت فرنسا عن إيطاليا في اتخاذ التدابير الوقائية؛ فقد كانت السلطات في بلدة برينول في منطقة بروفنس هي أول من يفطن عام ١٤٥١ إلى دور المسافرين الخطير في نقل الطاعون. وقد كانت خطوة كبيرة للأمام في مكافحة انتشار المرض عندما مُنِعَ دخول الأشخاص إذا كانوا وافدين من بلدة عانت من الطاعون من قبل. بعد ذلك، طردت سلطات برينول أيضًا أولئك الذين حامت حولهم الشكوكُ في إصابتهم بالطاعون، والذين حتمًا ماتوا في عزلة بعيدًا عن الأنظار. وفيما بعد كانت السلطات، إلى جانب تفتيش المسافرين لدى وصولهم، تطلب إثباتًا منهم بأن كافة البلدات التي سافروا عبرها كانت خالية تمامًا من الطاعون. من الواضح أنهم حددوا مصدر الخطر الأساسي: «جلب مسافر قادم من بعيد الطاعونَ إلى البلدة». نذكر أن الطاعون وصل إلى بنريث عن طريق أندرو هوجسون، ذلك الغريب الذي وفد من «مكان بعيد.»
اتُّخذ المزيد من تدابير الصحة العامة على نحو متزايد في فرنسا خلال القرن الخامس عشر؛ فقد جرى حظر بيع أثاث منازل وملابس الضحايا، بل كانت توجد محاولات لتطهير المنازل التي تُوُفِّيَ بها شخص ما جرَّاء إصابته بالطاعون. وعُيِّنَ جراحون ومساعدون، وكان يُطلق عليهم الغِرْبان لأنهم كانوا يرتدون أقنعة على شكل مِنْقار طائر، وكانوا يُلْبِسونهم عباءات سوداء خاصة أعطتهم مظهرًا شريرًا. كانت هذه ممارسة سليمة، وكانت أول صورة من صور الملابس الوقائية، وهي تؤكد على اعتقاد الأفراد الذين عاشوا في ذلك الزمان أن الطاعون يمكن أن ينتقل من شخص إلى آخر. كانت وظيفة الغِرْبان هي تفقُّد الموتى وحَمْلهم ودفنهم. اعتُبر هؤلاء الجراحون ناقلين للعدوى، وكانت ملابسهم الغريبة بمنزلة تحذير للآخرين بالابتعاد.
أُنشئت المستشفيات من أجل عزل الضحايا، وكان أولها في بلدية بورج أون بريس عام ١٤٧٢، وأصبحت هذه المستشفيات تُعرف فيما بعد باسم «بيوت الطاعون»، وكانت مجرد غرف انتظار للموت، وكانت حالما تغص بجثث الموتى لا تلبث أن يحل محلها آخرون ينتظرون الموت. أُنْشِئَتْ مكاتب خاصة في بلدات كثيرة من أجل تطبيق اللوائح المكافحة للطاعون.
كثيرًا ما تَعَيَّن إقامة الجنازات ليلًا أو حظر إقامتها بالمرة بغية تقليل هلع العامة. وفيما بعد، نُفي الفقراء وأُمر الشحاذون والصعاليك بترك البلدة، وإلا عُوقبوا بالجلد. نلمس هنا من جديد صورة من صور العدالة الجائرة. في آخر المطاف اتبعت فرنسا قواعد السلطات المعنية بالمسائل الطبية في إيطاليا، وبدأت في تنفيذ حَجْر صحيٍّ مدته أربعون يومًا.
وبمِيزة الحكم على ما جرى من موقعنا الحالي، يمكننا أن نرى أنه لم تكن جميع هذه التدابير فعالة بنفس القدر، إلا أنه من الواضح أنه حتى في القرن الخامس عشر، فَهِمَ الأفراد أساسيات الأمراض المعدية، مميزين إياها عن الخرافات العمياء السائدة؛ فقد حاولوا بقوة مكافحة الوباء اللعين واستُحدثت تدابير معقولة للصحة العامة في وقت مبكر جدًّا من عصر الطَّوَاعِين.
(٢) القرن السادس عشر وحالة من عدم الاستقرار
خلال الفترة ما بين عامي ١٥٢٠ و١٦٠٠، في ظل فترة صاحبها نقص الغذاء، والمجاعات، والفيضانات، وانتفاضات الفلاحين والحروب الدينية، انتشرت أوبئة طاعون مُعْدِيَة ومتكررة على نحو متزايد في فرنسا، وكثيرًا ما كان مكتب الصحة يعين رجالًا مسلحين لتنفيذ اللوائح ولحفظ النظام المدني. دائمًا ما كان يسبب ظهور المرض في بلدة ما اضطرابًا مجتمعيًّا، وكانت الجماهير الحانقة تهاجم المسافرين والسَّحَرة والبُرصان بالإضافة إلى سلب المنازل، وكانت السلطات تُنْزِل بأولئك الذين يخالفون القواعد عقوبات شنيعة قد تصل إلى الإعدام.
أصبحت جنيف، بسبب موقعها المركزي في أوروبا واتباعها المبكر لمبادئ الإصلاح البروتستانتي في مطلع القرن السادس عشر، ملجأً للمضطهدين ونقطة انطلاقة للإرساليات التبشيرية. وقد اكتظت بالمهاجرين والنازحين الذين كانوا ينوون الاستقرار هناك، وكانت بؤرة لتمركز الطاعون. كانت حكومة جنيف على دراية بهذا الوضع، وبِنَاءً عليه اتخذت بعض التدابير الوقائية؛ فقد أنشأت بيتًا للطاعون في وقت مبكر، كان مزودًا بممرضين وممرضات، وعُين مساعدون وحمالون بصفة رسمية من أجل نقل المرضى والموتى، وكان دورهم أيضًا الإبلاغ عن ظهور حالات جديدة مصابة بالطاعون. الأرجح أنهم انخرطوا في عمليات نهب وابتزاز، هم أيضًا بطبيعة الحال، لكن عام ١٥٣٠، اتهم مواطنو جنيف الموقرون بعضًا من هؤلاء المساعدين بنشر الطاعون عن عمد أثناء تأديتهم عملهم، واعترف أحد المقبوض عليهم تحت ضغط التعذيب، وبعدها خضع اثنان للتعذيب بالكماشة الملتهبة قبل قطع رأسيهما. جُرد كاهن يُدعى دون دوفو من رتبته الكهنوتية، وجرى تسليمه إلى السلطة العلمانية وأُعدم. قُطعت يدا امرأتين أمام منازل الضحايا المفترضين، ثم لقيتا نفس مصير الرجال.
اكتشفنا المدونة التاريخية التالية في الدورية الطبية البريطانية الصادرة عام ١٨٦٩. في أوائل عام ١٥٦٣، احتلت القوات الإنجليزية بقيادة اللورد وارويك ميناء هافر الذي يقع على الساحل الشمالي الفرنسي. كان الميناء تحت الحصار، وكانت القوات البالغ عددها ٧٠٠٠ جندي مكتظين معًا؛ ما يمثل ظروفًا مثالية لاستشراء مرضٍ مُعْدٍ. في السابع من يونيو أبلغ وارويك أن مرضًا غريبًا تفشى، وأن تسعة أفراد ماتوا على نحو مفاجئ. وبحُلول السابع والعشرين من نفس الشهر، كان الجنود يموتون بمعدل ٦٠ جنديًّا في اليوم الواحد، وقلما تعافى أولئك الذين أصابهم المرض. في اليوم التاسع والعشرين من الشهر، كان قد لَقِيَ ٥٠٠ فرد حَتْفَهم. هاجم المرض الجنود في المقام الأول، حيث إن معظم الضباط فَرُّوا، والأطباء ماتوا. لم تكن القوات مكدسة فحَسْبُ، بل عانت أيضًا من الحرمان؛ إذ لم يكن بمقدورهم الحصول على الماء العذب، حيث اقتصر الأمر على الخمر ومشروب التفاح، ولم يَكُنْ لديهم خَضْروات طازجة ولا لحوم.
بانتهاء يونيو، كان قد تبقَّى من السبعة آلاف رجل، ثلاثة آلاف فحسب مؤهلين لأداء الواجب. لم تُدفن الجثث وطَفَتْ في مياه الميناء. أُرسلت قوات جديدة، لكن حتى هؤلاء سرعان ما سقطوا أيضًا ضحايا للمرض.
بحلول الحادي عشر من يوليو، تبقى ١٥٠٠ فرد فحسب، وأورد وارويك أنه بمعدل الموت الحالي إذا مرت عشرة أيام أخرى فلن يتبقى معه سوى ٣٠٠ جندي حي. وبتصريح خاص من الملكة إليزابيث، سَلَّم ميناء هافر للفرنسيين في التاسع والعشرين من يوليو. وعندها صرح اللورد كلينتون، قائد الأسطول الإنجليزي قائلًا: إن «الطاعون ذا العدوى الفتاكة قد فعل بهم ما لم تكن لتستطيع القوات الفرنسية كافة أن تفعله قَطُّ.»
عادت القوات الإنجليزية المتبقية إلى وطنها، وعندما وَطِئَت أرض إنجلترا، أصدرت الملكة إليزابيث مرسومًا يحثُّ كل الأفراد على استقبالهم بحفاوة وإجلال، لكن لما عاد الجنود إلى أوطانهم، نشروا العدوى في كل أنحاء إنجلترا وعانت كل البلدات والقرى على السواء.
لا يبدو أن اهتياج البشرة، أحد الأعراض المصاحبة للطاعون عادة، كان حاضرًا في هذه النوبة من الابتلاء. كان العَرَض الأول هذه المرة هو حمى عنيفة وحرارة مرتفعة للغاية بالتناوب مع نوبات ارتجاف، ثم يحدث جفاف في الفم وجفاف في اللسان، مع الشعور بوخزات في الصدر والخَصْر، ثم يعقبه ألم في الرأس وهزال ورغبة في النوم، وبعد النوم، كان يأتي الموت في أغلب الأحيان.
لمنع انتشار العدوى، كانت تُنَظَّف المنازل والسلالم والشوارع تنظيفًا شاملًا، وتُفْتَح النوافذ على مَصارِعَيْها، ويتدلى منها أغصان بَلُّوط أو صَفْصاف خضراء نضرة، ويُبعثر على الأرضيات نبات الحُمَّاض البستاني والخسُّ والزُّهور وأوراق البَلُّوط، وتُرش باستمرار بمياه الينابيع أو بالخل ومياه الورد. ومن السرداب إلى الغرفة العليا، كانت المنازل تُبخر لمدة ست ساعات يوميًّا بأعشاب الصَّنْدَل والمِسك والصَّبَّار والكَهْرَمَان والقِرْفة، وفي أسوأ الأكواخ حالًا، كانت تتصاعد بخور عشب إكليل الجبل (الروزماري) وعشب الغار، ومع ذلك، لم يُجْدِ أيُّ علاجٍ نَفْعًا.
كانت ليون مدينةً ثرية تضم بين جدرانها العديد من الصناعات الرئيسية التي تشمل غزل الحرير والطباعة، وتأوي ٦٠ ألف نسمة. وكانت إحدى نقاط تقاطع طرق التجارة الدولية، وتُقام فيها أربعة معارض تجارية سنوية، فعانت على نحو منتظم من الأوبئة التي كان يجلبها المسافرون والتجار إليها. كان عام ١٥٦٤ مدمرًا على نحو خاص، وخلال شهرين، كادت المدينة تُصَاب بالشلل التام وأُغلق ثلث المنازل. وحتى القلة القليلة من الضحايا الذين كانوا يتعافون في بعض الأحيان ماتوا من الجوع بعدها. تراكمت الجثث في الشوارع؛ إذ لم يوجد مكان لدفنها ولا المال الكافي لاستئجار حاملي الجثث. ببساطة كانت الجثث تُلقى في نهر الرون، ونتيجة لذلك، كان لا بد من إغلاق صناعة صيد الأسماك.
بحلول صيف عام ١٥٦٤، كانت كل من منطقة بروفنس ومقاطعة لانجيدوك قد ضُربتا بالوباء، وكذلك أُصِيبت مدينة نيم بحلول منتصف يوليو. حدث كُمُون للوباء في شهر أغسطس، وإن كان قد وردت أنباء عن حدوث حالات تفشٍّ قُرب نهاية العام في منتصف ديسمبر تقريبًا، إلى أن وَضَعَ شتاءٌ قاسٍ حَدًّا لمعاناتهم. إن هذا بمنزلة خيط مهم؛ لأنه يوضح أن الطاعون كان سريع التأثر بدرجة حرارة الشتاء، حتى في جنوبي فرنسا. لقد اكتشفنا أن الأوبئة يمكن أن تستمر في المُناخ قارس البرودة، لكن نقل العدوى كان أكثر صعوبة في ظل هذه الظروف. على الأرجح كانت الإصابة بالعدوى مستحيلة خارج المنازل.
(٣) الأوبئة في أوج نشاطها
عانى الفرنسيون أشد ما عانوا في الفترة ما بين عامَيْ ١٦٢٢ و١٦٤٦، على عكس الوضع في إنجلترا حيث ظهرت أخطر الأوبئة فيما بعد، بين عامَيْ ١٦٢٠ و١٦٦٦. ومما زاد من المأساة في فرنسا انتفاضات الفلاحين، وعمليات السلب والنهب التي كان يقوم بها الجنود، والظهور المتوحِّش لأمراض أخرى. اضْطُرَّ الناس إلى فتح المزيد والمزيد من المدافن، وبالرغم من ذلك، كثيرًا ما تَعَيَّنَ دفن الموتى في الحدائق أو المواقع البديلة. وكانت الخسائر المالية المترتبة على تفشي أحد الأوبئة هائلة: من تكلفة عناية بالمرضى، إلى أجور أطباء وحراس وشرطة، وإلى مدافن وأطعمة وأدوية وإنشاء بيوت للطاعون. وكلها كان يتعين دفع تكلفتها من الضرائب والاستدانة.
بحلول هذا الوقت كانت اللوائح والتدابير المكافحة للطاعون قد تأسست على نحو سليم، وكان الفقراء يُعامَلون على نحو أكثر سخاءً. في عام ١٦٣٦، دفعت سلطات بورج أون بريس للفتيان والفتيات الصغار أجورًا مقابل احتجازهم — في منازل جَرَى تبخيرُها حديثًا — لمدة ٤٠ يومًا، هي مدة الحجر الموحدة؛ لاختبار مدى كفاءة عملية التطهير، مما يعد مثالًا مبكرًا على الاختبار التجريبي لتدابير الصحة العامة.
ضُرِبَت ليون مرة أخرى في صيف عام ١٦٢٨، واتُّهم جنود مَرُّوا بها بأنهم حملوا الوباء اللعين معهم «وكذلك أمتعتهم»، ربما لأن إحدى أولى الحالات التي وردت أنباء عن موتها كانت في مهجع جنود في قرية قريبة. مرة أخرى يبدو أن مسافرًا مصابًا جاء من مكان بعيد جلب الطاعون إلى المجتمع. طبقت السلطات اللوائح المعتادة؛ حيث عُيِّنَ الحراس على بوابات المدينة، وتعين على أي شخص مِمَّن يَسْعَوْنَ إلى دخول المدينة تسليم شهادات صحية، ومرة أخرى فُرِضَ حَجْرٌ صحي مدته ٤٠ يومًا. وجرى تهيئة بيت طاعون لعزل المصابين كان يكتظ في أي لحظة بأربعة آلاف محتضر. لكنَّ ضحايا كثيرين اضطروا إلى بناء أكواخ صغيرة لأنفسهم والبقاء فيها إلى أن يَلْقَوْا حَتْفَهم، وآخرون اضطروا إلى الاختباء من الرياح وراء أكوام الجثث، منتظرين موتهم هم أنفسهم، وما أرهبها صورة لنهاية مؤلمة ومفزعة للحياة. صارت البلدة في الواقع مستشفًى كبيرًا؛ فقد تبعثرت في الشوارع والمنازل الجثث التي كانت تُدفن في بعض الأحيان في عُجالة في الحدائق والأقبية، وكان الرهبان والراهبات يضطرون إلى الصعود فوق الجثث الملقاة على الأرضيات والسلالم لتقديم يَدِ العون إلى أولئك الذين لا زالوا يتنفسون.
انحسر عدد الوفيات نحو نهاية شهر ديسمبر، إلا أنه ارتفع مرة أخرى ارتفاعًا هائلًا باكر العام التالي، قبل أن يضمحل تدريجيًّا خلال الربيع والصيف. للغرابة الشديدة، بلغت الوفيات في ليون خلال الوباء الذي دام اثني عشر شهرًا نحو ٣٥ ألف نسمة.
(٤) التجارة: شِرْيان حياة الطاعون
ثمة بعض بلدات فرنسية نادرًا ما هاجمها الطاعون، في حين أن البعض الآخر كثيرًا ما قاسى من أوبئة طاعون. في أشنع ضربات الطاعون، عاش جيل بعد جيل في رعب لا ينقطع تقريبًا على مدار ١٠٠ عام، غير أن نمط حدوث الطاعون تغير بالفعل تدريجيًّا، فبينما كانت كلٌّ من ستراسبورج وباريس هما المدينتان اللتان يضربهما الطاعون بصفة عامة خلال النصف الثاني من القرن الرابع عشر، ذهب هذا الشرف المريب إلى بورج أون بريس، وبحلول القرن السابع عشر كانت لوكسمبورج تسجل أكبر عدد لحالات تفشي الطاعون. ماذا أدى إلى حدوث تغير في تفضيل الطاعون لأماكن بعينها؟
وصل الموت الأسود إلى ستراسبورج عام ١٣٤٩، لكن خلت المدينة بعدها من المرض حتى عام ١٣٥٨، ومنذ ذلك الحين فصاعِدًا أخذ المرض يهاجمها على نحو متكرر على مدار المائة والخمسين عامًا التالية. كانت ستراسبورج مدينة عامرة ثرية؛ بفضل أنشطة أبنائها من طبقة التجار وأيضًا بحكم موقعها وسط طرق برية ومائية متعددة. كانت هذه العوامل سبب دمارها أيضًا؛ حيث إن هذا أدى إلى استقبالها زيارات منتظمة من تجار ومسافرين مصابين.
كانت بلدية بورج أون بريس البوابة إلى جنيف وإلى أحد شعاب جبال الألب. وهي تقع على بعد نحو ٣٨ ميلًا (٦٠ كيلومترًا) من شمال شرق ليون، على الحافَة الغربية من جبال جورا بالقرب من أنهار الرون والسين والأين. كما كانت تقع على الطريق التِّجاري الذي يربط تروا وليون ومارسيليا، وهي كلها مدن كان يزورها الطاعون بانتظام.
أما لوكسمبورج فكانت تقع في موقع استراتيجي على حدود ما يُعرف الآن ببلجيكا وفرنسا وألمانيا. وقد كانت يومًا ما نقطة مفترق طرق رومانية، وتقع في قلب شبكة طرق تجارة تربط الإمبراطورية الرومانية المقدسة وفرنسا. وقد عانت من ٢٠ وباءً هائلًا خلال ٥٠ عامًا.
يتضح من هذه الأمثلة أن الطاعون كان يتنقل في أنحاء فرنسا كلَّ عام عن طريق مصابين يسافرون عبر طرق التجارة الرئيسية الطويلة، غالبًا عن طريق الجياد أو الصنادل البحرية. وما إن يبدأ الطاعون في أحد هذه المراكز التجارية الرئيسية، حتى يتمكن عندئذٍ من القفز إلى البلدات القريبة عن طريق وسائل النقل المحلية.
بعد الانتشار المستمر الأشبه بموجة للطاعون الأسود في الفترة ١٣٤٧–١٣٥٠، تغير نمط توغله تمامًا، وبات مستقرًّا في موطنه وقاعدته في فرنسا. ولم يكن ينتشر أبدًا في كل مكان وإنما كان يظل كامنًا ثم يتفشى كل عام في أماكن قليلة متفرقة وشديدة التباعد لكن مهمة في الوقت نفسه.
بمرور القرون بدا أن الطاعون يزداد شراسة، وفيما شهدت وسائل المواصلات تحسنًا مستمرًّا ونمت التجارة المحلية والعالمية، أصبح الطاعون أكثر انتشارًا. ازداد تعداد سكان البلدات والمدن على نحو دائم في العدد والكثافة السكانية؛ مما سهل استيطان ذلك الوباء، وبالتبعية ارتفع أيضًا عدد الضحايا المحتملين.
(٥) العناد المميت للطاعون
عندما خمد الموت الأسود أخيرًا، بالقرب من حدوده الشمالية عند دوائر العرض العليا لأوروبا، كان من الممكن أن يختفي إلى الأبد. لو كان فعل هذا، لسرعان ما تعافت أوروبا على الأرجح، ولبات هذا الابتلاء مجرد كابوس مرعب. لكن بطريقة ما وفي مكان ما، ربما في مناخ جنوبي فرنسا الريفية الأكثر دفئًا، تشبث الطاعون هناك بشراسة. ولا بد أنه استمر بنسبة منخفضة في عدد محدود من المناطق المنعزلة في القرى، حيث كان كل ضحية ينقل العدوى في المتوسط على الأرجح إلى شخص واحد آخر فقط. لقد كان يتحين الفرص المناسبة، فإذا ما وصل مسافر حامل العدوى إلى مجتمع صغير بلغ التعداد السكاني فيه مستوى مناسبًا، كان من الممكن أن يتفشى وباءٌ محدود. كانت هذه فرصة المرض؛ إذ يمكن أن ينتشر على المستوى المحلي، ثم ينطلق المزيد من المسافرين المصابين، وعندئذٍ كانت هناك دائمًا إمكانية ظهور أوبئة جديدة، لكنها ما كانت لتعود قَطُّ بنفس قوة الموت الأسود الهائل الذي قهر كل شيء اعترض سبيله.
ما الخيوط الخاصة بهذا المرض الغامض التي أَمَطْنا اللِّثام عنها؟ الواضح وضوح الشمس أن هذه الطَّوَاعِين، التي استمرت لأكثر من ٣٠٠ عام بعد الموت الأسود، كانت كلها نوبات تفشٍ لنفس المرض. في الواقع، لم يرحل الموت الأسود قَطُّ؛ فقد استمر الطاعون بنفس النمط، وكانت الأعراض المريعة التي تصيب الضحايا هي نفسها بحذافيرها.
كانت الأوبئة تضرب عادة المدن الأكبر، ولا سيما إن كانت تقع على طرق التجارة المحلية والدولية. ومن ثم كانت التجارة هي محرك الطَّوَاعِين.
فطن الفرنسيون شيئًا فشيئًا إلى أن المرض يصل إلى مدنهم عن طريق مسافر غريب يبدو في الظاهر أنه صحيح بدنيًّا، وغالبًا ما يكون تاجرًا مصابًا في حقيقة الأمر (كان أندرو هوجسون هو ذاك المسافر إلى بنريث). ولم تُطبق تدابير ضبط الحدود المناسبة إلا بالتدريج، ولم يكن معمولًا بها على نحو كامل.
لم تنعم فرنسا قَطُّ بفترة خالية من الطاعون، وكان المرض موجودًا باستمرار في مكان ما على مدار أكثر من ٣٠٠ عام. شكلت البلاد معقِلًا للطاعون، وكانت بمنزلة مستودع فعَّال للعدوى. ومن هنا نشأت جميع الأوبئة التي أصابت بقية أنحاء أوروبا.
أما في شمال أوروبا، وكذلك شبه الجزيرتين الإيبيرية والإيطالية وإنجلترا، فقد كان الوضع مختلفًا تمامًا: إذ عانت هذه المناطق من حالات تفشٍّ كبيرة ومتقطعة، وصلت إليها من خلال مصابين قادمين من فرنسا، وكانت تدوم لفترة قصيرة نسبيًّا، وبعدها يختفي المرض تمامًا إلى أن يصل مصاب آخر من فرنسا.