تحديد ملامح السفاح
من خلال العمل الدءوب، يمكن استقاء جميع المعلومات الضرورية التي نحتاجها من مصدر واحد لا يُقدر بثمن، ألا وهو سجلات الأَبْرَشِيَّات الإنجليزية. والشيء الغريب أنه ما من مؤرخ انتفع انتفاعًا كاملًا من هذا المصدر الرائع للمعلومات لدراسة الأساس العلمي ومنشأ مرض معدٍ فتاك. لا يمكننا زيارة المشهد الفعلي للجريمة مثلما يفعل المفتشون الشُّرطيون؛ ومن ثَمَّ يكون من الضروري تجميع جميع تفاصيل أحداث وباء توغل منذ ٤٠٠ عام. لهذا نحتاج إلى أن نعرف من كان يعيش في كل عائلة في ذلك الوقت، والعلاقات المتشابكة التي تربط بين العائلات. إن فحص هذه الأمور مهمة تستغرق وقتًا طويلًا، إلا أن سو سكوت في دراساتها التاريخية لبنريث، حددت بالفعل بنية جميع العائلات في الأَبْرَشِيَّة، وهي مهمة ضخمة نظرًا لأنه كان يوجد ٤٠ ألف قيد على مدار ٣٠٠ عام. وقد حددت التجمعات العائلية وأعمار عدد كبير من الأفراد الذين كانوا على قيد الحياة عندما تفشى الطاعون. شعرنا أن لدينا صورة حية عن المجتمع هناك، وأننا نعرفهم مثلما نعرف جيراننا اليوم إلى حدٍّ بعيد.
وعليه فقد عدنا للمرة الثالثة إلى النتائج التي توصلت إليها سو، إلى أقرب نقطة أمكننا الوصول إليها كي نشهد مسرح الجريمة. هكذا تمكننا من تحقيق الإنجاز.
(١) مؤرخون محققون قيد العمل
إن أول مهمة في التعامل مع سجلات الدفن مباشرة هي إحصاء أعداد وفيات الطاعون في كل شهر ووضع علامة عليها.
كانت أول حالة وفاة بسبب الطاعون في الثاني والعشرين من سبتمبر عام ١٥٩٧، وكانت الأخيرة مسجلة بتاريخ السادس من يناير عام ١٥٩٩. استمر ابتلاء الطاعون في بنريث لمدة ١٥ شهرًا، وهي مدة طويلة على نحو ملحوظ بالنسبة لوباء مُعْدٍ. مرة أخرى ترك الوباء اللعين بصمته.
الأمر الذي يصبح جليًّا في الحال هو أن الوباء على ما يبدو كان يحدث على مرحلتين منفصلتين لا تتصلان إلا اتصالًا ضعيفًا أثناء الصيف؛ ومن ثم قسمنا النوبة إلى ثلاث مراحل:
حدثت المرحلة الأولى إبَّان خريف عام ١٥٩٧، عندما بدأ الأمر بوباء صغير. بعد حالة الوفاة الأولى في الثاني والعشرين من سبتمبر، كانت هناك فترة توقف طويلة على نحو يدعو للغرابة حيث لم تقع أية وفيات حتى الرابع عشر من أكتوبر، أي على مدار ما يزيد على ثلاثة أسابيع لاحقة. هذا هو الخيط التالي لعلم وباء الطاعون. من الواضح أنه كانت هناك بداية تدريجية للوباء، حيث بدأت الخسائر في الأرواح ترتفع بعد ذلك رويدًا رويدًا لتصل إلى قمة صغيرة في شهري نوفمبر وديسمبر.
كما رأينا من قبل، كانت بداية فصل الشتاء في المرحلة الثانية من الوباء تكبح جماح الطاعون. في نهاية القرن السادس عشر، إبَّان فترة العصر الجليدي الصغير، كانت فصول الشتاء قارسةً وطويلةً على نحو غير معتاد. كانت الأحوال الطقسية في وادي آيدن قاسيةً على نحو خاص؛ نظرًا لأن مساكنهم (على غرار مساكن معظم سكان إنجلترا) باردةٌ، ومعرضةٌ للتيارات الهوائية، ومعزولةٌ عزلًا رديئًا، وكان يوجد نقص في الوقود، وكانت ملابس الخروج بسيطة على عكس حالنا اليوم. وجد هذا المرض صعوبة بالغة في الانتقال إلى الضحية التالية، وبدا أن الوباء قد اندثر؛ فلم تحدث خسائر في الأرواح بسبب الطاعون في يناير عام ١٥٩٨، ولم تحدث سوى حالة وفاة واحدة في شهر فبراير. اجتاز الطاعون الشتاء بصعوبة بالغة، وتخللت فترات فاصلة طويلة للغاية الوفيات المتتالية في هذا الوقت. لو أن خط العدوى كان قد انكسر انكسارًا كاملًا، لنجا المجتمع من الأسوأ الذي لم يكن قد حلَّ بعد.
استعاد الوباء نشاطه في مرحلته الثالثة مرة أخرى، وذلك في شهر مارس من نفس العام، وبدأ معدل الوفيات يرتفع بثبات، مع حدوث زيادة هائلة في الوفيات في شهر مايو. كانت هذه أكثر مراحل نوبة التفشي تدميرًا، ووصلت الخسائر في الأرواح ذروتها في يوليو وأغسطس.
في آخر المطاف اضمحلت المرحلة الثالثة، وبعد حالة الوفاة الأخيرة في السادس من يناير عام ١٥٩٩، كُتبت العبارة التالية في السجلات: «هنا انتهى الابتلاء»، وهي كلمات تبدو بطريقة ما واهنة على أن تعلن نهاية ما كان بلا شك أسوأ فترة في تاريخ هذه البلدة الصغيرة بأكمله.
يتطابق نمط الوفيات في الفترة الممتدة من مارس حتى ديسمبر ١٥٩٨ في المرحلة الثالثة بحذافيره مع تسلسل أحداث كل وباء مرض معد: منحنى صعود أولي لانتقال العدوى، يعقبه مرحلة استقرار قصيرة قبل أن تخمد النوبة. علاوة على أن المرحلة الثالثة تتطابق بحذافيرها مع الوباء في نيوكاسل، فكلاهما دام تسعة أشهر.
(٢) القيمة الحقيقية لسجلات الأَبْرَشِيَّة
حتى الآن اكتفينا باستخدام سجلات الوفاة كي نحصي وفيات الطاعون الشهرية. تعلمنا من خلال تحليل هذه الإحصاءات المباشرة قدْرًا لا بأس به من المعلومات حول الطاعون. على أن السجلات تخفي ما هو أكثر من ذلك بكثير، إنها تخفي معلومات قيمة للغاية عن المرض؛ فهي تحوي معلومات خاصة بأحداث مهمة في حيوات الأشخاص الحقيقيين.
نجد فيما يأتي اقتباسًا من سجلات بنريث يبدأ من اليوم المشئوم الثاني والعشرين من سبتمبر، ويغطي المرحلة الأولى من الطاعون. تقدِّم هذه القائمة من الأسماء لمحة صغيرة عن تاريخنا، ونتعجب بشأن قصة «الغِلْمان المساكين المجهولين» الذين دُفنوا في الخامس عشر من أكتوبر والثامن من نوفمبر.
سجلات مدافن بنريث، ١٥٩٧ | ||
سبتمبر | ||
٢٢ | أندرو هوجسون، غريب | |
(ها هنا بدأ الطاعون (عقاب الله) في بنريث.) | ||
(أولئك المُشار إليهم بحرف بي P لَقُوا حَتْفهم بفعل المرض، وأولئك المُشار إليهم بحرف إف F (اختصارًا لكلمة fell بمعنى مُنحدَر) دُفنوا أعلى مُنحدَر جبلي.) | ||
٢٤ | جريس ووكر، خادمة مسكينة. | |
٢٥ | توماس هيرد من منطقة موراي جيت. | |
٢٧ | جون ستيل من ضاحية كارلتون. | |
٢٧ | طفل مسكين. | |
أكتوبر | ||
٣ | نفس اليوم الذي بدأ فيه الطاعون في كارلايل. | |
٥ | توما إس بن إدموند بلاكبيرن. | |
١٠ | إليزابيث ستيل، أرملة. | |
١١ | إليزابيث دي ابنة توماس. | |
١٣ | غلام مسكين يُدعى روبت ويلسون. | |
١٤ | إليزابيث دي ابنة جون ريلتون. | P |
١٥ | صبي مسكين مجهول الهوية. | |
١٥ | ستيف نيلسون دي كيل. | |
١٥ | لانسيلوت موسجريف من النبلاء. | |
١٥ | آنز كارتميل. | |
٢٠ | أحد أبناء جون ريلتون. | P |
٢٢ | توماس بانتينج، بَنَّاء. | |
٢٤ | جون ريلتون، صانع أدوات المائدة. | P |
٢٤ | إكسبوفر (= كريستوفر) إس بن جون ستيل. | |
٢٥ | مارجريت دي بنت ويلم بليسي. | |
٢٦ | جون إس بن ستيفن نيلسون. | |
٢٧ | جانيت بنت ستيفن نيلسون. | |
٢٨ | السيد ريتشارد دروري توفي في بنريث. | |
٢٨ | ريتشارد إس بن السيد ويلم هاتن. | |
٢٨ | إيزابيل دي بنت توماس ويندر. | |
نوفمبر | ||
١ | أنطوني ريلتون، صبي. | P |
١ | إكبسوفر إس من آل جون ستيل. | |
٤ | مابيل، زوجة جون ريلتون. | P |
٤ | سوزان ريلتون، أرملة. | P |
٦ | كاثرين زوجة روبت جاكسون. | |
٦ | إليزابيث ريلتون. | P |
٨ | هيلين زوجة جيمس إميرسون. | |
٨ | صبي مسكين مجهول الهوية. | |
١٠ | مابيل بنت جون جيبسون. | |
١٠ | أنطوني إس بن توماس هيور. | P |
١٢ | مارجريت دي من آل توماس هيور. | P |
١٣ | توماس هيور. | P |
١٥ | إيزابيل زوجة رولاند وود. | |
١٦ | جون جيبسون من قرية دوكراي. | |
١٦ | أمبروز بوب. | |
٢٠ | جون هاسكيو، عامل نظافة. | P |
٢٠ | جين ابنة توماس سكليتر. | |
٢٢ | ماريون ابنة توماس بارني. | |
٢٣ | كاثرين ابنة توماس هيور. | P |
٢٣ | باربرا زوجة مايلز تيرنر. | |
٢٤ | جون ابنة روبرت سيمسون. | |
٢٤ | جيلبرت إس بن جون واطسون. | P |
٢٤ | جين ابنة توماس هاين. | |
٢٤ | ماري ابنة جون واطسون. | |
٢٤ | توماس بن ويلم هاسكيو. | |
٢٦ | جون بن توماس هيور. | |
ديسمبر | ||
٣ | كاثرين زوجة جون كوك. | P |
٣ | آنز كلارك. | |
٣ | مايكل بن جون ووكر. | P |
٣ | إليزابيث بنت جون واتسون. | |
٣ | جيلبرت بن جون كوك. | P |
٦ | جون إس من آل روبرت ريتشاردباي. | |
٩ | جانيت زوجة روبت ليديمان. | P |
١٢ | جون ليفوك، نجار. | P |
١٦ | إحدى بنات ريتشارد بليسي. | P |
٢٢ | أليس ابنة جون ووكر. | P |
٢٢ | إليزابيث زوجة جون سمولمان. | |
٢٤ | آنز دي ابنة ريتشارد بليسي. | P |
٢٤ | ماريون زوجة توماس هورنزبي. | P |
٢٥ | جون بن ريتشارد بليسي. | P |
٢٦ | جين ووكر، أرملة. |
تفقدنا مرة أخرى تواريخ الوصايا الأصلية للأشخاص الذين ماتوا بسبب الطاعون، ومنها استنتجنا أن الفترة التي كانت تفصل بين ظهور الأعراض، عندما كان الضحية يدرك أنه هالك، وبين موته بلغت خمسة أيام.
من نموذجنا الحاسوبي الذي أشرنا إليه قبلًا خمنَّا أنه ربما كانت فترة حضانة المرض طويلة. لكن هل يتطابق هذا مع الأحداث الفعلية في بنريث؟ بعد إدخال التعديلات على النموذج الحاسوبي، وصلت فترة الحضانة إلى ٣٢ يومًا وفق حساباتنا، وعليه كافتراض عملي، بدأنا ﺑ ٣٢ + ٥ أيام أي ما يساوي ٣٧ يومًا، للفترة من بدء الإصابة حتى الوفاة.
لحساب تسلسل الإصابات يتطلب الأمر بعض العمل المفصل والدقيق ونحتاج إلى ترتيب معلوماتنا في شكل جدول خاص. بمقدور أي شخص تجربة الأمر بنفسه إذا حصل على نسخة من أحد السجلات الكثيرة المطبوعة الرائعة للأَبْرَشِيَّة التي تحصر الوفيات إبَّان إحدى هجمات الطاعون، يمكن أن تتوافر هذه النسخ في الكثير من مكتبات المراجع المحلية. إليك الكيفية التي تبدأ بها في التعامل معه:
إن بداية نوبة الطاعون لها أهمية كبرى في هذا العمل؛ فالأحداث تتطور بالتدريج في هذه المرحلة والتحليل أمر ممكن، والوفيات العديدة في أي يوم من الأيام والفوضى العارمة في ذروة الوباء؛ كل هذا يجعل من الصعب جدًّا — ما لم يكن مستحيلًا — فرز مسارات العدوى الكثيرة.
بادئ ذي بَدْء رتَّبنا الضحايا في عائلات، الذين كانوا مصنفين حينها على نحو متسلسل على حسب ترتيب إصابتهم بالطاعون. تظهر الأشهر القلائل الأولى للوباء، بدءًا من السادس عشر من أغسطس ١٥٩٧ في المخطط اللآتي:
لقي الضحية الأولى، أندرو هوجسون الغريب، حَتْفَه في الثاني والعشرين من سبتمبر، ويمكن تمييز يوم وفاته في المخطط البياني بنقطة. ولأننا نعتقد أنه أُصيب قبل ذلك ﺑ ٣٧ يومًا، فيمكن رسم خط يمتد إلى الوراء إلى السادس عشر من أغسطس أمام اسمه، إشارة إلى الفترة من بَدْء الإصابة إلى الوفاة.
وصل هوجسون في الفترة ما بين الثالث والعشرين من أغسطس والسادس من سبتمبر عام ١٥٩٧، وأقام لدى جون ريلتون، صانع أدوات المائدة الذي كان يقطن في كوخٍ سقفُه مصنوعٌ من الحجارة ومطليٌّ بدِهان أبيض. كان هذا الكوخ واقعًا في نيذر إند الذي كان جزءًا من الطريق الشمالي الغربي الكبير الذي كان يقطع مركز المدينة. نقل هوجسون العدوى إلى ثلاثة أفراد فقط من العائلة عندما كانوا محتجزين جميعًا بداخل المنزل، غير أنه لم يمرِّر المرض إلى أي شخص آخر؛ فعلى ما يبدو أنه لم يَقْضِ وقتًا طويلًا في الحانة، ولم يتنقل كثيرًا في أنحاء البلدة.
عائلة جون ريلتون هي العائلة المدرجة بعده في المخطط. يُشار إلى يوم وفاة الابنة إليزابيث (٢٢ عامًا)، والابن جون (٢٠ عامًا) وجون ريلتون نفسه بنقط، مع امتداد كل خط ٣٧ يومًا إلى الوراء للإشارة إلى الوقت الذي أُصيبوا فيه. يتضح من المخطط أن هوجسون نقل المرض إلى كل منهم قبل موته إبَّان الفترة التي كان معديًا خلالها. تشير السجلات إلى أن مابيل، زوجة جون ريلتون، لَقِيَتْ حَتْفَها في الرابع من نوفمبر، لكن يمكن أن يظهر من المخطط أنها أُصيبت بالعدوى بعد موت هوجسون. إذن لا بد أن المرض قد انتقل إليها من خلال أحد أفراد عائلتها، على الأرجح من ابنتها إليزابيث. وعليه، فالرجل الذي جلب الطاعون مباشرة إلى بنريث نقل العدوى إلى ثلاثة أشخاص فحسب هناك.
انتقل المرض بعدها إلى عائلة أنطوني ريلتون، شقيق جون. نقل إليزابيث وجون ريلتون الطاعون أولًا إلى أبناء عمومتهما، أنطوني (١٤ عامًا) وإليزابيث (٢٢ عامًا)، حيث نقلا العدوى إليهما داخل المنزل عندما كانا في زيارتهم.
تخطى الطاعون حاجزه الأول؛ حيث قفز إلى عائلة أخرى. فاستمرار العدوى داخل العائلة كان أمرًا سهلًا نسبيًّا، لكن إذا لم يُقدَّر للمرض أن يندثر تمامًا، فحتمًا انتقل إلى عائلة أخرى. كان الطاعون قد أتم المهمة بنجاح الآن.
أُصيب أفراد عائلة هيور بعدها، حيث لقي الأب توماس وثلاثة من أطفاله حَتْفَهم في الفترة ما بين العاشر من نوفمبر والثالث والعشرين من نفس الشهر. يُظهر المخطط أن جون ريلتون وابنته وابنه حتمًا كانوا هم السبب في نقل المرض إليهم. كان أنطون ريلتون الأب قد تزوج من إيزابيل هيور، أخت توماس هيور؛ وعليه فلم يكن غريبًا أبدًا أن تزور إليزابيث ريلتون قريبتها إليزابيث هيور التي كانت في نفس عمرها. ولسوء الحظ، فأثناء زيارتها نقلت العدوى إلى ثلاثة أفراد من عائلة هيور.
هكذا استجمع الوباء طاقته تدريجيًّا في خريف عام ١٥٩٧. رأينا من تحليلنا أن المرض انتشر في المقام الأول عن طريق أفراد في سن المراهقة وصغار يزورون أقاربهم. على سبيل المثال، يظهر السجل أن ماري واطسون (١٧ عامًا) وجيلبرت واطسون (٨ أعوام) قد دُفنا في الرابع والعشرين من نوفمبر، وقد كانا أيضًا من أبناء عمومة عائلات ريلتون.
يمكن بسهولة تتبع مسار الوباء وتصويره بهذه الطريقة، على الأقل في مراحله الأولى. وقد واصلنا التحليل حتى شهر مايو التالي. بحلول هذا الوقت كان مخططنا قد أصبح ضخمًا وغطى المكتب؛ فقد امتد لما يزيد عن ٢٢٠ يومًا، وكانت وفيات أكثر من ٧٥ ضحية من ضحايا الطاعون قد سُجلت.
حالما خطونا إلى الوراء لنرى الصورة الكلية وفحصنا الوصف الواضح للطاعون، أصبح كل شيء جليًّا: لم يكن هناك أدنى شك في أن هذا كان مرضًا معديًا «بسيطًا» انتقل مباشرة من شخص إلى آخر؛ إذ كان ينتقل إلى الأفراد من شخص مصاب، بنفس الطريقة التي ينتقل بها الجديري المائي اليوم، فالشخص كان معديًا قبل أن تظهر عليه الأعراض بفترة طويلة. كان المرض ينتشر بسهولة أيضًا داخل العائلة الواحدة أثناء الخريف، إلا أنه كان من الصعب أكثر في هذا الوقت من السنة أن يقفز إلى عائلة أخرى. وعلى العكس قفز المرض بسهولة بين العائلات في الصيف التالي، عندما انتشر الوباء بسرعة وعلى نطاق واسع.
-
فترة الكمون = ١٠ إلى ١٢ يومًا.
-
فترة انتقال العدوى قبيل ظهور الأعراض = ٢٠ إلى ٢٢ يومًا.
-
من ثم فترة حضانة المرض = ٣٢ يومًا تقريبًا.
-
متوسط فترة ظهور الأعراض قبل الموت = ٥ أيام.
-
إجمالي فترة انتقال العدوى ٢٧ يومًا، على افتراض أن الضحية ظل معديًا حتى مماته، وإن كنا نعتقد أن حجم العدوى غالبًا ما يتراجع بمجرد ظهور الأعراض. (يشير التحليل إلى أن الأفراد كانوا أكثر عدوى غالبًا بعد بداية فترة انتقال العدوى.)
-
متوسط الوقت المنقضي ما بين لحظة الإصابة والموت = ٣٧ يومًا.
استطعنا الآن أن نقسم الخط الأفقي أمام كل ضحية على المخطط إلى فترتي كمون وعدوى.
ذُهلنا لدى اكتشاف طول هذه المدد المهمة التي وسمت الوباء في بنريث، ورأينا أن حساباتنا غالبًا ما انطبقت على جميع الطَّوَاعِين الأخرى في أوروبا. أكد التطابق مع فترة الحَجْر الصحي العمومية التي مدتها ٤٠ يومًا أننا كنا على صواب. كانت هذه الصورة المجمعة بناء على شهود العيان لسفاح خطير، أو لِنَقُلْ كانت الإحصائية الجوهرية لأكثر مجرم مطلوب القبض عليه في العصور الوسطى، كانت بمنزلة قفزة هائلة.
بعد ذلك درسنا ما يزيد على ٥٠ نوبة طاعون مختلفة في إنجلترا، وتحققنا من طول فترتي الكمون والعدوى مرات كثيرة. لم يكن هناك أية استثناءات لهذه القاعدة.
هنا وأمام أعيننا وُجد التفسير وراء استمرار تلك الأوبئة، لقد كان واضحًا أن سرَّ نجاح الطاعون في العصور الوسطى يكمن في فترة حضانته الطويلة للغاية. من خلال فترة الحضانة استطاع الطاعون القفز لمسافات طويلة للغاية حتى في زمن وسائل المواصلات البدائية، واستطاع الظهور من العدم كما بدا، كما استطاع معاودة الظهور على نحو غامض بعد موت الضحية الأخيرة بأيام كثيرة؛ فنظرًا لأن مدة حضانة الطاعون كانت ٣٢ يومًا، كان لدى الشخص من بدء إصابته ما يزيد عن شهر يمكنه السفر خلاله لمسافة كبيرة قبل أن تظهر عليه الأعراض المخيفة، عندما كان يبدأ في الشعور بالإعياء الشديد، وعندما كان الناس يدركون أنه لا بد من عزله. أثناء هذه الفترة الطويلة للغاية، كان الفرد ينقل العدوى على مدار نحو ثلاثة أسابيع، وهو متسع من الوقت كي ينقل العدوى دون أن يدري إلى الجميع بلا استثناء، وهكذا يعم الوباء بسرعة هائلة.
لقد اكتشفنا السلاح الخفي للطاعون!