طاعون لندن العظيم
من بين كل ابتلاءات الطاعون في أوروبا، نعرف عن «طاعون لندن العظيم»، الذي بدأ عام ١٦٦٥، أكثر مما نعرف عن أي طاعون آخر. قدم صموئيل بيبس في يومياته الشهيرة تسجيلًا تاريخيًّا لواقعة عن أحد شهود العيان. استرجع دانييل ديفو، الذي لم يكن قد تجاوز سن السادسة في تلك الأثناء، القصة عام ١٧٢٢، ومع أن هذه القصة بلا شك قصة مثيرة وممتعة، فإن بعض المؤرخين شككوا في مصداقيتها، إلا أن دبليو جيه بيل الذي ألَّف الكتاب الحاسم «طاعون لندن العظيم» دافع عن ديفو قائلًا: إن هذه التصريحات «تعجِز عن الوصف الفعلي لمدى المعاناة التي تكبدها ديفو لدى استخدام مثل هذه المصادر التاريخية التي كانت متاحة أمامه.»
كانت قوائم الوفيات الأسبوعية تُحفظ (مع أنها غالبًا ليست على نفس القدر المرجو من الدقة لأن الأرقام كانت تُخفَّض عن واقعها الفعلي لتحسين معنويات الناس)؛ مما يعني توفر إحصاءات مفصلة. كان عدد الوفيات رهيبًا؛ فقد كان الطاعون في أشد عنفوانه في إنجلترا. لكن، للمفارقة، كانت هذه رقصته الأخيرة؛ فقبل انقضاء خمس سنوات كان قد اختفى إلى الأبد.
(١) من أين جاء؟
كان الطاعون هائجًا في هولندا عام ١٦٦٤ ووُجِّهَ تحذير مسبق إلى مفوضي إدارة الجمارك لضمان عدم دخول لاجئين مصابين إلى أرض بريطانيا. لكن لم يكن هذا التحذير مُجْدِيًا؛ فقد وردت أنباء عن وفاة فرنسيَّيْن على إثر الإصابة بالطاعون بشارع لونج إيكر بلندن في نهاية العام.
كان شتاء عام ١٦٦٤ قاسيًا؛ فقد كان الصقيع الجافُّ الأسود يكسو الأرض على نحو شبه دائم منذ نوفمبر، ولم ينحسر حتى مارس عام ١٦٦٥. استمر البرد الجاف بعد انكسار موجة الصقيع؛ مما أسفر، كما قيل، عن «عدد كبير من حالات التهاب غشاء الجنبة المحيط بالرئة، والالتهاب الرئوي والذبحة الصدرية»، نتيجة «لأعنف شتاء وربيع وصيف سمع عنه إنسان عاش على وجه الأرض. بارت الأراضي الزراعية، ولم يكن في أرض المروج سوى أربع شحنات من القش التي كانت تصل من قبل إلى أربعين شحنة على الأقل.»
ونظرًا لاقتصاره على منزل أو اثنين، انحسر المرض خلال فصل الشتاء الجليدي القارس الذي دام قرابة ثلاثة أشهر متواصلة؛ فقد دخل في سُبات عميق من وقت عيد الميلاد إلى منتصف شهر فبراير، ثم تفشى مرة أخرى في نفس الأَبْرَشِيَّة، وبعد فترة هجوع طويلة أخرى استمرت حتى شهر أبريل، مارست العدوى تأثيرها الخبيث من جديد حين أمدها دفء الربيع بالقوة الكافية.
بلغ عدد وفيات الطاعون المسجلة أسبوعيًّا ٤٣ ضحية إجمالًا في مطلع يونيو ١٦٦٥، وكان أول إخطار رسمي هو ذلك الإعلان الصادر في الرابع عشر من يونيو بإلغاء معرض بارنويل «خشية انتشار الطاعون». كان هذا احترازًا حكيمًا، لكن لم يكن بمقدور شيء أن يردع العدوى حينذاك.
على ربِّ كل بيت، ما إن يشكو أي فرد من أفراد بيته إما من بقع سوداء أو بنفسجية أو من تورم في أي جزء من أجزاء الجسم، أو يُصاب بمرض خطير دونَ سبب واضح يشير إلى مرض معين آخر، أن يخطر مفتش الصحة في غضون ساعتين من ظهور الأمارة المذكورة.
خلال الفاصل الزمني بين إصابة أحد الأفراد بالمرض ووصول المفتشين، كان لدى ربِّ البيت الفرصة والحرية في أن يغادر هو أو كل أفراد عائلته، إذا كان يعرف وجهته، وقد فعل الكثيرون هذا. إلا أن الطامَّة الكبرى هي أن كثيرين فعلوا ذلك بعد إصابتهم هم أنفسهم، وهكذا حملوا المرض إلى منازل أولئك الذين كانوا في غاية السخاء واستقبلوهم، الأمر الذي لا بد من الاعتراف بأنه كان في غاية القسوة وقمة نُكران الجميل.
كانت لندن في تلك اللحظة على أُهْبَة الاستعداد وفي كامل حِذْرها، وكانت جميع التدابير الصحية المثبت فعاليتها تُطبق بصرامة.
(٢) يوميات صيف مُريع
- السابع من يونيو: أشد الأيام التي مرت بي قسوة في حياتي. في هذا اليوم، حدثت أشياء ما كنت أرغبها: رأيت في شارع دروري لين منزلين أو ثلاثة منازل وُضع على أبوابها صليب أحمر وعبارة «نرجو رحمتك يا ألله»، أحزنني رؤية هذا؛ حيث إنني لم أَرَ في حياتي قَطُّ — بقدر ما تُسعفني ذاكرتي — شيئًا من هذا المثيل.
- الخامس عشر من يونيو: البلدة تزداد مرضًا، ويرتعد الناس من العدوى.
- السابع عشر من يونيو: كنت بصحبة سائق عربة وجدته يقود عربته بسلاسة، وأخيرًا وقف بلا حَرَاك، وتَرَجَّلَ من العربة وهو يكاد لا يستطيع الوقوف، وأخبرني أن الطاعون ضربه بقوة فجأة، وقد صار كفيفًا تقريبًا، لا يستطيع أن يرى، وعليه ترجلتُ من العربة واتجهت إلى عربة أخرى وأنا أشعر بالحزن على الرجل المسكين، خشية مني أن يكون قد نقل إليَّ عدوى الطاعون.
- الحادي والعشرون من يونيو: وجدت أهل البلدة جميعهم يهجرونها، اكتظت العربات والمركبات بالأفراد الفارِّين [إلى الريف].
- الثاني والعشرون من يونيو: أرسل بيبس والدته مارجريت بيبس، بعيدًا. لقد تأخرت في مكتب البريد وفقدت مكانها في العربة المكتظة بالأفراد و«كانت مستعدة لأن تركب في جزء الشحن الخلفي من العربة.»
- الخامس والعشرون من يونيو: الطاعون يزداد شراسة.
- التاسع والعشرون من يونيو: الاتجاه إلى طريق قصر وايت هول، حيث اكتظت الساحة بالشاحنات والأفراد الذين كانوا على أُهْبَة الاستعداد للرحيل من المدينة. يزداد هذا الطرف من البلدة سوءًا كل يوم بسبب الطاعون. اقترب معدل الوفيات في هذا الأسبوع من ٢٦٧، أي أكثر من إجماليِّ وَفَيَات الأسبوع المنصرم بنحو ٩٠ فردًا.
- الثاني والعشرون من يوليو: وأنا متجه إلى المنزل التقيت بعربتين لنقل البضائع وليس عربتي ركاب. كانت الشوارع خالية تمامًا من المارَّة.
- الثلاثون من أغسطس: خرجت واتجهت صوب كنيسة مورفيلدز كي أعرف (اصفح عن ذنبي يا الله!) ما إن كان بمقدوري أن أرى أي جثة ميته محمولة إلى القبر، لكن شاء الله ألا أرى. لكن يا إلهي! كيف حال الجميع، والأحاديث في شوارع الموت تدور حول البلدة البائسة وكيف أصبحتْ مكانًا كئيبًا مهجورًا.
- الثالث من سبتمبر: أردت ارتداء باروكتي البيضاء الجديدة التي اشتريتها منذ وقت طويل لكن لم أجرؤ على ارتدائها؛ لأن الطاعون كان قد انتشر في ويستمنستر عندما اشتريتها، وتعجبت تُرى ماذا عساها أن تكون موضة الشعر المستعارة لدى انتهاء الطاعون؛ لأنه ما من أحد سيجرؤ على شراء أي شعر مستعار خوفًا من العدوى؛ لئلا يكون مقصوصًا من جثث أفراد ماتوا بسبب الطاعون.
- السادس من سبتمبر: اتجهتُ صوب لندن، وهناك رأيت نيرانًا مشتعلة في الشوارع في كل أنحاء المدينة بأكملها، بأمر من عمدة المدينة.
- الرابع عشر من سبتمبر: سمعت في ذلك اليوم أن نادلي باين المسكين دفن طفلًا، وأنه هو نفسه ينازع الموت. وسمعت أن عاملًا أرسلته اليوم التالي كي يتقَصَّى كيف أصبح الحال هناك مات بسبب الطاعون، وأن أحد الملاحين الذين يعملون لديَّ والذي كان يُقِلُّني بالقارب بصفة يومية مَرِضَ بمجرد أن رَسَا بي صباح يوم الجمعة الماضي، بعدما أمضيت الليل بِطُوله في المياه، وقد مات بسبب الطاعون. تناهَى إلى مسامعي أن القبطانين لامبرت وكاتل قد قُتلا لدى الاستيلاء على تلك السفن، وأن السيد سيدني مونتاجيو يعاني من حمًّى شديدة بمنزل الليدي كارتريت بقاعة سكوت. سمعت أن السيد لويس لديه ابنة أخرى مريضة. وأخيرًا أصابني خبرُ فَقْدِ خادمي دبليو هيور وتوم إدواردز أبويهما جرَّاء الطاعون هذا الأسبوع بحزن بالغ، وثمة سبب وجيه لهذه الكآبة.
- العشرون من سبتمبر: اتجهتُ إلى منطقة لامبيث. يا له من مشهد حزين عندما لا ترى أية قوارب على صفحة النهر، والعشب يكسو كل أرجاء قصر وايت هول، والشوارع خالية تمامًا إلا من البؤساء!
- السادس عشر من أكتوبر: اتجهت إلى البرج، كم كانت الشوارع خالية وكئيبة، فقراء مرضى كثيرون تملؤهم القروح في الشوارع. لقد أخبروني أنه لا يوجد طبيب واحد في ويستمنستر، فقط صيدلاني واحد هو من بقي على قيد الحياة، الجميع لَقُوا حَتْفَهم.
لكم كانت الزيادة في عدد الوفيات مرعبة في شهر أغسطس! الآن السُّحُب شديدة السواد، وتعصف بنا الرياح العاتية بقوة بالغة. الآن يطوف الموت شوارعنا على صهوة جواده الباهت في زَهْو وانتصار، ويقتحم كل منزل حيثما يجِد مقيمين فيه. في ذلك الوقت، كان الناس يرتجفون بسبب الرياح العاتية. الآن ثمة عزلة موحشة في شوارع لندن، يبدو كل يوم وكأنه يوم سبت [بوصفه يوم راحة وعبادة] يُعامل بهَيْبة أكثر مما هو معتاد في المدينة. الآن المتاجر مغلقة، لا ترى سوى قليل من الأفراد يجولون في المدينة، حتى إن العشب بدأ ينبت في بعض الأماكن، وقد عمَّ كل الأرجاء تقريبًا سكون عميق، بالأخص بداخل جدران المدينة، فلا خيول متبخترة ولا عربات مطقطقة، وليست هناك صيحات نداء على الزبائن، ولا معروضات من البضائع، لا يُسمع صدى صيحات لندن في الآذان. وإن وُجدت أي أصوات، فإنها كانت أَنَّات الأفراد الذين ينازعون الموت الذين يلفظون أنفاسهم الأخيرة، وأجراس النعي التي تعلن أن الجثث جاهزة لنقلها إلى قبورها، يمكننا أن نتحدث دون توقف عما رأينا وسمعنا: فالبعض كانوا في غمرة جنونهم ينهضون من فراشهم ويتقافزون في أنحاء غرفهم، والبعض الآخر يصرخون ويزمجرون من نوافذهم، والبعض الثالث يخرجون شِبْه عُراة إلى الشوارع.
(٣) أشباح الموت: ممرضو الطاعون والحراس المخيفون
توضح يوميات بيبس، كما هو الحال مع الطَّوَاعِين السابقة، أن كل من استطاع الهروب فرَّ من لندن، إلا أنه لم يَكُنْ بمقدور أفراد الطبقات الأرقِّ حالًا في الضواحي الشعبية على جانبي نهر التيمز فعل ذلك، وكانوا هم من عانوا أكثر من غيرهم. توقفت عملية التوظيف لدى رحيل الأثرياء، ومن ثَمَّ توقفت أغلب الأجور، وعليه فقد أُضيف سوء التغذية والموت جوعًا فوق المحن التي عانى منها الشعب.
كان موقفهم ميئوسًا منه للغاية حتى إن البعض اضْطُرَّ إلى مباشرة الأعمال الخطيرة المتمثلة في وظيفة حراس البيوت المغلقة على مدار الليل والنهار، ودافني الموتى، وممرضي الطاعون المخيفين الذين كانت تتولى السلطات تعيينهم، والذين كان يُقال إنهم كانوا يُسهمون في الموت المبكر لمرضاهم. قال فينسنت: «كان الأفراد المصابون بالطاعون يَخْشَوْنَ ممرضي الطاعون أكثر من الطاعون نفسه.» ليس هذا غريبًا؛ فهؤلاء الممرضون لم يكن لديهم أية مهارات أو خبرة في التمريض، وفي معظم الأحوال كانوا شخصيات مريبة. كانت الأَبْرَشِيَّة هي التي تدفع أجورهم، وكانت هذه الأجور لا تفي بحدِّ الكفاف؛ ومن ثم فكي يسدوا رَمَقهم اضطروا إلى الاعتماد على فرص السلب والنهب التي تأتي في طريقهم.
يخبرنا عدد كبير من الروايات المرعبة عن ممرضين وحراس اعْتَنَوْا بأشخاص محتضرين، ممرضين مأجورين تولوا رعاية مصابين، فاستغلوهم بوحشية، أو جوَّعوهم، أو كتموا أنفاسهم، أو عجلوا أجلهم باللجوء إلى وسائل أخرى شريرة، أي إنهم اغتالوهم. وحراس كانوا معينين من أجل حراسة منازل كانت مغلقة لم يَتَبَقَّ من أفرادها سوى شخص واحد ربما كان طريح الفراش. كان هؤلاء الحراس يقتحمون المنزل ويقتلون هذا الشخص، ويرمونه في الحال في عربة الموت التي تذهب به إلى القبور لدفنه.
بالمثل استُخدم العنف مع الحراس في أماكن كثيرة حسبما أفادت تقارير، وأعتقد أنه منذ بداية الطاعون حتى نهايته قُتل على الأقل ١٨ أو ٢٠ شخصًا أو أصيبوا إصابات بالغة حتى إنهم اعتُبروا في عداد الموتى؛ بسبب الاعتداءات التي يُعتقد أنه قام بها الأفراد المحتجزون داخل المنازل الموبوءة التي كانت مغلقة وتحت الحراسة، حيث حاول هؤلاء الخروج فمنعهم الحراس. على بعد خطوات من نفس المكان فتَكوا بحارس باستخدام البارود، وحرقوا الرجل المسكين بطريقة شنيعة، وفيما كان يطلق صرخات مرعبة، ولم يجازف أحدهم بالاقتراب منه ومدِّ يد الغَوْث إليه، فرَّ أفراد العائلة الذين كانوا قادرين على الرحيل بأكملهم من النوافذ التي تقع على ارتفاع طابق واحد [وهكذا فرُّوا]، وتركوا وراءهم اثنين من المرضى يستغيثان طلبًا للعون.
(٤) قصص بطولية
مع أنني كنت حائرًا للغاية في البداية في إصدار حكم، فإنه مع الممارسة والملاحظة الطويلة للتفاصيل، اكتسبت مهارة أكبر؛ إذ أصبحت معتادًا على المرض، وانطلاقًا من إدراكي أن وسيلة فعل الخير هي ألَّا أخاف بلا شك؛ من ثم كنت أتولى عادة تضميد أربعين قرحة يوميًّا، وأقيس نبض المرضى الذين كانوا يتصببون عرقًا في فراشهم كل عشر دقائق، وأمارس فَصْد الدم، وأحقن المرضى بحقن شرجية، وأساعدهم على النهوض من فراشهم كي لا يحدثَ لهم اختناق. لقد عانيت من «تنفسهم في وجهي مرات عديدة وهم يُحتضرون.» كنت آكل وأشرب معهم، وبالأخص مع أولئك الذين لديهم قروح. كنت أجلس إلى جانبهم وعلى فراشهم، وأتحاور معهم طيلة ساعة. وإن وجدت مساحة من الوقت، كنت أمكث إلى جانبهم كي أراهم وهم يموتون، وأرى طريقة موتهم، وكنت أُغلق أعينهم وأفواههم؛ لأنهم كانوا يموتون وهم فاغرو الأفواه ومحدقو الأعين. وإذا لم يوجد من يتولى أمرهم بعد مماتهم، كنت أساعد في رفعهم من الفراش ووضعهم في النعش، وفي النهاية أرافقهم إلى القبر.
الشيء المذهل في هذه الرواية هو كيف نجا هذا الرجل من العدوى. لقد كان دائمًا على احتكاك مع عدد غفير من الضحايا ومع ذلك لم يَمُتْ.
أُصيب ربُّ أسرة في المنطقة التي أقطن فيها بعدوى يُعتقد أنها انتقلت إليه من عامل مسكين يعمل لديه، وكان قد ذهب إلى منزل ذلك العامل ليتفقده، وقد كانت لديه بعض التوجُّسات حتى وهو بعتبة دار العامل المسكين، إلا أنه لم يعرف السبب، لكن في اليوم التالي اتضح الأمر وأصاب المرض الشديد الرجل، ولتَوِّه أمر بحمله إلى مبنًى خارجي بفناء منزله حيث توجد غرفة تعلو مصنع نحاسيات، إذ كان الرجل يعمل نَحَّاسًا. رقد الرجل على فراش الموت حتى وافَتْه المنِيَّةُ في ذلك المكان. لم يَتَلَقَّ الرعاية من أيٍّ من جيرانه إلا من ممرضة من خارج المنطقة، ولم يُسمح لزوجته ولا أولاده ولا خُدَّامه بالدُّنُوِّ من غرفته لئلا تنتقل العدوى إليهم، وإنما كان يرسل إليهم دعواته وصلواته مع الممرضة التي كانت تنقلها إليهم من مسافة بعيدة، كل هذا خشية أن ينقل العدوى إليهم، وكان يعلم أنهم ما داموا بمعزل عنه فلن يصيبهم المرض.
لعل أكثر قصة تمس شغاف القلب في كتاب ديفو هي تلك التي تحكي عن ملاح مسكين استطاع أن يعول عائلته التي أصابها الطاعون من خلال عزل نفسه بعيدًا عنهم. لقد حمد الله أنه حفظهم من العَوَز: «يا الله! … يا لعمق الرحمة إذا أبقيتَ على حياة أي منا، ومن أنا حتى أتذمَّر من أحكامك؟»
(٥) دليل الموت
كنت بالخارج والتقيت مستخدِمَنا الذي يُدعى هادلي. لدى سؤاله عن مَجْرَيَات الأمور بالنسبة للطاعون، أخبرني أنه يتفاقم بشدة في أَبْرَشِيَّتِنا؛ لأنه كما يقول لَقِيَ تسعة أشخاص حَتْفَهم هذا الأسبوع، رغم أنه لم يُعْلن رسميًّا إلا عن ست حالات، ويا لها من ممارسة دنيئة تجعلني أظن أنها تحدث في أماكن أخرى، وهكذا كان الطاعون أكبر كثيرًا مما كان يظن الناس.
تُوُفِّيَ في المدينة هذا الأسبوع ٧٤٩٦ شخصًا من بينهم ٦١٠٢ بسبب الطاعون. لكن يُخشى أن يكون عدد الوفيات الحقيقي لهذا الأسبوع يقترب من ١٠ آلاف ضحية (عدد إجمالي صادم)، معظمهم من الفقراء الذين لا يلتفت أحد إليهم من كثرة عددهم، ومن الكويكرز وغيرهم الذين لا يسمحون بقرع أية أجراس من أجلهم.
بلغت الحَيْرَة بالناس مبلغًا لا يمكن وصفه، ولا سيما داخل المدينة في ذلك الوقت. بلغ الفزع مَداه في النهاية لدرجة أن شجاعة المأجورين لنقل الموتى بدأت تخذلهم، بل مات أيضًا كثيرون منهم، مع أنهم أُصيبوا بالعدوى من قبلُ وتَعافَوْا منها، والبعض منهم سقط صريعًا وهو يحمل الجثث وعلى وشك أن يلقِيَها في القبر. وكان حجم الحَيْرَة في المدينة يفوق ذلك بكثير؛ لأن الأفراد هناك مَنَّوْا أنفسَهم بآمال النجاة، وظنُّوا أن مرارة الموت قد اجتازتهم.
مع أن عدد الأفراد الذين لَقُوا حَتْفَهم في لندن خلال نَوْبَة التفشي هذه أكبر من عدد الذين ماتوا في أية نوبة تفشٍّ أخرى، فإنه ينبغي النظر إلى ذلك في ضوء الزيادة الحادَّة في عدد السكان التي بلغت نحو ٤٦٠ ألف نسمة؛ ومن ثم بلغت وَفَيَات الطاعون وفقًا للأرقام الرسمية ١٥ في المائة من السكان، تلك النسبة التي تقترب من نسبة وَفَيَات الوباء السابق عام ١٦٢٥ التي بلغت ١٣ في المائة.
(٦) الموت: عتق مبارك
تشير التقارير الطبية إلى أن قلة قليلة حالفها الحظُّ ولَقِيَتْ حَتْفَها سريعًا بعد ظُهور أمارات الرب، لكن بالنسبة للأغلبية كانت النهاية هي المسألة المعتادة الممتدة والمليئة بالأوجاع. روى ديفو الروايات التالية التي ترسم على نحو مُحزن معاناة الضحايا الفقراء:
يمكننا أن نتحدث دون توقف عمَّا رأينا وسَمِعْنا: فالبعض كانوا في غَمْرة جُنونهم ينهضون من فُرُشهم ويتقافزون في أنحاء غرفهم، والبعض الآخر يصرخون ويزمجرون من نوافذهم، والبعض الثالث يخرجون شبه عُراة إلى الشوارع. آخرون تحدثوا وفعلوا أشياء غريبة في مرضهم، إلا أنه كان أمرًا محزنًا للغاية أن نسمع عن شخص كان مريضًا ووحيدًا، وعلى ما يبدو انتابته حالة هياج، فأحرق نفسه في فراشه.
عندما لا تزول الأورام تصبح موجعة للغاية حتى إنها كانت تضاهي في وجعها أشد وسائل التعذيب، والبعض عندما لم يستطيعوا تحمل الآلام ألقَوْا بأنفسهم من النوافذ أو أطلقوا النار على أنفسهم، أو قتلوا أنفسهم بطرق أخرى، وقد رأيت أشياء محزنة كثيرة من هذا القبيل. آخرون لم يستطيعوا كبح آلامهم فنفَّسوا عنها بزمجرة لا تنقطع، وكنا نسمع مثل هذه الصرخات العالية البائسة ونحن نسير في الشوارع، كان التفكير في هذا يُذيب أقصى الأفئدة ولا سيما لدى التفكير في أن نفس الفاجعة المرعبة يُتوقع أن تُلِمَّ بنا في أي لحظة.
سمعت عن مصاب هَرْوَلَ من فراشه مرتديًا قميصه وكان يعاني العذاب والوجع من أورامه التي كان لديه ثلاثة منها، وارتدى حذاءه ومضى ليرتدي معطفه، لكن عندما قاومته الممرضة وخطفت المعطف منه، طرحها أرضًا وداسها بقدميه وهرول عبر السلالم إلى الشارع متجهًا إلى نهر التيمز مباشرة وهو يرتدي القميص فحَسْبُ. ركضت الممرضة وراءه وأخذت تستغيث بالحارس ليوقفه، إلا أن الحارس، لأنه كان خائفًا من الرجل ويخشى أن يلمسه، تركه يمضي. أسرع الرجل المصاب ليصل إلى سُلَّم ستيليارد، ونزع عنه قميصه وألقى بنفسه في مياه التيمز؛ وحيث إنه كان سباحًا ماهرًا، فقد سبح إلى أن وصل إلى اليابسة إلى حيث سُلَّم فالكون. رسا الرجل ولم يَجِدْ أحدًا هناك لأن الوقت كان ليلًا، وركض في الشوارع عاريًا، وأمضى وقتًا طويلًا إلى أن رجع إلى النهر مرة أخرى، وسبح عائدًا أدراجه إلى سُلَّم ستيليارد.
كان الأفراد لدى اشتداد مرضهم، أو في خِضَمِّ ما يعانونه من ألم يفوق الاحتمال نتيجة لأورامهم، يطير عقلهم ويهيجون ويجن جنونهم، ولطالما كانوا يؤذون أنفسهم: فيُلْقُونَ بأنفسهم من النوافذ، ويُطلقون النار على أنفسهم، وما إلى ذلك. الأمهات في نوبة جنونهن كن يقتلن أطفالهن. مات البعض كمدًا، والبعض الآخر من الرعب الشديد والذهول الجمِّ دون أن تصيبهم أي عدوى على الإطلاق. البعض ارتاعوا لدرجة أنْ أصابهم العَتَهُ والبلاهة، والبعض فزعوا إلى حد يأسهم وفقدان صوابهم، وآخرون أصابهم الخوف الشديد حتى إنهم أصيبوا بالخَرَف والجنون. كانت هذه الأورام شديدة للغاية لدى البعض لدرجة أنه ما من أدوات جراحية استطاعت استئصالها، فكانوا يحرقونها بآلات كيٍّ، وعليه مات كثيرون من الجنون والبعض الآخر أثناء العمليات الجراحية نفسها. في خضم هذا العذاب، تعرض البعض لأنفسهم بالإيذاء بسبب حاجتهم إلى مَنْ يمد لهم يد العون ليرعاهم في فراشهم أو يعتمدون عليه كما رأينا سابقًا. البعض ركض إلى الشوارع ربما عُراة، وكانوا يهرولون نحو النهر مباشرة، إذا لم يعترض الحراس طريقهم، ويُلْقُونَ بأنفسهم في النهر في أي بقعة يطولونها منه.
(٧) الرعب من الحفرة
كان «الفقراء يمتلئون رعبًا من حُفَر الطاعون؛ فكانوا يبذلون قصارى جهدهم للحيلولة دون دفن موتاهم هناك.» على ما يبدو فإن جثث الضحايا كانت تُدفن ليلًا دون إقامة أي مراسم جنائزية أو دون حضور أحد خدام الكنيسة، وقد ذكر دبليو جي بيل أن أي شخص قاده حظُّه العاثر إلى أن يكون على مقربة من عربات الموتى عندما تُفرغ شحناتها المرعبة «كان يفر في عُجالة من ذلك الموقع الذي كان كفيلًا أن يذيب قلب حتى أصحاب أقسى الأفئدة. أضاء المشهد — الذي من الأفضل تركه لخيال القارئ — ألسنةُ اللهب المنبعثة من الشعلات.»
يصف لنا ديفو:
الحفرة الكبيرة التي حفروها بفناء كنيسة أبرشيتنا ألدجيت كانت حفرة هائلة، ولم أستطع مقاومة فضولي في الذهاب لرؤيتها. على حدِّ تقديري، بلغ طولها نحو ٤٠ قدمًا وعرضها نحو ١٥ أو ١٦ قدمًا. وللوهلة الأولى التي نظرت فيها إليها قدرت عمقها بنحو تسعة أقدام، لكنني سمعت أنهم حفروا جزءًا منها بعد ذلك على عمق بلغ نحو ٢٠ قدمًا. لم يستطيعوا الحفر أعمق من ذلك بسبب المياه؛ لأنهم على ما يبدو حفروا عدة حُفَر كبيرة قبل هذه الحفرة في أرض أخرى، عندما بدأ المرض ينتشر في أَبْرَشِيَّتنا، ولا سيما عندما انتشر استخدام عربات نقل الموتى. ربما كانوا قد ألْقَوْا في كل حفرة من هذه الحفر نحو ٥٠ أو ٦٠ جثة، ثم حفروا حُفَرًا أكبر كانوا يدفنون فيها جميع الجثث التي كانت تأتي بها العربات على مدار أسبوع، والتي تراوح عددها من منتصف أغسطس حتى نهايته ما بين ٢٠٠ إلى ٤٠٠ جثة في الأسبوع الواحد، ولم يستطيعوا تعميق الحُفر أكثر من ذلك بِناءً على أوامر القضاة بعدم دفن جثث على عمق يقل عن ٦ أقدام من سطح الأرض، وكانت المياه تظهر على عمق ١٧ أو ١٨ قدمًا، فلم يستطيعوا وضع المزيد من الجثث في الحفرة الواحدة.
أهمل سائقون عربةً كانت متجهة إلى ضاحية شورديتش، أو أنهم كانوا قد أودعوها لسائق واحد ومات في الشارع، وواصل الحصانان سيرهما فقلبا العربة وتركا الجثث مُلقاة هناك، بطريقة مرعبة. وُجدت عربة أخرى على ما يبدو في الحفرة الكبيرة بحقول فينزبيري، فقد مات السائق أو رحل وترك العربة، ولمَّا ركض الحصانان بالقرب من الحفرة، سقطت العربة وسحبت معها الحصانين أيضًا. وقد رجح البعض أن السائق ألُقي في الحفرة مع العربة، وأن العربة هي التي وقعت عليه فأودت بحياته؛ ذلك لأن السِّيَاط شُوهدت في الحفرة بين الجثث.
(٨) صبية وخدم: المهاجرون السذج
بصفة عامة كانت العدوى تصل إلى منازل المواطنين عن طريق خَدَمهم الذين أرسلوهم مضطرين إلى الشوارع القريبة والبعيدة من أجل قضاء الضروريات، كشراء الطعام أو الدواء، وشراء الخبز والجعة وغير ذلك. وبالضرورة من يسير في الشوارع ليتجه إلى المتاجر والأسواق وما على شاكلتها، لم يكن هناك مفَرٌّ من أن يلتقي بطريقة أو بأخرى بمصابين «ينقلون النَّفَس المميت» إليهم؛ ومن ثَمَّ ينقلونه هم بدورهم إلى منازل العائلات التي يعملون لديها.
من الواضح أن ديفو سَبَرَ غَوْر عواقب العدوى الرَّذَاذِية، وربما حمل تلميحُه إلى أن الخدم كانوا المسئولين عن نشر العدوى في سياق عملهم شيئًا من الحقيقة. لقد خطر هذا ببالنا، لكن من الصعب تعليل زيادة عدد الوفيات بين الصبية وبالمثل الخَدَم، ونحن نرجِّح سيناريو بديلًا؛ فنظرًا لأن الطاعون هاجم لندن منذ نهاية القرن السادس عشر، فإن العائلات التي عاشت هناك لوقت طويل كانت قد شكَّلت لديها على ما يبدو نوعًا من المقاومة. لقد كانت النسبة المئوية لعدد الوفيات تنخفض بمعدل ثابت بالفعل على مدار القرن السابع عشر.
كانت لندن مكانًا غير صحي على نحو استثنائي؛ فلم يكن الطاعون وَحْدَهُ المتوغل هناك، إنما أمراض كثيرة أخرى أيضًا. كان معدل الوفيات كبيرًا، ومتوسط عمر الفرد منخفضًا؛ ونتيجة لذلك كان ثمة طلبٌ نَهِمٌ على العمالة. تدفق المهاجرون، أمثال ديك ويتينجتون إلى العاصمة سعيًا لتحقيق الثروة والنجاح. لقد وفدوا من أماكن نائية تبعد أحيانًا عن يورك، وبأعداد غفيرة؛ فقد وفد في عام ١٦٠٠ وحده ما بين ٣٢ ألف إلى ٤٠ ألف صبي. سدَّ هذا الانتقال، ولا سيما انتقال الأفراد الأحدث سنًّا، الفجوات التي خلفها عدد الوفيات الهائل.
بلا ريب، لم يكن لدى هؤلاء المهاجرين الصغار السذج أدنى درجات المقاومة للطاعون التي أظهرتها عائلات لندن التي اكتسبت مناعة؛ ومن ثم لَقِيَ الآلاف منهم حَتْفَهم. حتى في وقت مبكر وتحديدًا في منتصف القرن السادس عشر، وافت الْمَنِيَّة نحو ١٥٪ من الصبية المشتغلين بحرفة النجارة والمرتبطين بعقود عمالة قبل أن يتمكنوا من إنهاء مدة عملهم.
رأينا في ضربة الموت الأسود الأولى أدلة على بضعة أفراد كانوا مقاومين للمرض على ما يبدو. بعد مرور ٣٠٠ عام، انتشرت تلك المقاومة على الأرجح في أماكن مثل لندن التي كانت خاضعة لهجوم طاعون لا ينقطع تقريبًا لعقود. تُرى ما تفسير هذا؟ لمَّا كان الطاعون يُودِي بحياة ضحاياه، لم يكن يوجد مجال للمناعة المكتسبة. كانت هذه المقاومة أكثر تأصلًا، ولا بد أن هؤلاء الأشخاص المحظوظين قد ورثوها عن آبائهم. ازداد الموقف تعقيدًا وغموضًا، ومن الواضح أنه كان لا يزال أمامنا الكثير لنتعلمه عن هذا المرض المدمر.
(٩) ما بعد الطاعون
لسوء حظ اللندنيين، استمر الوباء طَوَال شتاء عام ١٦٦٥، معاودًا الظهور مرة أخرى في الربيع التالي، وإن كانت ذروته قد انتهت. بدأ الأفراد الذين كانوا قد فَرُّوا في العودة ومحاولة استئناف حياتهم مرة أخرى. بَيْدَ أن الطاعون استمر وتوالت الوفيات بمعدل منخفض على مدار العام التالي؛ مما أسفر عن وفاة ٢٠٠٠ ضحية إضافية. باستثناء بعض نوبات التفشي العشوائية والمتقطعة، كانت هذه نهاية الطاعون؛ فبعد أن ضرب أطنابه واستشرى بلا رادع في أنحاء أوروبا طِيلة ٣٠٠ عام، اختفى وهو في ذروة قوته، فجأة وبدون سبب واضح، مثلما ظهر فجأة في المشهد دونَ سبب واضح.
لا بد أن شعب أوروبا ظَلَّ في حالة ترقب لسنوات عديدة، متسائلًا هل اختفى عدوُّه القديم إلى الأبد أم أنه توارَى ليس إلا، في مكان ما، مترقبًا حتى تسنح الفرصة أمامه لمعاودة الظهور. ماذا كان يعيق ظهوره في المشهد مرة أخرى؟ إلا أنه سرعان ما انتابتهم مخاوف أخرى؛ فقد تصدر المشهدَ شكلٌ خبيث من الجدريِّ في ثلاثينيات القرن السابع عشر، ولم يَمْضِ وقت طويل حتى تقلد هذا المرض دور الطاعون السفاح المرعب، مع أنه لم يَصِلْ قَطُّ إلى مرتبة الطاعون.
لقد أمطنا اللثام عن صورة تاريخية دقيقة لعهد الطاعون المرعب الذي دام لزمن طويل، وقد جمعنا كمًّا هائلًا من الأدلة، لكن ظل بجَعْبتنا الكثير من الأسئلة التي لم نَجِدْ لها إجابات. من بينها، من أين بالتحديد جاء المرض عام ١٣٤٧؟ ولماذا اختفى عام ١٦٧٠؟
قبل أن نتمكن حتى من البدء في الإجابة على مثل هذين السؤالين، لا بد أن نُقِرَّ أننا لا نفهم بعدُ الطبيعةَ الحقيقيةَ لهذا المرض الفتاك الغامض. بلغة متخصصة، ماذا كانت حقيقة العامل المعدي؟
هل يمكننا أن نستعين بكامل قوة العلوم الحديثة المتعلقة بالأمراض المعدية لنربطها بأدلتنا التاريخية؛ ومن ثَمَّ نرسم ملامح سفاح القرون الوسطى؟