حامدًا ومصليًا
أما بعد، فهذا كتاب وضعته قديمًا وأسميته «حضارة العرب في الأندلس»، ولقد أُشرب قلبي مُذ طراءة العمر، وريعان الصِّبَى، وجن النشاط، حب التاريخ الإسلامي عامة، وتاريخ هذا الفرع الأندلسي منه خاصة؛ فكان مما عُنيت به فضل عناية، وكان مما أُولعت به الولوع كله النظر في تاريخ الأندلس وحضارة العرب بها، منذ افتتاحهم إياها إلى أن تأذَّن الله لهم، وكلِب عليهم الإسبانيون، وكلَّح لهم الدهر وجهه، وتقلصت ظلال تلك الحضارة بعد أن فاء بها الفيء على شرق الأرض وغربها، وبلغ من همِّي بهذا التاريخ أنِّي بعد أن استوعبت كل ما وصل إلينا من تآليف العرب، ذهبت أتلمَّس ما كتبه مؤرخو الغرب ومستشرقوه على ذلك المصر، حتى اقتنيتُ أمهات أسفارهم، وعهِدتُ إلى كثير من أصدقائي الذين يُحسنون الفرنسية والإنكليزية أن ينقلوا إليَّ كل ما يتصل بغرضي من مباحث هاتيك الكتب، ومضيت في ذلك ومضوا فيه حتى استجمعتُ الكثير، وما يزيد على الكثير، ثم خطر الدهر من خطراته.
وكذا مصير كل من يمتهن الأدب في الصحف، وبخاصة إذا كان هو صاحب تلك الصحيفة، له غُنمها، وعليه غرمها، ببلد سقط فيه نجم الآداب الرفيعة، وطاش سَهمُها، وقديمًا قيل لحكيم: إن فلانًا رجل عاقل، فقال: هل هو متزوج؟ فقيل له: نعم، فقال: إذن ذهب عقله! وعلى هذا القياس لو قيل لي: إن فلانًا فيلسوف أو عالم أو أديب، لقلت: هل هو صاحب مجلة في مصر؟ فإذا قيل: نعم، قلت: إذن ذهب والله في الذاهبين … فإنه إذا كان المتزوج يجد من هَمِّ واحدة وما يكون منها ما لا يَدَعه لهَمِّ نفسه، فيذهب بذلك عقله أو بعض عقله، فإن صاحب المجلة يصيبه هَمُّ المئات إلى الألوف ممَّن يقرءون ولا يَفُونَ بحقٍّ ولا عهد، فهو ينفق من نفسه وما أعدَّه لنفسه، وهم يمحقونه محقًا حتى ينقص بهم على زيادتهم، ويقل على كثرتهم، ولا يزال ذلك شأنهم وشأنه لا هو يتركهم وعليهم حقه، ولا هُمْ يدعونه في غير هذه الحالة، وبذلك يذهبون بفلسفته وعلمه وأدبه مذاهب العقم، ويُبْلونه بالاغتمام، ولا عقل مع غمٍّ، ولا قلب مع هَمٍّ، فذهب — إذن — والله صاحب المجلة، وكان من ضياع العقل في وزن من تزوج، لا بزوجة واحدة، بل بألف زوجة …
وبعد، فهذا هذا، وفي هذه الآونة؛ في هذه الفترة التي احتجب فيها البيان، والتي وجدت فيها نفسي. جرى بيني وبين أحد أفاضلنا يومًا حديث أفضى إلى ذكر هذا الكتاب، وأَنِستُ من هذا الفاضل رغبة حارة صادقة في تمامه، وطبع ما تم منه إلى الآن، في الأقل، على حِدَةٍ، فكان جواب الفعل أسبق من جواب القول، وقدَّمت هاتين الرسالتين إلى المطبعة على أن أردفهما قريبًا — إن شاء الله — بالرسائل الثلاث الباقية. وهاتان الرسالتان يكادان يكونان كتابًا مستقلًّا يصح أن ينزلا من الرسائل التالية منزلة مدخل الكتاب من الكتاب.
والآن يجمل بنا أن نقدم بين يدي الناظر في كتابنا هذا تنبيهات، يخلق به أن يلحظها، ويتنبه عليها؛ وإليكها:
١
٢
قد يلمح القارئ من أسلوب هذه الرسائل وطريقة الوصف والتفكير فيها مسحةً من رُوح جيلنا، ويراها مصطبغة بصبغة عصرنا؛ وهذا وإن لم يكن في مكنتنا اجتنابه — لأنَّا؛ ضرورةَ كونِنا من أبناء هذا الجيل وامتزاج رُوحه منا بالدم واللحم، لا نستطيع الخروج عن كياننا — إلا أنه مع ذلك نكاد نكون قد قصدنا إليه قصدًا؛ لأنه يدخل في باب التطرية التي لا بد منها؛ نفيًا للملل الذي قد يعرو القارئ إذا نحن توخَّينا أسلوب تلكم العصور توخِّيًا تامًّا؛ ولأنه لولا ذلك لما كان ثَمَّت فرقٌ بين هذه الرحلة وبين رحلة قديمة يضعها رحالة حقيقي في هاتيك العصور؛ بَيْدَ أنَّا مع ذلك قد احتفظنا جهد الاستطاعة باصطلاحات العرب في أسماء الأعلام والبلدان والأقطار والممالك، وما إلى ذلك، مع قرْنِها بأسمائها التي تُعرف بها اليوم؛ إما في هامش الرسائل، وإما في صلبها بين أقواس.
٣
كل ما كان لغيرنا ونقلناه بلفظه أو بمعناه نبَّهنا إليه في هامش الكتاب؛ ومن ثم يكون كل ما لم نُنبِّه إلى مصدره فهو لنا معنًى ولفظًا، اللهم إلا ما نتمثل به من بيت مشهور، أو مَثَل سائر، أو أبيات قد عُرف قائلها. على أنَّا إذا كنا في موضع تاريخي أو وصف جغرافي قد نبَّهنا إلى المصدر الذي اعتمدنا عليه، ففي الغالب الكثير تكون العبارة لنا، وإنما الذي لغيرنا هو العصارة التاريخية أو الجغرافية وما إليهما. وقد نسهو عن التنبيه إلى المصدر؛ إما لأنَّا لم نقيد ما ننقل حين النقل فلم نهتدِ إلى موضعه بعد ذلك؛ وإما لأن ما ننقله من غيرنا إنما نقلناه بواسطة حافظتنا.
٤
قد نتمثل في بعض الأحايين ببيت أو أبيات تأخرت أوقات قائليها عن زمن الرحلة؛ مثل تمثلنا بأبيات لابن خفاجة أو لابن حمديس مثلًا، ونحوه؛ فإنا لا نرى بأسًا في ذلك ما دامت هاتيك الأزمان متقاربة متشاكلة، وحسبنا التنبيه إلى ذلك في هامش الكتاب.
أما بعد، فيرحم الله عمرو بن بحر إذ يقول: «لا يزال المرء في فسحة من عقله ما لم يقل شعرًا أو يؤلِّف كتابًا.» ويرحم الله القائل: «عرض بنات الصلب على الخُطَّاب أهونُ من عرض بنات الصدر على ذوي الألباب.» فإذا كنت قد وُفِّقت أو قاربت التوفيق في هذا الكتاب، وإلا فحسبي أني لا آلو جهدًا ولا أدخر وسعًا، وأني أُخلص النية، وأراقب الله في كل ما أعمل، على أنه لا كمال في الأرض، وإنما الكمال لله وحده، إليه سبحانه الرغبة في أن يحوط كل ما أعتمل بكلاءته، وأن يغشيه دائمًا بالقبول. إنه سميع الدعاء.