الدرس الثاني الذي تقدمه ألمانيا
لعلنا نذكر «الدرس» الأول الذي قدمته ألمانيا، ألا وهو التحالف المفارق والنموذجي بين الإنجاز والتضامن الذي يتميز به اقتصاد السوق الاجتماعي. (الفصلان الخامس والسادس). بيد أنه يتعين أن نعترف بأن هذا الدرس لم يستوعب إطلاقًا، بل ولم يتم تدريسه. وعلى العكس كانت ألمانيا تتعرض في نهاية الثمانينيات للمزيد من الانتقادات لسياستها الاقتصادية التي كانت تطمس مزايا نموذجها.
وقد تلقت تلك الانتقادات ضربة قاضية في عام ١٩٩٠م عندما تمت عملية توحيد ألمانيا على يد المستشار هلموت كول. ولعله لم يحدث أبدًا في تاريخ العالم مثل هذا التحدي الكبير من الإنجازات الاقتصادية من أجل التضامن السياسي والاجتماعي فعندما تجاسرت ألمانيا وتصدت لهذا التحدي، بنموذجها الرايني، خاضت تجربة نموذجية حقًّا على الصعيد الأوروبي بل والعالمي.
كبش فداء التحجر الأوروبي
خلال الثمانينيات، في عهد الريجانية-التاتشرية المتألقة، كان النموذج الألماني يلقى اهتمامًا كبيرًا. وكان هناك ميل إلى اعتباره آلية قديمة، لا مستقبل عظيمًا لها، تلحق الأضرار بشركاء ألمانيا الاتحادية والأوروبيين بسبب تحفظها وروحها التقليدية. وكان يوجه إليها بالذات نوعان من العتاب:
(۱) كانوا يلقون عليها مسئولية أسباب الفتور التي يعاني منها الاقتصاد الأوروبي، أي التحجر الأوروبي الشهير. فمنذ الصدمة النفطية الأولى في ١٩٧٤م كانت أوروبا عاجزة عن استعادة معدل النمو الذي عرفته منذ ١٩٤٥م، طوال «السنوات الثلاثين المجيدة». والواقع أن معدلات نمو الاقتصاديات الأوروبية انخفضت بصفة عامة إلى نصفها. أما الأمريكيون واليابانيون فلم يواجهوا مثل هذا التردي، فقد ظلت اقتصادياتهما تنمو وإن كان بمعدل أقل قليلًا، ولكنه متقارب نوعًا ما. وباستثناء السنوات التي أعقبت الصدمتين النفطيتين مباشرة، ظل معدل العمالة مرضيًا بل وتحسن بشكل ملحوظ في الولايات المتحدة.
وفي أوروبا التي بدا أنه محكوم عليها بالركود، فقد تحول تحجرها العضوي إلى حالة نفسية كان يشار إليها عادة في ذلك العهد بالتشاؤمية الأوروبية.
وعلى أساس اتهام موجه بالأخص إلى ألمانيا، قدمت تفسيرات عامة من بينها: المصير الذي لا مفر من أن تلقاه الأمم التي دبت في جسدها الشيخوخة، والرعاية الاجتماعية بمقتضياتها التي شلت الإنتاج، وتقلص دينامية العاملين والنخبة … إلخ. وكانوا يأخذون على ألمانيا عادة تقاعسها عن أداء دورها كقاطرة اقتصادية في صفوف الوحدة الاقتصادية الأوروبية. وكان يقال إن الألمان لا يعيرون أي اهتمام بمصير جيرانهم، ويكتفون بمعدل نمو يبلغ حوالي ٢٪، وهو ما يكفيهم لتأمين ازدهارهم وذلك لسببين:
كانت ألمانيا تواجه تناقص عدد سكانها مما يجعل تحقيق نمو متواصل أقل إلحاحًا، وكانت نسبة الذين تعدوا الخامسة والستين من عمرهم أعلاها في العالم الغربي، شأنها في ذلك شأن السويد. كما أن الإسقاطات الديموغرافية كانت تبين أن هذه النسبة ستتجاوز ٢٥٪ من السكان في عام ٢٠٣٠م. وهذا الوضع يعني أن تكون الحاجة أقل إلى توفير فرص عمل جديدة، وإقامة مرافق عامة (دور حضانة، مدارس، جامعات، مساكن …) وإشباع متطلبات جديدة. فما جدوى الحرص إذن على مواصلة تحقيق معدل نمو مرتفع في مثل تلك الظروف؟
وبالمقارنة مع ذلك، كانت فرنسا تواجه ضرورة استقبال الأجيال الجديدة في أعقاب الانفجار السكاني، والسعي إلى المزيد من النمو الإضافي يتيح خلق فرص عمل وتمويل المنشآت التي لا غنى عنها، وتوفير إمكانية التمتع بمستلزمات المجتمع الاستهلاكي لكل هؤلاء المواليد الجدد الذين صنعوا تمردات مايو ١٩٦٨م!
العملة القوية أخيرًا!
وبدا من خلال هذا المنظور أن التباطؤ الاقتصادي الناجم عن الانحسار الديموغرافي قد تفاقم إلى حد ما نتيجة إرادة التمسك بحزم بالتعاليم المالية المستقيمة. فمن المعروف أن الألمان توارثوا تاريخيًّا مقتًا شديدًا للتضخم الذي كان مصدر كل مصائب فترة ما قبل الحرب، والمسئول جزئيًّا عن وصول النازية إلى السلطة. وعلى أي حال، فإن ميثاق تأسيس البنك المركزي الألماني النابع من الإصلاح النقدي في عام ١٩٤٨م، يلزم السلطات المالية بتأمين استقرار المارك. ثم إن الفشل الذريع في نهاية السبعينيات كان لا يزال ماثلًا في الأذهان فيما وراء نهر الراين. ففي تلك الحقبة كان الألمان قد رضخوا لمطالب شركائهم الأوروبيين الغربيين الذين راحوا يضغطون عليهم ليقوموا بدور القاطرة.
وأخيرًا، كانت ألمانيا تنوي الحفاظ على عملة قوية للاستفادة من مزايا تلك السياسة التي وضحتها في الفصل السادس. فهذه السياسة تقضي بإعطاء الأولوية في الأجل القصير للتوازنات المالية الكبرى على حساب التنمية الاقتصادية بغية تعزيز تلك التنمية في الأجل المتوسط. فالمطلوب أولًا الحد من عجز الميزانية ورفع معدلات الفائدة إذا استدعى الأمر ذلك، لتحجيم التضخم والحفاظ على استقرار المارك الألماني. وقد واصل الألمان استفادتهم من ذلك الانضباط الصارم.
وقد وجِّهت إليهم آنذاك تهمة انتهاج سياسة نقدية قوية بسبب ضعفهم الديموغرافي، وكانت بقايا المفاهيم الكينزية التي ظلت قائمة في القارة الأوروبية، ومتخفية في المملكة المتحدة وراء الفضائل النقدية الزائفة للتاتشرية، كانت لا تزال توحي بأن الدينامية الاقتصادية تتطلب قدرًا من التسامح النقدي. وكان ذلك الانتقاد حادًّا بالأخص وسط الشركاء الأوروبيين الذين كانوا يواجهون بطالة واسعة النطاق ونموًّا سكانيًّا يقتضي توفير فرص عمل أكبر. والواقع أن التشدد الألماني كان ينتتشر وسط الوحدة الاقتصادية الأوروبية عن طريق النظام النقدي الأوروبي. وقد سبق لنا أن رأينا أن نظام التبادل الثابت للعملات، حيث تكون حرية تنقل رءوس الأموال كاملة، لا يتيح الاستقلال للسياسات النقدية. ففي هذا الإطار لا يستطيع أي بلد أن يحيد بثبات عن الاتجاه العام لمعدلات الفائدة. فلو خفض معدلاته من جانب واحد، هاجرت رءوس الأموال من أجل إيداع مجزٍ بقدر أكبر، مما سيؤدي بالتالي إلى انخفاض قيمتها بالمقارنة مع العملات الأخرى. والدوافع والاختيارات النقدية للبلد الأقوى الذي يملك النقد القائد، تنتقل إذن إلى الأعضاء الآخرين في النظام النقدي الأوروبي. وهكذا فرضت الأرثوذكسية الألمانية نفسها على جيرانها عن طريق معدلات الفائدة.
وفي هذه الحقبة ندد بعض شركاء ألمانيا بتعنتها، آخذين عليها تكديس فوائضها التجارية واستغلالها قوة نقدها «لفرض إرادتها».
غير أن حدة تلك الانتقادات خفت مع التقدم الذي أحرزته على الصعيد الاقتصادي نفس هذه البلدان ذات الميول التضخمية تقليديًّا، وذلك عن طريق التزامها بمقتضيات النظام النقدي الأوروبي. وكان هذا التقدم ساطعًا بالأخص في البلدان اللاتينية التي يحكمها الاشتراكيون: فرنسا وإيطاليا وإسبانيا والبرتغال. وكثيرًا ما أشارت الصحافة الأنجلو-ساكسونية إلى بيير بيريجوفوا، وزير المالية الفرنسي، على أنه الرجل الذي يرمز إلى الفرنك القوي!
(٢) وكانت اللائمة الثانية التي يأخذونها على ألمانيا تتعلق بالنموذج الألماني نفسه، فعلى سبيل المثال كانت الانتقادات توجه بشدة إلى جمود هياكلها الصناعية والمالية، وبالأخص من جانب الذين بهرهم النموذج الأمريكي الجديد «بخبطاته» في البورصة، وحمى عروض الشراء العلنية، وأحلامه الشاملة، وعمليات إعادة تشكيل البنيات العنيفة.
وكانوا يرون أن النموذج الألماني لم يعد قادرًا على الصمود أمام المقارنة. فسوقه المالية ضيقة وفاترة، ومجموعاتها الصناعية لا تزال أسيرة رأس مال منغلق على نفسه. أما اقتصاد السوق الاجتماعي، المسئول عن ذلك الجمود، فقد فات أوانه في نظرهم. بل إن بعضهم تنبأ بحتمية تقهقر الاقتصاد الألماني وحلول الضعف بمنشآت ما وراء نهر الراين. ولا زلت أحمل ذكرى أليمة من جراء ذلك التيار الفكري. كنت أرأس مركز الدراسات المستقبلية والمعلومات الدولية في باريس، الذي كثيرًا ما كان يعتبر، وبالأخص في الولايات المتحدة، أحد أحسن المعاهد من هذا النوع، وذلك بفضل فرقه ومجموع مديريه المرموقين. غير أن المجلة العلمية لهذا المركز نشرت مقالًا يثير عنوانه اليوم الابتسامات الساخرة: «تصفية الصناعات من صميم النموذج الألماني».
وبصفة عامة كانت الصورة التي يعرضونها عن ألمانيا أنها بلد أناس يعتمدون على إيرادات فوائضهم، ولا يهمهم إلا الاستفادة الأنانية بثرواتهم. وكان معدل استهلاك الفرد في عام ١٩٨٥م الأعلى في أوروبا بما يعادل ثمانية آلاف دولار في السنة. وعلى عكس ما كان يجري في كل مكان آخر، كان معدل الادخار يميل إلى النمو. أما الميزان التجاري فكان يحقق الرقم القياسي الواحد تلو الآخر، حتى إنه سجل فائضًا بلغ ١٣٠ مليار مارك ألماني. وإذا بألمانيا هذه الراضية بنجاحاتها وبأسباب راحتها تستقبل إعادة توحيدها، وكأنها صدمة كهربائية.
الصدمة الكهربائية التي أحدثتها إعادة التوحيد
ما كان أحد يتوقع أن يكون رد فعل ألمانيا بمثل تلك السرعة والعزيمة في مواجهة ذلك التحدي السياسي والاقتصادي المزدوج المتمثل في سقوط سور برلين. ولكي يتصور المرء مدى جسامة ذلك التحدي، ما عليه إلا أن يتذكر دواعي القلق والتساؤلات التي أعارتها في بداية الأمر مسألة إعادة التوحيد.
فعلى الصعيد الداخلي، وبعد انقضاء موجة الحماس الوطنية العارمة، أبدى العديد من الألمان الغربيين تخوفهم من أن يكلفهم أبناء عمومتهم في الشرق الكثير، وأن ينالوا في نهاية الأمر من مستوى معيشتهم. فما هو مصير نظام التأمينات الاجتماعية الذي لا تقل فعاليته عن سخائه؟ وبدأت تظهر ردود الفعل المتشككة مع وصول ٧٠٠ ألف من اللاجئين من الشرق في غضون بضعة أسابيع.
وكان هناك تخوف أيضًا من العواقب السياسية لعملية إعادة التوحيد. والواقع أن العديد من دواعي التشكك كانت تحوم حول المعالم السياسية لألمانيا في المستقبل. هل لن ينقلب عليها التوحيد الذي يقدم عليه هلموت كول ضد حزبه؟ لقد كان المسيحيون الديموقراطيون بعيدين تمامًا عن ضمان استمرارهم في السلطة في ألمانيا الموحدة، خاصة وأن كافة عمليات جس نبض الرأي العام تبين أن الاشتراكيين الديموقراطيين سيكونون المستفيدين الرئيسيين من العملية. بل إن إعادة التوحيد كانت لفترة، خلال صيف ١٩٩٠م، أكثر شعبية في فرنسا منها في الجمهورية الاتحادية الألمانية!
وعلى الصعيد الدولي لم تكن دواعي القلق وعدم الثقة أقل. وكان الألمان يدركون تمامًا الجزع العميق الذي قد تثيره لدى شركائهم الأوروبيين احتمالات هيمنة عملاق جديد فيما وراء نهر الراين بسكانه البالغ عددهم ثمانين مليون نسمة، على الوحدة الأوروبية.
وكان التوزان الأوروبي فيما بعد الحرب يعتمد في الواقع على التقسيم الذي تم بمقتضى اتفاقيات يالتا، وتقسيم ألمانيا، الدولة الكبرى المدحورة. وكان وجود دولتين ألمانيتين ضمانًا لاستمرار الوضع القائم الذي نشأ عن المواجهة بين المعسكرين، خاصة على الصعيد العسكري. ففي المجال النووي، كانت الترسانات الاستراتيجية للدولتين الكبيرتين، أي ذلك «التكافؤ» الحقيقي أو المفترض، يضمن توازن الرعب. وعلى المسرح الأوروبي كانت الصواريخ المتوسطة المدى (برشينج من جهة، وإس إس٢٠ من الجهة الأخرى) تؤصل نظرية الردع وتؤمن العدول عن استخدامها في أراضي القارة الأوروبية. في مجال التسلح التقليدي كانت قوات حلف شمال الأطلنطي وقوات ميثاق وارسو تدرب وتجهز من أجل خوض حرب في وسط أوروبا. وكان كل من المعسكرين يجهز الرجال والمصفحات والطائرات والمدافع بالقدر الضخم الكافي لكي يظل خطر الصدام بين الجبابرة قائمًا وحائلًا في الوقت نفسه.
وعلى أي حال كان الألمان يشعرون أنهم أول المعنيين بالنزاع المحتمل. أولًا لأن رحاه ستدور حتمًا في أراضيهم، وثانيًا لأن جيش ألمانيا الاتحادية وألمانيا الديموقراطية كانا في الصف الأول. ومن هنا نبعت الحركة المسالمة بمزيد من القوة في ألمانيا الاتحادية، وكانت تلك المسالمة القومية بمثابة المقابل العسكري «للأنانية» الاقتصادية التي أشرت إليها آنفًا.
ولكن مخاوف شركاء ألمانيا لم تكن أقل حدة فيما يتعلق بالاقتصاد. وكانت ذكرى ألمانيا الكبرى تثير بعض الجزع في بروكسل، وراح كل بلد أوروبي يتصرف بطريقته الخاصة. فعمد الإنجليز إلى توثيق صلاتهم مع أنباء عمومتهم في أمريكا، وداعبتهم أحلام عقد اتفاق ودي جديد. واستلهم الفرنسيون ذكرى السياسة الفرنسية الروسية القديمة لكي يعقدوا تحالفًا عكسيًّا.
والحق أن العديد من العقبات الاقتصادية كان يلوح في الأفق ويعترض طريق إعادة التوحيد. وكانت التكلفة المتوقعة التي قدرها أولًا ﻫ. سيبرت بما يتراوح بين ٦۰۰ و۱۲۰۰ مليار مارك، تبدو باهظة حتى بالنسبة لبلد مثل ألمانيا الاتحادية. غير أنه كانت هناك العواقب الاقتصادية الكبرى التي تستحق فعلًا التخوف منها. فتمويل إعادة التوحيد سيتطلب اللجوء إلى الأسواق المالية على نطاق واسع، مما سيتسبب في توترات جديدة في معدلات الفائدة في ظل ظروف تميزت بانخفاض الادخار وتزايد الحاجة إلى رءوس الأموال. وقد تؤدي عملية السحب الهائلة من الأسواق لحساب الألمان إلى عزوف رءوس الأموال الأجنبية عن استثمارها في بلدان أخرى أقل مكانة أو توظيفها في مجالات أقل أمنًا.
ومن جهة أخرى، فإن ارتفاع حرارة الاقتصاد الألماني نتيجة تزايد الطلب الذي سيتهافت عليه مواطنو ألمانيا الديموقراطية السابقة، قد يؤدي إلى انطلاق التضخم، في الوقت الذي يعاني فيه الاقتصاد الدولي من التوترات التضخمية المستمرة. فالعجز الهائل في أمريكا، وحجم الأموال السائلة المتداولة، وارتفاع معدلات استخدام القدرات الإنتاجية مسئولة عن ذلك. وأنا مقتنع منذ بداية منتصف الثمانينيات أن اقتصاد البلدان المتقدمة لم يعد مهددًا بأن يتردى لمدة طويلة في حالة تضخم شديد (١٠٪ فأكثر)، فانتشار آثار ذلك التضخم في عهد المعلوماتية الشاملة بالأسواق سيكون من الشدة بالنسبة للتنافس بين المنشآت بحيث سيسفر ذلك فورًا عن اتخاذ إجراءات مضادة مقيدة. غير أن الكثيرين الذين لا يشاركون في هذا التنبؤ كانوا يرون أن إعادة التوحيد ستكون بمثابة الشرارة التي قد تشعل النار في «برميل الأسعار».
وعلى الصعيد الاجتماعي أخيرًا، كان من الممكن التساؤل حول الطريقة التي سيتم بها امتصاص الفروق الشاسعة بين ألمانيا الاتحادية وألمانيا الديموقراطية. فإجمالي الأجور لكل فرد كان أكبر ثلاث مرات في ألمانيا الاتحادية. ألم يكن هذا الفارق في حد ذاته قابلًا للانفجار؟ خاصة وأن الأسعار كانت مختلفة تمامًا في جزأي ألمانيا. فبعض الأسعار الجارية (الخبز، البطاطس، الإيجارات ووسائل النقل) أقل خمس مرات في ألمانيا الديموقراطية، بينما كانت أسعار السلع المستهلكة على المدى الطويل (التلفزيونات، الثلاجات، الحاسبات الإلكترونية) أعلى بما يتراوح بين الضعف والعشرة أضعاف. وهكذا سيواجه الألمان الشرقيون مصاعب كبيرة في تلبية حاجاتهم الأساسية كما كان الحال من قبل، كما أنهم لن يتمكنوا في الوقت نفسه من الاستمتاع بما لذ وطاب في المجتمع الاستهلاكي. وكان كل ذلك محملًا بالتهديدات.
وكانت هناك مصاعب أخرى غير حسابية تنذر بالتفجر، دون أن يحاول أحد أن يقلل شأنها. وهي مصاعب ناجمة عن الاختلافات الثقافية بين الألمانيتين. وقد تبين من دراسات واستطلاعات مختلفة للرأي جرت في نهاية ١٩٩٠م أن أربعين سنة من الحياة في عالمين مختلفين صقلت عقليات، وحساسيات، وأساليب معيشة مختلفة. فعلى الصعيد الديني مثلًا اتضح أن ٧٪ فقط من البالغين أعلنوا أنهم ملحدون، وذلك في مقابل ٦٦٪ في ألمانيا الديموقراطية السابقة. وبصفة عامة كانت بعض المصطلحات والمفاهيم المستخدمة في الغرب لا يفهمها الناس في الشرق. وقد مرت وكالات الإعلان بتلك التجربة ودفعت ثمنها.
ويتضح من حصيلة كل تلك المشاكل مدى صعوبة التحدي الذي واجهته ألمانيا. والحق أن القليل من البلدان كان سيجسر على مواجهة هذا التحدي بمثل تلك العزيمة، ولعل العديد منها كان سيحاول معالجة تلك المشاكل تدريجيًّا، بل وقد يصاب عدد كبير منها بالشلل لحرصه على عدم إثارة موجات غضب والتسبب في ارتباكات ودواعي بلبلة خطيرة للغاية، وكان خطر التورط كبيرًا للغاية، خاصة وأن أي إعادة توحيد كانت تتوقف على قبولها من جانب الاتحاد السوفيتي. ولذا كان يتعين الإسراع بجعلها غير قابلة للانتكاس قبل أن يحدث تطور في موسكو — لا يزال محتملًا — قد يؤدي إلى عودة العهد الجليدي. وتدل المصاعب التي واجهها أنصار ميخائيل جورباتشوف، في نهاية عام ۱۹۹۰م على أن تلك المخاوف لم تكن قائمة على غير أساس. وكان الألمان محقون في القيام بالتصرف بسرعة …
جسارة هلموت كول الرائعة
لقد اختار المستشار كول هذا السبيل عمدًا، ففاجأ الكل بموقفه هذا. إنها سياسة تتميز بالجسارة والسرعة، أتاحت الفرصة للحكومة الألمانية للتصدي لكل العقبات التي تقف في سبيلها.
أما التحفظات الأوروبية فقد تمت تهدئتها في مدة قياسية، فقد فوجئ شركاء ألمانيا فعلًا بالسرعة الخاطفة لخطوة كانت بون هي التي نظمتها في الواقع، وعجز الشركاء عن التحكم فيها. فقد بذلت الدبلوماسية جهودها لتبديد المخاوف، وبالأخص المخاوف الفرنسية، بالإعلان رسميًّا عن تمسكها بالوحدة الأوروبية. وهكذا تم بسرعة تدارك تسلط فكرة «ألمانيا العظمى» التي طالما تناولتها الأقلام بإسهاب.
وعلى الصعيد الداخلي، خابت آمال خصوم هلموت كول السياسيين الذين بنوا آمالهم الانتخابية على إعادة التوحيد. فقد نزلت بهم هزيمة سياسية قاسية خلال الانتخابات الأولى التي تم إجراؤها في ألمانيا الديموقراطية السابقة في الوقت الذي كانوا يتقهقرون فيه في الغرب؛ إذ تغلب التحالف المسيحي الليبرالي على نطاق واسع في الاقتراعين، مما وفر للأحزاب الحاكمة أغلبية مريحة.
وإضافة إلى جسارة هلموت كول، بذلت سلطات ألمانيا الاتحادية جهودًا تضامنية لم يسبق لها مثيل. وكان العبء الملقى على عاتق المالية العامة (الميزانية الاتحادية وميزانيات المقاطعات وأجهزة الأمن العام) ثقيلًا للغاية. وكانت التقديرات المعقولة تُعَول على ۱۲۰ مليار مارك سنويًّا على مدى خمسة أعوام، أي ٦٠٠ مليار مارك. وقد تمت تغطية جزء من هذا المبلغ عن طريق «صندوق الوحدة الألمانية» الذي يبلغ رصيده ١١٥ مليار مارك. ويعادل هذا المبلغ تقريبًا الاستثمارات السنوية الألمانية في الخارج، ولو أردنا مقارنة أخرى، لكانت تمثل قدرًا يقل قليلًا عن نصف إجمالي مدخرات العائلات. ولذا فإن المجهود المطلوب من دافعي الضرائب والمساهمين في الادخار سيكون ضخمًا، اللهم إلا إذا تم اللجوء إلى الاقتراض الذي قد تترتب عليه عواقب خطيرة (زيادة عبء الاستدانة الذي كان سيصل إلى ١٠٠ مليار مارك سنويًّا، وارتفاع معدلات الفائدة، واجتذاب رءوس أموال دولية … إلخ).
قد تم الآن تجاوز ذلك الافتراض، وبالطبع لم يتمكن المستشار كول من الامتناع عن التلميح بأن إعادة التوحيد يمكن أن تتم دون أي زيادة في الضرائب. ويتضح لنا هنا إلى أي مدًى أثرت البديهية الأساسية الخاصة بالرأسمالية الأمريكية الجديدة، ألا وهي تسلط فكرة معاداة الضرائب التي انطلقت في كاليفورنيا في عهد «الخنافس»، وانتقلت عدواها إلى العالم بأسره، حتى في ألمانيا الاتحادية البلد القدوة للنموذج المقابل. فقد اضطر المستشار كول، على عكس ما كان متصورًا في هذه الفترة المتميزة بالاندفاعية الوطنية الكبرى تأييدًا للوحدة، إلى مسايرة هاجس معاداة الضرائب. غير في بداية عام ١٩٩١م إلى مطالبة البرلمان بفرض زيادات كبيرة في الضرائب.
وتقدر الأموال العامة التي سيتم تحويلها من الغرب إلى الشرق خلال عام ١٩٩١م ﺑ ١٥٠ مليار مارك، أي ما يربو على ٥٠٠ مليار فرنك فرنسي، وهو ما يعادل تقريبًا كل ما ينفقه الفرنسيون على الصحة، أو ما يربو على ثلاثة أضعاف ضريبة الدخل العام في السنة في فرنسا. ويعني ذلك أن ما خُصص لهذه الميزانية هائل، بل ولم يسبق له مثيل.
غير أن هذا المجهود استثنائي لاعتبار آخر. فبينما كانت اللامساواة تتزايد من جديد في كل أنحاء العالم، على غرار الوضع في القرن التاسع عشر في عهد الرأسمالية «المتوحشة»، ظلت الأولوية الأولى في بلد واحد في العالم الحد من اللامساواة بين الأهالي، أيًّا كانت التكلفة.
ولم تتم إعادة التوحيد فقط بالأموال العامة. فقد شارك القطاع الخاص هو أيضًا في العملية بفضل العديد من اتفاقيات التعاون التي عُقدت بين المنشآت الكبرى أو المنشآت المتوسطة الحجم والصغيرة الألمانية الغربية، ومنشآت ألمانيا الديموقراطية السابقة. وكان هذا التعاون ضروريًّا، خاصة وأن انفتاح المنشآت الألمانية الشرقية على المنافسة وواقع السوق أديا إلى إفلاس عدد منها. وقد قدمت الهيئة التي تسلمت كافة المنشآت الألمانية الشرقية بغية خصخصتها قروضًا قدرها ٥٥ مليار مارك في عام ١٩٩٠م. ويتعين أن نلاحظ أن نصف هذه القروض على الأقل لن يمكن تسديده. وسيتطلب عمومًا الجهد اللازم لإنهاض القطاع الخاص الجديد في ألمانيا الديموقراطية سابقًا استثمارات هائلة، ستتكفل بها المنشآت الغربية.
الجنوب الإيطالي أم النمر الخامس؟
ومما لا شك فيه أن هذا الجهد المالي الذي لا نظير له لشراء ألمانيا «لثلثها المنسلخ عنها» والمفلس تمامًا، يدل بكل تأكيد على جسارة رائعة وسخاء شديد. غير أن ألمانيا تعلم جيدًا أنه سيعود عليها بالنفع، وأن استيعاب ألمانيا الديموقرطية السابقة سيحقق لها المزيد من النمو. بل إنها أصبحت القطب الرئيسي للنمو والاستقرار في العالم. وهذا مكسب جاء في وقته في فترة الانكماش الاقتصادي العام. ومن العسير بالطبع تحديد النتائج المتوسطة والطويلة الأجل لإعادة التوحيد على الاقتصاد، من الآن. غير أنه يمكن المجازفة على الأقل بعرض بعض السيناريوهات المعقولة. ويتصور مركز الدراسات المستقبلية للمعلومات الدولية حالتين بالنسبة للسنوات الخمس القادمة:
-
(١)
سيناريو أول أطلق عليه تسمية «النمر الخامس» بالإشارة إلى النمور الأربعة الآسيوية. وهو السيناريو الأكثر تفاؤلًا لأنه يفترض حدوث نمو عظيم في ألمانيا الديموقراطية السابقة، يعتمد على افتراضات ثلاثة: أولًا، زيادة معتدلة في الأجور في ألمانيا الديموقراطية السابقة بحيث تصل هناك في عام ١٩٩٥م إلى ٧٥٪ من الأجور الاتحادية (في مقابل ٣٠٪ في عام ١٩٩٠م، و٥٠٪ في عام ١٩٩١م) ثم استثمارات في هذا الجزء من ألمانيا بمعدل ١١٠ مليارات مارك في السنة حتى عام ١٩٩٥م. وأخيرًا معدل دخول من المنتجات الأجنبية بنسبة ٤٠٪ والحد تدريجيًّا من هجرة مواطني ألمانيا الديموقراطية السابقة لينخفض من ٣٦٠ ألف شخص في عام ١٩٩٠م إلى ٥٠ ألفًا في عام ١٩٩٥م.
ولو تحقق هذا الافتراض لكانت نتائج إعادة التوحيد بالنسبة لاقتصاد ألمانيا بأسرها رائعة حقًّا. فسيبلغ متوسط نموها نسبة ٣,٧٪ في السنة على مدى ست سنوات (۱۹۹۰–١٩٩٥م)، مع عدم ارتفاع معدل التضخم عما عليه. وسيظل معدل البطالة أقل من ٨٪ من القادرين على العمل في عام ١٩٩٥م، أما ميزان المدفوعات الجارية فسيسجل باستمرار فائضًا كبيرًا يمثل حوالي ٢٫٧٪ من إجمالي الناتج القومي.
وعلاوة على ذلك، وهذا من أهم النقاط، ستزول تدريجيًّا الفروق بين جزأي ألمانيا، ولن تصل البطالة إلا إلى ١١٫٨٪ في ألمانيا الديموقراطية سابقًا، علمًا بأن رصيد المدفوعات الجارية لن يكون سلبيًّا إلا ﺑ −١٫٢٪ من إجمالي الناتج القومي.
ولنلاحظ أخيرًا أن الدينامية الألمانية تترتب عليها، في هذا السيناريو، نتائج مواتية بالنسبة لاقتصاديات بلدان منظمة التجارة والتنمية الاقتصادية في مجموعها، سواء في مجال التنمية أو التضخم أو عجز الميزانية أو ميزان المدفوعات. ففي الشهور الثلاثة الأولى من ۱۹۹۱م، انخفضت مبيعات السيارات الفرنسية بنسبة ٢٠٪ في فرنسا. وزادت بنسبة ٤٠٪ في ألمانيا. إنه السيناريو المعتمد على التفكير الراجح، والأجل الطويل، والصبر.
-
(٢)
وأطلق على السيناريو الثاني تسمية الجنوب الإيطالي نسبة إلى جنوب هذا البلد الذي لا يزال يسجل تخلفًا هائلًا بالمقارنة مع الشمال، وذلك رغم الجهود التي تبذلها الحكومة الإيطالية. وتشمل الافتراضات في هذا السيناريو ما يلي: نمو الأجور في ألمانيا الديموقراطية السابقة يكون أسرع بدرجة كبيرة، إذ تصل إلى ٩٠٪ من الأجور في ألمانيا الاتحادية منذ عام ١٩٩٥م. وهنا يكمن الفارق الأساسي: إنه سيناريو نفاد الصبر الذي يرفض الإصغاء لصوت العقل. وتترتب على ذلك عاقبتان: فالاسثمارات تكون أقل في هذه الحالة وتبلغ حوالي ٩٠ مليار مارك في السنة على مدى ست سنوات. وتظل الهجرة كبيرة (٢٠٠ ألف شخص في السنة طوال هذه السنوات).
وبالطبع تكون نتائج ذلك السيناريو مواتية بقدر أقل. ويكون نمو إجمالي الناتج القومي بنسبة ٣٫٥٪ فقط. وتصل البطالة إلى نسبة ٩٫٨٪ من القادرين على العمل. ويتسارع التضخم إلى حد ما، وينخفض فائض ميزان المدفوعات الجارية ليصبح ١٫٢٪ من إجمالي الناتج القومي. غير أن أهم اختلاف بالمقارنة مع سيناريو «النمر الخامس» هو عمق الفروق بين جزأي ألمانيا. فالبطالة تصل في ألمانيا الديموقراطية السابقة إلى ٢٠٫٨٪ من القادرين على العمل في عام ١٩٩٥م، ويصل الرصيد السلبي للمدفوعات الجارية إلى -١٦٫١٪ من إجمالي الناتج القومي.
ما هي الدروس التي يمكن استخلاصها من هذين السيناريوهين؟ أولًا، أن مصلحة ألمانيا الاتحادية السابقة أن يكون تضامنها أقوى لصالح ألمانيا الديموقراطية السابقة، حتى وإن كان هذا التضامن باهظ التكلفة في بدايته. فسيناريو «النمر الخامس»، الذي يستلزم قدرًا أكبر من الأموال العامة ويتطلب تقديم تضحيات أكثر، يكون مجزيًا بالنسبة للجميع بدرجة أكبر مع الوقت بالمقارنة مع سيناريو الجنوب الإيطالي الذي يعتمد على تضامن أقل فعالية. أما الدرس الثاني فهو أهم، فسيناريو «النمر الخامس» يقضي بأن ترتفع الأجور في ألمانيا الديموقراطية السابقة بسرعة أقل بالمقارنة مع السيناريو الثاني، ويكون الحزم هنا شرطًا لا غنى عنه للحد من البطالة وتسريع النمو.
وقد أدرك الفرنسيون ذلك بين سنتي ۱۹۸۱ و١٩٨٤م، فقد اعتمدوا بداية على الفكرة القائلة بأن مكافحة البطالة تستلزم العمل بقدر أقل والحصول على مكسب أكبر. غير أن المعاناة علمتهم شيئًا فشيئًا أن رفع الأجور الاسمية لا يزيد القدرة الشرائية، بل يميل إلى تخفيضها مع دفع البطالة إلى التفاقم. وهذا التقدم المدهش في الوعي الاقتصادي وسط الرأي العام هو الذي أدى إلى الاعتراف بالمنشأة وإلى إنهاض الاقتصاد الفرنسي، بل وأدى أيضًا لأول مرة في تاريخنا إلى تفاهم حقيقي حول فعالية الرأسمالية. وتواجه ألمانيا الشرقية وبلدان وسط أوروبا اليوم تحديًا مشابهًا في نوعه وإن كان على نطاق أوسع. وكان هلموت كول حريصًا خلال الحملة الانتخابية على أن يذكر دائمًا وهو في شرق ألمانيا بأن «لطريق نحو الرفاهية سيكون طويلًا وشاقًّا»، ولكن تلك التحذيرات كانت تضيع وسط عواصف التصفيق والهتاف بشعار ألمانيا أرض واحدة! والآن وقد تضاعفت المظاهرات ضد البطالة، وتقرر أن يحصل عمال التعدين في ألمانيا الديموقراطية السابقة على أجور مماثلة لأجور زملائهم في الغرب في عام ١٩٩٤م، فإن المسألة المطروحة هي ما إذا لم تكن ألمانيا الديموقراطية السابقة في طريقها إلى الانزلاق بسبب الزيادة السريعة للغاية في الأجور، نحو سيناريو الجنوب الإيطالي.
اتجاه السيد بويل المعاكس، المنذر بالكوارث
وفي ظل تلك الأوضاع، أعلن السيد أوتو بويل، رئيس البنك المركزي الألماني، في ٢٦ مارس ۱۹۹۱م في بروكسل أن الاتحاد النقدي بين الألمانيتين يقدم مثلًا «لما يجب ألا نقدم عليه في أوروبا»، ونعى على الحكومة الألمانية لجوءَها إلى «تعميم استخدام المارك الألماني في الشرق بين ليلة وضحاها بدون أي استعداد في الواقع، ودون توفير إمكانية تصحيح الوضع، بل والأدهى من ذلك، عن طريق معدل تبادل غير مناسب ومنذر بالكوارث».
والواقع أن «الكارثة» هي تلك الكلمة التي نطق بها مسئول بنك مركزي، ومن باب أولى مسئول بالبنك المركزي الألماني. ومن المفهوم بالطبع أن يكون قد بذل كل جهده لكي يقنع حكومة بون بالعدول عن فكرة ضرورة الاستدانة لتمويل عملية إعادة التوحيد، فهذا دوره. ولكن ذلك لا يعني أن ينتقم من ذلك الفشل «السعيد»، وأن يدين في الوقت نفسه الوحدة النقدية الأوروبية. والهبوط الذي سجله سعر المارك الألماني على أثر التصريح التاريخي الذي أدلى به السيد بويل مسألة ثانوية. ولكن الأخطر من ذلك أنه نسي بشكل مبكر للغاية أنه لولا إقدام المستشار كول على التصرف فورًا وبلا تردد، حتى أوجد وضعًا لا يمكن الرجوع فيه، لما كان أحد يستطيع أن يؤكد أن الستار الحديدي لن ينزل من جديد وسط برلين. ويعود ذلك التعبير عن الغضب أصلًا إلى الجرح الذي أصاب اعتزاز السيد بويل بنظرته للأمور. فعندما تمت إعادة التوحيد كانت الإنتاجية بين جزأي ألمانيا ١ إلى ٢، بل و١ إلى ٣ (وهو الحال بالنسبة للبرتغال)، وقد اقترح البنك المركزي الألماني، اعتمادًا على وجهة نظره التقنية البحتة، أن يكون سعر التبادل متمشيًا مع ذلك. ولكن المستشار كول حسم المسألة، وفضَّل على العكس «الاختيار ١ إلى ١».
والواقع أنه يتبين من قراءة الصحف أن هذا القرار قد يبدو «منذرًا بالكوارث»؛ إذ إنه يؤدي إلى تفاقم البطالة وإغلاق مصانع وتثبيط عزم الأهالي الذين كانوا قد بلغوا أوج حماسهم قبل ذلك ببضعة شهور. ولكن ماذا كان سيحدث لو أن كول أخذ بوجهة نظر بويل؟ بالطبع كانت دخول الألمان الشرقيين سترتفع بقدر أقل في مقابل زيادة أقل في البطالة، ولكن ذلك كان سيؤدي إلى هجرة على نطاق واسع يستحيل تحجيمها، وعملية تصحر حقيقية تصيب ألمانيا الديموقراطية السابقة. وكما قال المستشار كول بهذا الصدد: «لو أن المارك لم يذهب إلى لاييزج، لكانت لايبزج قد ذهبت إلى المارك». ففي بعض أيام عام ۱۹۹۰م عبر ١٥٠ ألفًا من الألمان الشرقيين الحدود القديمة الواقعة غربًا، بينما لم يعبر في ربيع عام ١٩٩١م إلا بضعة مئات فقط. يبدو أن السيد بويل أراد أن يتجاهل تلك الورطة المخيفة باستخدام كلمة «الكارثة»: إما البطالة محليًّا، وإما التصحر بهجرة القادرين على العمل من المقاطعات الخمس الموجودة في شرقي البلاد، ومن الواضح أن اختيار كول بين البطالة المؤقتة والتصحر لمدة غير محددة، كان الأقل ضررًا.
غير أن الاتجاه المعاكس الذي أراده رئيس البنك المركزي كان منذرًا بالكوارث لسبب آخر، فمنذ عدة عقود والسلطات في فرانكفورت مقر البنك المركزي تتمسك بمبدأ استحالة تحقيق وحدة نقدية دون أن تلتقى مقدمًا السياسات والأحوال الاقتصادية. وهل هناك حالة أقل تلاقيًا وأكثر تنافرًا من اقتصاديات جزأي ألمانيا؟ ولذا كان يتعين أن تؤدي الوحدة النقدية الألمانية إلى نتائج «كارثية»، وإلا فإن البنك المركزي الألماني سيجازف بإراقة ماء وجهه أمام المؤسسات الأوروبية، بعد أن تبين خطأ البند الأول في سجل معتقداته في ألمانيا ذاتها، بينما كان يريد أن يطبقها في المؤسسات الأوروبية، ولذا فقد قال السيد بويل عن الوحدة النقدية الألمانية إنها «المثل الذي يجب ألا نطبقه في أوروبا»، غير أن المثل الذي قدمته البلدان اللاتينية بالأخص منذ عشر سنوات يدل على أن الوحدة النقدية تعزز التقاء الاقتصاديات. أما الدعوة إلى عكس ذلك فمعناها ترك البرتغال واليونان — وإسبانيا أيضًا بلا شك — وحتى إيطاليا، خارج الوحدة الاقتصادية، والنقدية الأوروبية المرتقبة.
وإذا كان الأمر كذلك، فما مصير آمال بلدان وسط أوروبا: المجر، وتشيكوسلوفاكيا، وبولندا؟ تلك الآمال المرتبطة بتقدم الوحدة النقدية والوحدة السياسية الأوروبية؟ ولو لم تذهب الوحدة الأوروبية إلى بلدان وسط أوروبا لجاء سكان هذه البلدان عندنا.
وفي الوقت الذي أكتب فيه هذه السطور جاءت الأخبار الأخيرة مثيرة للقلق. فقد لحقت بالمستشار كول هزيمة ساحقة في الانتخابات الجزئية التي جرت في دائرته الانتخابية. كما استقال السيد بويل، ومما يثير المزيد من القلق أن إي. جي. ميتال، اتحاد عمال الصناعات التعدينية، حصل على رفع أجور العاملين في قطاع التعدين في المقاطعات الخمس الشرقية من ٦٠٪ في عام ١٩٩١م إلى ٪۱۰۰ في عام ١٩٩٤م. ويعبر ذلك عن انزلاق خطير بل و«كارثي» نحو سيناريو الجنوب الإيطالي.
ومع ذلك فإنني أؤكد بالذات على الدرس الذي تقدمه ألمانيا. فهو يبين لنا ما يمكن أن تحققه أوروبا لو أنها توحدت حقًّا، أي إنها نظمت نفسها بعبارة أخرى في اتحاد فدرالي.
ما يمكن أن تحققه أوروبا
هناك عبارة قديمة تقدمها الحكومة إلى أغلبيتها البرلمانية: «قدموا لي مالية جيدة، وأنا أحقق لكم سياسة جيدة». وسيدخل هلموت كول التاريخ عن هذا الطريق، فقد تحلى بجسارة لم تعهد من قبل، ولجأ إلى التوحيد الفوري لعملتي جزأي ألمانيا، في بلد يتمسك منذ أربعين سنة بالتشدد في مبادئه الاقتصادية. فهذا الرجل الذي كان من المعتقد أنه يفتقد القدرة على التخيل والحسم، فرض إرادته السياسية الاتحادية من بون على ممثلي المقاطعات التي تقود البنك المركزي في فرانكفورت، وذلك رغم رأي الخبراء الرسميين، ورغم تدويل الاقتصاديات الذي يحد من قدرات الدول على المناورة، ورغم احتمالات الهزيمة في الانتخابات وضروب الأنانية القومية والإقليمية والفئوية.
وهناك حقيقة كثيرًا ما تطمس، ألا وهي أن المقتضيات الاقتصادية يتعين عليها أن تتراجع أحيانًا وراء إملاءات السياسة، شريطة ألا يتحول هذا المبدأ إلى مبرر. وأريد أن أوضح بقولي هذا أن أولوية السياسة لا يمكن أن تقوم إلا على نجاح اقتصادي ومالي سابق. فكلما كان الاقتصاد قويًّا، كلما تمكنت السياسة من التحرر منه. فلو لم تكن ألمانيا قد جمعت فوائض، ولو لم تكن عملتها بهذه القوة ومنشآتها بهذه القدرة الإنجازية، وجهدها الاقتصادي الكامن بهذه الضخامة، لما كان بوسعها أن تقدم على ذلك العرض العلني المذهل لشراء شرقها. وكل الفرص تبشر بأنها ستربح من خلال ذلك العرض العلني للشراء. ويتحقق ذلك بالذات لأنها تمكنت من السيطرة على «مقتضيات الاقتصاد» والتحرر منها بالتالي.
كما أننا نستطيع أن نستخلص من تلك التجربة الألمانية الفكرة القائلة بأن الجسارة والتضامن يمكن أن يتآلفا بشكل فعال. ولا تعني الجسارة والديناميكية الاقتصادية بالضرورة الإقصاء، واللامساواة، والظلم الاجتماعي. أما التضامن فلا يفترض حتمًا الجمود والتباطؤ والبيروقراطية.
غير أن العاملَين الأساسيين المميزين للنموذج الرايني، واللذين جعلا من الممكن تحقيق إعادة التوحيد هذه بلا وقوع مأساة، يتعين أن يظلا راسخين بوضوح في أذهاننا. ولقد، سبق تناولهما في الفصول السابقة، ولكنهما يكتسبان أهمية خاصة، ويبرزان بوضوح في ظل ذلك الوضع.
العامل الأول: النظرة البعيدة المدى لمصالح البلد. فقد أدرك الألمان أن التضحيات التي يقدمونها الآن في المجالين الاقتصادي والاجتماعي ستثبت جدواها في المستقبل. وبالطبع سيتعمق العجز، وستقل الفوائض، وستتأثر الرعاية الاجتماعية وسيحتاج الأمر إلى زيادة الضرائب في الفترة الأولى، ولكن مهما كانت نوبات الغضب في الغرب، وبالأخص في الشرق، فإن الألمان سيحصلون في نهاية الأمر على ما يعوض تلك الجهود.
والعامل الثاني: الأولوية الممنوحة للمصلحة المشتركة على المصالح الخاصة. فقد عزز الألمان سياستهم الطويلة المدى بتجنيب المصالح الخاصة، التي كانت تتطلب في الواقع اللجوء إلى تحرك حذر ومتوازن ومدخر للأموال العامة والخاصة. ولو كان المستشار كول قد استجاب لإلحاحات دافعي الضرائب أو العاطلين عن العمل لما أقدم على تلك المغامرة.
ويمكننا أن نتصور الآن بالذات ما كان يمكن أن يحدث لو أن السوق المالية أملت قوانينها وفرضت منطقها على المنشآت والحكومة. فما كان يمكن أبدًا المجازفة بتحقيق إعادة الوحدة وما كان يمكن القبول بمثل هذا الرهان الطويل المدى، بما يتضمنه من مجازفات لا يمكن التنبؤ باحتمالاتها، لأن تلك الاحتمالات — وخاصة المالية منها — لم تتم إزالتها. ولا يعرف أحد حقًّا ما إذا كانت التوترات المالية التي ستنجم عن الإقبال الضخم على الأرصدة اللازمة لتحقيق إعادة الوحدة، سيكون من الممكن التغلب عليها بلا آلام شديدة: ارتفاع معدلات الفائدة، والتضخم، وتقلبات داخل النظام النقدي الأوروبي … إلخ. فهناك مخاطر كامنة لا تزال قائمة.
غير أن الأمر المؤكد هو أن هذه التوترات يمكن التخلص منها بسهولة أكبر في ظل نظام يؤمن قوة المؤسسات المالية. ففي حالة ألمانيا، لو كانت السوق المالية المهيمنة غير مستقرة ومتوترة وتقلباتها غير متوقعة — كما هو الحال في النموذج الأمريكي الجديد — لما كان بوسعها تحمل صدمة إعادة التوحيد. فالنظام المصرفي الثابت والقوي الذي ينتهج سياسة موجهة نحو المنشآت يكون مسلحًا بشكل أفضل للتأقلم مع المتطلبات المالية الجديدة بلا أضرار كبيرة. ومن الأيسر تغليب المصلحة الجماعية في إطار بِنًى متينة الأركان، قائمة على النتائج التي تراكمت طوال عشرات السنوات، وذلك على عكس التصدي لعشرات الآلاف من المضاربين الذين تتسلط على أذهانهم فكرة تحقيق المردودية الفورية وفقًا لمعايير غير مستقرة، وأهمها رأي بعض المضاربين … في رأي المضاربين الآخرين.
وأخيرًا يجب أن يوحي إلينا «الدرس الألماني» ببعض الأفكار الاستفزازية المفيدة بخصوص شرق أوروبا بوجه عام. فما حققته ألمانيا بالنسبة لثلثها الشرقي الذي ألحق به التاريخ الأضرار، هل يمكن أن تحققه أوروبا بأسرها مع «ثلثها» المؤلف من وسط أوروبا الذي عانى الشدائد ولحق به الدمار من جراء نصف قرن من الشيوعية.
وقبل أن نرسم الخطوط العريضة للجواب على هذا السؤال، يجب أن نحسب الأخطاء الجسيمة المرتكبة حاليًّا، والتي يمكن أن تؤدي إلى وقوع ألمانيا الشرقية في وضع أدنى من توقعات سيناريو الجنوب الإيطالي. وأهم خطأين هما من جهة، ارتفاع الأجور الذي يسبق الإنتاجية إلى حد كبير ويتجاوزها، ومن جهة أخرى سخاء المعونات الاجتماعية الذي يجعل الكثيرين يكسبون اليوم بدون أن يعملوا، أكثر مما كانوا يربحون بالأمس بعملهم. غير أن الرأي العام غير راضٍ لأن مستوى معيشته، وبالأخص آفاق المستقبل تبدو أقل مدعاة للرضا مما هي في الغرب.
وإلى متى ستظل التضحيات المالية التي يقدمها الغرب تواصل جعل الشرق مترديًا في الخمول والجفاء؟ يتوقف الأمر على حجم الاستثمارات المنتجة وسرعة توفيرها.
وستكون تلك الاستثمارات ألمانية أساسًا، ألمانية غربية بالطبع، ولكنها ألمانية على أي حال. وعلى العكس، ففي بلدان وسط أوروبا الأخرى حيث لا تتوفر سوى قدرة ضئيلة لتنمية الاستثمارات القومية القادرة على المنافسة، لا تستطيع أن تسرع انطلاقة اقتصاد السوق إلا الاستثمارات الأجنبية. وإيقاع هذه الاستثمارات بطيء بالطبع، ولكن تسريعها على أيدي رجال الأعمال الأجانب في تلك البلدان قد يؤدي إلى تفاقم مخاطر وردود الفعل القومية والشعبية على حساب التنمية الاقتصادية.
غير أن هناك إمكانية للتوصل إلى حد أقصى بين فيض المساعدات وشُحها في البلدان المجاورة.
وهذا المسعى لا غنى عنه. لماذا؟ فلننظر في الأمر عن كثب.
عدد سكان ألمانيا الديموقراطية السابقة ١٧ مليونًا في مقابل ٥٨ مليونًا في ألمانيا الاتحادية قبل الوحدة، أي ما يقل عن الثلث. ومجموع سكان ألمانيا الديموقراطية السابقة وبلدان وسط أوروبا المجاورة لها (المجر، تشيكوسلوفاكيا، وبولندا) يبلغ ١٠٠ مليون نسمة مقابل ٣٤٠ مليونًا في البلدان الاثني عشر الأعضاء في الوحدة الاقتصادية الأوروبية. وهذه البلدان الثلاثة التي كانت تأمل في أن يفتح لها فور تحررها من الشيوعية، في عام ١٩٨٩م، أبواب الرفاهية، تخوض في الواقع رحلة شاقة في أرض قاحلة. وصحراء يصرخ فيها أنبياء زائفون ذوو اتجاهات «شعبوية» وقومية متطرفة. وهي لن تحصل برغم جهود البنك الأوروبي للتعمير والتنمية، على مساعدة تعادل تلك التي قُدمت للألمان الشرقيين، وذلك لأنه رغم كل التقدم الذي حققته الوحدة الاقتصادية الأوروبية منذ عام ١٩٨٥م، إلا أنها ليست وحدة سياسية فيدرالية، على غرار ألمانيا الاتحادية، بل ولا حتى سوق واحدة متكاملة، بل هي بالأحرى منطقة تبادل حر، لا تتضمن أي سياسات مشتركة فيما عدا الزراعة والنظام النقدي الأوروبي.
ولو ساهمت الدول الاثنتا عشرة معًا وخصصت لا ١ أو ٢٪ من مواردها بل ١٠ أو ١٥٪ — كما تفعل كل الاتحادات الفيدرالية في العالم الحر — لحققت فورًا قفزة إلى الأمام في الاتجاه الرايني، حيث يدعم الإثراء والتضامن كل منهما الآخر. ولكن الأمر لن يقتصر على ذلك. فستتوفر لهذه البلدان في الوقت نفسه الوسائل لإخصاب الصحاري الاقتصادية الجديدة في وسط أوروبا. ولن يعني ذلك بالطبع تطبيق الدرس الألماني الثاني بالكامل، ولكن مجرد العمل على إعادة اكتشاف ما ابتكره الأمريكيون عن طريق مشروع مارشال. فمن الممكن أن يكون مجهود التضامن الذي يقدمه بلد ما لعدد من البلدان الأخرى مفيدًا بشكل غير مباشر لمن يتجاسر ويكون كريمًا.