إنجلترا تحت الحصار
كل وباء طاعون ظهر في إنجلترا وصلها بالضرورة عن طريق القوارب المحملة بالبحارة والتجار والمسافرين المصابين، الذين وفدوا عمومًا عن طريق القنال الإنجليزي وبحر الشمال، وإن انتقل المرض في بعض الأحيان جيئَةً وذَهابًا بين تشستر وأيرلندا. ونتيجة لذلك، كانت الموانئ المصابة بالطاعون عمومًا هي موانئ لندن وإيست أنجليا، مع أن نيوكاسل ويورك وهال ضُربت بالطاعون أيضًا. ما إن يبدأ الطاعون في أحد الموانئ، حتى ينتقل منه نحو الخارج، منتشرًا عبر نهر التيمز أو أنظمة أنهار إيست أنجليا، أو من خلال مسافرين تنقَّلوا على الأقدام أو على صهوة الجياد. بهذه الطريقة أمكن أن تنتقل العدوى بالتدريج إلى القرى والبلدات المجاورة، أو أن تقفز عبر الطرق وتبدأ نوبة تفشٍّ على بعد أميال كثيرة. ما إن بدأ الوباء الجديد نشاطه مثيرًا فزع المواطنين، فإنه كان يصبح على استعداد للمضي قُدُمًا وبدء المزيد من نوبات التفشي على نطاق أوسع، فكان من الممكن أن يتسبب القارب الواحد الذي يحمل مصابًا أو اثنين في تفشي عشرين وباءً أو أكثر من الأوبئة الكبيرة، وإلى نوبات تفشٍّ محدودة لم يُبلغ عنها في أي عام في إنجلترا.
ومع ذلك اكتشفنا أهم نقطة لدى دراسة الطاعون في إنجلترا: كانت كل نوبة طاعون تستمر عامين على الأكثر، بعدها يزول الوباء وتصبح إنجلترا خالية تمامًا من المرض إلى حين وصول القارب التالي محملًا بأطقم مصابة.
لهذا السبب خلت إنجلترا من الطاعون لمدة ١٠ أعوام أو ١١ عامًا بعد الموت الأسود، قبل أن يستشري المرض بضراوة عام ١٣٦٠ أو ١٣٦١. وُصف هذا باعتباره الطاعون الثاني، «وإذ بالطاعون المميت المتفشي مؤخرًا الآن في مدينة لندن كما في البقاع المجاورة يضرب جموعًا غفيرة من الناس، وها هو يستفحل بصفة يومية.» امتد الوباء إلى ليسترشير، ووركشير، ولنكولنشير، وجميعها عانى بشدة، وقد انتقل من هناك إلى يورك ولانكشير. ولَقِيَ العديد من الشخصيات المهمة حَتْفَهم، منهم ثلاثة أساقفة وهنري دوق لانكستر بقلعته في ليستر.
مع أن الطاعون لم يكن ليصل إنجلترا إلى على نحو متقطع على مدار المائة والخمسين سنة التالية، فإنه بحلول القرن السادس عشر تطورت وسائل المواصلات على نحو هائل وتشكَّل لدينا انطباع بأن الطاعون كان مستفحلًا في مكان ما معظم السنوات. من المحير بحث الروايات المتنوعة، ومن الصعب جدًّا استخراج الدليل الذي يمدنا بخيوط عن هذا المرض.
فحص البروفيسور جيه إف دي شروزبري، عالم الأحياء الدقيقة الطبية فحصًا دقيقًا أغلب القصص المحلية المنشورة وسجلات الأبرشيات، وقرأ قراءة موسعة في السجلات التاريخية والمذاكرات المعاصرة. وقد نشر كتابه «تاريخ طاعون دبلي في الجزر البريطانية»، وهو موجز معلوماتي عن الأوبئة. صحيح أنه دون شك كتاب كئيب ومربك في بعض المواضع، إلا أن حسه الفكاهي يخفف من جفاف تناوله بين الفَيْنَة والأخرى.
للأسف فسر شروزبري كل الروايات بحيث تتناغم مع معتقداته بأن الطاعون لم يَكُنْ مرضًا ينتشر من شخص لآخر، لكننا عَوَّلْنا على الروايات والأدلة الأصلية أينما أمكن. وكالمعتاد، من الواضح وضوح الشمس أن الأشخاص الذين عاشوا آنذاك قد أدركوا أن الطاعون مُعْدٍ بشكل مباشر.
(١) أول مئتي عام من الطَّوَاعِين في إنجلترا
سرعان ما قَبِلَ الإنجليز حقيقة أن الطاعون صار جزءًا من نمط حياتهم. كان جون بيرجوين يشكو بالفعل في زمن ريتشارد الثاني من أن الأطباء الممارسين كانوا يحتالون على الناس ويستغلون الأوبئة لجني المال:
لعلِّي لم أتحاشَ صُحبة الأشخاص في جبل بيسيولين؛ حيث كنت أتنقل من منزل إلى آخر بسبب الفاقة؛ لأشفي القوم السُّقَماء. من ثم كنت أحمل بحوزتي كسرة خبز أو إسفنجة مغموسة في الخل؛ لأضعها على فمي وأنفي؛ لأن كل الأحماض (المواد اللاذعة) من شأنها أن تعوق سبل أخلاط الجسد، وتَحُول دون دخول المواد السامة إلى جسد الإنسان، وهكذا نجوت من الطاعون، في الوقت الذي اعتقد فيه زملائي أنني لن أنجو. وقد برهنت بنفسي صحة هذه الأمور المذكورة آنفًا.
أحد الأمور المثيرة هنا هو أن الإسفنجة المنقوعة في الخل ربما كانت طريقة فعالة لدرء الإصابة بالمرض الذي كان ينتقل عن طريق العدوى الرَّذاذية.
إلا أنه كانت هناك قضيتان وثيقتا الصلة: أولهما تتعلق بسبب موت أحدهما وعدم موت الآخر، ففي بلدة واحدة يلقى أناس حَتْفَهم في منزل، وفي منزل آخر لا يلقى أحد حَتْفَه. [لقد ذكرنا بالفعل هذه الظاهرة.] وثانيهما تتعلق بمسألة ما إذا كانت القرح الجلدية للطاعون معدية أم لا.
بشأن القضية الثانية أرى أن القرح الجلدية للطاعون معدية بفعل السوائل الحيوية المعدية، وتَكون الانبعاثات أو الروائح الكريهة لمثل هذه القرح سامة وملوِّثة للهواء؛ ومن ثم فمن المفترض أن تبتعد عن مثل هؤلاء الأفراد لأنهم يحملون العدوى.
في زمن الطاعون ينبغي ألا يقف أحد وسط الجموع الغفيرة المكتظة، لأنه ربما يكون أحدهم ناقلًا للعدوى؛ ومن ثم يقف الأطباء الحكماء عند زيارة السُّقَماء بعيدًا عن المريض مديرين وجوههم نحو الباب أو النافذة، هكذا أيضًا ينبغي أن يقف خدام السُّقَماء.
إن إخلاء المكان المعدي وتغييره علاج جيد، لكن ربما لا يستطيع البعض تغيير أماكنهم، ومن ثم يتعين عليهم أن يتحاشوا بقدر المستطاع كل مسببات العفونة، وتحديدًا كل شهوة جسدانية مع امرأة. من نفس المنطلق، يتعين تحاشي جميع الروائح الكريهة كتلك المنبعثة من الحظائر أو الحقول أو الطرق أو الشوارع المتعفنة وتحديدًا الرمم الميتة النتنة، ومعظم المياه النتنة، حيث تُترك المياه في أماكن كثيرة لمدة يومين أو ليلتين، أو تكون هناك مجاري مياه تحت التربة تسبب عفونة وتلوثًا هائلين. ولهذا السبب يموت البعض في المنزل الذي تحدث فيه هذه الأمور، ولا تجد موتى في منزل آخر، كما ذكرت قبلًا، ومن ثم لا تدع الهواء المحمل بالعدوى يدخل إلى منزلك؛ لأن الهواء المحمل بالعدوى يسبب عفونة في الأماكن والمنازل التي ينام فيها الأفراد؛ ومن ثم اجعل بيتك نظيفًا، وأشعل نارًا من الحطب لتطهر منزلك ببخور الأعشاب.
وقد فطن إلى فكرة الحجر الصحي التي لم تكن مُفعَّلة في إنجلترا آنذاك: «أيضًا خلال الطاعون، من الأفضل أن تَلْزَم المنزل؛ إذ ليس جيدًا من الناحية الصحية أن تخرج إلى المدينة أو البلدة.»
لكن البعض سوف يفهم كيف عساه أن يشعر المرء لدى الإصابة بالعدوى. أقول إن المرء المصاب يجب ألا يتناول الكثير من اللحم في هذا اليوم؛ إذ سيمتلئ جسده بالأخلاط السامة، وبعد العشاء مباشرة تسيطر عليه رغبة في النوم، ويشعر بحرارة شديدة في الأجواء الباردة، كما يشعر بألم مُبَرِّح في الجبهة … وبتورم تحت الإبْط، أو بالقرب من منطقة العانَة، أو بالقرب من الأذن … عندما يشعر شخص بأنه مُعْدٍ، حالما قد يشعر بذلك، اجعله ينزف بغزارة إلى أن يفقد الوعي، ثم أوقف النزيف، حيث إن قليلًا من فصد الدم يحرك السم أو يثيره.
بالتأكيد التزم الأفراد بفكرة أنه ينبغي الابتعاد عن الآخرين عندما يوشك الطاعون على التفشي. تقدم البرلمان بعريضة إلى الملك هنري الرابع عام ١٤٣٩ مطالبًا بإلغاء مراسم تقبيل الملك إبَّان حفل منح الأراضي للفرسان؛ لأن «مرضًا يُسمى الطاعون توغل عمومًا في أنحاء إنجلترا على نحو أعنف مما هو معتاد ولأنه معدٍ للغاية.» ونُقل البرلمان إلى ونشستر عام ١٤٤٩؛ للابتعاد عن «هواء ويستمنستر الموبوء.»
سوف يوضِّح القهْرَمان أو يأمر أحدًا بالتوضيح للأميرة المذكورة أن سمو الملك الذي ينظر بعين الرأفة إلى المشقة الكبيرة والطويلة التي تكبدتها وسفرها عبر البحر، وأنه كان سيسعد كثيرًا بوصولها وإقامتها لتلك الليلة في جريفزند، إلا أنه نظرًا لانتشار الطاعون هناك مؤخرًا، ولأن المكان لم يُطَهَّر منه بعد، يرى الملك أنه لا ينبغي أن تتعرض لمثل هذه المجازفة أو الخطر، من ثم أمر سموه بتجهيز الزورق وترتيبه لإقامتها.
بكل تأكيد تسبب الطاعون في بعض الاضطرابات بين أسرة تيودور المالكة:
كتب سفير البندقية عام ١٥١١ أن الملكة الأرملة (والدة هنري الخامس) توفيت على إثر الإصابة بالطاعون، وأن هنري الثامن كان خائفًا، فدأب على نقل بلاطه بانتظام إلى قصر هامبتون كورت أو إلى جرينتش أو جريفزند، وكان في الغالب يسافر بحرًا لتحاشي الإصابة بالمرض. كتب إرازموس عام ١٥١٤ أنه كان مشمئزًّا من لندن و«اعتبرها مكانًا غير آمن للإقامة فيه» بسبب الطاعون. وقد آثر الملك لدى ذهابه في موكب إلى كاتدرائية القديس بولس بإنجلترا أن يظل على صهوة جواده «ليتجنب الاتصال بالجمع بسبب الطاعون».
كان ضحايا الطاعون يسقطون باستمرار، مرض اثنان من خُدَّامه في الثاني والعشرين من أغسطس، لكنهما لم يتعرَّفا على المرض، وفي الخامس والعشرين من أغسطس نهضا من فراشيهما، وذهبا إلى حانة ليحتسيا مشروبًا معينًا يُطلق عليه «الْمِزْر» ولَقِيَا حَتْفَهما في اليوم نفسه، وأُلقي سريراهما وفُرشُهما وغير ذلك من متعَلَّقاتهما في البحر (على الأرجح في نهر التيمز).
في السابع عشر من سبتمبر كتب إلى البندقية أن «البقاء في لندن خطر؛ إذ يقال إن الوَفَيَات تصل إلى ٢٠٠ شخص في اليوم الواحد، ولا يزاول أحد أية أعمال، فجميع تجار البندقية في لندن اتخذوا لهم منازل في المدينة، وكان الطاعون قد انتشر أيضًا في الأسطول الإنجليزي.» وفي أكتوبر تراوح عدد الوفيات ما بين ٣٠٠ و٤٠٠ فرد في اليوم كما أورد المبعوث الذي أقام في المدينة. في السادس من نوفمبر والسادس من ديسمبر، كتب أن الطاعون لا يزال يسبب الكثير من الدمار.
أيضًا نشط وباء عنيف في لندن في خريف عام ١٥٣١، مسببًا خسائر في الأرواح تراوحت ما بين ٣٠٠ إلى ٤٠٠ شخص أسبوعيًّا. تكفل هنري الثامن بنفقات فقراء جرينتش الذين طُردوا في الحال من باب الحَيْطَة لدَرْء انتقال العدوى إليه عندما لجأ إلى هناك.
(٢) طاعون في الشمال
يبدو أن معظم الأوبئة التي ظهرت في النصف الأول من القرن السادس عشر في شمال إنجلترا كانت مقتصرة على الجانب الشرقي من البلاد، من يورك إلى برويك آبون تويد على الحدود الاسكتلندية.
في وقت مبكر من عام ١٥٣٨، نحو شهر مارس، كان الطاعون يحصد أرواح مواطني يورك، وفي مطلع شهر أبريل كان تأثيره شرسًا للغاية حتى إن جهاز المدينة أمر بالزج بكل المرضى في منازل خارج بوابة لاثروب التي خُصصت لاستقبالهم، وبغلق البوابة وبعدم دخول أو خروج أي مصاب. قرب نهاية هذا العام، انتشر الوباء أكثر، وأبلغ مجلس الشمال الملك هنري الثامن أن الطاعون كان مستشريًا في درم ومدينة نيوكاسل آبون تاين.
مرة أخرى ضرب يورك طاعون جرى الاعتراف به رسميًّا في يناير عام ١٥٥٠، عندما أمر جهاز المدينة جميع «القاطنين في لاثروب» بإخلاء منازلهم اللازمة لإقامة المرضى. كانت هذه المنازل هي نفسها التي بُنيت منذ ١٢ عامًا لنفس الغرض، شَغَلَها، سواء عن طريق الإيجار أو بوضع اليد، من يقطنون المنازل المهجورة في الفترة التي تخللت الوباءين. ولما ثبت أن هذه المنازل غير كافية، أُنشئ مبنيان آخران في هوب مور، وذلك في فبراير من نفس العام. وفي وقت لاحق من نفس الشهر، فرض الجهاز أموالًا على الدوائر الانتخابية الأربع بالمدينة من أجل إغاثة الفقراء من المرضى.
وفي ربيع عام ١٥٥١، ظهر الطاعون بقوة متجددة في المدينة، وفي مطلع شهر مايو، بدأ يسبب اضطرابات للسلطات، فعلى ما يبدو امتلأت بنايات لاثروب وهوب مور بالمرضى بحلول ذلك الوقت، حيث إن جهاز المدينة أمر في السابع من مايو جميع مرضى الطاعون بالتزام منازلهم الخاصة، ونظرًا لاستمرار المرض في التفاقم، ألغى جهاز المدينة عرض مسرحية «جسد المسيح» في الثامن عشر من نفس الشهر.
وإبَّان نوبة تفشي الوباء، أصدر مجلس المدينة قرارًا بأن يضع كل منزل مصاب «صليبًا أحمر على الباب»، وهو على ما يبدو أول استخدام لهذا اللون كعلامة على الطاعون في إنجلترا. وقد فقدت يورك على الأرجح نصف سكانها على الأقل في هذا الوباء.
استشرى طاعون عظيم في مدينة مانشستر عام ١٥٥٨، وقد استبد القلق الشديد بسلطات ليفربول خشية أن يمتد إليهم. ولسوء الحظ، طالتهم أنيابُه، وأُشير بإصبع الاتهام إلى رجل أيرلندي يحمل اسمًا ويلزيًّا وهو جون هيوز. وقد اتُّهم بأنه كان مريضًا لدى وصوله إلى البلدة من مانشستر، وأنه أخذ ملابسه المتسخة لغسلها في منزل رجل يُدعى نيكولاس براي. أُصيب أحد أبناء براي بالعدوى ومات. مَثَلَ هيوز أمام العمدة وخضع لتحقيق قاسٍ، لكن لم يَكُنْ ممكنًا إثبات الاتهامات. ومع ذلك، سواء كان الشخص الذي نقل الطاعون أو أن الطاعون قد وصل عن طريق قنوات أخرى، فإن آخرين كثيرين في نفس المنزل لَقُوا حَتْفَهم بعدَها بفترة وجيزة، «وهكذا منذ تلك الواقعة ازداد عدد ضحايا الطاعون بصفة يومية ليصل عدد الذين ماتوا بين عيد القديس لورانس (في العاشر من أغسطس) وعيد القديس مارتن التوروزي (في الحادي عشر من نوفمبر) من بعده، ٢٤٠ شخصًا تقريبًا.» وبلغ الحد بقسوة نوبة تفشي الطاعون في ليفربول أن معرض عيد القديس مارتن قد أُلْغِيَ ولم تُقَمْ أية أسواق لمدة ثلاثة أشهر.
(٣) أول مرسوم للطاعون
صدر إعلان رسمي عام ١٥٤٣ وقدم تعليمات كاملة حول تدابير الصحة العامة التي يتعين تنفيذها إبَّان الطاعون.
ينبغي عليهم أن يجعلوا شَمَامِسَتهم يضعون علامة الصليب على كل بيت من المفترض أنه مصاب بالطاعون، ويظل الصليب هناك لمدة أربعين يومًا [على ما يبدو أن فترة الحَجْر الصحي الموحدة في القارة الأوروبية صار معمولًا بها حينذاك في إنجلترا].
يحظر على أي شخص قادر على العيش بمفرده ومن المفترض أنه مصاب بالطاعون، أن يخرج من المنزل أو يذهب إلى أي تجمعات لمدة شهر من بعد إصابته بالمرض، وأن كل الذين لا يستطيعون العيش دونَ عملهم اليومي، ينبغي عليهم — بقدر إصابتهم بالمرض — أن يُحْجِموا عن الخروج من المنزل، وينبغي عليهم لمدة أربعين يومًا أن يحملوا في يدهم باستمرار قضيبًا أبيض طوله قدمان.
ينبغي على كل شخص كان بيته مصابًا أن يحمل بعد انتهاء الابتلاء كل القش ليلًا في الخفاء إلى الحقول وحرقه، وينبغي عليه أيضًا أن يحمل ملابس المصاب إلى الحقول كي يَشْفَى.
يحظر على أي صاحب منزل طرد أي مصاب بالمرض من منزله إلى الشارع أو أي مكان آخر ما لم يقدم له سكنًا بديلًا في منزل آخر.
جميع الأشخاص الذين يقتنون كلابًا في منازلهم بخلاف سلالة كلاب الهاوند (كلاب الصيد) أو السبانيل أو الماستيف (الدرواس)، الضرورية لحماية أو حراسة منازلهم، ينبغي أن يبدءوا على الفور في نقلها خارج المدينة، أو قتلها وحملها خارج المدنية ودفنها في مقالب القمامة والنفايات العامة [بُني هذا الأمر على الاعتقاد بأن الكلاب كانت تحمل العدوى في شعرها، وفي وقت لاحق إبَّان الطَّوَاعِين العظيمة في الأعوام ١٦٠٣، و١٦٢٥، و١٦٦٥، قُتل آلاف من الكلاب، وكان كثير منها قد تركتها الطبقات الموسرة لدى فرارها.]
ما دام المرء محتفظًا بكلاب الهاوند أو السبانيل أو الدرواس، يحظر عليه أن يسمح لها بالخروج من المنزل، وإنما يُحْكِم حبسها.
يتعين على وكلاء الكنائس في كل أَبْرَشِيَّة أن يُعَيِّنوا شخصًا ما كي يمنع دخول جميع المتسولين البذيئين إلى الكنائس في أيام الأعياد المقدسة، وإبقائهم في الخارج.
يتعين تطهير كافة الشوارع والطرقات، إلى آخره، الواقعة في ضواحي المدينة.
يتعين على أعضاء المجالس المحلية التأكد من تلاوة هذا المرسوم في الكنائس.
أسمع أن هذه المدينة موفورة الصحة للغاية، إلا أنه حالما دخلت من بوابة المدينة، القريبة من محل إقامتي، التقيت رجلًا وامرأة حاملين عصا الطاعون البيضاء في يَدَيْهما ويطلبان صدقة، لكن البعض يعتقد أن هذه ما كانت إلا حيلة منهما لجني المال.
في طواعين القرن السابع عشر في لندن والبلدات الإقليمية، استُخدمت العصا البيضاء كشارة خاصة للمفتشين عن المنازل المصابة ولحاملي الموتى. وصار القضيب الأبيض أو العصا البيضاء التي يحملها نزلاء المنازل المصابة قضيبًا أحمر إبَّان طاعون عام ١٦٠٣.
في ظل حكم الملكة إليزابيث الأولى، أصبحت بنود المرسوم التي تخص النظافة المدرجة أعلاه أكثر صرامة، فكان من ضمن المهام الأخرى التي يزاولها «عمال النظافة» الإشراف على الأرصفة، التي كان يجري كنسها بصفة أسبوعية، وعلى المسالخ وأماكن جمع القمامة وما شابه، وعلى المباني الخطيرة، وانتهاكات الشوارع، والمداخن والتدابير الاحترازية التي تُتخذ للحيلولة دون اندلاع الحرائق (بحيث تكون أحواض المياه جاهزة على الأبواب لإخماد الحرائق ونظافة الشوارع). إبَّان طاعون عام ١٥٦٣، عيَّن مجلس العموم «رجلين فقيرين لحرق ودفن القش والملابس وفُرُش الأَسِرَّة، التي يجدونها في الحقول بالقرب من المدينة أو بداخل المدينة، التي استلقى أو مات عليها أي شخص إبَّان الطاعون.»
في أبريل عام ١٥٥٢، غُرِّمَ جون شكسبير — وهو والد الكاتب المسرحي ويليام شكسبير وكان صانعًا للقفازات ومواطنًا ميسور الحال من بلدة ستراتفورد أبون آفون أصبح فيما بعد عمدة المدينة — اثني عشر بنسًا لعدم التخلص من كومة القمامة والفضلات المنزلية التي كانت قد تراكمت أمام باب منزله. وعندما زارت الملكة إليزابيث مدينة إبسويتش، لم تكتفِ بتوبيخ الكهنة بسبب تراخيهم، بل وبخت أيضًا السلطات المدنية بسبب الحالة القذرة للشوارع.
مع أن تدابير تعزيز الصحة العامة المطورة هذه كانت رائعة، فإنها لم تُحدث أدنى تأثير على تطور أو شدة الطاعون، حتى عندما كانت تُنَفَّذ بحذافيرها.
عُلقت مِشْنَقة في السوق بمدينة وندسور لشنق كل ما يأتون من لندن. يحظر جلب بضائع إلى أو عَبْر أو بواسطة وندسور، كما يحظر على أي شخص أن يحمل أخشابًا أو بضائع أخرى إلى أو من لندن عبر النهر الذي يمر بوندسور. بمثل هؤلاء تنزل عقوبة الإعدام شنقًا بلا محاكمة. وأما أولئك الذين يجلبون أية بضائع من لندن إلى وندسور فيُطردون من منازلهم، وتُغلق تلك المنازل.
قطعًا أدرك الناس أن الخطر يصاحب وصول المسافرين.
جرى تحديث مراسيم الطاعون هذه عام ١٥٦٨. تمثلت أحد البنود الضرورية لوسائل مكافحة الطاعون في تعيين المفتشين. في مراسيم عام ١٥٤٣، أُمر أعضاء المجالس البلدية بإرسال شَمَامِسَتهم لوضع علامة الصليب على المنازل المصابة. بَيْدَ أنه في الوقت المناسب انتقلت هذه المهام المتضمنة تفتيشًا وإخطارًا وعزلًا وتسجيلًا في لندن إلى أيدي رابطة موظفي الشئون الإدارية بالأَبْرَشِيَّة. وكان النشاط الأساسي لموظفي الشئون الإدارية بالأَبْرَشِيَّة هو موسيقى الكنيسة. وكان الإرث والوقف ينتقلان إليهم مقابل أداء خدمات معينة أو من أجل تشجيعهم عمومًا. وكان جميع أعضاء رابطة موظفي الشئون الإدارية بالأَبْرَشِيَّة يحضر في تلك الآونة جنازة بعض الأثرياء، وهكذا استطاعوا بسهولة أن يتكيفوا مع دورهم الجديد. اشتملت مهامهم على تجميع قوائم أسبوعية بالوفيات في كل أَبْرَشِيَّة.
تلزم مراسيم عام ١٥٨١ «أن يُقْسِم مراقبان متحفظان بداخل كل أَبْرَشِيَّة قَسَمًا أمينًا بتفقد جسد كل من يموت بداخل نفس الأَبْرَشِيَّة وأن يُبلغ موظف الأَبْرَشِيَّة الذي يعمل لدى مراقبي الموظفين الإداريين بالأَبْرَشِيَّة». اقتصرت وظيفة هؤلاء المراقبين المتحفظين على تحديد ما إذا كان الموت قد حدث بسبب الطاعون أو لأسباب أخرى، إلا أنهم كانوا يُحلَّفون على أداء مهامهم بكل أمانة، حيث كانت مراسيم القَسَم تتم داخل كنيسة سان ماري لو بو بشارع تشيبسايد في لندن.
(٤) نجاة ويليام شكسبير
ضرب الطاعون بلدة ستراتفورد آبون آفون مِرارًا وتَكرارًا. دُوِّن في السجلات التاريخية يوم الحادي عشر من يوليو ١٥٦٤ أنه «ها هنا بدأ الطاعون»، وأن أول شخص لَقِيَ حَتْفَه هو أوليفر جونه، تلميذ توماس ديجي. بعدها بتسعة أيام، دُفنت جوانا ديجي زوجة توماس ديجي. نقل أوليفر جونه المرض إلى خمس أسر أخرى، وبفحص السجلات يتبين أنه نقل العدوى هو وجوانا ديجي إلى نحو ٢٠ مصابًا. وهكذا بدأ الوباء حيث وصل ذروته في سبتمبر قبل أن يخمد تدريجيًّا في يناير من العام التالي. وسُجل نحو ٢٢٠ شهادة دفن على إثر الإصابة بالطاعون الذي كان يمثل وباءً كبيرًا، إلا أنه لم يكن بنفس القدر من الحِدَّة مثل بعض الأوبئة الأخرى.
كان ويليام شكسبير هو المولود الثالث لجون شكسبير وزوجته ماري أردن، لكنه المولود الأول الذي عاش إلى ما بعد مرحلة الطفولة. كان ويليام شكسبير يبلغ من العمر ثلاثة أشهر عندما تفشى الطاعون عام ١٥٦٤، وكان محظوظًا أن ينجو من العدوى ويظل على قيد الحياة بعد فترة الرضاعة؛ فمن المرجح أن تكون والدته قد فرَّت إلى منزل عائلتها في قرية ويلمكوت التي تبعد نحو ثلاثة أميال (خمسة كيلومترات)، وكان هذا المنزل لا تزال تقطنه زوجة أبيها الأرملة. لو كان الأمر جرى على خلاف ذلك، لربما لم تصل إلينا أعمال شخص عبقري.
(٥) القيمة الحقيقية لسجلات وقوائم وفيات الْأَبْرَشِيَّات للباحثين في تاريخ الطَّوَاعِين
كما ذكرنا قبلًا، تعود ممارسة الاحتفاظ بسجلات الأَبْرَشِيَّة الخاصة بالْمَعْمُودِيَّة والزواج والدفن إلى نحو عام ١٥٤٠. في البداية كانت مهلهلة، إلا أنها صارت أكثر تنظيمًا شيئًا فشيئًا، وقدمت معلومات أكثر قيمة في كل بند من بُنودها، فهي لا تقدم مجرد بيانات رقمية بشأن البلديات المصابة وعدد المصابين وتواريخ الدفن، إنما تقدم أيضًا أسماء الضحايا وتفاصيل أخرى عنهم. ظلت هذه السجلات المفصلة لما يقرب من الأربعمائة عام، وهي سجلات تنفرد بها إنجلترا. في العصر الإليزابيثي سُنَّ قانون يُلزم الكاهن أو موظف الأَبْرَشِيَّة بتسجيل أي حالات وفاة من الطاعون في سجل الأَبْرَشِيَّة. سوف نوضح في وقت لاحق كيف يمكن تحليل هذه السجلات التي لا تُقدر بثمن لإماطة اللثام عن خيوط مهمة.
منذ منتصف القرن السادس عشر تقريبًا بدأ حفظ قوائم بيانات أخرى مثل قوائم وفيات لندن، وهي قوائم أسبوعية، وملخصات شهرية وسنوية بوثائق الدفن، التي اشتملت فيما بعد على أسباب الوفاة. وقد كانت في الأساس بمنزلة نظام تحذير مبكر لرصد وصول وباء طاعون؛ لذلك يوجد كَمٌّ وفير من المواد التي قد تفيد المؤرخين بشأن المائة سنة الأخيرة من عصر الطَّوَاعِين. ولسوء الحظ، ليس هذا هو الحال بالنسبة إلى الفترة من عام ١٣٥٠ إلى عام ١٥٥٠.
(٦) آخر مائة عام من الطاعون
فيما توالت السنون، ارتفع تعداد سكان البلدات والمدن بمعدل ثابت، وتحسنت وسائل النقل والشحن بشكل ملحوظ، وانتعشت التجارة والحركة بالتبعية، وكانت قوات الجيوش في حراك دائم. ضمنت كل هذه الأنشطة انتشار أوبئة الطاعون؛ فكانت تضرب مِرارًا وتَكرارًا بعنف متزايد، وكلما زاد عدد الأشخاص في التجمعات الحضرية، زاد عدد الوفيات. ومع بزوغ القرن السابع عشر، كان الطاعون يتفشى في مكان ما في بريطانيا كل عام تقريبًا.
في يونيو عام ١٥٨٠، نظرًا لتفشي الطاعون في لشبونة، أمر اللورد بيرلي، وزير الخزانة، باتخاذ الاحتياطات اللازمة لدى وصول السفن من هناك للحيلولة دون وصول العدوى إلى لندن؛ فلم يكن مسموحًا للتجار أو البحارة بالإقامة في المدينة أو الضواحي، كما لم يكن مسموحًا بتفريغ البضائع «إلى أن تتعرض للتهوية لبعض الوقت.»
في وقت لاحق من هذا العام، منع مجلس جلالة الملكة كافة السفن والبضائع بميناء راي بمقاطعة ساسكس على الساحل الجنوبي، حيثما كان الطاعون هائجًا، من مواصلة مسيرتها إلى لندن «إلى أن تتعرض للتهوية.» علاوة على أنه لم يكن مسموحًا لقاطني ميناء راي بالذهاب إلى المدينة أو بإرسال أي بضائع برًّا، ما دام الطاعون منتشرًا هناك.
إلا أن الملكة أُبلغت في سبتمبر من عام ١٥٨١ أن زيادة استشراء الطاعون «تعود إلى حقيقة أن الأوامر الصادرة بشأن المصابين لا تُنَفَّذ.» ونتيجة لذلك، «أُجبرت الملكة على الانتقال بعيدًا وإرجاء تنفيذ القانون» (أي إنها قامت بإجراء مراوغ وفَرَّتْ).
في أبريل عام ١٥٨٢، أصدر لوردات المجلس تعليمات «لمنع الدفن في فناء كنيسة سان بول» لأن فناء الكنيسة كان مكتظًّا للغاية لدرجة أنه «لم يكن يوجد أي قبر دونَ جثث مكشوفة.»
وفي أكتوبر عام ١٥٨٢، أصدرت الملكة أوامر بمنع أي تجار أو أشخاص آخرين من المدينة كان لديهم مصابون في منازلهم من اللجوء إلى مقاطعة هارتفورد أو بلدة وير أو بلدة هوديسدون أو إرسال أي أنواع من البضائع أو الأطعمة أو ما شابه إليها.
يجب غلق المنازل المصابة، وتوفير الطعام للمرضى ومنعهم من الخروج، ويجب تمييز المنازل المصابة، وتطهير الشوارع تطهيرًا شاملًا. وأعربت جلالتها عن دهشتها لعدم بناء مستشفًى خارج المدينة لنقل المصابين إليه، بالرغم من أن مدنًا أخرى ذات آثار أقل عراقة وأقل صِيتًا وثراءً وشهرة قد بَنَتْ لنفسها مثل هذه المستشفيات.
(٧) اسكتلندا
في تلك الأثناء لم تَنْجُ اسكتلندا، بل في وقت مبكر وتحديدًا في عام ١٤٧٥، استُخدمت جزيرة إنشكيث عند مصب نهر فورث كمحطة حجر صحي. وفي وقت لاحق، استُخدمت أيضًا جزيرتا إنشكولم وإنشجارفي لنفس الغرض.
صار الطبيب جيلبرت سكين طبيب الملك جيمس السادس عام ١٥٦٨، عام الطاعون العظيم في إدنبرة، وقد خطَّ أطروحة حول المرض، فيقول إن الطاعون دخل المدينة في الثامن من سبتمبر حيث جلبه إلى المدينة «تاجر يُدعى جيمس دالجليش.»
جرت العادة في إدنبرة أن تُجبر العائلات التي يثبت إصابتها بالطاعون على ترك المدينة بكل متعلقاتهم الخاصة وأثاثهم المنزلي والذهاب إلى بيرج مور، حيث يقيمون في أكواخ رديئة أُنشئت في عجالة لإقامتهم. وكان من المسموح أن يزورهم الأصدقاء بِمَعِيَّة أحد الضباط بعد الساعة الحادية عشر صباحًا، وأي شخص كان يذهب قبل هذا الوقت المحدد يصبح عُرْضَة للعقاب موتًا [تدابير وحشية حقًّا]، وكذلك كان يُعاقَب موتًا أولئك الذين يتسترون على الطاعون في منازلهم. في الوقت نفسه كان تطهير ملابسهم يتم بِغَلْيِها في مِرْجَل كبير مُقام في الهواء الطلق، وكان الضباط المناسبون يُطَهِّرون منازلهم. كل هذه القواعد تتم تحت إشراف مواطنين منُتقين من الشعب؛ من أجل هذا الغرض يُطلق عليهم «قضاة المور أو الأرض السبخة»، ويرتدي كل منهم، شأنهم شأن غاسلي وحاملي الموتى، ثيابًا رَمَادية، عليها من الأمام والخلف صليب القديس أندراوس الذي يأخذ شكل حرف إكس.
الإغماء، قُشَعْرِيرَة البرد والتصَبُّب عرقًا، القيء، عفن الفضلات وتصلبها، بول لونه أسود أو له لون الرَّصاص، تشنج العضلات، واختلاج الأطراف، وعُسر الكلام، ورائحة أنفاس كريهة، ومغص، وانتفاخ الجسد كما يحدث في داء الاستسقاء، ووجه متغير اللون، وبقع حمراء [أمارات الرب] سرعان ما تظهر وتختفي.
دام هذا الوباء في إدنبرة حتى فبراير عام ١٥٦٩ ومات على إثره ٢٥٠٠ شخص.
(٨) طواعين في مطلع القرن الجديد
كتب توماس ديكر، الكاتب المسرحي الذي قيل عنه إنه «عرف لندن قدر معرفته بديكنز»، كتابًا بعنوان «السنة الرائعة ١٦٠٣: لندن على فراش المرض من الطاعون». وصف ديكر أول ما وصف حالة «ضواحي لندن الملوثة بالْخَطِيَّة»:
من خلال التجول في أنحاء الشوارع الساكنة الكئيبة في ساعات الليل المائتة. تتناهى إلى مسامعه من كل بيت: تأوهات مرضى مصابين بالهَذَيان، وغمرات الموت تكتنف الأرواح المحتضرة، وعبارات الحسرة المثيرة للفزع. يصيح الخدم كَمَدًا على أسيادهم، والزوجات على أزواجهن، والآباء على أبنائهم، والأطفال على أمهاتهم. هنا يقابل بعض الأشخاص وهم يهرولون في جنون ليوقظوا خدام الكنيسة، وهناك يلتقي آخرين يتصببون عرقًا في خوف كي يسرقوا الجثث في عُجالة حتى لا يمسهم المرض ويكتب الموت بيده على منازلهم.
وعندما يأتي الصباح، يقف مائة قبر جائع فاغِرِينَ أفواهَهم، وكل قبر يبتلع عشر جُثَث أو إحدى عشرة جثة هامدة كإفطار له. وقبل حُلول وقت الغداء، يلتهم نفس القبر ضِعْف ما التهمه في الإفطار وأكثر، وقبل أن تخلد الشمس إلى مَهْجَعها، تتضاعف هذه الأعداد، ٦٠ جثة مُكَوَّمة معًا على نحو مهمل في حفرة الروث!
إحدى القصص المروعة التي رواها عن وباء عام ١٦٠٣ لصعلوك فقير في أَبْرَشِيَّة ساوثورك لكاتدرائية سان ماري أوفيري. أُلقي هذا الصعلوك مع الموتى على كومة من الجثث في الصباح، ووُجد في المساء يلهث من أجل الحياة. آخرون كان الأسياد القُساة الأفئدة يطردونهم خارج المنزل ليموتوا في الحقول والخنادق، أو في الأكواخ العامة أو الإسطبلات. وُضِعَ صبي مريض بالطاعون على متن زورق ليرسو به أينما يحط، لكن رجال جيش الحراب البُنِّيَّة (حراب بُنِّيَّة اللون كان يستخدمها جنود المشاة الإنجليز) الذي كان يحرس الشاطئ منعوه من الرسو؛ من ثم كان من الضروري أن يُؤخذ إلى المكان الذي جاء منه ليلقى حَتْفَه في قبو.
فيما كان الطاعون ثائرًا في الضواحي الفقيرة من المدينة، «حاصدًا الأرواح شيئًا فشيئًا»، شعر المقتدرون بالخطر وولَّوا الأدبار: «البعض على صهوة الجياد والبعض الآخر سَيْرًا على الأقدام، البعض حُفاة والبعض الآخر يرتدي خُفًّا، فرُّوا بحرًا، وبرًّا، نازحين بأعداد كبيرة غربًا، ولم تكن الأحصنة الصغيرة، والبحارة والعربات، مستخدمة على الإطلاق لسنوات طويلة، لدرجة أنه في غضون فترة وجيزة لم يكن يوجد حصان واحد أو عربة واحدة في سميثفيلد كلها.» لكن لعل مكوثهم لم يَكُنْ يختلف كثيرًا عن إلقائهم لأنفسهم بين الأيدي غير الرحيمة لأبناء الريف قُساة الأفئدة. إن رؤية الريفي لشخص لندني يرتدي قبعة مسطحة كان أمرًا مرعبًا، كانت رؤية الطوق الثلاثي الذي يرتديه أبناء لندن يجعل قرية بأكملها تذوب من الرعب.
انطلق أحد أبناء لندن إلى بريستول، ظنًّا منه أنه لن يرى مَسْقَط رأسه مرة أخرى قبل حلول عيد الميلاد. لكن عندما سافر مسافة أربعين ميلًا من البلدة «باغَتَهُ الطاعون» وحاول الدخول إلى حانَة. عندما انكشف أمره، أُوصدت الأبواب في وجهه، «وأُغلقت النوافذ ذات الشرفة الواحدة بإحكام شديد فلم يكن هناك منفذ قِيدَ أُنْمُلة، وتعذبت النوافذ ذات الشرفتين من كثرة المسامير والطَّرْق الذي خضعت له، ما من فتحة إلا سُدَّتْ، فلم يُترك ثَقْب إبرة مفتوحًا.» من شدة الفزع تدافع رُوَّاد الحانة بعضهم فوق بعض عند محاولة الهروب، وفَرَّت النادلات إلى البستان والسُّقَاة إلى القبو. ساعد مواطن لندني ظهر في المشهد المريضَ اللندني البائس، وحمله ليموت على حُزْمة من القش في ركن أحد الحقول، إلا أن الخوري والكاهن رفضا دفنه، وأُلقي في حفرة في نفس المكان الذي لقي حَتْفَه فيه.
إن الطاعون في تلك الأثناء اخترق بوابات المدينة وشق طريقه في أنحاء شارع تشيبسايد، فخرَّ أمامه رجال ونساء وأطفال، وسلب اللصوص المنازل ونهبوا الشوارع، وكسر الورَثة السفهاء والخدام الوُضَعاء خزائن الأثرياء وتقاسموها فيما بينهم.
بمقدوري أن أجعل وَجْنَتَيْكَ تَشْحُبان وقلبك يضطرب خوفًا، بأن أخبرك كيف أن البعض كان لديهم ثماني عشرة قرحة جلدية في آنٍ واحد، والبعض الآخر كان لديهم عشر أو اثنتا عشرة قرحة جلدية، وكثيرون كان لديهم أربع أو خمس قُرَح، وكيف أن أولئك الذين أصابتهم عدوى هذا العام بأربع قرح لقوا حَتْفَهم على إثر الإصابة بآخر قرحة، في حين أن البعض الذين أصابتهم العدوى بقُرَح كثيرة لا يزالون يَجُولون وهم أصِحَّاء.
يبدو كما لو أن بعض الضحايا تعافَوْا أثناء وباء عام ١٦٠٣ في لندن.
توالت الجنازات واحدة تلو أخرى، لدرجة أن ٣٠٠٠ نائح خرجوا كما لو كانوا محتشدين معًا، وقد حَشَوْا آذانهم وفتحات أنوفهم بأعشاب السَّذَاب والشِّيح فبَدَا منظرهم مثل رءوس الخنازير البرية الكثيرة العالقة في أغصان نبات إكليل الجبل. زار أحد الجيران الودودين مصابًا يُعَالِج سكرات الموت ووعده بأن يُحضر له نَعْشًا، إلا أن هذا الجار لَقِيَ هو نفسه حَتْفَه قبل موت صديقه المصاب بساعة واحدة. ولدى سؤال أحد وكلاء الكنيسة في شارع تيمز عن مكان لدفن أحد الموتى في فناء الكنيسة أجاب ساخرًا أنه يريده لنفسه «وبالفعل في غضون ثلاثة أيام كان قد دُفن في المكان.»
وصف جون ديفيز، أستاذ جامعي من مقاطعة هيرفورد، طاعون لندن عام ١٦٠٣ في قصيدة بعنوان «انتصار الموت، أو صورة الطاعون، وفقًا للحياة كما كانت مُعاشة عام ١٦٠٣ ميلادية»:
وذكر أن السجناء في الزنازين نَجَوْا نسبيًّا من الطاعون. يشير بيت واحد إلى الحجم الهائل الذي كانت تبلغه قروح الطاعون في بعض الأحيان:
ويذكر ديفيز أن كلتا الجامعتين قد هُجرتا.
اقتبس ديفيز أحد الحوادث الشنيعة (في إحدى الحواشي الجانبية) على أنها وقعت في بلدة ليومنستر بمقاطعة هيرفوردشير. أُغرق أحد المصابين بالطاعون لمنع انتشار العدوى بأمر من السير هيربرت كروفت عضو مجلس الحدود الويلزية.
(٩) الطاعون يعاود ضرب لندن
التقى تشارلز الأول ملك إنجلترا عروسه المستقبلية، الأميرة هنرييتا الفرنسية، ببلدة دوفر في الثالث عشر من يونيو عام ١٦٢٥ ودخلا لندن في الثامن عشر، متجهين على متن صندل ملكي عبر النهر إلى «القصر الدنماركي» بسومرسيت وسط حشد هائل من الناس على أسطح المنازل والسفن والقوارب في النهر، وقد صاحب ذلك إطلاق نيران المدفعية ومظاهر الترحيب بالأميرة الكاثوليكية. بَيْدَ أنه قبل ذلك بخمسة أيام، كان قد كتب حارس الختم الملكي العظيم بالفعل إلى كونواي، وزير الدولة، يخبره بظهور حالات طاعون بويستمنستر وأنه يتمنى أن يكون سمو الملك قد قرر ألا يتجاوز جرينتش.
أمرت السلطات النبلاء بالْمُكوث في البلدة في انتظار قدوم الملكة الجديدة، وقد صدرت هذه الأوامر للبعض منهم من قِبَل البرلمان. والتقت المجالس في الثامن عشر من يونيو، ونصحهم الملك في خطابه بتعجيل أعمالهم بسبب الطاعون. وبعدها بفترة وجيزة، لمَّا تعين على اللورد فرانسيس راسل (الذي سيصبح فيما بعد أيرل بيدفورد) «الذهاب إلى البرلمان، استدعى صانع أحذيته ليرتدي حذاءه عالي الساق، فخرَّ صانع الأحذية ميتًا في حضرته بسبب الطاعون»، وهكذا تجنب سموه المجلس.
أزاح القضاة عن كاهلهم كل التزام في يأس، وفعل كل شخص ما يحلو له، واقتحم الناس منازل التجار الذين تركوا لندن ونهبوها.
بلغ عدد الفقراء والبؤساء هنا عددًا لم يشهده أي إنسان عاش من قبل على وجه الأرض، وانعدمت التجارة انعدامًا تامًّا، ورحل جميع الأثرياء، وأخذ مديرو المنازل ومتدربو الحرف اليدوية يتسولون في الشوارع بطريقة مأساوية تؤثر حتى في أشد القلوب قسوة.
صوَّر إبراهام هولاند، ابن الطبيب فيليمن هولاند، هذا المشهد في أحد الأبيات:
كما كتب جون تايلور، الذي أطلق على نفسه اسم «شاعر الماء»، والمسئول عن مركب الملكة:
كانت الظروف هي نفس تلك التي عاشها الناس عام ١٦٠٣: فخدام الكنيسة، وصناع النعوش، وحاملو الموتى، والمفتشون، والصيادلة، والدجالون كانوا جميعًا يُعَيَّنون بالأجرة:
إنه كان يوجد البعض الذين يهذون في جنون، والبعض الآخر الذين يبكون بحُرقة.
وكانت نفس القبور العامة المكتظة كما في عام ١٦٠٣، أغلب الظن في نفس المدافن:
أو كما عبر تايلور عن ذلك:
من الواضح أن القروح والبُثور قد تظهر لدى نفس الشخص أكثر من مرة، وكانت تحين أفضل فرصة للنجاة عندما تظهر التقيحات:
تمثل الأمل الأساسي في الهروب، بَيْدَ أنه أثناء رحلة هروبهم «كانت القوات التي تحمل الحِرَاب والأسلحة المصنوعة من مناقير الطيور تعيدهم إلى بلداتهم، فكانوا يجتازون وهم في حالة خزي قرية تلو الأخرى إلى أن ينهوا رحلتهم، وكانوا ينامون في الحظائر، أو مخازن الحبوب والمباني الملحقة بالمنازل الأساسية، أو حتى بجانب الطريق في الخنادق وفي الحقول المفتوحة.»
كان هذا مصير الرجال الأثرياء نسبيًّا. ذكر تايلور أنه عندما كان على متن مركب الملكة في قصر هامبتون وفي إبحارهم عبر النهر إلى أكسفورد، انتابه الكثير من مشاعر الأسى والشفقة لدى رؤية وسماع الترحيب البائس والجاف لكثير من أبناء لندن:
كان هناك رجل مصاب بنوبة حمى ورجفة مستلقيًا على الأرض في بلدة ميدينهيد بمقاطعة بيركشير، وكانت نوبة الحمى قد اشتدت به. أخذ رجلان من البلدة (أستطيع أن أُسميهما) يضربانه بالحجارة، ولمَّا لم يُفلحا في دفعه على النهوض، تناول أحدهما أُنْشُوطة أو عُقَّافة مراكب طويلة، وشبكها في بنطال الرجل المريض، ساحبًا إياه للخلف ووجهه مجرور على الأرض إلى أسفل الجسر في مكان جاف حيث استلقى إلى أن زالت نوبته، وبعد أن فقد قبعة جديدة، ذهب إلى حال سبيله.
في ريتشموند، أخذ زوجة وصبيٌّ يجُرَّان الزوجَ عاريًا أثناء الليل وألقياه في نهر التيمز حيث عُثر على جثته في اليوم التالي. وفي ساوثهامبتون في السابع والعشرين من أغسطس مات شخص غريب في الحقول: «لقد قدم من لندن وكان بحوزته مبلغ كبير من المال أُخذ منه قبل موته.»
ولَّى المواطنون الأدبارَ، كما لو كانوا قد فرُّوا من منزل اشتعلت فيه النيران، وحَشَوْا جيوبهم بأفضل مقتنياتهم، وألقَوْا بأنفسهم على قارعة الطرق الرئيسية، ولم يَكُنِ الناس يستقبلونهم حتى في مخازن الحبوب، ولَقُوا حَتْفَهم على هذا النحو: كان بحوزة البعض منهم مال يكفي لشراء القرية التي لَقُوا فيها حَتْفَهم ويَفِيض. أخبرني أحد قضاة الصلح عن شخص تُوُفِّيَ هكذا وبحوزته ١٤٠٠ جنيه.
تناقل الناس قصةً عن امرأة فرَّت إلى بلدة كرويدون التي تبعد ١٠ أميال (١٦ كيلومترًا) جنوب لندن، وفيما نظرت وراءها على تل ستريتم وقالت «وداعًا أيها الطاعون»، مَرِضت بعدها بقليل و«ظهرت أمارات الرب على صدرها.»
(١٠) وباء محدود في أَبْرَشِيَّة مالبس: وافد من لندن يحمل العدوى
عاد راف داوسون من لندن، حيث كان الطاعون متفشيًا، إلى منزل أبيه في برادلي، وهي ضيعة بأَبْرَشِيَّة مالبس بمقاطعة تشيشير، مسيرة نحو ١٨٥ ميلًا (٣٠٠ كيلومتر). ذكرت سجلات الأَبْرَشِيَّة على نحو مفصَّل ومحدد أنه كان قد أُصيب بالعدوى وهو في لندن، وهو مثال جيد آخر على قدرة المرض على الانتقال عبر مسافات طويلة. ظهرت لدى راف داوسون الأعراض المميِّزة للمرض ولَقِيَ حَتْفَه أخيرًا في الخامس والعشرين من يوليو عام ١٦٢٥. حسبنا في وقت لاحق أنه حتمًا أُصيب بالمرض وهو في لندن في الثامن عشر من يونيو تقريبًا. وكان لا بد أن يُدفن بالقرب من منزل العائلة؛ نظرًا لأنه لم يكن مسموحًا بدفن جسده الموبوء في فناء الكنيسة.
بعدها أُصيب كل أفراد العائلة وخدامها بالعدوى، واحدًا تلو الآخر، ودُفِنُوا أيضًا بالقرب من المنزل. من المؤكد أن راف داوسون نقل العدوى إلى خمسة أفراد من العائلة بشكل مباشر، وربما إلى اثنين آخرين، عمه ريتشارد داوسون وأخيه الصغير جون. من الواضح أن معدل الاحتكاك الأسري كان مرتفعًا.
نظرًا لأنه كان مريضًا بالطاعون وكان يدرك أنه من المؤكد أن يموت في ذلك الوقت، نهض من فراشه، وصنع قبره، وجعل ابن أخيه جون داوسون ينثر بعض القش في القبر الذي لم يكن بعيدًا عن المنزل، ثم ذهب واستلقى عليه، وهكذا رحل عن هذا العالم، لقد فعل هذا لأنه كان رجلًا قويًّا، وأثقل وزنًا من ابن أخيه، وكانت الخادمة الأخرى قادرة على دفنه.
كانت الخادمة آخر من لَقِيَ حَتْفَه في هذه العائلة، إلا أنها كانت قد حملت العدوى بالفعل إلى عائلة كلوتون المجاورة، في الوقت الذي كانت أعراض المرض تظهر عليها. ووافتِ الْمَنِيَّة بعد ذلك طفلين والأم مود كلوتون، لكنهم كانوا قد نقلوا العدوى إلى طفل ثالث، وهو آخر من تلقَّى العدوى في الوباء المحلي بالضيعة الصغيرة.
توضح قصة هذا الوباء المحدود بأَبْرَشِيَّة مالبس كيف أنه يمكن للطاعون أن يقفز لمسافة كبيرة من لندن، وهي رحلة لا بد أنها استغرقت عدة أيام سفرًا بالجياد. كانت نوبة تفشي الطاعون في مالبس تحت السيطرة، ولم يكن هناك سوى ثلاث عشرة ضحية إجمالًا؛ بسبب المساحة الصغيرة للضيعة ووسائل العزل المتبعة هناك.
عاش جون هاندلي في شُكلتش، الأَبْرَشِيَّة المجاورة لمالبس التي زارها إبَّان الطاعون الصغير هناك. ووقع ضحية للطاعون أيضًا ودُفن في الثالث من سبتمبر عام ١٦٢٥. ومرض ابنه جون (١٥ عامًا) وابنته إليزابيث (١٩ عامًا) في الثالث والعشرين من سبتمبر، ومات جون بعدها بيومين.
ونظرًا لأنه لَقِيَ حَتْفَهُ على حينِ غِرَّة، ولأنه ظهرت البقع الحمراء (أمارات الرب) عليه، افتُرض أنه مات على إثر الإصابة بالطاعون. وعليه حملته أمه إيلين هاندلي وأخوه غير الشقيق راندل جيلبرت على عربة نقالة إلى الكنيسة. ودُفن في فناء الكنيسة، عند طرف برج الكنيسة خارج الممر، دون إقامة المراسم الجنائزية أو قرع الأجراس أو أية مراسم كنسية أخرى.
لقيت إليزابيث هاندلي حَتْفَها بعدها بيومين في السابع والعشرين من سبتمبر.
ولمَّا ظهرت عليها البقع الحمراء وبعض القرح عند إبْطها، اشتُبه بالمثل في أنها ماتت بسبب الطاعون. وعليه دُفنت في مزرعة أمها بالقرب من البستان في الثامن والعشرين من سبتمبر. وفي يوم الاثنين الموافق الثالث من أكتوبر، أخرج راندل جيلبرت المذكور أعلاه أخته غير الشقيقة إليزابيث هاندلي من القبر وحملها على نقالة إلى الكنيسة حيث دفنها بالقرب من أخيها الأصغر جون هاندلي دون أي مراسم كنسية.
دُفنت إيلين هاندلي (الأم) في التاسع من أكتوبر عام ١٦٢٥.
نظرًا لأن ولديها لقيا حَتْفَهما وعلى جسديهما بقع حمراء (أمارات الرب)، اشتُبه في أنها ماتت بسبب الطاعون؛ لهذا حملها ابنها راندلي جيلبرت على نقالة إلى الكنيسة ووضعها إلى جانب جسدَيْ ولديها جون وإليزابيث هاندلي.
أُجبر راندل جيلبرت (البالغ من العمر ٢٨ عامًا)، الذي ساعد في دفن هذه العائلة والذي كان «من المفترض أنه جلب هذه المتاعب والمرض إلى أَبْرَشِيَّة شُكلتش، على ملازمة منزل والدته، حيث مكث هناك تحت المراقبة والحراسة المستمرة ليل نهار، وحيدًا لمدة طويلة.» وفي آخر المطاف جرَّده بعض الجيران وسكان الأَبْرَشِيَّة من ملابسه وفحصوه، «فلم تظهر على جسده أي علامات على أية قروح.» لقد نجا من الطاعون وتزوج في العام التالي.
(١١) حجر صحي ناجح
في عام ١٦٣١، أرسل الرب ملاكه المُهلِك إلى حانة في مانشستر، فمات ريتشارد مريوت وزوجته، وسيد وسيدة المنزل، وكل من كان في المنزل أو دخله على مَدار أسابيع. أُحرقت أو دفنت كافة الأمتعة بالمنزل … فلم تمَسَّ العدوى أي شخص آخر في هذا العام.
كان هذا مثالًا على التطبيق الناجح لتدابير الصحة العامة.
(١٢) الأرقام القياسية في العدوى
في بلدة ميرفيلد بغرب يوركشير (حيث ذهبت الأخوات برونتي فيما بعد إلى المدرسة)، لقي ١٣٠ شخصًا حَتْفَهم على إثر الإصابة بهذا الوباء الذي تفشى عام ١٦٣١. يمكن تشكيل صورة عن مسار الأحداث هناك وخطوط انتقال العدوى من سجلات الأَبْرَشِيَّة. نرى من جديد أن «جالب العدوى» كان شخصًا غريبًا، وهي إليزابيث برينس التي أقامت مع الأرملة جانيت فرانس ونقلت إليها العدوى في البداية. بعدها نقلت العدوى إلى خمسة أطفال بالمنزل قبل أن تلقَى حَتْفَها، تلك قصة معتادة لبَدْء الكثير جدًّا من الأوبئة، ثم نقلت جانيت فرانس العدوى إلى ٣٣ شخصًا آخر في تسع عشرة عائلة إبَّان الأسبوع الأول من فترة نقل العدوى، وهو شيء غير مسبوق بالنسبة لبلدة صغيرة إبَّان شهر أبريل المعتدل البرودة، ولعلها استمرت في نقل العدوى إلى المزيد من الأفراد. نتساءل بدورنا أي وظيفة هذه التي تجعل هذه الأرملة على احتكاك مع عدد كبير للغاية من العائلات في مثل هذه المدة الزمنية القصيرة، أكانت تعمل في غسل الملابس أم كان لديها عربة لبيع الخَضْروات في السوق؟
(١٣) قصة شخصية
وُلِدْتُ في أَبْرَشِيَّة سفينوكس بمقاطعة كِنت، وكان لدى والدِي، الذي كان يعمل صائغًا … ولَدان من زوجة سابقة وثلاثة أبناء وابنة من أمي. وعندما كنت في سن يتراوح بين السادسة عشرة والسابعة عشرة، ذهب أبي وأمي لزيارة صديقة بقرية سنسوم في المقاطعة المذكورة فأُصِيبا بالعدوى، وسرعان ما مرضتْ أمي بعد رجوعهما إلى المنزل ولقيت حَتْفَها خلال ستة أيام تقريبًا، ولم يخطر على بال أحد أن هذا المرض هو السبب. أقام أبي جنازة عظيمة من أجلها، ووفد إليها أعداد غفيرة من الناس لا يراودهم الخوف من أي شيء، ومع أن العديد من النساء أعددن جثمان أمي للدفن، وبالرغم من الملابس التي أُخذت من الغرفة عند وفاة أمي، فإنه لم يُصب شخص واحد بالعدوى.
وبعد دفنها، أمضينا جميعًا أسبوعًا كاملًا معًا، وتردد الكثير من الناس على منزلنا، وترددنا نحن على منازل جيراننا، إلا إنه في نهاية الأسبوع، وفي خلال يومين، مرِض أبي وأخي الأكبر وأختي وأنا أيضًا، وفي خلال ثلاثة أيام بعدها مرض أخَوَاي الأصغرين إدوارد وجون، وبالرغم من اعتلالي الشديد، فإن أبي أرسلني إلى السوق كي أشتري أشياءَ كنا بحاجة إليها، لكن قبل أن أعود إلى المنزل، كان الناس يتحدثون عن الطاعون، وما إن وَطِئَتْ قدماي عتبة المنزل حتى أمروني بالتزام المنزل، وعَيَّنوا حراسة مشددة علينا. كل هذا ولم يُصب أي شخص بعدوانا ولم ننقلها لأحد. ونحو اليوم السادس على مرض أفراد عائلتي، لَقِيَ ثلاثة منهم حَتْفَهم في غضون ثلاثة ساعات، واحدٌ تلو الآخر، ودُفِنوا جميعهم في قبر واحد. وبعدها بنحو يومين، مات أخواي الصغيران معًا، ودُفنا في قبر واحد. كل هذا وأنا طريح الفراش، وكان الحارس يترقب موتي كل ساعة، إلا أن الله شاء أن يحفظني على نحوٍ معجِز، بل حتى دونَ تفشي أي قروح في جسدي. كل ما هنالك أنه كان لديَّ تورُّم في المنطقة العليا من الفخذ، وقد استغرق وقتًا طويلًا قبل أن ينحسر ويختفي. شعرت بإعياء شديد خلال تلك الفترة، وعندما تعافيت، جرى احتجازي مع امرأتين ورجل وطفل لمدة ثلاثة أشهر، ولم يُصَبْ أيٌّ منهم بالعدوى.
هذه قصة شاهد عيان عن اقتصار الطاعون على أسرة واحدة، الأمر الذي ربما يعود جزئيًّا إلى سبل العزل القياسية. أدرجنا هذه الرواية بالتحديد لأن ليونارد جيل أُصيب بالمرض فعليًّا لكنه تعافى. هل كان مقاومًا للمرض بشكل جزئي؟
(١٤) الدور الرئيسي للتجارة
كان الموقف في إنجلترا مختلفًا اختلافًا جوهريًّا عن الموقف في فرنسا؛ فكل وباء تفشى في إنجلترا حتمًا بدأ بوصول أحد الأشخاص الحاملين للعدوى على متن قارب قادم من أوروبا القارِّيَّة، رسا في لندن أو في أحد الموانئ الكثيرة على السواحل الجنوبية والشرقية. وما إن يُحْكِم وباء قبضتَه في ميناء، فسرعان ما ينطلق المسافرون المصابون حاملين الطاعون في كل أنحاء البلاد. بحلول القرن السابع عشر، ربما تسبب قدوم طاعون واحد في تفشي ٢٥ وباءً تابعًا.
كما رأينا بالفعل، بعد مُضيِّ ١٨ شهرًا أصبحت إنجلترا خالية من الطاعون تمامًا، إلى أن بدأ كل شيء في الحدوث من جديد لدى وصول حامل العدوى التالي على متن قارب. على الأرجح لم يَكُنِ انتقال المرض في اتجاه واحد بالكامل، فلعل الأطقم المصابة بالمرض حملت الطاعون بالمثل في طريق عودتها من إنجلترا إلى أوروبا القارِّيَّة؛ ومِنْ ثَمَّ ساعدت في استمراره هناك.
مرت على إنجلترا سنوات كثيرة في القرنين الرابع عشر والخامس عشر وهي خالية تمامًا من الطاعون أو لم يَكُنْ فيها سوى ميناء واحد مصاب. لكن بحلول منتصف القرن السادس عشر، ومع زيادة التجارة والسفر، كانت هناك أوبئة منتشرة انتشارًا واسعًا وأكثر وحشية تنطلق كل عام تقريبًا من موانئ مختلفة.
بعد وصول الوباء إلى أحد الموانئ، كان ينتشر في أنحاء إنجلترا عن طريق مصابين مسافرين على أقدامهم أو على ظهر الجياد، أو على نحو أقل شيوعًا، عن طريق النقل النهري أو الساحلي. وكان ينتقل إلى البلدات القريبة من خلال الانتقالات الداخلية ثم ينتشر على نحو متزايد عبر طرق التجارة الرئيسية. كان يحدث بعض من هذا الانتشار للطاعون عن طريق الحركة التجارية العادية. لكن سرعان ما بات معروفًا، ولا سيما في لندن، أنَّ أسلم ردود الأفعال لدى اكتشاف أحد الأوبئة هو الفرار، وهو خيار متاح فقط لموسري الحال وذوي النفوذ، أما الفقراء فلم يكن لديهم بديل سوى المعاناة، وقد كانوا يموتون بالمئات؛ لهذا السبب وُصف الطاعون بأنه مرض الفقراء. وبات واضحًا أنه من أجل السلامة من الضروري الابتعاد عن لندن مسيرة يوم، مسافة نحو ٢٠ ميلًا. وقطعًا، حمل الفارُّون — ولا سيما أولئك الذين لم يغادروا إلا في اللحظات الأخيرة — العدوى معهم انطلاقًا من المدينة نحو الخارج في اتجاهات شتى.
ساهمت تجارة الصوف في العصور الوسطى إسهامًا كبيرًا في التنقل عبر مسافات طويلة في إنجلترا. استمر شحن ونقل الأصواف على مدار السنة على نطاق واسع؛ ومن ثَمَّ كان هذا عاملًا رئيسيًّا في نشر الطاعون. كان تجار الصوف والسلع الأخرى المستقلون رحالةً وذوي وجهة فردانية في التفكير؛ فقد كان هؤلاء الرجال يسافرون بمفردهم في طلب الماشية والذرة والصوف، وكانوا على استعداد لإهمال عائلاتهم وبيوتهم سعيًا وراء مكاسب فردية. كانوا يشترون ويبيعون في الحانات، وهناك كانوا يلتقون تجارًا آخرين؛ مما أتاح طريقة مُثْلَى لانتقال عدوى الطاعون بنجاح، وهي التحدث باستفاضة مع السكان المحليين في أجواء مغلقة.
عادة ما كانت تُغسل الخِرَاف ويُجز صوفها في شهر يونيو، وكان الذي يفعل ذلك في الغالب عمال مأجورون يجولون في أنحاء البلاد، عندئذ يُعبَّأ الصوف ويُسلَّم إلى المشتري، سواء في الحال أو في وقت لاحق. وغالبًا ما كان صُنَّاع الثياب يأتون ومعهم وسيلة نقل لأخذ الصوف من مُرَبي الماشية، أحيانًا على دفعات، مع أنه كان يتم الاستعانة بالحمَّالين أيضًا، وكان صُنَّاع الثياب والموزعين إما أن يخزِّنوا الصوف وإما أن يبيعوه في الحال.
كان يُباع كمٌّ هائل من الصوف في القرنين السادس عشر والسابع عشر من خلال الأسواق العامة التي كانت تُقام خصيصًا بصفة أسبوعية في البلدات المصنعة والمقاطعات التي تربي الأغنام لبيع أصوافها. باع التجار الكثير من بضاعتهم بشارع ليدن هول بلندن، الذي لم يكن مجرد سوق وإنما كان أيضًا أكبر مستودع للصوف في إنجلترا. وهكذا لأن لندن كانت مركز التجارة، فإنها صارت بكل تأكيد مركز وفيات الطاعون في إنجلترا.
(١٥) المعارض الضخمة
كانت المعارض الضخمة المقامة سنويًّا وسيلة رئيسية أخرى لنشر الطاعون في إنجلترا، كما كانت في الغالب أحد مصادر جَلْبه إلى البلاد في المقام الأول. أدركت السلطات هذا، وكانت المعارض تُلغى دائمًا مع أول علامة على ظهور الطاعون. وكانت أهم المعارض تُقام جنوب وشرق خط ممتد من مدينة إكزتر إلى مدينة يورك، وكانت تُقام على الأنهار القابلة للملاحة أو الطرق المؤدية إلى الموانئ البحرية، أو بالقرب منها.
كان المعرض الضخم المُقام في ستربريدج [في إيست أنجليا]، الذي افتُتح في الثامن عشر من سبتمبر، واستمر لثلاثة أسابيع أهم المعارض الإنجليزية، وكان ذائع الصيت بما يكفي لجذب التجار من الكثير من المراكز التجارية الأوروبية. يمكنك وأنت في معرض ستربريدج الهائل أن تجد الزجاج الذي تشتهر به مدينة البندقية، وكَتَّان مدينة بروج، والحديد الإسباني، والقار النرويجي، وفَرْو الرابطة الهانزية، والقصدير الكورنوالي، والخمر الكريتي، كل هذا للبيع في البقعة البالغ مساحتها نصف ميل مربع المستخدمة على مدار ثلاثة أسابيع كاملة. وإبَّان معرض ستربريدج، كانت موانئ بليكني، وكولتشيستر، وكينجز لين، وربما نورتش تعج بالسفن الغريبة. كانت المراكب تجلب سلع بلاد الشام من البندقية وسلعًا أخرى من بلاد ما وراء البحار.
كانت الموانئ، وبالأخص ميناء لندن، هي بؤرة التركيز، فكما هو الحال في بقية أوروبا، كانت التجارة هي محرك نشر الطاعون في أنحاء إنجلترا.
لأكثر من ٢٠٠ عام قاوم الأفراد في كل أنحاء أوروبا وَفَيَات الطاعون الهائلة، وقد صمدوا صمودًا مثمرًا؛ إذ استمرت أعداد السكان في النمو، وإن كان نموًّا بطيئًا للغاية، إلا أن العدو كان يُحكِم قبضته شيئًا فشيئًا، فكما رأينا؛ نتيجة للتجارة المتزايدة باستمرار، استشرى الطاعون على نطاق أوسع، واجتاح أماكن أكثر وارتفعت أعداد الوفيات على نحو هائل. منذ نهاية القرن السادس عشر وعلى مدار نحو ٨٠ عامًا، كان عدد سكان أوروبا (وبالأخص في إنجلترا حيث تتوافر إحصائيات أكثر تفصيلًا) ثابتًا، بل انخفض انخفاضًا طفيفًا. كان الطاعون يحرز انتصارًا تلو الآخر، ولو قُدر لهذا الاستمرار لاندثرت حضارتنا.