القسم الأول: من باريس
(١) في السفينة
تحية طيبة زكية إليك أيها القارئ الكريم من كاتب حُرم التحدث إليك حينًا، وكثيرًا ما نازعته نفسه إلى هذا التحدث فلم يجد إليه سبيلًا.
مرضتُ أسبوعًا، وسافرت أسبوعًا، فلم أستطع أن أتحدث إليك، ولقد كنتُ إلى ذلك مشوقًا، ولم تكن تنقصني الخواطر التي تصلح موضوعًا للأحاديث، فإن المرض والسفر كليهما ممتلئان بهذه الخواطر التي تصلح موضوعًا للنجوى بين الكاتب وقارئه، ولكني كنت عاجزًا العجز كله عن أن أملي الخواطر أو أسطرها، وأحسب أني لا أزال عاجزًا عن إملاء هذه الخواطر أو تسطيرها؛ لأن بعضها قد ذهب مع المرض والسفر، فلست أذكر منه قليلًا ولا كثيرًا، ولأن بعضها الآخر قد بقي في نفسي، ولن يذهب ولن يجد النسيان إليه سبيلًا، ولكن ليس من سبيل إلى إملائه وتسطيره؛ لأن الوفاء بحقه ليس بالشيء اليسير.
وكيف أستطيع مثلًا أن أفي لهؤلاء الأصدقاء الكرام البررة الذين عادوني فأحسنوا العيادة، وودعوني فأحسنوا التوديع، بما أنا مدين لهم به من شكرٍ وثناءٍ. كيف أفي لهم بذلك وهو أجلُّ من أن يفي به كاتب، وأدق من أن يصل إليه واصف، ولا تظن أني أغلو أو أسرف كما جرت بذلك عادة الكتَّاب إذا أرادوا شكرًا أو ثناءً، فأنا أبعد الناس عن الغلو، وأشدهم بغضًا للإسراف، ويكفيني إذا أردتُ شيئًا أن أسميه باسمه، أو أدل عليه باللفظ الذي وُضع له، ولكني كنت أريد أن أحدِّثك عما بعثتْ في نفسي عيادةُ العائدين، وتوديع المودِّعين، من عواطف مختلفة، وألوان من الشعور متباينة، تختلف باختلاف العائدين والمودعين، وما لهم في نفسي من منزلة، وما لي في قلوبهم من مكانة، ففي ذلك شيءٌ من النفع، وفيه بنوعٍ خاص شيءٌ من اللذة، ولكن محاولة ذلك شاقة؛ لأن هناك عواطف قد لا تجد لها أسماء، وضروبًا من الشعور قد لا تجد لها عبارات تؤديها وتفي بما لها من حق. فليس الناس جميعًا سواء في حبهم لك، وعطفهم عليك، وليس الناس جميعًا سواء فيما تضمر لهم من حب، وما تدخر لهم من مودة. وإذن فتأثُّرك بعيادتهم وتوديعهم يختلف باختلاف منزلتك في نفوسهم ومكانتهم من قلبك، ولكن هل تستطيع أن تصف ذلك حق الوصف؟ أم هل تستطيع أن تجهر منه بالشيء الكثير؟ أمَّا أنا فأعتقد أن ذلك على نفعه ولذته محال؛ لأن الحياة الاجتماعية وما تواضع الناس عليه في صلاتهم وعلاقاتهم، تحوَّل بيننا وبين ذلك وتأباه كل الإباء، فلأكتفِ إذن بما كان ينبغي أن أكتفي به منذ بدأت هذه الكلمة، وبما يكتفي الناس به من تسجيل الشكر والثناء للعائدين جميعًا والمودِّعين جميعًا، دون أن أفرق بينهم في اللفظ، وإن اضطررتُ واضطر غيري من الناس إلى التفرقة بينهم في نجوى النفس وحديث الضمير. ولنحتمل إذن، راضين أو كارهين، هذا الظلم البيِّن الذي تضطرنا إليه حياة الاجتماع، فليس هو أثقل ما تضطرنا إليه الحياة الاجتماعية من ضروب الظلم والتقصير، ولو أننا ذهبنا نحلل هذه الحياة وما فيها من ظلم وبغي، ومن إفراط وتفريط، لما انتهينا إلى حد، ولما فرغنا من القول.
ومهما يكن من شيء فإن هناك شعورًا لذيذًا لا يستطيع أن يتقيه إنسان حساس. يحدث في نفسك أثناء المرض وأوقات السفر حين ترى مِن حولك ناسًا يعطفون عليك ويرقون لك، ويؤثرونك بالمودة واللطف. لذيذٌ جدًّا هذا الشعور الذي ينبعث في نفسك حينئذٍ، فيُشعرك بأنك لست وحيدًا في الحياة، وبأن هناك قلوبًا قد تخفق مع قلبك، ونفوسًا قد تشاركك في الألم وتشاركك في اللذة، ولست أعرف شعورًا يفوق هذا الشعور لذة وحسن موقع في النفس، والحق أن حظي من هذا الشعور العظيم، وأن اغتباطي به واستعذابي إياه قد رافقاني من القاهرة إلى باريس فحمدت مرافقتهما، وأنست إليهما في أوقات الوحشة.
نعم؛ في أوقات الوحشة! فأنت إذا سافرت إلى مكان بعيد فعبرت البحر وقطعت الفجاج، تحس شيئًا من الوحشة غير قليل، مهما تكن لذة السفر، ومهما يكن اغتباطك بما ستلقى إذا استقر بك المقام، ومهما يكن رفاقك في هذا السفر الطويل اللذيذ. ولقد كان يرافقني في هذا السفر أحب الناس إليَّ، وأعزهم عليَّ، وأرأفهم بي، وأشدهم مشاركة لي في لذات الحياة وآلامها؛ كانت ترافقني زوجٌ برةٌ كريمةٌ، وطفلان هما كل ما آمل في الحياة، ومع هذا فقد وجدتُ شيئًا من الوحشة تسلَّيت عنه بهذا الشعور اللذيذ الذي كان يرافقني، بذكرى أولئك الأصدقاء العائدين والمودعين، بألفاظهم الحلوة، وعباراتهم التي كانت تمتلئ رفقًا وودًّا وإيثارًا.
أعبرت البحر؟ أأحسست في السفنية ما أجد من ضروب الحس، وما أشعر به من مختلف الشعور؟ يتحدث الناس بأن الأمد بين مصر وأوروبا قصير، وبأن عبور البحر لذيذ، وبأنه أَمِن لا خطر فيه، أو لا يكاد يوجد فيه شيء من الخطر، وبأن المسافر ليس عليه إلا أن يركب السفينة، ويستسلم لما فيها من راحة ولذة وتسلية، حتى ينقضي السفر، ولا سيما إذا كان مثلي لا يخشى الدوار ولا يتعرض لشره. بذلك يتحدث الناس، ولعلهم محقون، بل لا أشك في أنهم محقون، ولكني أعترف بأني لم أشعر بذلك، ولم أحس هذا الأمن وهذه الدعة يومًا من الأيام منذ أَلِفت عبور البحر، وإنما وجدت ويظهر أني سأجد دائمًا إلى جانب هذه اللذة التي يحسها من يعبر البحر شعورًا خفيًّا جدًّا. لا أقول إنه الخوف، ولا أقول إنه يشبه الخوف، وإنما أقول إنه يُظهر الإنسان على قيمته الحقيقية، وعلى مكانته الصحيحة من هذا الوجود. نعم، ليس هذا الشعور خوفًا، وليس شيئًا يشبه الخوف، ولكنه شيء ينبئ الإنسان بأنه ضئيل، ضئيل جدًّا لا يكاد يُذكر، وبأن حياته شيءٌ أوهن من نسج العنكبوت، لا قدرة له على الثبات، ولا على مقاومة الأحداث. وإذا أحس الإنسان أنه ضئيل إلى هذا الحد، وأن أسباب حياته واهية واهنة إلى هذا الحد، مَلَكه شيء من البؤس والإشفاق أحسب أن وصفه عسير.
اضطرب البحر ذات ليلة اضطرابًا شديدًا، واصطخبت أمواجه وعصفت الريح، فكنتَ لا تسمع إلا هدير البحر، وعصف الريح، وصوتًا لأخشاب السفينة يشبه الشكوى، وكان السَّفْرُ نيامًا فكنتَ لا تسمع صوت إنسان، وكان هذا المزاج المؤتلف من هذه الأصوات الثلاثة التي ذكرتُها لك وحده يملك عليك سمعك ونفسك، ويضطرك إلى أن تحلله وتفكر فيه، وإلى أن تفكر في نفسك وتقيسها إلى هذا الروع الذي يكتنفك، والهول الذي يحيط بك، ولم يكن في نفسي شيء من الخوف ولا من الإشفاق؛ لأني أعلم أن ذلك شيء مألوف، وأنك تعبر البحر كما تقطع شارعًا من الشوارع، ومع ذلك فقد شعرتُ حقًّا في هذه الليلة بأن الإنسان ليس شيئًا مذكورًا، كما أنه لم يكن شيئًا مذكورًا، وكما أنه لن يكون شيئًا مذكورًا ما دامت الطبيعة على ما هي عليه من القوة والجلال.
في مثل هذا الوقت يذكر المؤمن ربه ويلجأ إليه، ويتقرَّب إليه بضروب العبادة وفنون التقوى، وفي هذا الوقت يؤمن الملحد إن كان ضعيفًا، ويزداد عتوًّا إن كان ممعنًا في الإلحاد، فيسخر من الحياة كما يسخر من الموت، يهزأ بما اشتملت عليه هذه، ويزدري ما عسى أن يخفيه هذا، وأعترف بأني في هذا الوقت أحسست شيئًا قد ينكره عليَّ المؤمنون والملحدون جميعًا، أحسست أن إيمان المؤمن وإلحاد الملحد ضرب من الكبرياء، وغلو الإنسان في تقدير نفسه وإكبار منزلتها. فإن هذا المؤمن الذي يعتقد أن خالق الكون ومدبره، خالق هذا الكون العظيم الذي لا تشعر بعظمته وأنت مستقر في دارك، أو لاهٍ بالتحدث إلى رفاقك، أو القراءة في كتابك، وإنما تشعر بعظمته حين لا تسمع إلا هدير البحر، وعصف الريح، وشكوى السفينة، وحين تشعر شعورًا واضحًا جدًّا بأن أسباب الحياة ضعيفة واهية، وبأن أقل شيء يستطيع أن يحطم هذه السفينة التي تقلُّك، وأن يقطع كل ما بينك وبين النجاة من سبب فتصبح نسيًا منسيًّا، كأنك لم تكن قط، وكأنك لم تعرف أحدًا، وكأن أحدًا لم يعرفك. أقول إن المؤمن الذي يعتقد أن خالق هذا الكون العظيم ومدبره يختصه بالبر والرحمة، فيُعنى به ويحوطه ويحفظه من الطوارئ، ويعصمه من الأحداث، ويرعاه في كل لحظة، بل في كل جزء من أجزاء اللحظة، متكبر يرى نفسه شيئًا مذكورًا يستحق هذه العناية المقدسة العظمى، مع أن في هذا الكون ما لا يقاس الإنسان إليه عظمةً وجلالًا.
وهذا الملحد الذي يستشعر الإلحاد ويتخذه مذهبًا وعقيدةً، فيعاند وينازع، ويدفع عن إلحاده كما يدفع المؤمن عن إيمانه، وينكر الله كما يثبته المؤمن، ويعتقد أن العقل كل شيء، وأن آثار العقل وحدها خليقة بالإجلال والإكبار، وأن نجاة الإنسان في عبادة العلم والإذعان له، لا في إكبار الدين والخضوع لأوامره ونواهيه. هذا الملحد الذي يمعن في الغرور بقوة العقل والعلم وآثارهما، وبأنه قد سخَّر لنفسه الطبيعة فذلَّل الماء والهواء والبخار، واتخذ الطبيعة لنفسه عبدًا يأمر فتطيع وينهى فتنتهي، مغرورٌ متكبرٌ؛ لأن عقله وعلمه وقوته وذكاءه مهما تبلغ من العظمة والسلطان، فلن تستطيع أن تعصمه من الأحداث، ولا أن تجعله بمأمن من أقل هذه الأحداث خطرًا وأحطها مكانةً. بهذا شعرت وفي هذا فكرت، وأعترف بأني لم ألم المؤمن على إيمانه، ولا الملحد على إلحاده، وإنما أحسست شيئًا من الإشفاق على هذا وذاك، وتمنيت لو أتيح للإنسان أن يكون مؤمنًا وعالمًا دون أن يغلو في التعصب للدين أو للعلم. تمنيت للإنسان لو استطاع أن يجمع بين هاتين القوتين اللتين ليس له عنهما غنى ولا منصرف. فإن قوة الدين تعصمه من اليأس والهلع، وتفتح أمامه أبوابًا من الأمل الذي ليس له حد، وتمكِّنه أن يلقى الخطوب ويتجشم الأخطار راضيًا مطمئنًّا راجيًا مستبشرًا، وقوة العلم تمكِّنه من الحياة. ولكن أيستطيع الإنسان حقًّا أن يجمع في نفسه بين هاتين القوتين، وأن يطمئن إلى كلتيهما اطمئنانًا بريئًا من التناقض والاضطراب، يطمئن إلى الدين دون أن ينكر العقل، ويطمئن إلى العقل دون أن يجحد الدين؟
يتحدثون أن كثيرًا من العلماء قد وفِّقوا إلى هذا، وأن «باستور» على جلال خطره وبُعد أثره في العلم كان أشد الناس تدينًا وأكثرهم إيمانًا، فمتى يكثر في الناس أمثال «باستور»؟
على أن هذا الشعور وما استتبع في نفسي من تفكير أو هذيان لم يكن كل شيء أحسسته في السفينة، فقد كانت هناك أشياء أخرى لا تخلو من نفع. كان أكثر رفاقنا في السفينة من الإنجليز، وكنت أجهل الإنجليز، وما زلت أجهلهم، ولكني كنت أتصورهم قومًا أميل إلى الجد منهم إلى الهزل، وأميل إلى القطوب منهم إلى الابتهاج، وأميل إلى السكون والتؤدة منهم إلى الحركة والنزق، ولعلهم كذلك، ولكنهم لم يكونوا كذلك في السفينة، فلم أرَ جماعة أميل إلى الفرح وأشد تعلقًا بأسبابه ولا أكثر إمعانًا في الضحك، وهذه اللذة البريئة من هذه الجماعات الإنجليزية التي كانت تملأ السفينة، والتي كانت تقضي يومها وجزءًا من ليلها في فرح ومرح ونشاط عظيم، وحسبك أن غرفة المائدة لم يكن يملؤها أثناء الطعام إلا قهقهة عالية جدًّا متصلة جدًّا لا تعرف الهدوء ولا الانقطاع، تمتزج فيها أصوات الرجال والنساء امتزاجًا لا يخلو من لذة، ولا يعجز عن أن يحملك على الضحك وإن كنت أشد الناس جدًّا وأكثرهم عبوسًا.
شيء آخر وجدته في السفينة فأذكرني أول يوم قضيته في فرنسا، بل أول ساعة قضيتها في باريس سنة ١٩١٤، هذا الشيء، أو بعبارة أصح: هذا الشخص، هو حلاق السفينة. اضطررت إلى غرفة هذا الحلاق، واضطررت طبعًا أيضًا إلى أن أسمع لحديث هذا الحلاق، وأحاديث الحلاقين مشهورة من قديم الزمان وفي جميع البيئات، في بغداد والقاهرة، في آسيا وأوروبا، في العصر القديم والعصر الحديث، بالثقل والسخف، وبأنها مصدر الملل والأذي، ولكني أؤكد لك أن حديث حلاق «الإسفنكس» لم يكن ثقيلًا ولا سخيفًا ولا مملًّا، بل أؤكد لك أن حديثه كان لذيذًا ممتعًا، بل أوصيك بأن تتحدث إلى حلاق «الإسفنكس» إذا ركبت «الإسفنكس».
تحدث إليَّ حلاق «الإسفنكس» في سياسة فرنسا وفي ساسة فرنسا من جميع وجوهها: مع ألمانيا ومع إنجلترا، في سوريا وفي الجزائر، وقارن لي حلاق «الإسفنكس» بين المذهبين الإنجليزي والفرنسي في الاستعمار، وألمَّ لي حلاق «الإسفنكس» بطرفٍ من سياسة الأحزاب البرلمانية في بلده، وكان حلاق «الإسفنكس» اشتراكيًّا من الوجهة النظرية، ولكنه يائس من مذهبه الاشتراكي، فهو كغيره من الناس في الحياة العملية، وأؤكد لك أني وجدت لذة جديدة عظيمة في الاستماع إلى حلاق «الإسفنكس»، وذكرت أول خادم فرنسية لقيتها في مرسيليا سنة ١٩١٤، فتحدثتْ إليَّ بما يشبه هذا الحديث، وتمنيت لو كنا جميعًا في مصر كحلاق «الإسفنكس»! وأحسب أنَّا سنقطع زمنًا طويلًا جدًّا قبل أن تصل كثرتنا المطلقة من التعليم والتهذيب إلى حيث وصل حلاق «الإسفنكس».
قرأت في السفينة قصة تمثيلية صغيرة عنوانها «الملك»، وضعها الكاتبان الفرنسيان «روبير دي فلير» و«كيافيه» فضحكت لها كثيرًا، وأعجبت بها كثيرًا، ودعوت بالحياة للحرية كثيرًا، وكنت أحب أن أحدثك عن هذه القصة، ولكن أخلاقنا السياسية والاجتماعية لا تسمح بذلك، ومع هذا فليس في القصة شيء غريب، وإنما يصف الكاتبان زيارة ملك خيالي لمدينة باريس، ويتخذان هذا الوصف سبيلًا إلى تناول النظم السياسية والاجتماعية كلها بأشد النقد شناعة وأكثره مرارة، يذمان نظام الملكية، ويذمان نظام الجمهورية، ويسخران من الديمقراطية كما يسخران من الأرستقراطية، وكما يسخران من الاشتراكية. القصة هجاء شنيع للجماعة الإنسانية في كل مكان وفي كل زمان، وقد اختار الكاتبان باريس موضعًا لهذه القصة؛ لأن باريس تكاد تختصر العالم الإنساني على اختلاف أزمنته وأمكنته.
لا أستطيع أن أحدثك عن هذه القصة، ولكني أستطيع أن أوصيك بقراءتها، فستجد فيها نفعًا وستجد فيها لذة. ثم وصلت إلى باريس صباح أمس، فإذا الناس جميعًا يلهجون بشيءٍ واحد، تنطق به أفواههم، وتكتب فيه صحفهم، لا يَلقى أحدهم الآخر إلا سأله عنه وتحدث إليه فيه أَسِفًا مرة أشد الأسف، مُعجَبًا مرة أخرى أشد الإعجاب، جامعًا في أكثر الأحيان بين ذلك الأسف وهذا الإعجاب، وهو موت الممثلة الفرنسية «سارة برنار»، ولكنني قد أطلت، فسأحدثك عن «سارة برنار» في غير هذا المقال.
(٢) سارة برنار
تركتُ القاهرة يوم الأربعاء ووصلت إلى باريس يوم الثلاثاء، فإذا الناس يتحدثون بموت «سارة برنار» أو لا يتحدثون إلا بموت «سارة برنار»، وإذا كثير منهم لا يكتفي بالحزن الصامت أو الإعجاب المقتصد، بل يتحدث ويشرح ويفصِّل، ويروي ما سمع وما رأى، ويصف ما أحس وما شعر به حين شهد «سارة برنار» تلعب في «ذات الكاميليا» أو في «النسير» أو في «المجد» أو في غيرها من القصص، وربما تحدث عما رأى وسمع من أبهة «سارة برنار» ومجدها وافتتان الناس بها وافتتانها هي بالناس، وعما كانت تكسب من مالٍ لا يحصى فتنفقه وتستدين، ثم تكسب فتؤدي الدَّين ثم تستدين من جديد، وعما كان بينها وبين كبار الناس وزعمائهم في العالمين من صلات قوية أو ضعيفة، متينة أو رثة، وعما قدَّم إليها الملوك من تجلة، وأهدى إليها العظماء من تكرمة، وعن جمالها الباهر، وصوتها الساحر، وأعاجيبها وألاعيبها وافتنانها في كل شيء: في الهزل والجد، في التمثيل والتصوير والنقش والكتابة والعبث، وعن هذا الضعف الشديد الذي كان يلازم جسمها فيجعل حياتها في أكثر الأحيان معلقة بين اليأس والرجاء، أقرب إلى اليأس منها إلى الرجاء، وهذه القوة المدهشة التي كانت تلازم نفسها في كل وقت من أوقاتها، وفي كل طور من أطوار حياتها؛ فتجشمها الأهوال، وتكلفها الأعاجيب، وتثب بها من أوروبا إلى أمريكا وإلى أستراليا ثم إلى مصر، ثم إلى فرنسا، ثم إلى السويد والنرويج وغيرها من بلاد الله، وتقف الناس منها موقف الحائرين الدهشين الذين يعجبون ويعجبون إلى غير حد، وهم لا يدرون بم يعجبون؟ بالذكاء النادر؟ بالجمال الباهر؟ بالصوت الساحر؟ بالقوة التي لا حد لها؟ بالأمل الذي لا يخشى اليأس ولا يحسب له حسابًا؟ بالنفس التي ليس لها مثيل …؟ بهذا كله كان الناس يعجبون؛ سواء منهم من أحبها، وسواء منهم من أبغضها. كلٌّ بها معجب، وكلٌّ لها مُكبِر في كل وقت وفي كل طور.
بهذا كله كان الناس يتحدثون يوم نُعيَت إليهم «سارة برنار»، ومن قبل ذلك أنبأتهم الصحف بأن «سارة برنار» مشرفة على الموت؛ فجزعوا وهلعوا، وأسرعت جماعاتهم المختلفة إلى بيت المريضة فازدحمت حوله وامتلأ بها الشارع، وكان من هذه الجماعات من يتاح له الدخول إلى بيت المريضة فيسأل ويستعلم ويكتب اسمه ثم ينصرف، وكان من هذه الجماعات من لا يتاح له هذا الحظ فيرابط في الشارع يتنسم الأنباء ويتصيد الأخبار، يرى الصحفي فيسأله، ويلمح الطبيب فيستنبئه، كذلك قضى جمهور ضخم من أهل باريس يوم احتضار «سارة برنار»، فلما كان الموت لم يخلُ الشارع ولا البيت من هذا الجمهور، وإنما ازداد به امتلاءً وازدحامًا، وما هي إلا أن جُهزت الميتة بجهازها الأخير حتى أُذِن للناس فأقبلوا على البيت أفواجًا، وأخذوا يمرون أمام هذه الجثة الهامدة التي طالما بعثت فيهم الحياة يومًا كاملًا ثم تشييع الجنازة، فتقول الصحف: إن ٦٠٠ ألف من أهل باريس اشتركوا فيه، وإن ألفين من الشرطة اشتركوا في حفظ النظام، وإن أرصفة الشوارع التي مرت بها الجثة كانت مكتظة بالناس على اختلاف طبقاتهم ومنازلهم وأسنانهم، وإن الزهر كان يُنثر على التابوت من أولئك الذين ثقلت بهم سطوح الدور والحوانيت وامتلأت بهم نوافذها. ولم يكن الشعب وحده المحتفل بتشييع هذه الممثلة، وإنما احتفلت به الجمهورية وبلدية باريس، وتنافستا أيهما تقوم بنفقات الجنازة، ولم تكن فرنسا وحدها المحتفلة بتشييع هذه الممثلة، وإنما اشتركت فيه أوروبا وأمريكا، ومن الملوك والملكات من أرسل إلى أسرة الممثلة يعزيها ويعطف عليها.
كان هذا كله في الأسبوع الماضي، وكنت في باريس أسمع الناس يتحدثون به، وأقرأ ما كانت الصحف وما لا تزال تكتب فيه، فكنت أسأل نفسي إلى أي حد يبلغ إعجاب الناس بالنبوغ وإكبارهم للنابغين، إذا كان هؤلاء الناس من الرقي العلمي والخلقي بحيث يفهمون النبوغ والنابغين …؟ وكنت أذكر مصر في هذا كله، وكيف يستطيع مصري ألا يذكر مصر وأهل مصر كلما رأى أو سمع ما يبهره ويسحره! كنت أذكر مصر وأسأل نفسي: متى يتاح لمصر نابغة «كسارة برنار»؟ أو على أقل تقدير متى يبلغ أهل مصر من الرقي العلمي والخلقي ما يمكنهم من أن يقدروا نابغة «كسارة برنار»؟ لم تنبغ في السياسة، ولا في الدين، ولا في العلم، وإنما نبغت في الفن، وفي فن هو سيء الحظ جدًّا عند المصريين، نبغت في التمثيل الذي يزدريه أكثر المصريين، ويفهمه قليل من المصريين على غير وجهه، ولا يفهمه حقًّا بين المصريين إلا نفر يكادون يحصون.
وليس في هذا شيء من العجب، فأكثر النابغين عرف سوء الحظ قبل أن يعرف المجد ونباهة الذكر، وربما كان من أهم الأسباب التي حالت بين الممثلة وبين الفوز الباهر نفس نبوغها، فقد كانت لها طرائق مختلفة ومذاهب غريبة لم يألفها الجمهور ولم يطمئن إليها، فلم يكن غريبًا ألا يشتد إعجابه وتهالكه عليها. على أن «سارة برنار» لم تكد تبلغ الثلاثين حتى كانت عضوًا شريكًا في أكبر دار من دور التمثيل في «بيت موليير»، وكانت تلعب القصص المختلفة على تباين عصورها ومذاهبها، وكانت تبلغ في هذه القصص فوزًا عظيمًا في كثير من الأوقات حتى كتب إليها «فكتور هوجو» سنة ١٨٧٧ يقول: «لقد كنتِ عظيمة خلابة. لقد أثرت فيَّ أنا المجاهد الشيخ، ولقد كان الجمهور في وقت من الأوقات سعيدًا يملؤه الحنان فيصفق، أما أنا فكنت أبكي.»
ربما كان من الحق أن توازن بين «سارة برنار» وبين «السيبياد» الأتيني المشهور، كلاهما كان فتنة المدينة التي نشأ فيها، وكلاهما كان يحب إعجاب الناس به وتحدثهم عنه، ويتكلف لذلك الأعاجيب، ويفعل في سبيله ما لا تبيحه العادة ولا تسمح به الأوضاع المألوفة. يقال إن «السيبياد» كان له كلب فتن الأتينيين فتحدثوا عنه دهرًا، فلما انتهى إعجابهم به كفوا عن الحديث فيه، فقطع «السيبياد» ذَنَب الكلب ليعود فيذكروه. وكانت أعاجيب «السيبياد» ونفقاته أكثر من أن تحصى، وكان لا يتكلف هذه النفقات وتلك الأعاجيب إلا ليفتن الناس، ويحملهم على إطالة الإعجاب به والتفكير فيه، كان سيئ السيرة وكان له زوجٌ برةٌ شريفةٌ جزعت لسوء سيرته فذهبت إلى «الأركون» تطلب الطلاق، وبلغ ذلك «السيبياد» فأسرع إلى مجلس «الأركون»، فلما رأى زوجته بين يديه انهال عليها لثمًا وتقبيلًا وملاطفةً، وحملها بين ذراعيه وعاد بها إلى بيته، والأتينيون من حوله يصفقون له ويهتفون باسمه وامرأته بين ذراعيه قد رضيت عنه واطمأنت إليه. كذلك كان «السيبياد» وكذلك كانت «سارة برنار»، كانت فتنة باريس، وكانت تحرص على أن تظل فتنة باريس، فكانت تفعل كل شيء يجعلها حديثًا لأهل باريس.
فلما كانت سنة ١٨٨٠ ضاقت «سارة برنار» بالحياة في باريس، وأحست أن هذه المدينة لا تسعها، بل إن فرنسا كلها لا تسعها، فاستردت حريتها، وخرجت من «بيت موليير» خروجًا عنيفًا وقفها أمام القضاء الذي قضى عليها بغرامة، وسافرت إلى لندرة، ثم إلى السويد والنرويج، ثم إلى أمريكا، وكان سفرها إلى أمريكا فخمًا ضخمًا كثر حوله الضجيج والعجيج، وقال كثير من مؤرخيها: إن كثيرًا من الملكات لم تظفر بما ظفرت به هذه الممثلة من الفوز والإكبار في هذه السياحة. ولم تقف أسفارها إلى هذا الحد، بل زارت أكثر أقطار الأرض المتحضرة، ونالت فيها فوزًا باهرًا لم يكن مقصورًا عليها، بل كان يتناول فرنسا معها، ولقد ذهبت في بلاد المجر مرة فرفعت الأعلام الفرنسية في كل مكان ذهبت إليه رغم الأوامر التي صدرت من فينا بحظر ذلك.
ولهذا فُتن الممثلون بهذه الممثلة التي كانت أحسن سفير نَشَرَ الدعوة الفرنسية في أقطار الأرض، وأحسنَ تمثيلَ العقل الفرنسي والفن الفرنسي والأدب الفرنسي، حتى قرنها كثير من الكتَّاب إلى نابليون، ولست أدري إلى أي حد تصح هذه المقارنة، ولكني لا أشك في أن «سارة برنار» خدمت فرنسا ورفعت ذكرها إلى حد لم يبلغه كثير من قوادها الفاتحين.
أما نبوغها الفني، فلست أستطيع أن أحدثك عنه، وإنما أترك ذلك للناقد الفرنسي «جول ليتمر» الذي كان بها مفتونًا، والذي يحدثنا بأن مصدر نبوغها وافتتان الناس بها ثلاثة أشياء: صوتها الذي سمَّاه فكتور هوجو ومن بعده الفرنسيون جميعًا: «الصوت الذهبي»، يقال إنها كانت تتغنى في تمثيلها بالنثر والشعر جميعًا، وكانت ماهرة في تصوير صوتها صورًا مختلفة ملائمة غريبة لموضوع الحديث الذي كانت تتناوله، فكان صوتها مرة يشبه الغدير المنساب، وأخرى يتلوى ويتهدج، ومرة يرتفع، وأخرى ينخفض، حتى كان الجمهور معلقًا بهذا الصوت الضئيل القوي الشفاف.
الثاني: حركاتها في الملعب، فقد يحدثنا «جول ليمتر» بأنها أحدثت في التمثيل ما لم يحدثه أحد قبلها، فكانت تلعب بجسمها كله؛ أي إنها كانت تحقق ما تمثله، فلم تكن تخيل إلى الناس أنها تلثم أو أنها تعانق، وإنما كانت تلثم وتعانق بالفعل، وكانت تفعل ما هو أبلغ في الدهشة من اللثم والمعانقة.
الثالث: ذكاؤها، فقد كانت أقدر الممثلين على فهم الفصول التي كانت تلعبها، كانت تفهم هذه الفصول كما فهمها المؤلف، وربما فهمتها خيرًا مما فهمها المؤلف، ومن هنا خلقت «سارة برنار» كثيرًا من القصص، وكثيرًا من المؤلفين، ولن يستطيع «فرنسوا كوبيه» ولا «إدمون روستان» أن يستأثرا بما أدركا من فوز في ملاعب التمثيل إنما «لسارة برنار» الحظ الموفور من هذا الفوز.
تقف عربة أمام باب، فتسرع بالنزول منها امرأة قد التفَّت في الفرو الكثير، تشق الجماعات التي اجتمعت حين سمعت جرس عربتها تاركة لهذه الجماعات إحدى بسماتها، ثم تصعد في خفة سلمًا ملتويةً، وتغير على «لوج» مزدهر شديد الدفء، فتلقي في ناحية حقيبتها ذات الشرائط التي تحتوي على كل شيء، وفي ناحية أخرى قلنسوتها، تزينها أجنحة العصافير، وإذا هي قد نحفت فجأة حين خرجت من فروها فما هي إلا غمد من الحرير الأبيض، ثم تقذف بنفسها على ملعب مظلم، فلا تكاد تصل حتى تبعث الحياة في جماعة ممتقعة تتثاءب في الظلام، تذهب، تجيء، تبعث الحمية في كل ما تمس، تأخذ مجلسها في المخبأ، تنظم المنظر، تشير إلى ما ينبغي من الحركات ونبرات الصوت، تقف، تطلب الإعادة، تزأر غضبًا، تجلس، تبسم، تشرب الشاي، تمسح جبينها، توشك أن يغمى عليها، تثب فجأة إلى الطبقة الخامسة من الملعب وتظهر لصاحب الأزياء مطربة، وتبحث في خزائن «الأقمشة» وتؤلف الأزياء، تنظم، ترتب، تهبط إلى «لوجها» لتعلِّم النساء اللاتي يظهرن في الملعب كيف ينبغي أن يرجِّلن شعورهن، ثم تعيد منسقة طاقات الزهر، ثم تسمع مائة رسالة، وترق لبعض الاستعطافات، تفتح غالبًا حقيبتها الرنانة التي تحوي من كل شيء، تفاوض حلاقًا إنجليزيًّا، تعود إلى المسرح لتنظم إضاءة منظر من المناظر، تسب أدوات الإضاءة، تقف عامل الضوء على إساءته، يمر بها أحد العمال فتذكر غلطة اقترفها أمس فتصعقه بسخطها، تعود إلى لوجها لتتعشى. تجلس إلى المائدة ممتقعة في جلال مهيئة ما ستعمل، تأكل في ضحك غريب، ليس لديها الوقت لتتم عشاءها، تلبس ثيابها للتمثيل بينما يحدثها المدير من وراء ستار ألوانًا من الأحاديث، تمثِّل متهالكة، تدبر ألف شيء بين الفصول، ينتهي التمثيل فتبقى في الملعب لتدبر أمرها إلى الساعة الثالثة صباحًا، ولا تعتزم السفر إلا حين ترى الناس جميعًا من حولها ينامون وقوفًا احترامًا لها، تصعد إلى عربتها، تتمطى في فروها مفكرة فيما ستجد من لذة حين تستلقي في السرير، ثم تقهقه لأنها ذكرت أن هناك من ينتظرها في البيت ليقرأ عليها قصة ذات خمسة فصول، تعود إلى البيت، تسمع القصة، تُفتن بها، تبكي، تقبِّلها، لا تستطيع النوم، فتنتهز الفرصة لتدرس دورًا من أدوار التمثيل …
نتمنى لكِ يا سيدتي سفرًا سعيدًا، آسفين أشد الأسف؛ لأنك ستفارقيننا زمنًا طويلًا، ستُظهرين نفسك هناك لقوم حظهم من الفن والأدب قليل، يسيئون فهمك وينظرون إليك كما ينظرون إلى عجل ذي قوائم خمس، ويرون فيك الشخص الغريب الصاخب لا الفنانة الخلابة إلى غير حد. قوم لن يقدِّروا نبوغك إلا لأنهم دفعوا ثمنًا باهظًا ليستمعوا إليك، اجتهدي في أن تحتفظي بظرفك وأن تعيديه إلينا كاملًا، فإني آمل أن تعودي وإن كانت أمريكا بعيدة الشقة، وإن كنتِ قد تحمَّلتِ من الخطوب وتجشمت من الأخطار ما لم تتحمل ولم تتجشم أبطال الأساطير، إذن عودي إلى «بيت موليير» واستريحي إلى الإعجاب والحب اللذين يدخرهما لك هذا الشعب الباريسي طيب القلب الذي يعفو لك عن كل شيء؛ لأنه مدين لك بكثير من لذاته الكبرى، ثم في مساء لذيذ موتي فجأة على مسرح التمثيل في صيحة هائلة من صيحات الجزع، فإن الشيخوخة أثقل من أن تحتمليها، وإذا كان لديك من الوقت ما يمكنك من التفكير قبل أن تنغمسي في الليل الأبدي فاحمدي — كما يفعل مسيو «رينان» — العلة الأولى الخفية. لعلك لم تكوني من أشد النساء في هذا العصر حكمة واعتدالًا، ولكنك عشتِ أكثر مما عاشت جماعات ضخمة، وكنت من أجمل مظاهر الظرف التي أطافت بالناس فأحسنت عزاءهم في هذا العالم المتغير، عالم الظواهر الطبيعية.
(٣) بينيلوب
لست أدري أقرأتَ «الأودسا» أم لم تقرأ، وأنا أسمح لنفسي بهذا الشك لأني أعلم علم يقين وتجربة أن الأدب اليوناني سيئ الحظ في مصر، وأن سوء حظه قد بلغ من الشدة إلى حيث لا نستطيع تقديره أو تقدير عواقبه السيئة. نجهل الأدب اليوناني — لا أقول جهلًا تامًّا بل أقول — جهلًا فاحشًا مخزيًا لا يليق بقوم يحبون الحياة أو يطمعون فيها، نجهل هذا الأدب جهلًا فاحشًا بحيث نستطيع أن نحصي المصريين الذين يعلمون ما «الأودسا» وما «الإلياذة» ومن «أوليس» ومن «بينيلوب»، ومع ذلك فقد كانت «الأودسا» و«الإلياذة» وما زالتا وستظلان دائمًا ينبوع الحياة للأدب والفن: للشعر والنثر والنحت والتصوير والتمثيل والموسيقى، بَلِيت القرون ولم تبلَ «الإلياذة» و«الأودسا»، فنيت الأمة اليونانية وفنيت الأمة الرومانية، واختلفت العصور والظروف على أوروبا في العصر المتوسط وفي العصر الحديث، وستفنى أمم وتختلف عصور وظروف، وتظل آيات «الإلياذة» و«الأودسا» جديدة خالدة محتفظة بقوتها وبهائها ورونقها على وجه الدهر وتعاقُب الأحداث، ولا نكاد نحن نفترض وجود «الإلياذة» و«الأودسا»، فإذا افترضنا وجودهما فلا نكاد نعلم بشيء مما فيهما.
إلى هذا الحد وصلنا من الجهل بمصدر الحياة للأدب والفن، ويظهر أنَّا إذا لم نستطع أن نمعن النظر في هذا الجهل أكثر مما أمعنا، فليس وراء هذا الحد مطمع لمن يحب الجهل ويرغب فيه. أقول إذا لم نستطع أن نمعن في هذا الجهل أكثر مما أمعنَّا فيظهر أنَّا لا نريد، ولا نحاول أن نخلص منه قليلًا أو كثيرًا، يظهر أنَّا سنظل على ما نحن فيه من جهل الأدب اليوناني والفن اليوناني؛ لأنَّا نرى كل شيء يتغير في مصر، ونرى الرقي تناول كل شيء إلا التعليم، فهو بحمد الله باقٍ حيث كان؛ لأن المشرفين عليه لا يفكرون في تغييره، ولعلهم غير قادرين على أن يفكروا في تغييره. سيظل تلاميذنا يخلطون بين أتينا وصقلية كما يخلطون بين الإسكندر وهانيبال، ولكني بعدت عن هذا الطيف الذي أَرِقت له آخر الليل بعد أن طَرِبت له أول الليل … قلت إن «الأودسا» و«الإلياذة» كانتا وستظلان ينبوعًا للحياة الأدبية والفنية، فقد ألهمتا شعراء اليونان على اختلاف فنونهم وأساليبهم، وألهمتا الفنيين من اليونان، بل ألهمتا فلاسفة اليونان، وكذلك صدر عنهما شعراء الرومان، وكذلك صدر عنهما وما يزال يصدر عنهما شعراء الإفرنج منذ القرن السابع عشر إلى ما شاء الله، ولقد كانت القصة الموسيقية التي شهدتُها أمس أثرًا من آثار «الأودسا» اجتمع فيه جمال الشِّعر وجمال الموسيقى وجمال الغناء وجمال الفن الآلي في التمثيل، فكنتَ تجد لذة لا تعدلها لذة حين تسمع أصوات الآلات الموسيقية وألحانها، واختلاف نغمها الذي كان يرق حتى لا يكاد يُسمع، وكان يغلظ حتى يكاد يصم السامعين، وكنت تجد لذة لا تعدلها لذة حين تسمع هذه الأصوات الإنسانية العذبة الرخيمة تمازج نغم الموسيقى متغنية بهذا الشعر الجميل الرقيق الذي يمثل أرق العواطف الإنسانية وأصدقها وأدناها من الوفاء والحب والإخلاص، وكنت تجد لذة لا تعدلها لذة حين تسمع هذا كله وتنظر إلى مسرح التمثيل فترى هذه الجزيرة اليونانية القديمة كما وصفتْها «الأودسا» في جمالها القديم الرائع الذي يزيده بهجةً وسحرًا ما اتخذ الممثلون من أزياء، وما اصطنعوا من آنية ومتاع. كنت تجد لذة لا تعدلها لذة حين كنت تسمع ما تسمع وترى ما ترى، ولم يكن ينغص عليك هذه اللذة إلا أنها كغيرها من جميع لذات الحياة قصيرة محدودة المدى لن تتجاوز ساعة أو ساعتين. ذلك فيما أعتقد أخص ما تمتاز به اللذة الحقيقية التي تملك عليك نفسك وعواطفك، وتسحر السحر كله.
تمتاز هذه اللذة بأنك تشعر حين تشعر بها بشيء من الحزن يصاحبها؛ لأنها ستنقضي بعد حين طويل أو قصير، وأنت تحب ألا تنقضي، وأنت تود لو كانت خالدة، أو لو انقضت بانقضائها الحياة.
تردد الناس في الحكم لهذه القصة أو عليها، ولكن كانت الحرب العظمى فهزت النفوس والعواطف، وسهلت على الناس فهم هذا الشعر القصصي القديم الذي مثَّل ما أصاب الإنسان من محن فأحسن تمثيله، وصوَّر ما اختلف على حياة الأفراد والجماعات من أحداث فأجاد التصوير. فلما استؤنف تمثيل هذه القصة لم يتردد أحد، ولم يشك إنسان، وإنما ظهر الإعجاب صريحًا قويًّا لا يعدله إعجاب، فأجمع الناقدون على أن هذه القصة آية من آيات الموسيقى الفرنسية، وكان يكفي أن ترى الجمهور أمس لتعلم أن الناقدين لم يخطئوا ولم يسرفوا.
عزيز عليَّ أن أجهل الموسيقى، وأن يضطرني هذا الجهل إلى ألَّا أتحدث إليك بجمال هذه القصة من الوجهة الموسيقية، ولكني إذا جهلت الموسيقى وعجزت على الحديث فيها، فإني أحسها وأشعر بها، وأستطيع أن أعلم أني سمعت شيئًا طربتُ له، أو سمعت شيئًا نفرت منه، وأشهد أني لم أنفر أمس، بل إني لم أطرب أمس، وإنما سُحرت سحرًا ليس فوقه سحر … أشهد أني لم أكن أشك حين كنت أسمع هذه الموسيقى أني في جزيرة «إيتاك» وأني بمحضر من أولئك الأبطال القدماء، بل أشهد أني حين كنت أسمع هذه الموسيقى لم أكن في حاجة شديدة إلى أن يصف لي واصف ما يمثله المنظر من هذه الجزيرة المشرفة على البحر التي يعمرها هواء رقيق ناعم شفاف، والتي تزدان بكثبانها وتلالها الصغيرة تهبط إلى البحر متدرجة قليلًا قليلًا.
نعم لم أكن في حاجة شديدة إلى أن يوصف لي المنظر؛ لأن الموسيقى كانت تغنيني عن هذا الوصف، فكنت أحس في الموسيقى القرب من البحر، وكنت أسمع في الموسيقى أمواج البحر تضطرب وتصطخب رقيقة حينًا كأنها حديث العاشقين، غليظة حينًا آخر كأنها قصف الرعد، وكنت أجد في الموسيقى رقة الهواء ونعومته، وكنت أسمع هذه الموسيقى فلا أشك في أن الجو كان صافيًا رائقًا، أو أنه كان كدرًا يهيئ للعاصفة، كنت لا أشك في شيء من هذا، وكنت لا أشك في شيء آخر هو أجلُّ من هذا خطرًا وأعظم شأنًا، كنت لا أشك في أن هذه القطعة الموسيقية تمثل ما يحدث في نفسي الآن من اضطراب العواطف واصطخابها، وما يقع بينها من تنازع ومشادة، وكنت لا أشك في أن هذه القطعة الأخرى تمثل الضعف الذي ليس بعده ضعف، تمثل هذا الضعف الذي يسلبك كل قوة على المقاومة، ويجعلك غير قادر إلا على أن تفتح جفنيك لتسقط منهما قطرات الدمع متتابعة منهمرة! وكنت لا أشك في أن هذه القطعة الأخرى تمثل الغيظ والحنق، هذا الغيظ الذي تنقبض له أعصابك، فإذا جبينك مقطب، وإذا الدم يغلي في رأسك، وإذا أنت قد أطبقت يديك، وإذا أنت تقاوم هذا الميل الشديد الذي يدفعك إلى أن تثب وتهجم على فريستك، لم أكن أشك في شيء من هذا؛ لأني كنت أحسه، وأتنقل فيه من طور إلى طور، بل هناك ما هو خير من هذا، هناك هذه القطع الموسيقية التي تبعث في نفسك شيئًا من الحنان والرحمة، ومن الطمأنينة والدعة لا أستطيع أن أصفه، ولا يستطيع إنسان أن يصفه؛ لأن وصفه لم يُتَح للجمل والألفاظ، إنما أتيح للأنغام والألحان وحدها، ولكني عاجز — كما قلت — عن أن أصف جمال هذه القصة من الوجهة الموسيقية.
أفتريد أن أصف جمالها من الوجهة الأدبية؟ لقد كنت أحب ذلك وأرغب فيه، ولكن أليس خيرًا من هذا الوصف الذي لا يمكن إلا أن يكون موجزًا مختصرًا أن ترجع إلى هذا الجمال في أصله، وأن تستقيه من ينبوعه، فتقرأ النشيد الرابع والعشرين من «الأودسا» تجد في هذا النشيد قصر الملك «أوليس» قد غاب عنه صاحبه منذ عشر سنين؛ لأنه ذهب إلى «تروادة» وانتصر فيها، فلما أراد العودة إلى بلده عبث به وبأسطوله «بوزيدون» إله البحر فأضله الطريق، وأخضعه لطائفة من المحن، وبينما كان الملك وأصحابه يخضعون لعبث «بوزيدون» وغيره من الآلهة، كانت الملكة «بينيلوب» تنتظر زوجها في لوعة وحسرة، وفي حب ووفاء، وكانت طائفة من زعماء اليونان قد احتلت قصر الملك، وأخذت تعبث بما فيه ومن فيه، فتأكل شاء الملك وثيرانه، كما تقول القصة، وتشرب خمره، وتعبث برقيقه، وتلح على الملكة في أن تختار من بينهم رجلًا يكون لها زوجًا فيخلف «أوليس» على مُلك «إيتاك».
كانت هذه الطائفة تلح وكانت الملكة تقاوم، فلما أعيتها المقاومة أخذت تراوغ، فأعلنت إلى هؤلاء الزعماء أنها ستختار من بينهم زوجًا إذا فرغت من نسج كفن، أخذت نفسها بنسجه لأبي زوجها، وقَبِل الزعماء منها ذلك، فأخذت تنسج الكفن يومها حتى إذا كان الليل نقضت ما أبرمت، ثم تستأنف النسج إذا أصبحت، والنقض إذا أمست، والزعماء ينتظرون ويعبثون بالقصر وما فيه ومن فيه.
فإذا كان الفصل الأول من القصة ظهرت خادمات القصر يغزلن ويتحدثن فيما بينهن، وحديثهن لذيذ، فهن يتغنين ما هن فيه من ألم وحرمان، وهن يتغزلن بجمال الزعماء، وترغب كل واحدة منهن في واحد منهم، وهن يرثين للملكة وينكرن عليها غلوها في الوفاء، وإنهن لفي ذلك إذ يُقْبل الزعماء يريدون أن يتحدثوا إلى الملكة، وتأبى الخادمات إنباء الملكة بمكانهم؛ لأنهن لا يستطعن أن يدخلن عليها إلا إذا دُعين. وبينما الزعماء في حوار مع الخادمات تُقْبل مرضع الملك فتمانعهم، ويكون بينها وبينهم حوار ومسابَّة، ثم تُقبِل الملكة فيشتد الخلاف بينها وبين الزعماء، تهينهم وتنعي عليهم وهم يتملقونها ويتلطفون بها، تمانعهم وتأبى عليهم ما يريدون وهم يلحون عليها في أن تسرع فتختار من بينهم زوجًا، ثم يقدم شيخ رثٌّ فانٍ يطلب الصدقة والمأوى، فينبذه الزعماء وتُئويه الملكة، وهذا الشيخ هو «أوليس» قد وصل إلى جزيرته وأمرته الإلهة «أتينا» أن يتنكَّر ويحتال في طرد الغاصبين والانتقام منهم، لا تعرفه الملكة، ولكن المُرضع تعرفه وتعاهده على أن تخفي أمره. ينصرف الزعماء وينصرف الشيخ إلى طعامه، وتبقى الملكة وحدها فتنقُضُ ما نسجت، ولكن الزعماء كانوا قد رصدوا لها فاستكشفوا حيلتها؛ فيغيظهم ذلك، ويعلنون إلى الملكة أن الغد لن ينقضي حتى تكون قد اختارت لها زوجًا، ثم ينصرفون وتخرج الملكة ومُرضع الملك لتذهبا إلى شاطئ البحر كما اعتادتا منذ سنين تترقبان سفينة ما لعلها تُقبِل وعلى ظهرها الملك، ويتبعهما الشيخ. فإذا كان الفصل الثاني رأيتَ رعاة الملك يتحدثون فيما بينهم، ويتمنى بعضهم لبعض ليلًا سعيدًا، ويتغنون جمال الطبيعة وسحرها، ثم تُقبِل الملكة ومن معها فيكون بينها وبين الشيخ حديث بديع يظهر فيه ما يُضمر الزوجان من حب ووفاء، ومن لهفة ولوعة، ولكن الملك يخفي نفسه، فإذا سئل عن أمره أخبر بغير الحق، واتخذ هذا الإخبار وسيلة إلى التغزل بزوجه من طرف خفي، ولكن في جمال ورِقَّة وحسن مدخل، ثم تجزع الملكة إشفاقًا من غد؛ فيقترح عليها الشيخ أن تعلن إلى الزعماء أنها ستختار من بينهم من يستطيع أن يشد قوس «أوليس»، ثم تنصرف الملكة، ويتعرف الملك بعد ذلك إلى رعاته، ويأمرهم أن يكونوا في القصر غدًا، وأن يتخذوا السلاح ليعينوه على الانتقام. فإذا كان الفصل الثالث رأيت الملك وحده يتغنى غضبه وسخطه، وحرصه الشديد على الانتقام، ثم يكون بينه وبين مرضعه ورعاته أحاديث قصيرة، ثم يُقبِل الزعماء وقد تهيئوا للقصف واللهو، فيسخرون من الشيخ ويريدون طرده، ثم يبدو لهم فيتخذونه سخرية يسقونه ويضحكون منه، ويُظهر الشيخ أنه سكران، وتُقبِل الملكة فتعلن إليهم أن من شد قوس «أوليس» ورمى عنها فهو زوجها، فيعجزون جميعًا، ويتقدم الشيخ الفاني إلى القوس فيشدها ويرمي عنها، ولكن في صدر أحد الزعماء.
هنا يُظهر الملك نفسه وينتقم لشرفه وثروته ومُلكه، يعينه الرعاة على هذا، ثم تنتهي القصة بمظهر الحب والغبطة بينه وبين الملكة من جهة، وبينه وبين الشعب من جهة أخرى.
فأنت ترى أن ليس في القصة شيء غريب، وأنها من السذاجة والسهولة بحيث تلائم القرن التاسع أو العاشر قبل المسيح أيام أنشئت «الإلياذة» و«الأودسا»، ولكني أضمن لك لذة عظيمة إذا قرأت هذه القصة، ولذة لا حد لها إذا قرأتها في «الأودسا»، فأما إذا شهدت القصة الموسيقية في «الأوبرا كوميك» فلستُ أدري ماذا أضمن لك، وإنما أحدِّثك صادقًا بأني قضيت ليلة سعيدة كنت أحسبني أثناءها في عالم آخر، ولم أتنبه إلى أني في الأرض إلا حين سمعت ابنتي تتغنى وتصيح، ورأيت ابني يعبث بما حوله، وسمعت أمه تزجره وتنهاه.
(٤) شك ويقين
قوم يشكُّون فيغلون في الشك، وقوم يوقنون فيسرفون في اليقين، وأولئك وهؤلاء معرَّضون للخطأ الشديد، ومخاصِمون للعلم الصحيح. الشاكُّون مخطئون ومخاصمون للعلم؛ لأنهم ينكرون أنفسهم وينكرون العلم، والموقنون مخطئون ومخاصمون للعلم؛ لأنهم ينكرون التطور الذي هو قوام الحياة، ولكن أولئك وهؤلاء معذورون؛ لأنهم لا يختارون الشك ولا يختارون اليقين، وأحسب أنهم إنما يشكون أو يوقنون لأن أمزجتهم قد أَلِفت بحيث تستتبع الشك أو اليقين، بل أحسب أنَّ لِما نأكل وما نشرب وما نحس، بل وللهواء الذي نتنفسه، والجو الذي نعيش فيه، والكتاب الذي نقرؤه، والخطبة التي نسمعها، أثرًا فيما يعرض لنا من شك أو يقين.
زعم بعض الكتاب أن أبا العلاء إنما شكَّ لأنه أسرف في أكل العدس والزيت، فساء هضمه، وتبع ذلك سوء رأيه في الحياة، قد يكون هذا حقًّا، وقد يكون باطلًا، ولكني لا أشك في أننا مدينون بأطوارنا العقلية لهذه المؤثرات الكثيرة المختلفة التي تكتنفنا سواء منها المادي والمعنوي.
حدثتُك في مقال مضى بهذه المحاورة التي شهدتُها في المؤتمر حول وجود سقراط والشك فيه، ولقد قرأت اليوم شيئًا أغرب وأدعى إلى العجب من الشك في سقراط.
سنقول: وأي شيء يصيبنا إن علمنا بأن الأرض دائرة أو ساكنة أو جهلنا دورانها وسكونها؟ ربما لم يصبنا شيء، فسنأكل ونشرب وننام ونستمتع باللذات ونتجرع مرارة الآلام سواء أكانت الأرض ساكنة أم دائرة، ولكن ماذا تقول في أولئك العلماء الذين يبحثون عن العلم للعلم، لا تعنيهم نتائجه العملية، والذين يموت أحدهم غمًّا إذا ظهر خطؤه في رأي من الآراء أو نظرية من النظريات؟
كنت أقرأ في أعداد «السياسة» الأخيرة محاضرة صاحب الفضيلة أستاذنا الجليل الشيخ محمد بخيت في الرد على «نورمان»، فرأيته يبذل كل ما يستطيع من قوة وجهد وينفق علمه الواسع ليثبت أن الإسلام دين العلم، بل ليثبت شيئًا آخر غير هذا، وهو أن القرآن الكريم لا يناقض بلفظه ولا بمعناه أصلًا من أصول العلم الحديث، بل هو فوق هذا يشتمل على أصول العلم الحديث. ورأيت الأستاذ يستنبط من القرآن الكريم كروية الأرض وحركتها حول الشمس وحول نفسها واختلاف الفصول واختلاف الليل والنهار، فأُعجبت بهذا الجهد العنيف الذي لا مصدر له إلا البر والتقوى، ومن قبلُ ذلك قرأت أشياء كثيرة للأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده — رحمه الله — حاول فيها مثل ما حاول الأستاذ الشيخ محمد بخيت، والناس في مصر وفي الشرق يعجبون بمثل هذه المحاولة؛ لأنها تظهرهم في منزلة من الحضارة ليست أقل ولا أدنى من منزلة الأوروبيين الذين اخترعوا العلم الحديث، وإن كنت أنا لا أحب هذه المحاولة ولا أتكلفها، وربما كرهتها ونفرت منها؛ لأنها تفسد النصوص، وتحمل على الغلو في التأويل. كنت إذن أقرأ محاضرة الأستاذ الشيخ بخيت وأُعجب بها، فلما قرأت ما قرأت اليوم تحدثت إلى نفسي بما يأتي:
لو صحَّ ما ذهب إليه الأستاذ «نورمان» وأقره العلماء، وأصبح الإجماع منعقدًا على أن الأرض لا تدور كما كان منعقدًا على ذلك منذ قرون وحين أُنزل القرآن الكريم، فأين يذهب هذا الجهد العنيف الذي بذله الأستاذ الشيخ بخيت والأستاذ الشيخ محمد عبده ليثبتا أن القرآن يدل على أن الأرض تدور؟ وهل يبذل الأستاذ الشيخ محمد بخيت وخلفاء الأستاذ الشيخ محمد عبده جهدًا عنيفًا ليثبتوا أن القرآن يدل على أن الأرض لا تدور؟ وإذن فكيف نستطيع أن نفهم دلالة القرآن على أن الأرض تدور وعلى أن الأرض لا تدور؟
(٥) العلم والثروة
في مصر أغنياء كثيرون، ولكن معظمهم أشد بؤسًا من الفقراء المعوزين؛ لأنهم لا يفقهون الثروة ولا يقدِّرونها، ولا يفهمون ما ينبغي أن توجِد هذه الثروة من صلة بينهم وبين مواطنيهم وهم أغنياء، وكل حظهم من ثروتهم أن يأكلوا كثيرًا، ويستمتعوا بلذات مادية لا تتجاوز الحس إلى القلب، أو إلى العقل. ثروتهم مقصورة على أجسامهم، فإن وصلت إلى نفوسهم فهي لا تمس منها إلا موضع الضعف والغرور، تمس الفخر والتيه، تمس العجب والخيلاء، لكنها لا تمس الذكاء، ولا تمس عاطفة الرحمة بالبائس، ولا تمس عاطفة الإعانة على الخير.
في مصر أغنياء كثيرون، ولكنهم أشد بؤسًا من الفقراء المعوزين؛ لا ينتفعون بثروتهم أحياءً، ولا ينتفع الناس بثروتهم بعد موتهم. هم لا يملكون الثروة، وإنما يحملونها على ظهورهم لينقلوهم من جيل إلى جيل، يحملون الثروة عن آبائهم لينقلوها إلى أبنائهم ليعبروا بها النهر، وكثيرًا ما تنوء بهم هذه الثروة فتغرق ويغرقون معها، ولا يظفر أبناؤهم منها إلا بالتعس والبؤس وسوء الحال.
في مصر أغنياء كثيرون، ولكنهم في الحق معوزون!
وفي أوروبا أغنياء، ولكنهم أبعد الناس عن الفقر، وأدناهم إلى الغنى حقًّا؛ لأنهم يفهمون الثروة، ويحسنون الانتفاع بها في حياتهم الخاصة، وفي حياة أممهم ومدنهم وقراهم وأسرهم، فهم يتمتعون بالثروة حقًّا، يجنون منها لذة الجسم، ولذة القلب، ولذة العقل. بل يجنون منها اللذة الصحيحة في الحياة وتخليد الاسم بعد الموت. ينفعون وينتفعون، ليسوا عالة على قومهم، وليس قومهم عليهم عالة. إنما هم يفهمون أن الثروة أداة من أدوات المنفعة العامة المشتركة التي ينبغي أن يستمتع بها الناس جميعًا، كل على القدر الذي يتاح له. هم يملكون الثروة ويحسنون التصرف فيها، لا يشترون بها الطعام والشرب واللباس فحسب، وإنما يشترون بها أيضًا الحب والعطف والإجلال وحسن الأحدوثة في الحياة وبعد الموت. ليسوا أنعامًا ينقلون أثقال الثروة من جيل إلى جيل، وإنما هم ناس يملكون الثروة ويستثمرونها فيفيدون ويستفيدون. ليسوا عبيدًا للمادة، وإنما هم سادتها، يملكونها ويسخِّرونها لحياة الإنسان والترفيه عليه.
اقرأ في جريدة «الطان» أن رجلًا أهدى إلى جامعة باريس عشرة ملايين، لإقامة حي خاص يسكنه الطلبة الذين يدرسون في هذه الجامعة، بحيث يتاح لهؤلاء الطلبة أن يعيشوا في منازل صحيحة يجدون فيها ما يمكِّنهم من الدرس النافع بين ضروب الراحة والنعيم، واقرأ في جريدة «الطان» أن امرأة أوصت بثروتها كلها لجامعة باريس، وثروتها تكاد تبلغ الخمسة عشر مليونًا، واقرأ في جريدة «الطان» أن هذه المرأة قبل أن تموت أهدت إلى كثير من الجامعات مقادير مختلفة من المال، وأنها أهدت مرة إلى جامعة باريس مقدارًا من المال تنفقه في طبع الرسائل التي يقدمها الطلبة الفقراء لنيل الدكتوراه، وأهدت مرة أخرى إلى جامعة باريس ما يمكِّنها من إنشاء درس لأدب القرن الثامن عشر وتاريخه، وأن امرأة أخرى أهدت إلى جامعة باريس ثروة تغلُّ عليها ٣٥٠٠٠ فرنك في السنة؛ لترقية البحث عن «الراديوم» في الطب، وأن رجلًا ترك لها نصف مليون، وأن أستاذًا في مدرسة ثانوية ترك ثروته التي تبلغ ٧٦٤٠٨ فرنكات لإعانة طلبة التاريخ الحديث، وأن امرأة تركت مليونًا لإعانة المؤرخين على بحثهم التاريخي. واقرأ في الصحف المختلفة أن دور التمثيل والموسيقى ومنازل اللهو واللعب قد خصصت جزءًا من دخلها في يوم من الأيام لإعانة العلماء على تأسيس المعامل العلمية المختلفة. بل اقرأ ما هو أغرب من هذا؛ اقرأ تعاون الفقراء والمعوزين وافتنانهم في جمع المقادير المختلفة من المال لإعانة العلماء على تأسيس المعامل وتكميلها، واقرأ في الوقت نفسه مقالات طويلة مُرة ملؤها السخط والغضب والغيظ؛ لأن العلماء يشكون فقر المعامل ونقصها، ويستعينون الجمهور فلا يعينهم ولا يمنحهم من المال ما ينبغي أن يمنحهم. هذا الجود وهذا البذل اللذان أشرت إليهما في أول هذه الكلمة لا يرضيان ولا يقنعان، ومع ذلك ففقر العلم في فرنسا إضافي جدًّا؛ لأن الدولة والأفراد والجماعات يخصونه بعناية عظمى، وآية ذلك ما وصلت إليه فرنسا من الرقي العلمي الذي لا يزال مطمح أمم كثيرة في أوروبا بعد.
كتبت في غير هذا المقال منذ أشهر أن العلم مهما اشتد غناه وعظمت ثروته فهو فقير محتاج إلى المعونة؛ لأنه يحيا، وحاجة من عاش لا تنقضي، فسيظل العلماء يشكُون وسيظل الناس يبذلون. هذا في فرنسا، أما في مصر فالثروة كثيرة ضخمة تنوء الأغنياء، ولسنا نستطيع أن نذكر فقر العلم أو حاجته إلى المعونة؛ لأننا لا نستطيع أن نذكر العلم في مصر، فليس لمصر علم، وإنما هي في علمها عالة على أوروبا وأمريكا تستعير منهما كل شيء، وهي لا تحسن الاستعارة، ولا تستطيع أن تستعير منهما ما هي في حاجة إليه أو جزءًا موفورًا مما هي في حاجة إليه؛ لأنها لا تجد من المال ما يمكنها من أن تستعير هذا المقدار العلمي الذي هي محتاجة إليه لتعيش، أما إذا احتاجت إلى السيارات والدراجات والحلي وفاخر اللباس وبديع الأداة والآنية، فما أكثر المال وما أيسر البذل! هنا تظهر ثروة الأغنياء ويظهر سخاؤهم فتكثر في مصر هذه الأدوات المختلفة التي يفيد قليلها ويضر كثيرها.
نعم، نحن أغنياء أجواد إذا احتجنا إلى متاع الدنيا، فأما إذا احتجنا إلى غذاء العقل والقلب ففقرنا لا يعدله فقر. هناك علوم مزهرة في أوروبا وأمريكا ونحن لا نسمع بها في مصر؛ إما لأننا لا نحاول أن نسمع بها، وإما لأننا نضع أصابعنا في آذاننا حتى لا نسمع بها، فنحتاج إلى أن ننفق المال في جلبها إلى بلادنا، ولكني واثق بأن لونًا من ألوان البدع في الحلي أو الملابس أو السيارات أو الأزرار لا يكاد يظهر في باريس أو في نيويورك حتى نسمع به، ونرغب فيه، ونتهالك عليه، والنتيجة أننا في حياتنا الظاهرة كأرقى الشعوب مدنية وحضارة، وربما كنا أفخر لباسًا وزينةً من أغنياء باريس ونيويورك ولندرة، فإذا رآنا الأوروبي خيِّل إليه أننا ناس مثله نلبس كما يلبس بل خيرًا مما يلبس، ونزدان كما يزدان بل خيرًا مما يزدان، يحسبنا مثله إذا رآنا، ولكنه لا يكاد يمتحننا ويخبرنا حتى يشعر بأن وراء هذه الزينة وهذه المظاهر الفَناءَ أو شيئًا يشبه الفناء، وماذا تريد من قوم يجلبون من أوروبا كل ما ييسر عليهم الحياة المادية، ويمكنهم من الاستمتاع بلذاتها المادية، فإذا ذُكر العلم والأدب والفن هزوا الرءوس والأكتاف، بل هم يفعلون شرًّا من هذا، فالعلم في بلادهم ولكنهم يعمون أو يتعامون عنه، لا يرونه ولا يشعرون به، ويحسه الأوروبيون والأمريكيون على بُعد الشقة فيسعون إليه ويحملونه إلى بلادهم، حتى إذا نبه منا نابه فأحس كما يحس الناس، واشتاق إلى ما يشتاق إليه الناس، وأراد أن يكون مصريًّا يعرف مصر كما يعرف الفرنسي فرنسا، اضطر إلى أن يبحث عن مصر في باريس أو لندرة أو برلين، يا للخزي! بل قد يحتاج إلى أن يبحث عن مصر في أثينا!
لقد قلنا هذه الأشياء، وقلناها وسنقولها ونقولها، فلم يحفل بنا أحد، ولن يحفل بنا أحد، اللهم إلا جماعة الراغبين اليائسين وهم قليلون، فأما القادرون على أن ينفعوا، فأما القادرون على أن يفيدوا بلادهم، فهم عن النفع والفائدة في شغل، وما أنت والعلم تحدثهم به وتثقل عليهم فيه، وهم أرغب في هذا المتاع الباطل الذي يبهر العين ويخلب النظر ويحمل فلانًا على أن يقول: لقد رأيت سيارة فلان فأعجبتني ولأشترينَّ مثلها! رأيت عالمًا مصريًّا أو أديبًا مصريًّا أو فنيًّا مصريًّا يروقنا أن يكون لدينا مثله، فذلك شيء لا يخطر لأغنيائنا على بال، ولقد أكتب هذه الكلمة وأنا أثق الثقة كلها بأن كثيرًا من أغنيائنا سيقرءونها، وينالون كاتبها بالسخط والنعي؛ لأنه يحدثهم بما لا خير فيه.
لدينا جامعة أُنشئت منذ خمس عشرة سنة، ولولا لطف الله بها لماتت، على أنها ليست بعيدة من الموت، ولقد أظهر أغنياؤنا ميلًا شديدًا إلى تأييد هذه الجامعة وإعانتها؛ لأن ذلك كان بدعًا يومئذٍ وكان فيه فخرٌ للباذلين. فلما انقضى البدع هبطت الرغبة، وفتر الميل، وحبس الذين بذلوا المال أموالهم فلم يُعطُوا، ولم يفوا بما وعدوا أن يعطوا. لا تذكر الحرب فإن الحرب لم تسئ إلى مصر، ولم تنزل الفقر بأهلها، ولقد أساءت الحرب إلى فرنسا فزعزعت ثروتها وخربت جزءًا عظيمًا منها، بل زعزعت نظامها الاجتماعي فلم يزدها ذلك إلا حبًّا للعلم وتشجيعًا للعلم وإعانةً للعلماء، ولم يضع عليها من ذلك شيء؛ فقد أتاح لها العلم أن تنتصر، أما أغنياؤنا فقد ضاعف الله عليهم ثروتهم أضعافًا مضاعفة، فلم يزدهم ذلك إلا ضنًّا وحبسًا للمال عن وجوه الخير، وتهالكًا على اللذات المادية، والحكومة والأفراد في ذلك سواء، فلست أنسى الوزارة النسيمية الأولى وما أنفقت من المال لإصلاح سيارات الحكومة، فقد كان ذلك يكاد يبلغ نصف المليون من الجنيهات، أما الجامعة، فكانت الحكومة تعينها بألفي جنيه قبل أن تبلغ ميزانيتها عشرين مليونًا، فبلغت هذه الميزانية أربعين مليونًا، ولم تزد إعانة الجامعة، وإنما أنذرت الجامعة مرات بقطع هذه الإعانة! وكانت وزارة الأوقاف تمنحها معونة قدرها خمسة آلاف جنيه أيام النظام القديم، فلما أقبل النظام الجديد نقصت هذه الإعانة حتى بلغت ١٨٠٠ جنيه! ولست أدري أفتقرت وزراة الأوقاف، ولعل افتقارها كافتقار الحكومة المصرية؟ ثم نحن نطلب الاستقلال، نزعم أن ليس بيننا وبين أهل أوروبا فرق، وأن من حقنا أن نستمتع بنظام الحياة الذي يستمتعون به، وقد يكون هذا حقًّا، ولكن يجب أن نعترف بأن أهل أوروبا وأمريكا لم يصلوا إلى حياتهم الراقية الحرة بالتهالك على السيارات والحلي وملابس الحرير وما يشبهها، وإنما وصلوا إليها بالتهالك على العلم والرغبة فيه، يجب أن نحمد الله على أن الدستور قد صدر، فلئن يئسنا من الحكومة ومن الأفراد فلن نيأس من الأمة ممثلة في البرلمان، ويقيننا أن هذا البرلمان لن يغفر في المستقبل لوزارة المعارف مثل هذه الأغلاط المنكرة، لن يغفر لوزارة المعارف ما وصلت إليه حال التعليم في مصر من ضعف وفساد، ولن يغفر لوزارة المعارف أن تظل مصر من الجهل والضعف بحيث توجد علوم لا تسمع بها مصر ولا يأخذ المصريون منها بنصيب.