آلية عمل البكتيريا والجراثيم
لقد عرفنا قدرًا لا بأس به عن هذا المرض الغريب الذي أرهب أوروبا منذ ضربته الأولى خلال الموت الأسود عام ١٣٤٧ حتى طاعون لندن العظيم عام ١٦٦٥. لقد كان واضحًا وضوح الشمس من الروايات المعاصرة أن الناس الذين عاشوا في تلك الآونة قد أدركوا منذ البداية أنه كان مرضًا مُعْدِيًا بالاحتكاك المباشر وينتقل من شخص إلى آخر. يؤكد نجاح قاعدة الحَجْر الصحي الذي كانت مُدته أربعين يومًا أنهم كانوا على صواب. لكن ماذا كان العامل المعدي ولماذا كان نشطًا على نحو مخيف للغاية؟ بداية، نحتاج أن نعرف المزيد عن أساس البكتيريا والجراثيم.
إن الإنسان في حرب مع الأمراض المعدية منذ فجر التاريخ. وحتى عهد قريب نسبيًّا، ومع المعرفة المتزايدة بالأسباب الكامنة وراءها وظهور المضادات الحيوية واللقاحات، لطالما كانت معركةً من طرَف واحد إلى حد بعيد. لقد أشارت أمهاتنا وجَدَّاتُنا إلى «الجراثيم» ببساطة، وقد انتابتهن مخاوفُ شديدة من آثارها على سلامة وصحة أطفالهن، وكان لديهن سبب وجيه وراء هذه المخاوف؛ حيث إنهن نشأن على سماع روايات عن وفيات الأطفال الهائلة بسبب الأمراض المعدية في العصور السابقة؛ إذ رأى البعض بأعينهن مباشرة التأثير المدمر لجائحة الإنفلونزا عام ١٩١٨، وقد شهدن الكساح المريع والوفيات المتكررة نتيجة لمرض شلل الأطفال قبل اختراع لقاح سالك عام ١٩٥٤. كانت مخاطر الطفولة كثيرة ومتنوعة: الدفتيريا، والسعال الديكي، والحصبة، والجدري، والإنفلونزا، ونزلات البرد، والالتهاب الشعبي، والالتهاب الرئوي، والتهاب غشاء الجنبة المحيط بالرئة، والتهاب المعدة، وتعفن سكروت، والديدان الأسطوانية، والسلاق، والقوباء، بل أيضًا المهانة التي يتعرض لها المرء المصاب بسعفة الرياضي والثُّؤْلول الأخمصي عند زيارته لحمامات السباحة. في عائلتي، عائلة دنكان، عانينا من كل هذا في الأيام التي سبقت ظهور المضادات الحيوية والتطعيمات، مع أننا حاولنا جاهدين تجنب حمى الخنادق. وقد رأينا حولنا أشخاصًا يعانون من السل، وشلل الأطفال، والتهاب السحايا الدماغية، ويموتون منها في بعض الحالات.
دون شك، شهد أجدادنا الأوائل الكثير من هذه الأمراض، مع أن الجدريَّ كان المرض الفتاك الأول بالنسبة للأطفال على مدار قرون. وعقب حملة تطعيم على مستوى العالم عام ١٩٧٧، مُحِيَ هذا المرض بنجاح، فيما خلا بعض العينات منه التي حُفظت من أجل الأبحاث العلمية، لكن ليس من المستغرب أن الجدريَّ والطاعون هما المرضان الأكثر تأثيرًا في إثارة الخوف ونشر الفزع إذا ما استُخدما في هجوم إرهابي.
الجدريُّ هو مرض نعرفه نحن الكاتبين حق المعرفة؛ فمنذ أوائل تسعينيات القرن العشرين ونحن ندرسه دراسة دقيقة، ولا نتعامل مع الفيروس الفعلي، لكننا نعمل بطريقة آمنة في مكاتبنا حيث نستعين بالبيانات الموجودة في قوائم وفيات لندن، وسجلات الدفن الخاصة بالأبرشيات، وسجلات وزارة الصحة. لقد أمدتنا هذه المصادر الرائعة بمعلومات عن أولئك الذين لَقُوا حَتْفَهم من المرض بدءًا من أقدم نوبة تفشٍّ مسجلة في القرن السادس عشر حتى آخر وباء كبير اجتاح أوروبا عام ١٨٧٠. لطالما نجحنا في تبسيط عرض نوبات التفشي المختلفة في المناطق الريفية والحضرية، وأوضحنا العوامل التي لعبت دورًا كبيرًا في إثارة الأوبئة. لقد نشرنا أبحاثنا في عدد من الدوريات العلمية، ولا بد أنه ذاع صِيتنا؛ ذلك لأنه في أعقاب الهجمات الإرهابية على الولايات المتحدة في الحادي عشر من سبتمبر عام ٢٠٠١، إذ بنا نُفَاجَأ بإقبال كبير على خبراتنا، ووجدنا أنفسنا نساعد في محاولات تحليل النتائج المحتملة لإطلاق الإرهابيين للفيروس.
بطريقة ما أو بأخرى، تعلم الإنسان اليوم التعايش مع الأمراض المعدية، ولا يؤدي السعال الديكي والحصبة إلى وفيات كبيرة إلا بين الأطفال الذين يعانون من سوء التغذية في البلدان النامية. والأكثر خطورة في المنطقة الاستوائية هي الأمراض المعدية الأخرى المميتة مثل الملاريا، ومرض النَّوْم، والبلهارسيا، والكوليرا، التي تُعَدُّ من الأسباب الخطيرة للوفاة حاليًّا. والجميع يعرف عن جائحة فيروس نقص المناعة البشري والإيدز. يواصل مستودع أسلحتنا الذي يقاوم الأمراض المعدية النمو ونكسب بعض المعارك بجدارة، لكن الحرب مستمرة بلا شك.
يمكن استخدام تشبيه مماثل لوصف الصراع الدائر عندما يُصاب الجسد البشري بالعدوى. الجراثيم أو العوامل المعدية هي طفيليات تشترك جميعها في خاصية واحدة تتمثل في أن الإنسان هو البيئة الملائمة التي يعيشون فيها؛ حيث يجدون المأوى والمأكل ويمكنهم التكاثر بغزارة. كل عدوى هي صراع بين العامل المعدي والعائل: فالطفيل يكافح من أجل البقاء والتكاثر، فيما يشن الجهاز المناعي للعائل ما يشبه دفاعًا حربيًّا مصممًا للعثور على الميكروب وتدميره والتخلص منه.
ثمة عامل آخر ذو أهمية كبرى للغاية للعوامل المعدية، ألا وهو أنه يتعين عليها الانتقال من إنسان إلى آخر؛ فهذا أمر جوهري في استراتيجية نجاة كافة الأمراض المعدية؛ لأنه في آخر المطاف سوف يتخلص العائل من العدوى أو يموت. قد يحدث انتقال للمرض على نحو مباشر من شخص إلى آخر (كما هو الحال مع الحصبة والجدريِّ)، أو على نحو غير مباشر، حيث يتضمن الأمر حيوانًا وسيطًا (كما هو الحال مع البعوضة التي تنقل الملاريا). وعلى مدار آلاف السنين يحابي التطور تلك الجراثيم التي يمكنها أن تنقل العدوى بنجاح من ضحية إلى أخرى.
(١) دراسة الأوبئة
علم الأوبئة فرع مهم من فروع الطب، وأحد الأمثلة على تطبيقه المعتاد هو الدراسة العالمية السنوية التي تجري لتحديد سلالة فيروس الإنفلونزا المحتمل أن يضرب الأفراد إبَّان الشتاء التالي؛ فما إن يتم التعرف عليها حتى يمكن إتاحة كميات كافية من اللقاح المناسب. واليوم عندما يظهر مرض جديد مثل حمى لاسا النزفية، أو إيبولا، أو سارس، أو الإيدز، يكون لدى علماء الأوبئة مجموعة من التقنيات المتاحة لتحديد طبيعة العامل المعدي. من ضمن هذه التقنيات الفحص الفوري للضحايا، وفحص عينات دم وأنسجة أخرى، واقتفاء أثر خطوط العدوى، وتحديد مسار المرض وخواصه، وتقدير درجة خطورته وقدرته على نقل العدوى. وبالتدريج من كل هذه المصادر يمكن تكوين صورة للمرض وتكملتها بتقنيات مستمدة من الإحصاءات الرياضية وبناء النماذج، وعلم الأحياء الدقيقة، وعلم الأمصال، وعلم الأحياء الجزيئية، بما فيها تحديد تسلسل الدي إن إيه.
على أن مؤرخي علم الأوبئة يجابهون مهمة أصعب بكثير، ولا سيما عند التعامل مع أوبئة أمراض مُعدية كانت سائدة في العصور الوسطى؛ ذلك لأن الأدلة الحاسمة قليلة للغاية غالبًا، فيما خلا بعض الروايات التي لم يُعرف مدى موثوقيتها، والتي صمدت رغم مرور الزمن. ثمة مثال نموذجي ألا وهو «مرض التعرق» الإنجليزي المحير والفتاك الذي انتشر في القرنين الخامس عشر والسادس عشر (سنتناوله باستفاضة في الفصل الثامن عشر). أضف إلى ذلك أنه من الصعب تمييز ما هو موثوق به عما هو مختلق في القرون المتخللة بما يتوافق مع الأفكار السائدة في ذلك الزمن. على أنه، بالرغم من تلك المشكلات، يمكننا الاعتماد على حقيقة أن كل مرض يترك بصماته. إن أي محاولة جادة لفهم العامل المعدي المسئول عن الطاعون لا بد أن تبدأ بدراسة عملية لبيولوجية الطاعون وخواصه، بقدر ما نتمكن من اكتشافها.
(٢) قراءة البصمات
قبل أن نتعمق أكثر في بحثنا، لا بد أن نذكر حقيقة واحدة مهمة، ألا وهي أن كل مرض مُعْدٍ يتميز بحقيقتين ثابتتين مهمتين: «فترة حضانة المرض»، و«فترة انتقال العدوى». فترة الحضانة هي الفترة التي تتخلل الإصابة بالمرض وظهور أولى أعراضه. تتكاثر أثناء تلك الفترة الجرثومة الغازية بسرعة داخل ضحيتها، دون أن تدري الضحية بوجودها عمومًا. فترة انتقال العدوى هي الفترة التي يمكن أن ينقل الفرد خلالها العدوى إلى آخرين.
يظهر في المخطط أدناه تسلسل أحداث مرض بسيط ينتقل مباشرة (مثل الحصبة أو الجدريِّ).
يعقب الإصابةَ فترةُ كُمُون تتكاثر خلالها الجراثيم بغزارة إلى أن تصبح الضحية مُعدية. تستمر الجراثيم في التكاثر إلى أن يتوافر منها ما يكفي لظهور الأعراض، وهي تلك اللحظة التي يدرك عندها الشخص أنه أُصيب ويعاني من المرض. من ثَمَّ فترة الحضانة هي صفة مميزة لكل مرض معدٍ؛ لأنها تعتمد في المقام الأول على معدل نمو الجراثيم الغازية.
إذا كانت فترة كُمُون المرض أقصر من فترة حضانته، فإن المصاب سوف يكون مُعديًا قبل ظهور الأعراض، وعليه فقد ينقل المرض إلى آخرين دون أن يدري. تلك طريقة فعَّالة للغاية تتيح للعامل المعدي نقل العدوى إلى عائل آخر. ربما تظل أو لا تظل الضحية معدية بعد ظهور الأعراض، على حسب المرض، وتصبح احتمالات انتقال العدوى أقل وإن ظلت العدوى ممكنة الحدوث.
في نهاية المطاف يُكمل المرض مراحل تطوره في جسد الإنسان، ولكي تستمر العدوى لا بد أن تكون قد أصابت شخصًا آخر على الأقل. في لحظة ما ينتقل المصاب إلى مرحلة اللاعدوى، ويحدث ذلك غالبًا قبل أن تختفي الأعراض ويصبح نقل العدوى من بعدها مستحيلًا.
وهكذا فالمدد الزمنية للحضانة وفترات الكمون والعدوى وعلاقة إحداهما بالأخرى مختلفة في كل مرض معدٍ، وهي موضحة في الجدول أدناه:
المرض | فترة حضانة المرض (أيام) | فترة الكمون (أيام) | فترة انتقال العدوى (أيام) | هل المريض معدٍ قبل ظهور الأعراض؟ |
---|---|---|---|---|
الحصبة | ٨–١٣ | ٦–٩ | ٦-٧ | نعم |
النكاف | ١٢–٢٦ | ١٢–١٨ | ٤–٨ | نعم |
السعال الديكي | ٦–١٠ | ٢١–٢٣ | ٧–١٠ | لا |
الحصبة الألمانية | ١٤–٢١ | ٧–١٤ | ١١-١٢ | نعم |
الدفتيريا | ٢–٥ | ١٤–٢١ | ٢–٥ | لا |
الجديري المائي | ١٣–١٧ | ٨–١٢ | ١٠-١١ | نعم |
شلل الأطفال | ٧–١٢ | ١–٣ | ١٤–٢٠ | نعم |
الإنفلونزا | ١–٣ | ١–٣ | ٢-٣ | أحيانًا |
الجدري | ١٠–١٥ | ٨–١١ | نحو ٦ | نعم |
مدة انتقال العدوى هي أهم ما في هذه المعالم المتغيرة لأنها أقصى مدة زمنية يمكن أن ينتقل المرض خلالها من شخص إلى آخر. جميعنا تساءلنا لدى إصابتنا بنزلة برد شديدة وشعورنا بالأسى على أنفسنا، عن المدة التي نظل خلالها ناقلين للعدوى. يكشف الجدول أن قصة آلية عمل الأمراض المعدية أكثر تعقيدًا مما افترضنا حتى يومنا هذا؛ إذ يختلف طول مدة العدوى اختلافًا كبيرًا بين الأمراض. الإنفلونزا مثال مثير للاهتمام بشكل خاص؛ فهناك ثلاثة أيام فقط كحد أقصى يمكن أن ينتقل المرض خلالها إلى الآخرين، ولجزء من هذه الفترة، يكون الضحية شديد الاعتلال فلا يقوى على أن يغادر الفراش. من ثم ما كان وباء الإنفلونزا لينتشر عبر مسافات بعيدة في الأيام التي كان يقتصر فيها سفر معظم الأشخاص على الانتقال سيرًا على الأقدام. يختلف الموقف اليوم اختلافًا تامًّا مع توفر السفر الجوي.
في العديد من أمراض الطفولة الشائعة — مثل الحصبة، والحصبة الألمانية، والجديري المائي — تكون فترة الكمون أقصر من فترة الحضانة؛ ومن ثم تصبح الضحية معدية قبل ظهور الأعراض. هذه الأمراض بالأخص يصعب التغلب عليها؛ فالطفل الذي يبدو معافًى يمكنه أن ينقل العدوى إلى أطفال آخرين كثيرين في المدرسة، والعَزل في الحَجْر الصحي بعد ظهور الأعراض محدود النفع.
وعلى النقيض من ذلك، فإن فترة حضانة كل من الدفتيريا والسعال الديكي قصيرة للغاية؛ فالأعراض تظهر بعد وقت قصير من الإصابة، لكن لا تصير الضحية معدية إلا بعد مرور أسبوعين آخرين. من المفترض أنه يسهل التغلب على هذه الأمراض التي يمكن أن تؤدي إلى الوفاة، شريطة أن يتم تشخيصها في وقت مبكر، وعندئذ يُعزل المريض. لعل هذا أنقذ حياة أحد مؤلفي هذا الكتاب، كريس دنكان، عندما كان — وهو طفل صغير إبَّان الحرب العالمية الثانية — في حالة إعياء هو وأخوه الأصغر كولين، واحتُجزا في الفراش في نفس الغرفة. كان كولين يعاني من التهاب حادٍّ في الحلْق، وكان طبيب العائلة يأتي كل يوم ليدهن حلْقه بمطهر، وهي إحدى أكثر التجارب الكريهة بالنسبة لصبي صغير. أخيرًا بعد بضعة أيام من العلاج (الذي كان غير مُجْدٍ بالمرة) أدرك الطبيب أن كولين مصاب بالدفتيريا، وسُرعان ما احتُجز في مستشفى العزل. الأمر الذي أذهل العائلة أن كريس لم يُصَبْ بالدفتيريا مع أنه كان على احتكاك مع كولين في الوقت الذي كانت تظهر عليه أعراض المرض؛ فبفضل التشخيص المبكر الذي توصل إليه الطبيب، الذي عزل كولين قبل أن يصير مُعْدِيًا، لم ينقل كولين المرض إلى أي شخص آخر.
فيروس نقص المناعة البشرية هو مثال على مرض ذي فترة حضانة طويلة؛ مما يجعل من الصعب التغلب عليه. تستمر فترة الكُمُون لمدة تتراوح من أيام إلى أسابيع تقريبًا، في حين أن فترة حضانة المرض، قبل ظهور أية أعراض، تبلغ نحو ١٠ سنوات. يمكن إرجاع جانب كبير من نجاحه إلى هذه المدة الزمنية الطويلة جدًّا عندما تكون الضحية معدية. والمرض الأكثر إثارة للذهول هو الصورة الجديدة لمرض كروتزفيلد جاكوب (المعروف باسم مرض «جنون البقر» البشري)، الذي أودى بحياة ١٠٠ شخص منذ عام ١٩٩٦ — إذ تزيد فترة حضانة هذا المرض عن ٤٠ عامًا.
يتبين مما تقدم أن كل مرض له فترتا الكمون والعدوى المميزتان له، وهما اللتان تحددان مسار الأحداث إبَّان الوباء. هل من الممكن تحديد هذه المتغيرات بالنسبة للطاعون، حتى مع توافر معلومات قليلة الآن للاستفادة منها؟ بادئ ذي بَدْء، فإننا نحتاج إلى المزيد من المعلومات حول سلوك الأمراض التي تنقل العدوى مباشرة، والأساس العلمي لها، وأسباب انتشارها.
(٣) كيف ينتشر مرض ما؟
ليست جميع الأمراض معدية بنفس القدر. أخبرنا صديق مُحَنَّك أنه علَّم طلابه هذه الحقيقة الأساسية بمثل بسيط: إذا ذهبت إلى حفلة وأنت مصاب بالجدريِّ، فسوف تنتقل العدوى إلى الأفراد الذين يرقصون معك، على أنه إذا ذهبت وأنت مصاب بالحصبة، فإن جميع من بالقاعة سوف يُصاب بالعدوى.
يقودنا هذا إلى سؤال: هل بمقدورك قياس العدوى؟ أحد المقاييس النافعة يتمثل في متوسط عدد الأشخاص الذين ينقل المصاب العدوى إليهم إبَّان فترة المرض. يمكن توضيح هذا بقصة: تخيَّل رجلًا سافر إلى لندن إبَّان طاعون من الطَّوَاعِين الكثيرة التي كانت مُستشرية في القرن السابع عشر وأُصيب بالطاعون، بعدما أنهى أعماله، عاد بتمهل إلى القرية مسقط رأسه، التي تبعد ١٨٥ ميلًا (٣٠٠ كيلومتر)، جالبًا العدوى معه دون أن يدري. لدى وصوله إلى منزله، بدا ظاهريًّا أنه يتمتع بوافر الصحة لأن المرض لا يزال في فترة حضانته. نظرًا لأنه المصاب الذي وصل أولًا إلى المجتمع الصغير، يُطلق عليه الحالة «الأولى» وتظهر قصته في المخطط التالي:
هَبْ أنه أصاب أربعة أشخاص آخرين إصابة مباشرة (يُطلق عليهم حالات المرحلة الثانية). فهو ينقل العدوى أولًا إلى زوجته (١) التي تنقل بدورها المرض إلى ثلاثة من أطفالهم. يَلْقَى آخِر هؤلاء الأطفال حَتْفَه بعد مرور ١١ أسبوعًا على إصابة والدهم في لندن.
ثانيًا: ينقل العدوى إلى عامله (٢)، الذي يموت بمفرده في كوخه الصغير ولا ينقل العدوى إلى أي شخص آخر.
ثم ينقل الرجل العدوى إلى ابنة العائلة (٣) التي تقطن كوخًا قريبًا عندما تأتي للعب مع أطفاله؛ ونتيجة لذلك تحمل الفتاة المرض إلى أفراد عائلتها الآخرين.
في النهاية، يذهب إلى الحانة مع صديق قديم (٤)، الذي يُصاب بالعدوى. بعدها بأسبوعين يذهب (٤) إلى معرض قريب حيث ينقل المرض إلى كثيرين آخرين ممن كانوا يستمتعون باللهو واللعب هناك. بالتأكيد هو السبب الأولي في انتقال العدوى.
في هذه القصة يعود الرجل صاحب الحالة الأولى من رحلته خارج مجتمعه، وينقل العدوى إلى أربعة أشخاص، وهكذا تبدأ أربعة مسارات للعدوى. شخص واحد من حالات عدوى المرحلة الثانية (العامل (٢)) لا ينقل العدوى إلى أي شخص آخر؛ من ثم يختفي مسار العدوى. يصيب شخصان من حالات عدوى المرحلة الثانية (الزوجة (١) والطفلة (٣)) أفراد عائلتيهما، الذين قد ينقلون العدوى بدورهم فيما بعد إلى أشخاص آخرين في القرية يكونون على احتكاك بهم. الآن يجمع الوباء زخمًا شيئًا فشيئًا. يذهب الرجل (٤) إلى المعرض في أواخر الصيف إبَّان فترة عَدْواه، ويختلط بالحشد هناك وينقل الطاعون إلى سبعة أشخاص.
ينقل حالات المرحلة الثانية الأربعة العدوى إلى ١٢ شخصًا (يُطلق عليهم حالات المرحلة الثالثة) فيما بينهم؛ ومِنْ ثَمَّ فكل حالة من حالات المرحلة الثانية تنقل العدوى إلى ثلاثة أشخاص آخرين في المتوسط.
من خلال تتبع جميع مسارات العدوى في أحد الأوبئة بمزيد من التدقيق، من الممكن الوصول إلى مقياس عام لعدوى الطاعون في ضوء إجماليِّ متوسط عدد الأفراد الذين ينقل المصاب العدوى إليهم.
بالطبع سوف يضمن السلوك البشري وجود تنوع كبير في معدلات نقل المرض. على سبيل المثال، الشخص المحبوس وحيدًا في منزله لن ينقل العدوى إلى أحد، في حين أن الرجل الذي يذهب إلى الكنيسة قد ينقل العدوى إلى ثلاثة أشخاص أثناء القداس. والرجل الذي يقضي أمسية في الحانة مع الأصدقاء قد ينقل المرض إلى أربعة أشخاص آخرين في زيارة واحدة، في حين أن الرجل الذي يذهب إلى السوق ويحتك بجموع الناس ويتجاذب أطراف الحديث مع معارفه، قد ينقل العدوى إلى عشرة أشخاص.
توضح هذه القصة كيف أن معدلات نقل العدوى عبر مسارات العدوى يمكن أن تتنوع تنوعًا كبيرًا. يتضح مما علمناه أنه كان من السهل نسبيًّا نشر الطاعون بداخل العائلة الواحدة، لكن الأكثر صعوبة نقله إلى عائلة أخرى. أضف إلى ذلك أن المرض كان ينتشر بسهولة أكبر في الأماكن التي يحتشد فيها الأفراد. وكما رأينا تعلمت السلطات في إنجلترا هذه الحقيقة الحياتية الصعبة بحلول القرن السادس عشر؛ إذ كانت تلغي المعارض السنوية الكبيرة مع أول أمارة لوجود وباء طاعون.
(٤) ملامح الوباء
-
إذا نَقَلَ كلُّ مصاب المرضَ «في المتوسط» إلى شخص واحد آخر عرضة للإصابة، فسوف يستمر المرض في الانتقال ببطء بنفس المعدل تقريبًا. في مثل هذه الظروف يُقال على المرض وباءٌ مستوطنٌ.
-
إذا نقل كل مصاب المرض «في المتوسط» إلى أكثر من شخص واحد، فسوف ينفجر الوباء، وكلما كان معدل انتقال العدوى أكبر، كان معدل الانفجار أكبر وأسرع.
-
إلا أنه، إذا نقل كل مصاب المرض «في المتوسط» إلى أقل من شخص واحد آخر (على سبيل المثال، إذا نقل أربعة مصابين العدوى إلى شخصين فقط في المجمل)، فقطعًا سيختفي الوباء. تحدث نقطة التحول في أحد الأوبئة عندما يقل معدل انتقال العدوى عن شخص واحد.
يمكننا الآن أن نجمع كل هذه التفاصيل الخاصة بنظرية الأوبئة للأمراض المعدية معًا. نوضح في المخطط التالي المسار الزمني لوباء الطاعون في مدينة نيوكاسل آبون تاين، بإنجلترا في صيف عام ١٦٣٦.
تذهلنا جسامة الوفيات في الحال؛ إذ يزيد إجماليُّ الخسائر في الأرواح عن ٤٠٠٠ شخص؛ نظرًا لأن عدد الوفيات قد بلغ في ذروة الوباء ٣٥٠ شخصًا أسبوعيًّا. يتضح من المخطط أيضًا أن المجتمع عانى من هذا الوباء لمدة تزيد على التسعة أشهر، وهي فترة زمنية طويلة للغاية بالنسبة لنوبة تفشي مرض معدٍ.
يمكننا أن نقسم هذا الوباء في نيوكاسل إلى ثلاث مراحل؛ أولًا: مرحلة تصاعد مبدئية عندما يبدأ الوباء في الزحف. ترتفع الوفيات تدريجيًّا ثم تجمع زخمًا متزايدًا باستمرار. من الواضح أن كل مصاب ينقل المرض إلى أكثر من شخص واحد آخر إبَّان هذه المرحلة.
ثانيًّا: مرحلة استقرار تدوم لنحو ستة أسابيع في ذروة الوباء، عندما يظل معدل الوفيات الأسبوعي ثابتًا تقريبًا. عند هذه النقطة سوف ينقل كل مصاب المرض في المتوسط إلى شخص واحد آخر فقط. مع أن معدل الخسائر في الأرواح الأسبوعي يصل إلى ذروته، وتبدو الدنيا قاتمة لدى سكان نيوكاسل. في حقيقة الأمر، تلوح النهاية في الآفاق.
وأخيرًا، مرحلة الانحسار التي يندثر فيها الوباء. يتراجع بثبات متوسط معدل انتقال العدوى في تلك المرحلة، وطوال هذه المرحلة الأخيرة ينقل الفرد المصاب العدوى في المتوسط إلى أقل من شخص واحد آخر.
ينطبق هذا المنحنى الذي يأخذ شكل جرس على جميع الأوبئة المعدية، إلا أن الأمراض تختلف اختلافًا كبيرًا من حيث تفاصيلها، ولا سيما في معدل التصاعد إبان المرحلة الأولى ومدة الوباء. ما سبب هذا؟
عندما يصل طاعونٌ إلى مجتمع ما، بسبب أول حالة تظهر، فإن جميع الأفراد الذين لديهم قابلية للإصابة يكونون جاهزين لغزو الطاعون. يكون انتقال العدوى سهلًا نسبيًّا في البداية، فعلى سبيل المثال: إذا كان كل مصاب ينقل المرض في المتوسط إلى أربعة أشخاص، فإن عدد الضحايا في كل موجة متتالية سوف يتصاعد سريعًا من ٤ إلى ١٦ إلى ٦٤ إلى ٢٥٦، وهكذا. وهكذا ينفجر الوباء بمعدل متزايد على الدوام. هذه هي بداية المرحلة الأولى من الوباء.
لكن هذا لا يمكن أن يستمر إلى ما لا نهاية؛ نظرًا لأن عدد الوفيات يتزايد باستمرار ويواجه العامل المعدي صعوبة متزايدة في العثور على ضحايا جدد. وعليه فلا مفر من أن يبدأ معدل انتقال العدوى في الهبوط، ويصل الوباء إلى مرحلة استقرار عندما ينقل كل مصاب «في المتوسط» العدوى إلى شخص واحد آخر فحسب. مع أن المجتمع المصاب سوف يفكر عكس ذلك، فإن عالِم الأوبئة سوف يدرك أن الخطر زال، فهذه بداية النهاية.
ربما تكون فترة الاستقرار قصيرة للغاية نظرًا لأن معدل انتقال العدوى حتمًا سيستمر في الهبوط، ولا يلبث أن يقل عن الواحد حتى يبدأ الوباء في الانزواء إبَّان الفترة النهائية. قد تستغرق عملية الإنهاء بعض الوقت حيث إنه مع وجود فترة حضانة طويلة يكون لدى العدوى الانتهازية متسع من الوقت لاستهداف ضحايا عشوائيين باقين.
بلا ريب يمكن للسلوك البشري أن يغير مسار أحد الأوبئة، فإذا أسرع المجتمع في اتخاذ تدابير الحجر الصحي، عازلًا الضحايا الأوائل ومن هم على احتكاك بهم، وإذا حبس بعضُ الأفراد أنفسَهم في أجواء آمنة داخل منازلهم، فسوف يقلل هذا معدل انتقال المرض بدرجة كبيرة.
يعدُّ المسار الزمني لوباء الطاعون، مثل ذلك الموضح في المثال أعلاه، هو النوع المفضل من الأدلة التي يمكن أن يستند إليه مؤرخ علم الأوبئة. تشبه هذه المخططات بصمات الإصبع التي تركها مجرم منذ ٤٠٠ سنة.
(٥) تفسير منحنى الجرس
رأينا أن شكل منحنى الجرس الدقيق الذي يصف الوباء يتحدد من خلال عاملين خاصين ومميزين للمرض. أولهما: طول فترة الحضانة التي تحدد الوقت الفاصل بين أي عَدْوَيَيْنِ متتاليتين في أحد مسارات انتقال العدوى، فكلما طالت فترة الحضانة، بطُؤَ تطور الوباء ودام لوقت أطول. ثانيهما: حجم عدوى المرض في ضوء متوسط عدد الأفراد الذين ينقل المصاب المرض إليهم، فالمرض يتطور على نحو أسرع عندما يكون حجم العدوى كبيرًا.
بما أننا نفهم العاملَيْنِ اللذين يحددان الشكل الجرسي للمخطط، فمن الممكن أن نصوغ معادلة تصفه، وبعد ذلك نطور برنامج كمبيوتر يمثل أحد الأوبئة. كل ما علينا فعله هو إدخال المتغيرات، مثل: فترة الحضانة، ومعدل انتقال العدوى عند بدء الوباء، وحجم السكان، وسوف ينتج البرنامج الحاسوبي مخططًا للمسار الزمني المتوقع للمرض.
يمكن توضيح هذه النقطة من خلال إلقاء نظرة على نموذج حاسوبي يصف وباءين في نفس المجتمع لمرضين مختلفين تمامًا: الإنفلونزا (ذات فترة الحضانة القصيرة التي تدوم لثلاثة أيام) وطاعون افتراضي (ذو فترة حضانة أطول بكثير). يُفترض أن نفس معدل نقل العدوى المبدئي واحد في كلا الوباءين.
ثمة اختلاف هائل بين المنحنيين: يصل وباء الإنفلونزا إلى ذروته بسرعة شديدة وينتهي في غضون نحو أسبوعين، في حين أن وباء الطاعون يستجمع قواه ببطء شديد ويستمر بين الأفراد لنحو ثمانية أشهر.
شَغَّلنا البرنامج الحاسوبي مرات عديدة، مع تغيير طول فترة الحضانة، ووجدنا أن مدة بقاء الوباء تزيد بزيادة فترة الحضانة. بالاستفادة من هذا الإدراك المتأخر تكون النتيجة واضحة، بَيْدَ أن لدينا الآن حقائق ملموسة يمكننا الاعتماد عليها.
بما أن هذا النموذج يتبع قواعد علم الأوبئة، فثمة احتمال قوي، كما ظننا بالفعل، أن وباء الطاعون في نيوكاسل كان نتيجة نوبة تفشٍّ لمرض معدٍ كان ينتقل على نحو مباشر من شخص إلى آخر. ولأن هذه النوبة وكثيرًا من الطَّوَاعِين في إنجلترا دامت لنحو ثمانية أشهر، فقد أشار النموذج الحاسوبي بقوة إلى أن هذا المرض كان له فترة حضانة طويلة — شهر على الأرجح — على العكس تمامًا من الانفجار السريع لوباء إنفلونزا. نحن الآن على استعداد تام لاستخدام هذه المعلومات في الفصل التالي.