أوائل حكم توفيق باشا
تولى توفيق باشا أريكة مصر (١٩ شعبان سنة ١٢٩٦ﻫ/٨ أغسطس ١٨٧٩م) والمصاعب تحيط بالبلاد من كل جانب؛ فالخزانة خالية، والجيش معتل النظام، والأهلون ساخطون — الفقراء منهم لما نالهم من الجور، والأغنياء مخافة أن يفقدوا ما نالوه من المزايا في عهد إسماعيل — والأوروبيون ناقمون لأن أموالهم لم تُدفع إليهم، ولأن الاضطرابات السائدة جعلت التجارة في كساد فقلَّت بذلك أرباحهم. ولم يكن لتوفيق باشا — رحمه الله — من الدهاء والعزم ما يجعله خير مكافح لكل هذه الخطوب، إلا أنه كان محبًّا للبلاد شديد الميل إلى ما فيه راحتها، فلم يدخر وسعًا في العمل على إسعادها، وإنقاذها مما حلَّ بها من العناء بإدخال كل ما يمكنه من الإصلاح.
وقبل أن يسير هذا الإصلاح في مجراه اقتضت الأحوالُ الفصلَ في أربعة أمور هامة؛ أولها: تحديد مقدار نفوذ الخديوي في حكم البلاد، والثاني: تقرير العلاقة بين الخديوي والدولة العلية، والثالث: تعيين نوع الإشراف الذي يكون للأوروبيين على شئون مصر، والرابع: الفصل في المسائل المالية بطريقة تكفل الاتفاق بين الحكومة المصرية ودائنيها الأوروبيين.
ففي المسألة الأولى عوَّل الخديوي على إشراك وزرائه معه في حكم البلاد وعدم الاستئثار بالسلطة؛ فعهد إلى «شريف باشا» بتشكيل وزارة، فقدَّم إليه هذا مشروعًا يقتضي جعْل الحكومة نيابية محضة، فلم يوافق عليه الخديوي لاعتقاده أن البلاد لا تستطيع أن تخطوَ دفعة واحدة من حكومة استبدادية مطلقة إلى حكومة نيابية محضة؛ فاضطُر شريف باشا إلى الاستقالة (٢٩ شعبان سنة ١٢٩٦ﻫ/١٨ أغسطس سنة ١٨٧٩م)، فعزم الخديوي على ترؤُّس مجلس الوزراء بنفسه، إلا أن هذه الطريقة لم تَدُم طويلًا، وفي (٤ شوال/٢٢ سبتمبر) استدعى «رياض باشا» وكلَّفه لتشكيل وزارة، وحفظ الخديوي لنفسه الحق في ترؤُّس مجلس الوزراء متى رأى حاجة إلى ذلك، إلا أنه جعل للوزراء نفوذًا حقيقيًّا في إدارة شئون البلاد؛ فحُلَّت بذلك المسألة حلًّا مرضيًا، وشرعت وزارة رياض باشا في مباشرة أعمالها على أساس ثابت.
أما مسألة علاقة مصر بالدولة فكان الباب العالي يريد، بمناسبة عزل إسماعيل باشا أن يزيد من سيادة الدولة على مصر، ويلغي الامتيازات التي منحها لإسماعيل. وكان عند إصدار الأمر بعزله أصدر معه أمرًا سلطانيًّا بإلغاء تقليد سنة (١٢٩٠ﻫ/١٨٧٣م).
ولما كانت تولية الخديوي الجديد تقتضي إصدار تقليد آخر، عوَّل الباب العالي على أن يكون هذا سالبًا للامتيازات الأولى، فعارضت دولتا فرنسا وإنجلترا في الأمر، وطلبتا الاطلاع على صورة التقليد قبل إصداره.
وقد علمنا — فيما سبق — أن تقليد سنة ١٨٧٣م يتضمن الميزات الأربع الآتية: (١) جعْل الوراثة لأكبر أولاد الخديوي بدلًا من جعلها لأكبر فرد في الأسرة (٢) منح مصر الحق في عقد معاهدات تجارية مع الدول (٣) تخويل الخديوي حق اقتراض المال من الدول الأجنبية (٤) تخويل حق زيادة الجيش إلى أي عدد أراد.
فعارضت فرنسا في إلغاء هذه الامتيازات كل المعارضة؛ لأنها كانت تعمل في ذلك الحين على تقويض أملاك الدولة ونزعها من يدها، فلا ترضى بأن يرجع إليها في مصر نفوذ كان قد ضاع منها. أما إنجلترا فلم يكن من سياستها إذ ذاك العمل على إضعاف الدولة؛ فلم تعارض فيما يريده الباب العالي إلا في مسألة الوراثة، فإنها رأت بقاءها في أكبر أولاد الخديوي أضمن للسكينة في مصر. ولكن فرنسا تمسكت كل التمسك بأمرٍ آخر وهو عدم إلغاء الامتياز الخاص بعقد المعاهدات التجارية، وبعد أخذٍ وردٍّ أذعن الباب العالي لهذين الطلبين واكتفى في التقليد الجديد بتعديل ما جاء في تقليد سنة ١٨٧٣م بشأن الجيش واقتراض الديون من الدول الأجنبية؛ فاشترط أن لا يزيد الخديوي الجيش على ١٨٠٠٠ في وقت السلم — وفي وقت الحرب يكون الأمر للدولة — وأن لا يعقد قروضًا جديدة «إلا بالاتفاق مع الدائنين الحاضرين أو وكلائهم، ويكون ذلك منحصرًا في تسوية أحوال المالية الحاضرة.»
أما المسألة الثالثة وهي تعيين نوع إشراف الأوروبيين على شئون الحكومة، فقد تم الاتفاق بين الخديوي وبين الدول الأوروبية على أن تُجدَّد «المراقبة الثنائية» التي كانت في عهد إسماعيل، بشرط أن تقتصر أعمال المراقبَين على الفحص والتدقيق، وأن لا تتعداهما إلى التدخل في شئون الإدارة. فعُيِّن «السير إِفِلين بيرنج» مراقبًا من قِبل إنجلترا، و«المسيو دي بلنيير» مراقبًا من قِبل فرنسا (ذي الحجة سنة ١٢٩٦ﻫ/نوفمبر سنة ١٨٧٩م)، واشترطت حكومتاهما أن لا يُعزل أحدهما عن منصبه إلا بعد موافقة دولته، فتسلم المراقبان أعمالهما، ولم يقسِّما اختصاصهما بل عملا معًا بالتكافل، وعوَّلا في مهمتهما على السير مع رجال الحكومة المصرية بالحزم والمجاملة كي يكسبا ثقتها، فتيسر لهما إجراء ما يلزم من الإصلاح في مالية البلاد وشئونها بدون مقاومة منها. وبالفعل حازا ثقة الحكومة فأُذن لهما بحضور جلسات مجلس النظار، وأعدَّا مشروعات كثيرة نافعة كان لها الأثر الأكبر في تسوية الديون المصرية تسوية نهائية، وفي كثير من الإصلاح الذي تم بالبلاد عقب الاحتلال البريطاني.
وأما المسألة الأخيرة وهي الفصل بين الحكومة المصرية ودائنيها، فتقرر بشأنها تشكيل لجنة شبيهة بلجنة التحقق التي سبق ذكرها يقال لها «لجنة التصفية»، الغرض منها عمل حل نهائي للمشاكل التي بين الحكومة ودائنيها، بحيث لا يُغبن أحد الطرفين أكثر من الآخر، فشكلت اللجنة من أعضاء ممثلين للدول الأوروبية العظمى، وفيهم أعضاء لجنة صندوق الدين، برياسة «السير رِفَرْز وِلسُن»، واتفقت الدول على أن ترضى بما تقرره اللجنة في هذا الشأن، ولم يكن المراقبان من بين أعضاء هذه اللجنة، بل بقيا في جانب الحكومة ليدفعا عنها من الغَبن ما عسى أن يطمع فيه أعضاء اللجنة.
وفي أثناء اشتغال اللجنة بالفحص والمناقشة في أمر تصفية الدين، انصرف المراقبان إلى عمل كل إصلاح فيه التسهيل لسير أعمال الحكومة في المستقبل على أساس متين، وقاما من تلقاء نفسهما بتحضير مشروع لتصفية الديون رجاء أن تتبعه اللجنة إن لم تُوفَّق هي إلى عمل مشروع من عندها — لوقوع الخلاف يومئذٍ بين أعضائها. وأهم ما جاء في هذا المشروع أن يُنقَص ربح الدين الموحد من ٧٪ إلى ٤٪، وأن يُصرف النظر عن جميع الأرباح المتأخرة التي لم تُدفع في الماضي. ومن الإصلاحات التي قام بها المراقبان أنهما سهرا على العمل بما اقترحته لجنة التحقيق من الإصلاح؛ فأُلغي قانون المقابلة نهائيًّا، وأُنقص الفرق بين الأراضي العُشْرية والخراجية بزيادة ضريبة إضافية على الأراضي العشرية قدرها ١٥٠٠٠٠ جنيه، وأُلغى معظم الضرائب الدنيئة مثل العوائد الشخصية ورسوم القبانة والصرافة ورسوم الأرضية في أسواق الريف. ومن أهم هذا الإصلاح تعيين مواعيد محدودة لجمع ضريبة الأراضي بحيث تُدفع الأقساط في أوقات تناسب المزارعين. ولا يخفى ما كان يلاقيه هؤلاء من قبلُ من جرَّاء مطالبتهم بها في غير موعد وبدون إنذار.
- (١)
يُخفَّض ربح الدين الموحَّد إلى ٤٪، ويكون الضمان لذلك الدين دخل المكوس — الجمارك — بما فيها رسوم الدخان، ودخْل مديريات الغربية والمنوفية والبحيرة، وتُدفع هذه الأموال إلى صندوق الدين مباشرة.
- (٢)
يدخل في الدين الموحد الباقي من الديون القصيرة الأجل التي اقتُرضت في سنة ١٨٦٤ و١٨٦٥ و١٨٦٧م بنقص ٢٠٪ من قيمتها.
- (٣)
يُستصدر قرض ممتاز جديد بمبلغ ٨٧٤٣٨٠٠ جنيه لدفع الديون السائرة التي لم تُسدَّد بعد.
- (٤)
تدير «الدائرةَ السنية» إدارةٌ تشرف عليها هيئة من مندوبي الدول، ويكون ربح القرض المستصدَر عليها ٤٪ حتمًا، و٥٪ إذا كفت غلة أراضي الدائرة لذلك — لم تكفِ الغلة قطُّ لدفع ٥٪.
- (٥)
تُدفع الديون السائرة جزئيًّا أو بالكامل، وبالنقد أو بسندات مالية من السندات الممتازة، حسب أهمية المستندات التي بأيدي أصحاب هذه الديون.
- (٦)
يُصرف مبلغ ١٥٠٠٠٠ جنيه سنويًّا لمدة ٥٠ سنة للذين دفعوا أموال «المقابلة»؛ إذ إن الضرائب المفروضة على أرضهم لن تُخفض كما كانوا ينتظرون.
- (٧)
يُقسم دخل الحكومة إلى قسمين: قسم خاص بنفقات إدارة البلاد لا يزيد بحالٍ من الأحوال على ٤٥٢٠٠٠٠ جنيه، وقسم لسد أرباح الدين وأقساطه، وهو الباقي من الدخل — البالغ في تلك السنة ٨٤١٢٠٠٠ جنيه.
هذه هي الأنظمة النهائية التي حُلَّت بها مسألة المالية المصرية وأقرَّتها الدول. ويلاحَظ أنه بمقتضاها نقص مقدار الدين المصري وأرباحه عما كان عليه بمقتضى الأنظمة السابقة.
الدين الموحد | الدين الممتاز | دين الدائرة السنية | دين الدومين (روتشيلد) | الجملة | جملة الأرباح سنويًّا |
---|---|---|---|---|---|
بسعر ٤٪ | بسعر ٥٪ | بسعر ٤٪ | بسعر ٥٪ | ||
٥٧٧٧٦٣٤٠ | ٢٢٥٨٧٨٠٠ | ٩٥١٢٩٠٠ | ٨٤٩٩٦٢٠ | ٩٨٢٧٦٦٦٠ | ٣٩٧٢٣٨٧ |
وبعد الفصل في مسألة الدين تفرغت المراقبة الثنائية والوزارة المصرية لإدخال كثير من الإصلاح. وكان من أهم ذلك أن شُكلت لجنة علمية للنظر في أمر التعليم برياسة علي إبراهيم باشا ناظر المعارف في (٧ جمادى سنة ١٢٩٧ﻫ/٢٧ مايو ١٨٨٠م) فاجتمعت مرارًا، وعدَّلت مناهج التعليم ووسعت نطاقه في البلاد، ثم قدمت تقريرًا بما تراه من الإصلاح، فأقرَّته الحكومة وأبلغت ميزانية المعارف إلى ضعفَي ما كانت عليه. واهتمَّت الحكومة أيضًا بطرق الري وإنشاء الترع والقناطر والجسور وغير ذلك من أسباب زيادة الثروة. وبالاختصار دخلت البلاد في طور إصلاح جديد كان يُرجَى منه خير كبير لولا أن داهمتها تلك الحوادث المشئومة المعروفة بالثورة العرابية.