مِجَسَّات الطاعون
كثيرون منا شاهدوا أو قرءوا مسرحية روميو وجولييت، لكن على الأرجح لا تدرك سوى قلة قليلة أن المسرحية تدور حول القيود التي كانت مفروضة على الانتقال ومُطبقة بصرامة أثناء تفشي أحد أوبئة الطاعون في إيطاليا.
من نفس الطائفة ليصحبني
أثناء زيارته للمرضى في هذي البلدة.
لكني حين عثرت عليه
انقضَّ علينا بعض رجال التفتيش الطبي؛
إذ ظنوا أن المنزل قد حل به الطاعون المعدي،
فغُلِّقت الأبواب علينا ومُنعنا من أن نمضي؛
وبذلك لم أقدر أن أرحل إلى مانتوا في الموعد وتأخرت.
(مسرحية روميو وجوليت، ويليام شكسبير، الفصل الخامس، المشهد الثاني.)
نلاحظ الإشارة إلى رجال تفتيش طبي مُعينين بصفة رسمية. كان حبس القس جون بالمنزل في فيرونا عنصرًا مهمًّا في أحداث القصة، حيث إنه لم يتمكن من تسليم رسالة إلى روميو في مانتوا تشرح أن جولييت لم تَمُتْ، وإنما تجرعت دواءً منوِّمًا فحَسْبُ؛ ومن ثَمَّ يعود روميو إلى فيرونا وتتوالى الأحداث التراجيدية المعروفة.
تدور القصة حول صراع بين عائلتين نبيلتين، آل مونتاجيو وآل كابيوليت (يلعن مركوشيو الأسرتين قائلًا: «ليُنزل الله بهما الطاعون!») والعواقب المأساوية لذلك على اثنين من الأبرياء الشباب. يمكن أن تكون القصة بمنزلة صورة تمثيلية عن بُلدان إيطاليا المتحاربة في هذه الآونة، عندما كان التعاون عن كَثَب لمكافحة عدو مشترك، ألا وهو الطاعون، ضرورة مُلِحَّة.
-
الدول المدن في الشمال: البندقية، وميلانو (لومبارديا)، وجنوة، وفلورنسا (توسكانا)، تلك الدول شديدة الثراء، التي تُكِنُّ مشاعر الغيرة بعضُها لبعض.
-
الدول البابوية، «إرث القديس بطرس الرسول»، حيث كان البابوات لديهم نَهَم قوي لزيادة سلطتهم الدنيوية الزائلة في إيطاليا.
-
مملكة الصقليتين جنوبًا، أكثر دول المدن الإيطالية تخلفًا وفقرًا، تتكون من منطقتين مختلفتين، هما نابولي وصقلية، اللتين خضعتا فترة طويلة لحكم الملك أراجون في إسبانيا.
أثارت العداوات بين هذه الدول الإيطالية الثرية مطامع حكام إسبانيا وفرنسا العُتاة الذين تدخلوا في تناحراتهم في محاولة لإحكام قبضتهم. شن كل من مَلِكَيْ فرنسا تشارلز الثامن ولويس الثاني عشر غزوات كانت ناجحة في البداية، إلا أن تحالفًا بين الدول الإيطالية وإسبانيا أسفر عن طردهما، وكانت النتيجة إحكام ملوك إسبانيا قبضتهم على نابولي. في ظل هذه الخلفية من الصراع كان الإيطاليون يحاولون مكافحة هجمات الطاعون.
(١) رواد الصحة العامة
بدأت الطَّوَاعِين في إيطاليا بوصول الموت الأسود إلى جزيرة صقلية عام ١٣٤٧. وكما رأينا، أدرك أهلُها في الحال أنه مرضٌ مُعْدٍ، وسرعان ما استحدثوا التدابير الأساسية للصحة العامة. قادت دول مدن شمالَيْ إيطاليا بقية أوروبا في اتخاذ التدابير اللازمة للتعامل مع الوباء، فأنشئوا الحَجْر الصحي، وبيوت الطاعون، والهيئات الصحية. وبحلول عام ١٤٠٠ كانوا قد ابتكروا «تصاريح سفر» رسمية في أزمنة الطاعون. تكبد الأطباء في إيطاليا معاناة كبيرة عند القيام بالفحص الدقيق عن كثب لحالات من أجل تحديد ما إذا كان طاعون حقيقيٌّ قد تفشى؛ فقد كانوا حريصين على التمييز بين ما أطلقوا عليه طواعين «كبيرة» وطواعين «صغيرة». كانت الطَّوَاعِين «الكبيرة» هي الطَّوَاعِين الحقيقية، في حين أن الطَّوَاعِين «الصغيرة» كانت في الغالب نوبات تفشٍّ لمرض أقل خطورة، ولم تَكُن السلطات الصحية تنزعج من أمرها كثيرًا.
كانت إيطاليا مهددة باستمرار بسبب المصابين الذين يصلون بحرًا؛ فقد كانت التجارة البحرية بكافة عالمها المعروف هي شِرْيان حياة الحضارة الإيطالية الرفيعة. أُنْشِئَ الحجر الصحي البحري للسفن عام ١٣٧٧ في مستعمرة راجوزا الخاضعة لسيطرة البندقية، وكان الغرض الأصلي منه هو منع توريد المرض إلى شمالي إيطاليا وليس عزل المرضى الفعليين. كانت مدة الحَجْر في البداية ٣٠ يومًا، لكنَّ القائمين على الحَجْر سرعان ما أدركوا أنها مدة قصيرة للغاية؛ فقد استمر الأشخاص يسقطون من المرض ولم يتأثر زحف المرض إلا بمقدار ضئيل جدًّا. أما في حال عدم حدوث وفيات في المجتمع لمدة ٤٠ يومًا، فإن القاطنين الناجين كانوا يعرفون أن الخطر قد زال وأنهم في مأمن على الأقل إلى حين انتشار الوباء التالي؛ ومن ثم أصبحت مدة الأربعين يومًا هي مدة الحجر الصحي الرسمية.
-
السفن القادمة من إنجلترا، التي أتت بشكل مباشر دون أن تحتكَّ بمكان مصاب أو مشتبه فيه وذات الشهادة الصحية الخالية من الأمراض، كان يُسْمَح لها بالدخول بعد بضعة أيام، إلا أن البضائع والتجار كانوا يُرسلون أولًا إلى بيت الطاعون حيث يجري تطهيرهم لمدة ٢٠ يومًا، وإذا كانت السفن قد احتكت بأي أماكن مصابة، كان يتعين أن تخضع لحجر صحي كامل.
-
السفن القادمة من موانئ غير مصابة، لكن مشتبه فيها، كانت تخضع لحجر صحي مدته ٣٠ أو ٣٥ يومًا، إلا أن البضائع كانت تُرسل مباشرة إلى بيت الطاعون.
-
إذا وقعت أي حالات وفاة أو مَرِضَ أحدٌ إبَّان الرحلة أو إبَّان الحَجْر، تُمد هذه الفترة إلى ٥٠ أو ٦٠ يومًا على حَسَبِ الخطر والظروف، وتُرْسَل البضائع والناس إلى بيوت الطاعون.
-
السفن الوافدة من بلاد الشام تخضع لحَجْر صحي مدته ٣٠ أو ٣٥ أو ٤٠ يومًا إذا كانت لديهم شهادة صحية تفيد بخلوها من الأمراض المعدية، وتُطهر البضائع في بيوت الطاعون لنفس المدة.
عندما كان ينحسر وباء في فلورنسا، كما حدث عام ١٦٣٠، كان من المألوف أن تعلن السلطات الصحية عن حجر صحي عامٍّ يمكث خلاله أكبر عدد ممكن من الناس في منازلهم لمدة ٤٠ يومًا، وهكذا يقل الاحتكاك البشري إلى أدنى حدٍّ ممكن. كان من المفترض أن ينهي هذا الإجراءُ الوباءَ على نحو أسرع.
هكذا شيئًا فشيئًا صارت فترة الحَجْر التي مدتها ٤٠ يومًا مقبولة في كل مكان إبَّان عصر الطَّوَاعِين. تم الوصول إلى هذا المعيار تجريبيًّا من خلال المحاولات التي قامت بها العديد من السلطات الصحية في أوروبا العصور الوسطى، التي كانت تعمل دون ما يتوفر لدينا من فهم حالي عن الأمراض المعدية، وكان هذا إنجازًا رائعًا جرى تحقيقه منذ ستة قرون. يسلط هذا الضوء على ما كان يتمتع به هؤلاء الأطباء الأوائل من فطنة، وكانت هذه أهم قفزة في محاولات التغلب على هذا المرض الغريب.
كانت إنجلترا أكثر تراخيًا في إدخال هذه التدابير، لكن في آخر المطاف أُنْشِئَ حجر صحي مدته ٤٠ يومًا في لندن والأقاليم أثناء حكم الملك هنري الثامن. وفي وقت ما، خفضت السلطات هذه المدة، لكن سرعان ما أُعيد تمديدها إلى ٤٠ يومًا مرة أخرى بموجب القانون عندما تبين أن الفترة الأقصر غير فعالة بالمرة. وقد رأينا أن هذا دليل مهم آخر. تؤكد الإدارة الناجحة لحجر صحي مؤسَّس على نحو سليم ما كان يعتقده الجميع: كان هذا مرضًا معديًا «بسيطًا» ينتقل مباشرة من شخص إلى آخر. علاوة على ذلك فإن مدة ٤٠ يومًا هي فترة طويلة للغاية على حَجْر صحي. بدأ يبدو كما لو أن هذا المرض سيظل معديًا لزمن طويل للغاية، وهذا على العكس تمامًا من الروايات الكثيرة التي تشير إلى أن الناس كانوا يموتون بعد فترة وجيزة من الاتصال بأحد الضحايا الذي تظهر عليه الأعراض.
كانت السلطات اليقظة المعنية بالصحة في شمالي إيطاليا تبحث عن أعراض بعينها لأحد الطَّوَاعِين «الكبيرة»، بقع ولطخات بنفسجية وسوداء، وبقع حمراء صغيرة على الصدر، وحبوب وأورام في أعلى الفخذ وفي منطقة الإبْط. كانت بداية الإصابة بالوباء تتميز بارتفاع درجة الحرارة، والقيء، والإسهال، وتغير لون البول، والعطش الشديد. صاحب الحمى الشديدة لدى البعض جنون وهذَيان، «على نحو حادٍّ لدرجة أن البعض كانوا يُلْقُونَ بأنفسهم من النوافذ.»
(٢) طواعين متقطعة لكن كارثية في إيطاليا
كانت جبال الألب حاجزًا نافعًا لشمال إيطاليا، وفي السنوات الأولى التي أعقبت الموت الأسود، كانت معظم إصابات الطاعون تأتي عبر البحار من خلال الموانئ. لكن في وقت لاحق، وفد المصابون عبر شعاب الجبال.
كشفت دراسة دقيقة للطواعين عامًا تلو الآخر في شبه الجزيرة الإيطالية أنه لم يَكُنْ يوجد سوى نحو ١١ وباء كبيرًا على مدار هذه المدة التي دامت لثلاثمائة عام، على الأرجح بفضل المجهود الرائع الذي بذلته السلطات الصحية، ومع ذلك عندما كان يحل الطاعون، يصبح معدل الوفيات مرعبًا. عثرنا بمحض المصادفة على خيط آخر، وهو أن سلوك الطاعون كان مختلفًا تمام الاختلاف في فرنسا عن إيطاليا، فقد كان مستمرًّا بلا انقطاع في فرنسا، في حين أنه في إيطاليا كان متقطعًا ويندثر تمامًا بعد كل حالة تفشٍّ. وقد تساءلنا عن السبب وراء هذا الاختلاف الكبير.
فَحَصْنا تسلسل الأحداث خلال الأوبئة التي تفشت عقب خلو إيطاليا من الطاعون بعامين على الأقل، حتى نضمن أن هذه الأوبئة كانت نتاج موجة جديدة للطاعون.
على سبيل المثال، استشرى طاعون عام ١٤٥٦ بعد أربع سنوات من الهدنة في صقلية ووسط إيطاليا والدول المدن الشمالية. أكانت هذه موجات جديدة منفصلة دخلت عن طريق البحر من خلال موانئ نابولي وباليرمو والبندقية (كما هو مرجح على ما يبدو) أم أن الطاعون انتشر بطول البلد؟ في عام ١٤٥٧، وردت أنباء عن استشراء الطاعون في جنوب إيطاليا، وانتقل من مدينة فليتري إلى روما، إلا أنه اختفى من نابولي، وكان متوغلًا في البندقية، كما ظهر أيضًا في بولونيا في الشمال.
مرة أخرى، صارت إيطاليا خالية من الطاعون إلى حدٍّ بعيد لمدة ثماني سنوات عندما وردت أنباء عن وجود المرض في جنوبي سردينيا عام ١٤٧٦. في عام ١٤٧٧ ظهر الطاعون في البندقية، وبلغ أَوْجَه عام ١٤٧٨؛ حيث لقي ٣٠ ألف شخص حَتْفَهم. ضرب الطاعون صقلية أيضًا في نفس الوقت، حينذاك كان المرض قد تحول إلى جائحة في الشمال، حيث انتشر على الأرجح في شكل شعاع ممتد من البندقية نحو الخارج غربًا وجنوبًا، وبلغت الوفيات ٤٠ ألف نسمة. في ميلانو لقي ٢٢ ألف شخص حَتْفَهم، عانى بعض المحتضرين من هذَيان مصحوب بحمى شديدة، لدرجة أنهم أَلْقَوْا بأنفسهم من النوافذ، كان هذا أحد الأعراض المميزة للطاعون. كان يموت نحو ٢٠٠ شخص كل يوم طيلة الأربعة أشهر الأولى في مدينة بريشا بإقليم لومبارديا، حيث بلغ إجماليُّ الوفيات ٣٤ ألف نسمة، بمعدل وفيات ٩٠ بالمائة من السكان. رفض كهنة ورهبان كثيرون إغاثة المرضى، وعوضًا عن ذلك شجعوا إقامة المواكب الدينية التي لم تؤدِّ إلا لاستفحال المرض. وكانت الكلاب تأكل أكوام الجثث، واتُّهم حاملو الجثث بنهبها بل وبالتحرش الجنسي بها أيضًا.
استشرى وباء مريع في الدول الشمالية عام ١٦٢٩، وربما وفد المرض من البندقية (حيث مات ٤٦ ألف نسمة من إجمالي عدد السكان البالغ ١٤٠ ألف نسمة)، لكن يزيد احتمال أنه عَبَر جبال الألب مرة أخرى؛ إذ كان الطاعون مستشريًا آنذاك في فرنسا وألمانيا وسويسرا، وموجودًا في جنيف وبازل. قيل إن القوات الألمانية والفرنسية قد حملت الوباء إلى مانتوا في شرقي إقليم لومبارديا، حيث كانت فرنسا تشن حربًا ضد النمسا وإسبانيا. في نهاية المطاف حصد الطاعون عدد أرواح هائلًا بلغ ٢٨٠ ألف نسمة. ومرة أخرى، بدأ كل هذا بوصول الغرباء القادمين من بعيد.
ظهرت أهمية لوائح الحجر الصحي بوضوح في هذا الوباء. طُبقت تدابير وقائية صارمة مهمة وإن لم تَلْقَ تأييدًا شعبيًّا كبيرًا عندما وصل الطاعون ميلانو في أكتوبر عام ١٦٢٩، منها عزل كل من احتكُّوا بالمصابين، كان ثمة اعتقاد بأن هذه الممارسة سيطرت على تفشي الطاعون. لكن بحماقة حدث تراخٍ في تطبيق هذه اللوائح في مارس عام ١٦٣٠ أثناء أحد المهرجانات الشعبية في ميلانو وعاود الطاعون الانتشار، وفي ذروته كان يموت ٣٥٠٠ شخص يوميًّا.
عانى الضحايا من حمى مفاجئة وشديدة، وكان يتكون لديهم بثرات كبيرة نتنة الرائحة، وفي بعض الأوقات يصيبهم الهذيان، وكان الصداع الشديد هو النذير المعتاد بالموت. كان يمثل نسبة كبيرة من الموتى حرفيون ورهبان من طائفة الرهبنة الكبوشية أو أفراد ممن يزاولون الكثير من الأعمال الوصائية إبَّان الطاعون. لم يكسر أحد مدة الحَجْر الصحي الموحدة التي تمتد إلى ٤٠ يومًا، وتفانى أولئك الذين عينهم مكتب الصحة العامة في أداء مهامهم، من تبخير، وحرق المراتب والملابس، وتنظيف الأرضيات وحمل الموتى بعيدًا لدفنهم.
وصل الطاعون إلى ترسبيانو، وهي قرية صغيرة تبعد بضعة أميال شمال فلورنسا، في يوليو عام ١٦٣٠ عن طريق رجل كان في رحلة عمل إلى مدينة بولونيا المصابة، مخترقًا بذلك «طوق الحجر الصحي». كان هذا بمنزلة خرق فادح ومكلف للأرواح. في شهر أغسطس جرى تسجيل وفيات مريبة في قرية تافولا المجاورة وفي فلورنسا نفسها. أُخبر أهل فلورنسا أن العدوى الكارثية ناجمة عن غضب الله، واستجابوا لذلك بمحاولة تقويم سلوكياتهم، فأُقيمت القداسات في الشوارع، وكُرست أصوام خاصة، وهكذا تحولت فلورنسا إلى مدينة شديد الالتزام من الناحية الأخلاقية، على الأقل إبَّان نوبة تفشي الطاعون. وانصاع الناس انصياعًا كاملًا للوائح الصحة العامة، وكان دوق توسكانا الأكبر يقوم بجولة يومية للتأكد من أن كل شخص يحصل على الطعام ويتلقى العناية المناسبة.
غالبًا ما كانت معدلات الوفيات من جراء هذه الأوبئة الكبيرة في إيطاليا مرتفعة للغاية؛ إذ كانت على الأرجح تصل في المتوسط إلى ٤٠ بالمائة من السكان، لكنها كانت تصل في بعض الأحيان إلى ما يزيد على ٦٠ بالمائة من السكان، كما حدث في فيرونا في الفترة ١٦٣٠-١٦٣١. تكبدت نابولي التي كان يصل إجمالي عدد قاطنيها إلى نحو ٣٠٠ ألف نسمة خسائر في الأرواح بلغت ١٥٠ ألف نسمة عام ١٦٥٦، وبلغت الوفيات في الريف المحيط نحو ٦٦ بالمائة من السكان. دامت هذه الأوبئة لمدة تراوحت ما بين عامين إلى ثلاثة أعوام في المدن الكبرى قبل أن تخمد، ربما بسبب المناخ الأكثر دفئًا في الشتاء ومطلع الربيع، مع أنه كان لا يزال هناك انخفاض في عدد الوفيات أثناء الأشهر الأكثر برودة.
(٣) شبه الجزيرة الإيبيرية: وصول المرض بحرًا
تفصل جبال البرانس إسبانيا عن بقية أوروبا، وتختلف قصة الطَّوَاعِين هناك تمامًا عما رأيناه في فرنسا، فمع أن عدد الوفيات ظل مرعبًا، فإن الأوبئة كانت أقل تكرارًا في إسبانيا والبرتغال، وفي آخر المطاف اندثر سكان كلا البلدين عن بَكْرَة أبيهما، حيث إن نوبة التفشي التالية حدثت نتيجة لوصول مصابين عبر البحار. لطالما سعت السلطات الإسبانية دائمًا إلى تحديد مصدر أي وباء، وعادة ما كانت تشير بأصابع الاتهام (كما رأينا من قبل) إلى جنود أو مسافرين وصلوا مؤخرًا من الخارج. وفي بعض المواقف كانت تشتبه في شحنة بضائع مستوردة، وفي أغلب الأحيان، كانت أطقم السفن والمسافرون هم المصابون بالعدوى فعليًّا.
بعد الموت الأسود، كان هناك العديد من نوبات التفشي المحلية العنيفة في إسبانيا والبرتغال، لكن منذ عام ١٥٠٦ حتى عام ١٦٥٢، لم يكن قد انتشر سوى أربعة أوبئة كبيرة. ولم يَصِلِ المرض بصفة عامة، كما سيتضح، عن طريق أناس يسافرون بالقرب من الحافَة الشرقية لجبال البرانس من مدينة أربونة، ولكن عن طريق أولئك المسافرين بالقوارب. تقع نقاط ضعف إسبانيا في الموانئ البحرية؛ فقد كانت عُرضة للخطر لأن لشبونة في البرتغال وإشبيلية في منطقة أندلوسيا في جنوب إسبانيا كانتا مركزين رئيسيين للتجارة الدولية، وكانتا نقطتي دخول عامَّتين للوباء.
تعد إشبيلية بالنسبة لمعظم الناس هي قلب إسبانيا في الرومانسية والفنون، ومسقط رأس شخصية دون خوان الأسطورية وشخصية كيجارو في أوبرا حلاق إشبيلية، وهي محل ميلاد كل من الرسامين دييجو فيلاثكيت وبارتولومي موريللو، ويقع على أحد أجناب حديقة ماريا لويزا مصنع السجائر، حيث عملت كارمن، بطلة الأوبرا التي سُميت باسمها.
على مدار ٢٠٠٠ عام، كانت إشبيلية ميناء على المنبع الصالح للملاحة لنهر الوادي الكبير، وسوقًا عملاقًا لنهر الوادي الكبير، ومفترق طرق بين شمال وغرب شبه الجزيرة الإيبيرية. كان عام ١٤٩٢ مهمًّا في تاريخ إسبانيا، فقد شهد الجلاء النهائي للمورسكيين، وهم السكان المسلمون لشبه الجزيرة الإيبيرية، واتحاد إسبانيا تحت عرش واحد، واكتشاف أمريكا، فقد أبحر كولومبوس لدى عودته من رحلته الأولى إلى إشبيلية يوم أحد الشعانين عام ١٤٩٣ منتصرًا حاملًا معه طيورًا ونباتات غريبة، وهنودًا «لم يُرَ مثلهم في أوروبا من قبلُ قَطُّ». ويدعي أهل إشبيلية أن كولومبوس المكتشف قد خطط رحلتيه الثالثة والرابعة من المدينة، ويمكن مشاهدة مقبرته الفخمة في كاتدرائيتها.
على مدار المائتي عام التي تَلَتْ كولومبوس، صارت إشبيلية هي بوابة الدخول إلى العالم الجديد، وقبلة التجارة الأوروبية، والمدينة الرئيسية في إسبانيا. أكان موقعها الجغرافي وأهميتها الاقتصادية، بالإضافة إلى مناخها (إذ تتنوع درجات الحرارة فيها تنوعًا طفيفًا على مدار العام، وصيفها طويل وجاف وحار، أما شتاؤها فدافئ) بمنزلة ظروف مثالية يترعرع فيها الطاعون؟
وصل الطاعون إلى إشبيلية عام ١٥٠٦ مصحوبًا بجفاف حادٍّ ونقص في الأغذية. انتشر الطاعون على نطاق واسع في منطقة أندلوسيا حيث قيل إن ١٠٠ ألف شخص لَقُوا حَتْفَهم، ثم قفز قفزة خطيرة شمالًا نحو مدريد التي تبعد ٢٥٠ ميلًا (٤٠٠ كيلومتر)، وهو مثال آخر على انتقال العدوى واسع المدى.
تكرر هذا النمط بحذافيره، وكذلك الدخول عبر إشبيلية في وباء طويل الأمد بدأ عام ١٥٩٦. في الوقت نفسه وصل الوباء اللعين إلى ميناء سانتاندير الذي يقع على الساحل الشمالي لإسبانيا عندما رست سفينة روداموندو، محملة بالبضائع من ميناء دنكيرك الفرنسي. استشرى الوباء عام ١٥٩٩ وانتشر على نطاق واسع في أنحاء شبه الجزيرة. فقدت مدينة شقوبية الصغيرة ١٢ ألفًا من قاطنيها خلال ٦ أشهر، وقد تفاعلت مع الطاعون بهِمَّة ونشاط: فقد أُنشئت المستشفيات المؤقتة، وأُقيم الحراس عند أبواب المدينة للحيلولة دون دخول مصابين، ودُفن الضحايا بسرعة، وحُرقت فُرُشُ الأسِرَّة. بلغ إجمالي عدد الوفيات خلال هذا الوباء الممتد ما يزيد عن النصف مليون نسمة.
(٤) الإمبراطورية الرومانية المقدسة
شكلت ألمانيا الحالية والنمسا وبوهيميا وهولندا وسويسرا جزءًا كبيرًا من الإمبراطورية الرومانية المقدسة إبَّان عصر الطاعون. على مدار المائتي عام التي تلت الموت الأسود، كان عدد محدود من حالات الطاعون يظهر على نحو متقطع في أنحاء المنطقة، وحتمًا وصلت هذه الحالات عن طريق مسافرين مصابين وافدين من فرنسا. كان الاستثناء الوحيد هو الثلاث السنوات التي تخللت عامي ١٤٦٢ و١٤٦٥، عندما استشرت أوبئة مريعة أودت بحياة الآلاف في مدن شديدة التباعد في ألمانيا. وهنا دليل آخر يوضح أن الطاعون كان يظهر دون سابق إنذار في كل أنحاء المكان. وكما هو الحال مع بقية أوروبا، يكمن التفسير في التوسع التِّجاري وانتقال التجار المصابين المزاولين أعمالهم كالمعتاد.
على مدار مائة عام عقب الموت الأسود، كانت هناك مجموعة من البلدات في الشمال تتصدر قائمة أكثر الأماكن التي وردت أنباءٌ عن تكرار ظهور الطاعون بها، كانت هامبورج ميناء كبيرًا على نهر إلبه وكانت بالفعل بلدة تِجارية مزدهرة بحلول القرن الثالث عشر، وكان ميناء لوبيك هو المنفذ الرئيسي لتجارة بحر البلطيق.
عقب عام ١٤٥٠، انتشرت الأماكن التي سُجلت فيها أوبئة متكررة جنوبًا بمحاذاة طريق التجارة الرئيسي للعصور الوسطى: لوبيك – هامبورج – ماجديبورج – نورنبرج – أوجسبورج. كان الطاعون يضرب هذه الأماكن على نحو متكرر وعنيف؛ ومن ثَمَّ ساد «الموت المرعب في كل الأرجاء في البلدات والريف»، وأُلغيت المهرجانات، وتفاقمت المعاناة بانتشار مجاعة. ها هي القصة نفسها تتكرر مرة أخرى: بؤس ورعب وموت. وسرعان ما تعلمت الطبقات الثرية ترك البلدات، إلا أن أغلب السكان لم يَكُنْ لديهم رفاهية هذا الاختيار.
تغير الموقف بعد عام ١٤٥٠ واستمر حتى عام ١٦٧٠. استمر الطاعون في الاستشراء على نطاق واسع، وكانت الأوبئة لا تزال تحدث في البلدات الشمالية، إلا أن موضع تمركزها الأساسي حيث يوجد أكبر عدد من الأوبئة أصبح حينذاك في الجنوب الغربي حيث تصدرت بازل وجنيف قوائم الأماكن الأكثر إصابة، بالإضافة إلى بأوجسبورج وبلدات أخرى على طريق التجارة المؤدي إلى ميلانو وإنسبروك والبندقية.
كما رأينا، احتلت جنيف مكانًا مركزيًّا في أوروبا، وكانت نقطة تمركز مثالية لأوبئة الطاعون. وكانت أوجسبورج مدينة مهمة؛ فهي مقر الكرسي البابوي، وموطن التجار والمصرفيين النبلاء، ومركز هائل لتجارة أوروبا الشمالية والبحر المتوسط والشرق.
أما بازل فقد كانت ميناءً نهريًّا كبيرًا يقع على نهر الراين، وكانت منفذ سويسرا الوحيد إلى البحر، ونهاية ملاحة نهر الراين، ولقرون عديدة كان جسر ميتلير بروك في بازل هو الجسر الوحيد على نهر الراين. كانت المدينة مركزًا تِجاريًّا مزدحمًا. عانت بازل من وباء استمر ١٥ شهرًا في الفترة ما بين ١٦١٠ و١٦١١ عندما أُصيب بالمرض نحو ٦٠٠٠ مواطن، من إجمالي السكان البالغ عددهم ١٥٠٠٠ مواطن، ومات نحو ٣٦٠٠. هل هذا دليل على أنه بمرور العقود تعافى المزيد من الأفراد من عدوى الطاعون؟
(٥) جزيرة الحقول الثلجية والأنهار الجليدية
اعتدنا الآن على مسألة قفز الطاعون عبر البحر المتوسط والقنال الإنجليزي، لكن ما أدهشنا بقوة هو معرفة أن أيسلندا عانت أيضًا من وباءين حادَّيْنِ في مطلع القرن الخامس عشر ونهايته. رُويت بالتفصيل قصة هذين الطاعونين المدمرين في مجتمع معزول، وهي تقدم أهم الأدلة وأكثرها إقناعًا حتى الآن بشأن طبيعة هذا المرض.
كانت الرحلة البحرية من اسكتلندا، حيث موطن القوارب التي حملت أطقمًا مصابة، تقطع ١٠٠٠ ميل (١٦٦٠ كيلومترًا)، ونظرًا لأن المراكب المتاحة كانت بدائية، فلا بد أن هذه الرحلة كانت قد استغرقت وقتًا طويلًا للغاية، ربما أسبوعين أو أكثر في ظل الرياح العادية.
جرى بحث هذين الطاعونين في أيسلندا بحثًا دقيقًا، ومن المؤكد أن نفس المرض الذي أصاب البرَّ الرئيسي لأوروبا كان هو المسئول.
وحيث إن المصادر الطبيعية لأيسلندا كانت محدودة، فإنها اضطرت إلى الاعتماد بقوة على النرويج في تشكيلة كبيرة من البضائع المستوردة، لكن عندما لقي نحو ٤٠ بالمائة من سكان النرويج حَتْفَهم بسبب الموت الأسود، توقفت تجارتها الخارجية على نحو شبه تام، وقُطع عنها خط الإمداد. وزادت الانفجارات البركانية والزلازل والمجاعات مُصابَ أهل أيسلندا في النصف الثاني من القرن الرابع عشر، وعاش جميع الناس تقريبًا في مزارع فردية؛ فلم يكن يوجد على الأرجح أية قرًى، ومن المؤكد أنه لم يَكُنْ يوجد أية مدن.
معظم ما نعرفه عن الوباء الأول، الذي ضربها في سبتمبر عام ١٤٠٢، مدون فيما يُعرف باسم «الحَوْلِيَّات الجديدة»، وهي مخطوطة قديمة. وصل القارب الذي جلب الطاعون على نحو شبه مؤكد ميناء والفيوردور في الجزء الجنوبي الغربي من الجزيرة، وبحلول وقت عيد الميلاد كان المرض قد بلغ المقر البابوي في سكالهولت في الجنوب وسكاجافيوردور في الشمال؛ ومن ثم يكون قد انتشر عبر مساحة ٢٠٠ ميل (٣٢٠ كيلومترًا) في غضون ١٦ أسبوعًا، وهو معدل انتقال سريع على نحو مذهل في ظل ظروف صعبة. تطلِق الحَوْلِيات الجديدة على عام ١٤٠٣ عامَ الوَفَيَات الهائلة، ولم يبدأ الوباء في التقهقر حتى فصح عام ١٤٠٤. من الواضح أنه حتى مناخ شتاء أيسلندا القارس البرودة لم يَحُلْ دون تقدم الوباء، وحتمًا انتشرت العدوى بداخل المزارع الدافئة.
وصل الطاعون كامل أيسلندا تقريبًا وكان معدل الوفيات مرعبًا؛ إذ لقي ٦٠ إلى٧٠ بالمائة من السكان حَتْفَهم، وهلك سكان الجزيرة ودُمِّرَت بنيتها واقتصادها، وكانت الآثار بعيدة المدى هائلة. عائلات بأكملها اختفت من على وجه الأرض، واستغرق التعداد السكاني خمسمائة عام أخرى ليتعافى كسابق عهده. تغيرت أيضًا أنماط الإرث التقليدية؛ فقد أصبحت الأراضي الزراعية في قبضة بضعة ملاك أثرياء، على رأسهم الكنيسة الكاثوليكية التي تبرع لها كثيرون بممتلكاتهم على أمل دَرْء الموت الناجم عن الطاعون.
في العقود الأولى من القرن الخامس عشر، بدأ التجار الإنجليز والألمان القيام بزيارات منتظمة إلى أيسلندا، أحيانًا بعشرات القوارب كل عام، فجلبوا الحبوب وخشب البناء والسكر ومنتجات أخرى يحتاجها أهل أيسلندا بشدة. أغلب الظن أن طاعون أيسلندا العظيم الثاني قد جاء عبر هذا الطريق عام ١٤٩٤، حيث وصل إلى جنوب غرب أو جنوب الجزيرة. تؤكد وثائق معاصرة أن المرض كان نشطًا في المناطق الغربية والشمالية الغربية في شتاء عامي ١٤٩٤-١٤٩٥. كتب أحد الكهنة المعروفين، ويُدعى جوتسكوك جونسون، عام ١٤٩٥: «مرض وطاعون عظيم في كل أرجاء البلاد، فيما خلا ويستفيوردور (شبه جزيرة كبيرة)، فكان خراب في البلدات عمومًا.»
خلال هذا الطاعون كان معدل الوفيات هائلًا للغاية، فلم يُذكر أو يُسمع عن شيء مماثل، حيث خربت مزارع كثيرة، وفي معظمها لم يَنْجُ سوى شخصين أو ثلاثة. كان الضحايا في بعض الأحيان أطفالًا بعضهم يبلغ من العمر سنة واحدة وبعضهم يمصُّون أثداء أمهاتهم الميتة. رأيت واحدًا من هؤلاء كان يُدعى تونجوفيل-مانجا. وحيثما وُجد تسعة أطفال، لم يكن يتبقى منهم على قيد الحياة سوى طفلين أو ثلاثة.
أغلب الظن أن ما بين ٣٠ إلى ٥٠ بالمائة من السكان لَقُوا حَتْفَهم خلال الطاعون الثاني.
يمكننا أن ندرك أن هذا المرض المرعب أمكنه اجتياز رحلة بحرية طويلة، وبعدئذٍ استشرى بوحشية مدمرة في جزيرة من الحقول الثلجية والأنهار الجليدية على حافَة الدائرة القطبية الشمالية. اجتاز الطاعون شتاءً قطبيًّا، بل ترعرع في وقت بلغ فيه متوسط درجة الحرارة في البقاع الداخلية في شمال أيسلندا ثلاث درجات مئوية تحت الصفر. شَتَّانَ ما بين هذه الظروف المناخية وبين تلك التي نَعِمَ بها أهلُ إشبيلية وصقلية والسواحل المطلة على البحر المتوسط. علاوة على ذلك، فإن سكان أيسلندا لم يتمركزوا في بلدات أو مدن، إنما عاشوا عمومًا في مزارع متفرقة؛ مما أدى بالتأكيد إلى زيادة صعوبة نشر العدوى. من الواضح أن هذا المرض كان قادرًا على التكيف.
فيما كنا نبحث هذين الطاعونين اللذين اجتاحا أيسلندا، عثرنا بالمصادفة على دليل مذهل سنعود إليه في وقت لاحق. تقول إحدى النظريات الحالية عن الموت الأسود إن البراغيث والفئران هي التي كانت تحمل العدوى، وقد ثبت بتأكيد دامغ أنه لم يكن يوجد أي نوع من الفئران في أيسلندا أثناء هذين الطاعونين، علاوة على أنه لم يكن يوجد براغيث فئران في أرضها الباردة القاسية. كان هذا خيطًا قيمًا حفظناه جانبًا لنستخدمه فيما بعد.
(٦) الصورة الكلية في أوروبا
كل شيء علمناه عن الموت الأسود تؤكده دارسة الطَّوَاعِين التي ضربت أنحاء أوروبا على مدار الثلاثة القرون التي أعقبته. كان توجد دائمًا نفس الضراوة والفتك البشع، وظهر على الضحايا نفس الأعراض والكرب الشديد في الساعات الأخيرة، وكان انتشاره قويًّا داخل العائلات وفي الأجواء المزدحمة، ومرارًا وتكرارًا رأينا أنه انتقل مباشرة من شخص إلى آخر، كانت ردة الفعل في كل بلدة فرار الأثرياء واندلاع الاضطرابات الأهلية بين أولئك الذين بقوا، ودائمًا ما أدى الموت الجماعي إلى ظهور مشكلات في التخلص من الجثث. وكان يتم التعرف على المرض في الحال، ويبدو أن العامل المسبب للعدوى ظل ثابتًا على نحو مذهل على مدار الثلاثمائة عام، وهي فترة عهده المرعب. وهو في هذا الصدد، كان على العكس من فيروس الإنفلونزا الذي يستطيع أن يتحور ليقدم سلالة جديدة كل عام.
بَيْدَ أننا اكتشفنا بعض التغيرات الطفيفة فيما كانت السنوات تمر ببطء؛ فبرغم كل شيء، تُعَد اﻟ ٣٠٠ عام مدة طويلة بالنسبة إلى البشر؛ فهي تعادل نحو ١٢ جيلًا. في القرن الرابع عشر، ضرب الموت الأسود سكانًا لم يسبق لهم أن عانَوْا هذا المرض، وقد زحف ببطء كموجة عنيفة تبتلع ما يأتي في طريقها. وفي السنوات التي أعقبت ذلك، انتشرت الأوبئة الكبيرة على نحو متقطع، قافزة من بؤرة إلى أخرى، وتطورت وسائل المواصلات والتجارة على نحو متزايد، وقد أسهم ذلك إسهامًا كبيرًا في الانتشار الواسع للأوبئة.
بالرغم من أن الطاعون لعب دور إبادة فعالًا للغاية، فقد زادت أعداد سكان أوروبا بشكل مطرد؛ مما ساعد على ما يبدو في زيادة العدوى القوية. لقد قتل المرض المزيد من الأشخاص ببساطة لأنه كان يوجد المزيد من الضحايا المحتملين. أصبحت الأوبئة في القارة الأوروبية متكررة الحدوث على نحو متزايد على مدار القرون، ووصلت إلى ذروتها في الوباء المرعب الأخير الذي بدأ في فرنسا عام ١٦٣٠ واستمر إلى عام ١٦٣٧، ومن بعدها تراجع معدل حدوث الأوبئة هناك تراجعًا كبيرًا.
في الوقت الذي كان ينشر فيه المسافرون الطاعونَ على نطاق أوسع في أنحاء الكتلة اليابسة من قارة أوروبا، هل كانت إنجلترا في مأمن في جزيرتها التي ساعدت في تحصينها؟