المسألة المالية وانتهاء حكم إسماعيل باشا
لو نظرنا إلى مقدار ما قام به «إسماعيل باشا» من المشروعات والأعمال العامة في أنحاء البلاد، وراعينا ما كان في قصوره وحفلاته من أنواع البذخ والأبهة مما ضارع به أكبر ملوك الأرض، علمنا أن ذلك كان يتطلب نفقات جمة تضيق خزائن مصر عن تحمُّلها. فكان رحمه الله يستعين على ذلك بإنجاز بعض أعماله من غير أن يدفع أجرها نقدًا، فيُبقي عليه دينًا — وهو ما يسمى بالدين السائر — ويقترض ديونًا من الدول الأوروبية لتسديد نفقات بعضها الآخر — وهذه تسمى ديونًا ثابتة. وكانت الديون الثابتة لا تُعطى إلا إذا قُدم لأصحابها ما يضمن سدادها، مثل دخل بعض مصالح الحكومة والأموال المجبية من بعض المديريات. فإذا تعذر عليه الحصول على ما يبغي من الدول الأوروبية لجأ إلى جمع ما يطلبه من المال من أهل البلاد، سواء أكان ذلك بزيادة الضرائب أم باقتراض ديون أهلية.
وتعهد إسماعيل باشا في عقد هذا القرض أن لا يقترض ديونًا أخرى مدة سنتين، ثم اشتدت حاجته إلى المال، فلجأ إلى جمع قرض من الأهلين يُعرف بدين «الرُّزْنامة». وشروطه أن كل من يدفع للحكومة مبلغًا يأخذ نظيره دُفَعًا سنوية على الدوام قدرُ كلٍّ منها ٩٪ من أصل ما دفعه. فجمعت الحكومة بهذه الطريقة ٣٤٢٠٠٠٠ جنيه، ولكنها لم تدفع من الدُّفع السنوية المذكورة إلا جزءًا من دفعة السنة الأولى فقط.
وفي سنة (١٢٩٢ﻫ/١٨٧٥م) ازدادت أزمة الخديوي المالية، وصار يصدر سندات على خزائن الحكومة بقيمة تقل كثيرًا عن قيمتها الاسمية. ولما اشتدت الأزمة على الحكومة عرضت ما لها من أسهم القناة للبيع — وكان عددها ١٧٦٦٠٢ — فاشترتها الحكومة الإنجليزية بثمن بخس يقل عن ٤٠٠٠٠٠٠ جنيه، فلم يفرِّج ذلك شيئًا يُذكر من الأزمة، وصار يُخشى كل يوم من تدخُّل الدول الأوروبية في شئون مصر محافظةً على الأموال التي أقرضتها رعاياها الحكومة المصرية.
وفي (١١ ربيع الأول سنة ١٢٩٣ﻫ/١٨ أبريل سنة ١٨٧٦م) توقَّف الخديوي عن صرف قيمة سندات الخزانة المصرية؛ فكان ذلك اليوم المبدأ الحقيقي للمشكلة المالية المصرية ولتدخُّل أوروبا في شئون مصر.
عند ذلك تذعرت دول أوروبا، فاهتمَّ الخديوي بتأمينها على أموال رعاياها، وسعى إلى ذلك بكل الوسائل، إلى أن أصدر أمرًا في يوم (٨ ربيع الآخر سنة ١٢٩٣ﻫ/٢ مايو سنة ١٨٧٦م) بإنشاء لجنة يقال لها «صندوق الدَّين» تُشكَّل من مندوبي الدول، ويُعهد إليها إدارة شئون الدَّين المصري وتدبير ما يجب لانتظام تسديده، ثم أصدر أمرًا آخر في ٧ مايو بتوحيد جميع الديون المصرية من سائرة وغير سائرة وجعلها دينًا واحدًا قدره ٩١٠٠٠٠٠٠ جنيه وربحه ٧٪ وينتهي تسديده في ٦٥ سنة. ولم تقبل الحكومة الإنجليزية إرسال مندوب يمثلها في صندوق الدَّين أسوةً بباقي الدول، ولكن أضيف إلى لجنة الصندوق فيما بعدُ عضو إنجليزي بدون مؤاخذة إنجلترا وهو «السير إِفِلِن بيرنج» الذي منح فيما بعد لقب «لورد» وصار يعرف ﺑ «اللورد كرومر». وسنعود إلى ذكره في هذا الكتاب.
- (أ)
٤٢٩٣٠٠٠ جنيه قيمة الديون التي اقتُرضت في سنة ١٨٦٤ و١٨٦٥ و١٨٦٧م؛ أي قبل اشتداد الأزمنة المالية، واعتُبر ذلك الدَّين نوعًا قائمًا بذاته، ويُسدَّد من أقساط المقابلة.
- (ب) ١٧٠٠٠٠٠٠ جنيه قيمة سندات جديدة أُطلق عليها اسم «الدَّين الممتاز» وجُعل سعرها ٥٪، وجُعل الضامن لسدادها دخل السكك الحديدية وميناء الإسكندرية٤ ترغيبًا في شرائها ليُصرف ثمنها في تسديد الديون السائرة.
- (جـ)
٨٨١٥٠٠٠ جنيه قيمة دَين الدائرة السنية، واعتُبر هذا الدين قائمًا بذاته ويُسدَّد من دخل تلك الدائرة.
وبذلك نقص الدين الموحد إلى ٥٩٠٠٠٠٠٠ جنيه، وجُعل سعره ٦٪، واتُّفق على أن يُسدَّد ١٪ من أصله سنويًّا.
واقترح اللورد غوشن على الخديوي عدة إصلاحات لتوطيد مركز الحالة المالية، وتسهيل السير بانتظام في دفع أرباح الدين وأقساطه.
فشرع الخديوي في إنفاذ هذه الاقتراحات، وأدخل بحكومته عدة موظفين أوروبيين من أصحاب الكفاءة الكبيرة للقيام بذلك الإصلاح.
من ذلك أنه وافق على تعيين مراقبَين عموميَّين لحساب الحكومة: أحدهما إنجليزي لمراقبة الدخل وهو «السير رِفَرز وِلْسُنْ»، والثاني فرنسي لمراقبة المصروفات وهو «المسيو بِلِنْيير».
على أن الخديوي لم يلبث أن رأى ذلك يُنقص من نفوذه، فلم يطلق للمراقبين كل الحرية في العمل؛ فلم يكن لذلك الإصلاح الأثر المطلوب، ولم تُوفَّق الحكومة إلى أن تجمع قبل الميعاد المحدود لدفع أرباح الدَّين ما يكفي من المال لتسديدها، فاتُّبِعت كل طريقة في جمع الضرائب قبل ميعادها حتى تيسَّر جمع المال المطلوب فسُلِّم لصندوق الدَّين في آخر لحظة؛ أي قبل الميعاد المحدود ببضع ساعات.
فشرعت اللجنة في فحص كل شيء يختص بالمالية المصرية؛ من النظر في الأنظمة الإدارية والضرائب وأنواع الديون المطالَب بها وأصلها وغير ذلك. ولم يكد الأعضاء يشرعون في إنجاز مهمتهم حتى اعترضهم حادث وقَّف العمل فترة؛ وذلك أنه لما كان قد خُوِّل لهم حق الاستفسار من أي موظف في الحكومة عن أي شيء استدعَوْا «شريف باشا» — ناظر الحقانية وأعظم الوزراء إذ ذاك — للحضور أمامهم للإجابة عن استعلاماتهم، فلم يرضَ «شريف باشا» بالحضور أمامهم محافظًا على كرامته، وقال إنه مستعد للإجابة عن أسئلة اللجنة كتابةً، فأصرت اللجنة على استحضاره فاضُطر إلى الاستعفاء. وبعد مضي هذه الحادثة التي اعترضت السير في التحقيق عادت اللجنة إلى مباحثها، وانكبَّ أعضاؤها على العمل يوميًّا حتى وقفوا على مواضع الخلل في المالية؛ فكشفوا بذلك عيوبًا خطيرة مما لم يكن على بال، من أهمها عدم التفريق بين المطلوب من الحكومة والمطلوب من الأسرة الخديوية، والإسراف في شراء لوازم الجيش وغيره لمجرد الرغبة في اقتناء كل شيء جديد أو اختراع ظريف يعرضه الأوروبيون على الخديوي ويبالغون له في محاسنه، وزيادة أجور الأعمال التي يقوم بها المتعهدون الأوروبيون ونحوهم زيادةً فاحشةً عما تستحق — من ذلك أن نفقات إصلاح ميناء الإسكندرية بلغت ٢٥٠٠٠٠٠ جنيه مع أنها لم تعادل أكثر من ١٥٠٠٠٠٠ جنيه — واقتراض الأموال بأرباح باهظة لم يُسمع بمثلها.
ولاحظت اللجنة أن الحكومة — فضلًا عن إثقالها كاهل الأهلين بجميع أنواع الضرائب — قد جبت منهم مبلغَين بشروط لا يمكن الاستمرار على العمل بها؛ أولهما: ما أُخذ منهم بمقتضى قانون «المقابلة»، وثانيهما: دين «الرزنامة»، فعوَّلت على مراعاة ذلك عند تسوية الحالة المالية. ورأت أيضًا أن الدائنين لم ينحصروا في أصحاب المصارف والمقاولين، بل منهم طائفة كبيرة من أصحاب المهنات الحقيرة؛ كالحمَّارين والجمَّالين والحلاقين، وأن كثيرًا منهم لم تكن بأيديهم من الحجج القوية ما يكفي لتبرير دفع مطالبهم.
وقفت اللجنة على كل ذلك، وقررت الحَيْطة العامة التي يجب اتخاذها لتلافي هذا المرض، ولكنها رأت قبل التعرُّض للتفصيلات الواجب اتباعها في حل المشكلة المالية أن تطلب إلى الخديوي إصلاحات لا يتسنَّى بدونها السير بمقتضى اقتراحاتها؛ فطلبت من سموه أمرين؛ الأول: أن يتنازل عن جميع أملاكه للحكومة، ويُجعل له نظير ذلك راتب سنوي يفي بحاجاته إذا راعى جانب الاعتدال. والثاني أن لا يستقلَّ بإدارة شئون البلاد، بأن يُشرك معه وزراء مؤاخَذين على أعمالهم، حتى لا يتمَّ عمل إلا بعد مراعاة مصلحة البلاد.
واستمرت اللجنة في فحص الشئون المالية وإدخال الإصلاحات الجديدة تمهيدًا لتسوية الدين بطريقة نهائية. وكانت بالطبع تتبع فيما يختص بدفع أرباح الدين وأقساطه النظام الذي سُنَّ بموافقة صندوق الدين في سنة ١٨٧٦م — نتيجة بعث غوشن — ريثما تفرغ من وضع نظامها الجديد. ولا يخفى أن ذلك النظام لم يكن بحيث تقوى موارد البلاد على القيام بشروطه؛ فعانى الوزراء مصاعب جمة في جمع الأموال اللازمة، ولم يعاونهم الخديوي بنفوذه الأدبي، فظن الأوروبيون أنه يعرقل مساعيَ الإصلاح الذي يريدونه لِمَا فيه من سلبه بعض نفوذه، وساعدهم على هذا الاعتقاد أن ثار الجند لعدم قيام الوزارة الجديدة بدفع ما تأخر لهم من الرواتب، فتجمهروا أمام وزارة المالية وقبضوا على «نوبار باشا» و«السير رفرز ولسن» وأهانوهما، ولم ينصرفوا إلا بعد أن حضر الخديوي، وأمرهم بالانصراف فانصرفوا سريعًا؛ فكان ذلك سببًا في الظن بأنهم ثاروا بإيعاز منه.
وعند ذلك أعلن الخديوي أعضاء اللجنة أنه لا يُعِدُّ نفسه مؤاخَذًا عما يحدث من الخلل أو الاضطراب بالبلاد ما لم يكن له نصيب فعَّال في حكمها. وبعد أن تداول معهم في هذا الشأن أُقيل «نوبار باشا» من رياسة الوزارة، فخافت الدول أن يعود الخديوي إلى الاستبداد بالسلطة ففاوضوه في الأمر، ثم أقر الخديوي على أن يعهد برياسة الوزارة الجديدة لولي العهد ابنه «الأمير توفيق»، بشرط أن لا يتدخل هو في قرارات مجلس النظَّار، وأن يكون للناظرَين الأوروبيَّين جميع الحقوق المخولة لباقي النظار.
فشرعت الوزارة الجديدة في العمل بالاتفاق مع أعضاء صندوق الدين ولجنة التحقيق حسب العادة، وكانت أرباح بعض الدين تستحق الدفع في (٨ ربيع الآخر سنة ١٢٩٦ﻫ/أول أبريل سنة ١٨٧٩م)، فلم يتوافر لدى صندوق الدين المبلغ اللازم لدفعها في حينها، فقرر أعضاؤه بالاتفاق مع لجنة التحقيق والوزارة تأجيل الدفع إلى أول مايو، فأظهر الخديوي استياءه من ذلك، وقال إنه عار على مصر، وعدَّه دليلًا على أن كل هذا التدخُّل الأوروبي لم يأتِ بالنتيجة المطلوبة. وكان تقرير لجنة التحقيق قد قارب الانتهاء وعُرف جُلُّ ما فيه، وعلم الخديوي أن التقرير سيعلِن رسميًّا إفلاس الحكومة المصرية؛ فانتهز فرصة حدوث كل ذلك، وعمل على استرجاع نفوذه وخلع الوزارة التي بها عضوان من الفرنج وكل أعمالهما بإشارتهما.
وقام هو بإعداد مشروع لتسوية الأمور المالية مخالف لمشروع اللجنة ولا يقتضي إعلان الإفلاس، وكان قد استمال الأعيان والعلماء فقدموا إليه معروضًا أظهروا فيه بالنيابة عن الأمة استياءهم من الحالة الحاضرة، ومِن عزم الفرنج على إعلان إفلاس الحكومة، وطلبوا إليه تشكيل وزارة مصرية محضة تكون مؤاخَذة أمام مجلس الأعيان، فعزل الخديوي الوزارة وشكَّل غيرها برياسة «شريف باشا» اختار جميع أعضائها من المصريين، وعوَّل أيضًا على رفض المشروع الذي ستقدمه لجنة التحقيق لحل المسائل المالية، وعزم على العمل بموجب المشروع الذي حضَّره هو بمعونة أتباعه.
فأثارت كل هذه الأمور غضب الدول الأوروبية، وعلموا أنه لا يمكن إنجاز أي عمل لتسوية المالية المصرية وتثبيت حقوق رعاياها ما دام إسماعيل باشا خديويًّا على مصر؛ إذ ظهر أنه يأبى إلا أن يكون هو صاحب السلطة في البلاد، وأن يتصرف في شئونها ومالها كيف شاء، وبعد أن تفاوضت فيما بينها قررت عزله من خديوية مصر، فعرضت عليه أن يستقيل، فلم يقبل وأحال الأمر على السلطان، فما زالت الدول تستعمل النفوذ والتهديد لدى الباب العالي حتى استصدروا منه أمرًا بعزل إسماعيل باشا، فجاء منه إلى مصر نبأ برقي بذلك في (٦ رجب سنة ١٢٩٦ﻫ/٢٦ يونيو سنة ١٨٧٩م)، فلم يُبدِ إسماعيل باشا مقاومة أخرى، وعهد بأمر البلاد إلى ابنه «توفيق باشا» — وكان قد ورد إليه نبأ برقي آخر بتوليته على مصر.
وخرج إسماعيل باشا من مصر في (١٠ رجب/٣٠ يونيو) وأبحر من الإسكندرية على سفينته «المحروسة» إلى إيطاليا.