الرسالة الثانية
أظنك، يا أخي، لا تزال على ذِكر من أن الرسالة الأولى من هذه الرسائل كتبت ونحن على متن البحر، قبل أن نصل إلى مرافئ الأندلس. أما هذه الرسالة الثانية فقد وضعناها بعد أن حططنا رحالنا في قرطبة؛ حضرة هذه البلاد (عاصمتها). وقد خصصت هذه الرسالة بوصف كل ما مر بنا من حين اقترابنا من ميناء المَرِيَّة إلى أن وصلنا إلى قرطبة.
وجملة القول: إن المَرِيَّة هذه كما رأيت تزخر بالحياة زخرًا، وتنطق بنشاط المسلمين وجدهم، وبأقصى غايات عزِّهم لذلك ومجدهم.
ولما أرسى مركبنا والمركب الذي يقلُّ أبا علي القالي على ميناء المَرِيَّة، قدم لنا ابن رماحس جميع رجال الوفد الأندلسي وعرَّفنا بهم، ثم امتطينا المطايا الفارهة وذهبنا إلى دار ابن رماحس الكائنة في قصبة هذه المدينة.
إلى أن يقول متخلصًا بعد أن وصف الروض:
الأسطول الأندلسي وروح العظمة التي ترفرف عليه
ومن سُنَنِهم التي مضوا عليها، وجرت عادتهم بها أن يحتفلوا بالأسطول عند رجوعه ظافرًا من حرب، فتقوم الأساطيل بألعاب وحركات بمرأى من عظماء الدولة ومسمع، كأنها في حرب مع الأعداء، فاتفق في اليوم الذي وصلنا فيه إلى المَرِيَّة أن آب الأسطول الأندلسي رافعًا أعلام النصر في هذه الواقعة، فأمر أمير البحر عبد الرحمن بن رماحس بأن تقوم الأساطيل بألعابها، فما كان منا إلا أن بادرنا إلى إمتاع أنفسنا بمشاهدة هذه الألاعيب صحبة الأمير، فذهبنا إلى الميناء «ميناء المَرِيَّة»، فوجدنا ثمت في انتظارنا مركبًا كبيرًا كأنه رضوى أو ثبير أو الأمل الكبير، فدعينا إلى النزول فيه، ثم أخذ الأمير ابن رماحس في أن يرينا ما في هذا المركب من بروج وقلاع ومناظر وتوابيت، ومن منجنيقات ومكاحل بارود ونفط، ومن نوتية، ومن مقاتلة وأسلحة، وهلم مما قضينا منه عجبًا. وهذا المركب نوع من الأنواع التي يتألف منها الأسطول يسمى «الشواني»، الواحد منه «شونة»، وبعد ذلك أخذ هذا المركب يسير بنا الهُوَينَى في اختيال، مترجحًا ذات اليمين وذات الشمال، كأنه عروس مجلوة يرفرف عليها روح الجمال والجلال. وبعد أن سار بنا في البحر شيئًا، وقف حيث نشاهد حركات الأسطول وألاعيبه، وكان الشاطئ ساعتئذٍ قد غُصَّ بالنظارة من كل صنف من أصناف الناس، والزوارق قد انتثرت على متن البحر من جميع النواحي، وفيها ما لا يعلم عديدهم إلا الله من الأندلسيين والأندلسيات؛ كي يشاهدوا حركات الأسطول، فكان لذلك منظر تحسر دونه الظنون، وتتراجع دون إدراكه الأوهام؛ منظر يبهر رواؤُه الفكر، ويشيع الروعة في الصدر، وينتقل من هذا العالم إلى عالم آخر كأنه الخلود.
•••
•••
•••
•••
•••
وما زالت الأساطيل تلعب كأنها في سوح القتال من لدن ذَرِّ قرن الشمس إلى أن جاء وقت الزوال.
إلى أن قال يصف هذه المطايا:
وكحراقة طاهر بن الحسين التي يقول فيها بعض الشعراء:
أما عدد الأساطيل وآلاتها ومعداتها وأسلحتها، فهي الرماح والعصي والتراس والزرد والدرق والخوذ والمنجنيقات والعرادات.
وقد رأيتهم وهم يرمونهم أيضًا بقدور الحيات والعقارب، وبقدور الصابون اللين كي يزلقوا أقدامهم. ومن حيلهم التي يتخذونها وقاء لهم من أعدائهم أنهم يحيطون المراكب بالجلود، أو اللبود المبلولة بالخل والماء، أو الشب والنطرون؛ كي لا يفعل النفط فيها فعله، ومن حيلهم أنهم يجعلون في مقدم المركب هناة كالفأس يسمونها اللجام؛ وهي حديدة طويلة محددة الرأس، وأسفلها مجوف كسنان الرمح، تدخل من أسفلها في خشبة كالقناة بارزة في مقدم المركب يقال لها: «الأسطام»، فيصير اللجام كأنه سنان رمح بارز في مقدم المركب، فيطعنون مركب العدو به، فلا يلبث حتى ينخرق فينصب فيه الماء فيغرق، ومن تلك الحيل أنهم إذا جن الليل لا يشعلون في مراكبهم نارًا، ولا يتركون فيها ديكًا، وقد يسدلون على المراكب قلوعًا زرقاء، فلا يرى العدو مراكبهم التي يشبه لونها لون الماء أو السماء. فسبحان المُلهِم من يشاء ما يشاء، ويخلق ما لا تعلمون، لا إله غيره.
وبعد أن أقمنا في المَرِيَّة ثلاثة أيام بلياليها، تحملنا منها في ركب فخم نبيل موفٍ على الغاية في الأبهة والروعة والجلال، قاصدين إلى قرطبة حضرة هذه البلاد، وكان في طليعة الركب أمير البحر عبد الرحمن بن رماحس؛ إذ أمره سيدي الحكم ابن أمير المؤمنين عبد الرحمن الناصر وولي عهده — كما أسلفنا — أن يتلقَّانا في وفد من وجوه الأندلسيين، ويجيء معنا إلى قرطبة مبالغةً من الأمير — حفظه الله — في الاحتفاء بنا، وبأبي علي القالي البغدادي، وبأبي عبد الله الصقلي الفيلسوف الذي وصل إلى المَرِيَّة قبل انفصالنا عنها، وكان في الركب من الأندلسيين الرمادي الشاعر، وأبو بكر بن القوطية، وأبو بكر الزبيدي، وكثير من أدباء الأندلس وأعيانها.
وقد بهرنا وسحر أعيننا وملك علينا ألبابنا ما رأيناه في طريقنا من استبحار العمران في هذا القطر الأندلسي؛ فقد كنا نمر في اليوم الواحد بثلاث مدن وأربع، وفي حيثما سرنا نرى الحوانيت في الأودية ورءوس الجبال؛ لبيع الخبز والفواكه والجبن واللحم والحوت وما إلى ذلك من ضروب الأطعمة، وكنا نتعثر تعثرًا بالجداول والأنهار تحفها البساتين وصنوف الزرع والنجوم والأشجار؛ حتى لظننا أنه ليس في هذه البلاد صحراء مقفرة أو أرض غامرة.
أما القرى والمعاقل والحصون فإنها لا تحصى كثرة، وقراها جميلة لتأنُّق أهلها في أوضاعها وتبييضها؛ لئلا تنبو العين عنها.
وأكثر مدنها مسور من أجل الاستعداد للعدو، وفي مدنها لذلك ما يبقى في محاربة العدو ما يربي على عشرين سنة؛ لامتناع معاقلها، ودربة أهلها على الحرب.
وإني لا أظن أن لعلي بن العباس الرومي أو بشار بن برد أو أبي نواس أشباهًا ونظائر في هذه البلاد، على أني مع ذلك لست أنكر على الأندلسيين ذكاءهم وتوقدهم، وأنهم — كما رأيت وكما وُصفوا لي — «عرب في العزة والأنفة، وعلو الهمة، وفصاحة الألسن، وإباء الضيم، والسماحة بما في أيديهم، والنزاهة عن الخضوع والاستخذاء، هنديون في فرط عنايتهم بالعلوم ورغبتهم فيها وضبطهم لها، بغداديون في نظافتهم وظرفهم، ورقة أخلاقهم، وذكائهم، وجودة قرائحهم، ولطافة أذهانهم، ونفوذ خواطرهم، يونانيون في استنباطهم للمياه، ومعاناتهم لضروب الغراسات، واختيارهم لأجناس الفواكه، وتدبيرهم لتركيب الشجر، وتحسينهم للبساتين بأنواع الخضر، وصنوف الزهر، صينيون في إتقان الصنائع العملية، وإحكام المهن الصورية، تركيون في معاناة الحروب، والحذق بالفروسية، والبصر بالطعن والضرب.»
•••
وهنا انبعث أبو عبد الله الصقلي الفيلسوف وقال ما تلخيصه: الذي أراه أن شعراء كل قطر من الأقطار أو جيل من الأجيال لا بد من أن يتأثروا بالمحيط الذي يحيط بهم، وأن يصطبغ شعرهم بصبغة ما يرون ويحسون من حولهم؛ فالشاعر الجاهلي أو المتَبدِي في الجاهلية والإسلام الذي لا تقع عينه إلا على صحراء مقفرة، أو سماء ماطرة، أو وحش كاسر، أو غزال نافر، لم ير ريفًا، ولم تغذه رقة الحضر، ولم يشبع من طعام، قد خالط الغيلان، وأنس بالجان، وأوى القفر واليرابيع والظباء، فإنه حريٌّ أن لا يقول إلا في جنس ما هو بسبيله من وصف البيد والمهامه والظبي والظليم والناقة والجمل وما إلى ذلك، في قول مونق مشرق واضح الطريقة، لا تعمُّل فيه ولا كلفة، يوائم أمزجتهم وطبائعهم، ويلائم المحيط الذي فيه عاشوا، والجو الذي فيه درجوا، والفطرة الأولى التي فطروا عليها، والسذاجة التي هي من خاص صفاتهم. وقد يكون لهم مع ذلك الحكمة البارعة، والكلمة الرائعة، والمثل السائر، والموعظة الحسنة مما يبهر أعرق المتحضرين، ويصيب منهم أقصى غايات الإعجاب والإكبار، ولكنه الوحي والإلهام الذي تُلهَمه الفطرة القوية النقية البريئة، ويؤتي الطبيعة الكريمة ما يؤتي سهوًا رهوًا، وليس هو بنتاج العقل المسموع، ولا بثمار الملكات المكتسبة.
وبعد، فأما المولدون — وهم الذين تصح المفاضلة بينهم وبين شعراء المغرب؛ لأنهم جميعًا تحضروا وعاشوا في رونق النعيم، واعتركوا بالدنيا واعتركت بهم — فالرأي عندي أن يقال: إن الشعر لفظ ومعنى، فأما اللفظ فإن شعراء المشرق — لأن أكثرهم جاور الأعراب وأهل البادية، ولقنوا اللغة منهم، والتصقوا بهم، ونُشِّئوا في أحضانهم، وغذوا بلبانهم — ترى لهم الألفاظ المتخيرة، والديباجة الكريمة، والطبع المتمكن، والسبك الجيد، وكل كلام له ماء ورونق، وترى شعرهم رصينًا متسقًا على استواء واحد، لا يتدافع من جهاته، ولا يتعارض من جوانبه، ولا يجمح ولا يشتط، ولا يأتيه الضعف والهلهلة والاسترخاء من أية ناحية من نواحيه. وأما المعنى، فإن فحولة شعراء المشرق الذين افتنوا في المعاني افتنانًا، وغاصوا عليها وأمعنوا حتى ظفروا بكل معنًى عجيب يعمر الصدر، ويذكي الروح، ويشع في دُنا العقل، فتنجاب له ظلمته، وتنير نواحيه، وتنفتح مغالقه؛ مثل بشار بن برد، وأبي نواس، وابن الرومي، وهذه الطبقة؛ فهم إنما بلغوا هذه الدرجة لأنهم من الموالي أبناء تلك الأمم الحمراء الذين امترسوا بالحضارة قبل العرب امتراسًا، وعالجوها وعالجتهم، وداوروا صنوفها من الصناعات والعلوم وما إليها، وصرفوا فيها أعنة الفكر، وقدحوا لها زناد الرأي، وهلم حتى أنمى ذلك على كرِّ الغداة ومرِّ العشي عقولهم، وشحذ أذهانهم، وأذكى أرواحهم، وأكسبهم ملكات عبقرية عجيبة، فورث ذلك منهم أبناؤهم، وانحدر مع دمائهم، وكان منهم هذا النبوغ الذي نرى آثاره في السلام.
بَيدَ أن العرب لم يكن لهم بادئ ذي بدء دراية بالحرف والصناعات، وبالعلوم وتعلمها الذي هو في عِداد الصناعات؛ وذلك لمكانهم من البداوة ورسوخ أقدامهم فيها؛ ومن ثم كانت الشريعة الإسلامية — إذ كان القومُ أكثرُهم أُمِّيينَ — تُتَناقل في صدورهم، وجرى الأمر على ذلك أزمان الصحابة والتابعين، فلما بَعُد النقل من دولة الرشيد فما بعدُ احتيج إلى وضع التفاسير القرآنية، وتقييد الحديث مخافة ضياعه، ثم كثر استخراج أحكام الواقعات من الكتاب والسنة، وفسد مع ذلك اللسان فاحتيج إلى وضع القوانين النحوية، وصارت العلوم الإسلامية ذات ملكات محتاجة إلى التعليم فاندرجت في جملة الصنائع، وهو معلوم أن الصنائع من منتحل الحضر، والعرب أبعد الناس عنها، والحضر لذلك العهد هم العجم أو مَن في معناهم من الموالي، فكان صاحب صناعة النحو سيبويه، ثم الفارسي من بعده، ثم الزجَّاج، وكلهم عجمٌ في أنسابهم، وكذا حَمَلَة الحديث وعلماء أصول الفقه وعلماء الكلام والمفسرون، وأكثر فقهاء الأمصار؛ مثل الحسن بن أبي الحسن ومحمد بن سيرين؛ فقيهي البصرة، وعطاء بن أبي رباح، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وسليمان بن يسار؛ فقهاء مكة، وزيد بن أسلم، ومحمد بن المنكدر، ونافع بن أبي نجيح؛ فقهاء المدينة، وربيعة الرأي وابن أبي الزناد؛ فقهاء قباء، وطاوس وابن منبه؛ فقيهي اليمن، وعطاء بن عبد الله؛ فقيه خراسان، ومكحول؛ فقيه الشام، والحكم بن عتيبة وعمار بن أبي سليمان؛ فقيهي الكوفة، وهَلُمَّ. وبالجملة، لم يقم بحفظ العلم وتدوينه إلا الأعاجم، وظهر بذلك مصداق قوله ﷺ: «لو تعلق العلم بأكناف السماء لناله قوم من أهل فارس.» وأما العرب الذين أدركوا هذه الحضارة وسوقها، وخرجوا إليها عن البداوة؛ فقد شغلتهم الرئاسة في الدولة وما دُفعوا إليه من القيام بالملك عن القيام بالعلم والنظر فيه، فإنهم أهل الدولة وحاميتها وأولو سياستها، مع ما يلحقهم من الأنفة عن انتحال العلم بما صار من جملة الصنائع، والرؤساء أبدًا يستنكفون من الصنائع والمهن وما يجر إليها، ودفعوا ذلك إلى من قام به من العجم والمولدين، فكان امتراس العجم من القديم القديم بالحضارة وما تستتبعه من العلوم والصنائع سببًا في كَيسهم وفِطنتهم، ونماء عقولهم، ورجحان أحلامهم، ومِران ملكاتهم على الاستنباط والتخريج، والتماس الحيل وتوليد المعاني؛ ومن ثَمَّ كان شعر الموالي منمازًا عن شعر العرب الأقحاح باستفتاح إغلاق المعاني الدقيقة العبقريات، والافتنان بها، وتلوينها بكل لون، وهاك شعر بشار، وأبي نواس، ومروان بن أبي حفصة، وابن الرومي، ومن إليهم من الشعراء الموالي؛ تَرَ الشاهدَ الصِّدقَ لِمَا أقول، وعرب الأندلس منذ فتحهم هذه البلاد إلى وقتنا هذا لا تزال نزعتهم عربية في كل شيء؛ حتى في شعرهم، إلا ما أكسبتهم إياه طبيعة بلادهم وخصوبتها، فمن ثَمَّ كان فرق ما بين شعرهم وشعر المشارقة في الجملة.
وبعد أن أتم أبو عبد الله كلامه أفضى بنا الحديث إلى ذكر الغزال؛ الشاعر الأندلسي الظريف، ومِلَحه ونوادره، وهذا الغزال — كما أخبرنا ابن القوطية — هو يحيى بن حكم البكري الجياني المُلقَّب بالغزال لجماله، وقد كان في المائة الثالثة مِن بني بكر بن وائل، وكان حكيمًا شاعرًا عرَّافًا، وكان آية في الظرف وخفة الروح، وجَّهه الأمير عبد الله بن الحكم المرواني إلى ملك الروم، فأعجبه حديثه وخف على قلبه، وطلب منه أن ينادمه، فتأبى ذلك واعتذر عنه بتحريم الخمر. وكان يومًا جالسًا معه، وإذا بزوجة الملك قد خرجت وعليها زينتها وهي كالشمس الطالعة حسنًا، فجعَل الغزالُ لا يميل طرفه عنها، وجعل الملك يحدثه وهو لاهٍ عن حديثه، فأنكر ذلك عليه وأمَر الترجمان بسؤاله، فقال له: عرِّفه أني قد بهَرني من حُسن الملكة ما قطعني عن حديثه، فإني لم أر قط مثلها، وأخذ في وصفها، والتعجب من جمالها، وأنها شوقته إلى الحور العين، فلما ذكر الترجمان ذلك للملك تزايدت حظوته عنده، وسُرَّت الملكة بقوله، وأمرت الترجمان أن يسأله عن السبب الذي دعا المسلمين إلى الختان وتجشُّم المكروه فيه مع خُلوِّه من الفائدة، فقال للترجمان: عرِّفها أن فيه أكبر فائدة؛ وذلك أن الغصن إذا زُبر قوي واشتد وغلظ، وما دام لا يُفعل به ذلك فإنه يبقى رقيقًا ضعيفًا، فضحكت واستظرفته. ومن نوادره أنه أُرسل مرة سفيرًا إلى بلاد المجوس (أسوج ونروج) وقد قارب الخمسين، وقد وَخَطَه الشَّيب، ولكنه كان مجتمع الأشد، فسألته زوجة الملك يومًا عن سنِّه، فقال مداعبًا لها: عشرون، فقالت: وما هذا الشيب؟ فقال: وما تنكرين من هذا؟ ألم تري قط مُهرًا ينتج وهو أشهب؟ فأعجبت بقوله، فقال في ذلك — واسم الملكة تود:
ولما فهَّمها الترجمان شعرَ الغزال ضحكت وأمرته بالخضاب، فغدا عليها وقد اختضب وقال:
ومن شعر الغزال الهين اللين الذي يرتفع له حجاب السمع، ويوطأ له مهاد الطبع — كما يقولون — قوله:
وقوله:
وحدثنا أبو بكر بن القوطية قال: كان عباس بن ناصح الثقفي؛ قاضي الجزيرة الخضراء، يغدو على قرطبة ويأخذ عنه أدباؤها، فمرَّت بهم يومًا قصيدته التي أولها:
حتى مر بهم قوله:
وكان الغزال إذ ذاك في الحلقة، وكان حدثًا نظامًا متأدبًا متوقد القريحة فقال: أيها الشيخ، ما الذي يصنع مفعل مع فاعل؟ فقال: كيف تقول؟ فقال: كنت أقول: فليس لعاجز ولا حازم، فقال له عباس: والله، يا بني، لقد طلبها عمك فما وجدها.
وقد كُتبت في قرطبة بقصر سيدي الحَكَم ولي عهد المسلمين، وابن مولانا عبد الرحمن الناصر؛ أمير المؤمنين، وذلك في شهر أغشت الرومي سنة ست وخمسين وتسعمائة، الموافقة سنة خمس وأربعين وثلاثمائة هجرية.
هوامش
ونحن نورد هنا نبذًا من مفاخرات الفريقين ومحاوراتهم وتطعانهم بعضهم على بعض؛ لأنه معنًى مستلذ، فضلًا أنه ليس يخلو من فائدة. فمن قول العرب أو المتعصبين للعرب على العجم — ويراد بالعجم كل من ليس بعربي — فمن قولهم: لو لم يكن منا على المولى عتاقة ولا إحسان إلا استنقاذنا له من الكفر، وإخراجنا له من دار الشرك إلى دار الإيمان، كما في الأثر: إن قومًا يقادون إلى حظوظهم بالسواجير — جمع ساجور؛ وهو القلادة أو الخشبة التي توضع في عنق الكلب — وكذلك جاء في الأثر: عجب ربنا من قوم يُقادون إلى الجنة في السلاسل؛ على أن تعرَّضنا للقتل فيهم، فمن أعظم عليك نعمة ممَّن قتل نفسه لحياتك؟ فالله أمرنا بقتالكم، وفرض علينا جهادكم، ورغبنا في مكاتبتكم — المكاتبة أن يكاتب الرجل عبده أو أمته على مال ينجمه (يقسطه) عليه، ويكتب عليه أنه إذا أدى نجومه (أقساطه) في كل نجم كذا وكذا فهو حرٌّ، فإذا أدَّى جميع ما كاتبه عليه فقد عتق، وولاؤه لمولاه الذي كاتبه؛ وذلك أن مولاه سوغه كسبه الذي هو في الأصل لمولاه.
وقدَّم نافع بن جبير بن مطعم رجلًا من الموالي يصلي به، فقالوا له في ذلك فقال: إنما أردت أن أتواضع لله بالصلاة خلفه. وكان نافع هذا إذ مرت به جنازة قال: من هذا؟ فإذا قالوا: قرشي، قال: وا قوماه! وإذا قالوا: عربي، قال: وا بلدتاه! وإذا قالوا: مولًى، قال: هو مال الله يأخذ ما يشاء ويدع ما يشاء … وكانوا لا يكنونهم بالكنى، ولا يدعونهم إلا بالأسماء والألقاب، ولا يدعونهم يصلون على الجنائز إذا حضر أحد من العرب، وإن كان الذي يحضر غريرًا.
وروي أن عامر بن عبد القيس في نسكه وزهده وتقشفه وعبادته كلَّمه حمران مولى عثمان بن عفان عند عبد الله بن عامر؛ صاحب العراق، في تشنيع عامر على عثمان وطعنه عليه، فأنكر ذلك، فقال له حمران: لا كثر الله فينا مثلك، فقال لهم عامر: بل كثر الله فينا مثلك، فقيل له: أيدعو عليك وتدعو له؟ قال: نعم، يكسحون طرقنا، ويخرزون خفافنا، ويحوكون ثيابنا، فاستوى ابن عامر جالسًا وكان متكئًا فقال: ما كنت أظنك تعرف هذا الباب لفضلك وزهادتك، فقال: ليس كل ما ظننت أني لا أعرفه لا أعرفه. ويُروى أن أعرابيًّا من بني العنبر دخل على سوار القاضي فقال: إن أبي مات وتركني وأخًا لي وخط خطين، ثم قال: وهجينًا، ثم خط خطًّا ناحية، فكيف يقسم المال؟ فقال له سوار: ها هنا وارث غيركم؟ قال: لا، قال: فالمال بينكم أثلاثًا، قال: ما أحسبك فهمت عني أنه تركني وأخي وهجينًا، فكيف يأخذ الهجين كما آخذ أنا وكما يأخذ أخي، قال: أجل، فغضب الأعرابي. ومن قول الشعوبية: أخبرونا إن قالت لكم العجم هل تعدون الفخر كله أن يكون ملكًا أو نبوة، فإن زعمتم أنه ملك قالت لكم: فإن لنا ملوك الأرض كلها من الفراعنة والنماردة والعمالقة والأكاسرة والقياصرة، وهل ينبغي لأحد أن يكون له مثل ملك سليمان الذي سُخِّرت له الإنس والجن والطير والريح، وإنما هو رجل منا، أم هل كان لأحد مثل ملك الإسكندر الذي ملك الأرض كلها، وبلغ مطلع الشمس ومغربها، وكيف ومنا ملوك الهند؟ وإن زعمتم أنه لا يكون الفخر إلا بنبوة، فإن منا الأنبياء والمرسلين قاطبة من لدن آدم ما خلا أربعة: هودًا وصالحًا وإسماعيل ومحمدًا، ومنا المصطفون من العالمين: آدم ونوح، وهما العنصران اللذان تفرع منهما البشر، فنحن الأصل وأنتم الفرع، وإنما أنتم غصن من أغصاننا، فقولوا بعد هذا ما شئتم وادَّعوا، ولم تزل للأمم كلها من الأعاجم في كل شقٍّ من الأرض ملوك تجمعها، ومدائن تضمها، وأحكام تدين بها، وفلسفة تنتجها، وبدائع تفتقها في الأدوات والصناعات؛ مثل صنعة الديباج، وهي أبدع صنعة، ولعب الشطرنج، وهي أشرف لعبة، ومثل فلسفة الروم وما إليها، وما كان للعرب ملك يجمع سوادها، ويضم قواصيها، ويقمع ظالمها، وينهى سفيهها، ولا كان لها قط نتيجة في صناعة ولا أثر في فلسفة، إلا ما كان من الشعر، وقد شاركتها فيه العجم؛ وذلك أن للروم أشعارًا عجيبة قائمة الوزن والعروض، وكذلك الخطابة، فإنها شيء في جميع الأمم، وبكل الأجيال إليه أعظم الحاجة، حتى إن الزنج — مع الغثارة، ومع فرط الغباوة، ومع كلال الحد، وغلظ الحس، وفساد المزاج — لتطيل الخطب، وتفوق في ذلك جميع العجم، وإن كانت معانيها أجفى وأغلظ، وألفاظها أخطأ وأجهل. وقد علمنا أن أخطب الناس الفرس، وأخطب الفرس أهل فارس، وأعذبهم كلامًا، وأسهلهم مخرجًا، وأحسنهم أداء، وأشدهم فيه تحنكًا أهل مرو، ومَن أحبَّ أن يبلغ في صناعة البلاغة، ويعرف الغريب، ويتبحر في اللغة؛ فليقرأ كتاب كاروند، ومن احتاج إلى العقل والأدب والعلم بالمراتب والعبر والمثلات والألفاظ الكريمة، والمعاني الشريفة؛ فلينظر إلى سير الملوك، فهذه الفرس ورسائلها وخطبها وألفاظها ومعانيها، وهذه يونان ورسائلها وخطبها وعللها وحِكَمها، وهذه كتبها في المنطق التي قد جعلتها الحكماء بها تعرف السقم من الصحة، والخطأ من الصواب، وهذه كتب الهند في حكمها وأسرارها وسيرها وعللها، فمن قرأ هذه الكتب عرف غور تلك العقول، وغرائب تلك الحكم، وعرف أين البيان والبلاغة، وأين تكاملت تلك الصناعة.
قال الجاحظ ينضح عن العرب: أما الهند، فإن لهم معاني مدونة، وكتب مجلدة، لا تضاف إلى رجل معروف، ولا إلى عالم موصوف، وإنما هي كتب متوارثة، وآداب على وجه الأرض سائرة مذكورة.
ولليونانيين فلسفة وصناعة منطق. وكان صاحب المنطق نفسه بكيء اللسان، غير موصوف بالبيان، مع علمه بتمييز الكلام وتفصيله ومعانيه، وبخصائصه. وهم يزعمون أن جالينوس كان أنطق الناس، ولم يذكروه بالخطابة، ولا بهذا الجنس من البلاغة.
وفي الفرس خطباء إلا أن كل كلام للفرس، وكل معنى للعجم، فإنما هو عن طول فكرة، وعن اجتهاد وخلوة، وعن مشاورة ومعاونة، وعن طول التفكر ودراسة الكتب، وحكاية الثاني علم الأول، وزيادة الثالث في علم الثاني، حتى اجتمعت ثمار تلك الفكر عند آخرهم.
وكل شيء للعرب فإنما هو بديهة وارتجال وكأنه إلهام، وليست هناك معاناة ولا مكابدة، ولا إجالة فكرة، ولا استعانة، وإنما هو أن يصرف وهمه إلى الكلام، وإلى رجز يوم الخصام، أو حين أن يمتح على رأس بئر، أو يحدو ببعير، أو عند المقارعة والمناقلة، أو عند صراع أو في حرب، فما هو إلا أن يصرف وهمه إلى جملة المذهب، وإلى العمود الذي إليه يقصد، فتأتيه المعاني أرسالًا، وتنثال عليه الألفاظ انثيالًا، ثم لا يقيده على نفسه، ولا يدرسه أحدًا من ولده، وكانوا أميين لا يكتبون، ومطبوعين لا يتكلفون، وكان الكلام الجيد عندهم أظهر وأكثر، وهم عليه أقدر وأقهر، وكل واحد في نفسه أنطق، ومكانه من البيان أرفع، وخطباؤهم أوجز، والكلام عليهم أسهل، وهو عليهم أيسر من أن يفتقروا إلى تحفظ، أو يحتاجوا إلى تدارس. وليس هم كمن حفظ علم غيره، واحتذى على كلام من كان قبله، فلم يحفظوا إلا ما علق بقلوبهم، والتحم بصدورهم، واتصل بعقولهم من غير تكلف ولا قصد، ولا تحفظ ولا طلب. وإن شيئًا هذا الذي في أيدينا جزء منه التراب، وهو الله الذي يحيط بما كان والعالِمُ بما سيكون.
ونحن — أبقاك الله — إذا ادَّعينا للعرب أصناف البلاغة من القصيد والأرجاز، ومن المنثور والأسجاع، ومن المزدوج وما لا يزدوج، فمعنا العلم على أن ذلك لهم شاهد صادق من الديباجة الكريمة، والرونق العجيب، والسبك والنحت الذي لا يستطيع أشعر الناس اليوم ولا أرفعهم في البيان أن يقول مثل ذلك إلا في اليسير والنبذ القليل، ونحن لا نستطيع أن نعلم أن الرسائل التي في أيدي الناس للفرس أنها صحيحة غير مصنوعة، وقديمة غير مولدة، إذا كان مثل ابن المقفع وسهل بن هارون وأبي عبيد الله وعبد الحميد وغيلان وفلان وفلان لا يستطيعون أن يولدوا مثل تلك الرسائل، ويصنعوا مثل تلك السير، وأخرى أنك متى أخذت بيد الشعوبي فأدخلته بلاد الأعراب الخلص ومعدن الفصاحة التامة، ووقفته على شاعر مفلق، أو خطيب مصقع؛ علم أن الذي قلت هو الحق، وأبصر الشاهد عيانًا، فهذا فرق ما بيننا وبينهم.
فتفهَّمْ عني — فهَّمك الله — ما أنا قائل في هذا، واعلم أنك لم تر قومًا قط أشقى من هؤلاء الشعوبية، ولا أعدى على دينه، ولا أشد استهلاكًا لعرضه، ولا أطول نصبًا، ولا أقل غُنمًا من أهل هذه النِّحلة، وقد شفي الصدور منهم طول جثوم الحسد على أكبادهم، وتوقد نار الشنآن في قلوبهم، وغليان تلك المراجل الفائرة، وتسعُّر تلك النيران المضطرمة. ولو عرفوا أخلاق كل ملة، وزي كل لغة وعللهم في اختلاف إشاراتهم وآلاتهم وشمائلهم وهيئاتهم، وما علة كل شيء من ذلك، ولم اختلقوه ولم تكلفوه؛ لأراحوا أنفسهم وتخففت مئونتهم على من خالطهم. ا.ﻫ. ملخصًا من «العقد» و«البيان والتبيين». ويظهر أن هؤلاء الشعوبية نجمت أوائل الدولة العباسية، وإن كانت جرثومتها أقدم من ذلك.