المال والمجد
كانت الطائرة من طراز بوينج تحد من سرعتها استعدادًا للهبوط في مطار كيندي. وقال لى جاري: «يا له من بلد جميل! هنا على الأقل يستطيع المرء أن يُكوِّن لنفسه ثروة حقيقية في فترة وجيزة.»
كلام عابر ومعبر في آن واحد. فكيف يمكن أن يحقق المرء لنفسه ثروة بسرعة دون أن يقامر في الكازينو؟ ليس هناك سوى حلين: الأول صناعي، يتطلب الابتكار والبيع؛ والثاني تجاري، قوامه الشراء والبيع. غير أن التاجر لا يكتفي ببيع السلع على حالها لأنه يضيف دائمًا خدمة، أي قيمة مضافة. أما المالي فهو يتميز بجني الربح من خلال ما يعيد بيعه كما هو على حاله (قيم منقولة في الأسواق المالية، سلع في بورصة العقود التجارية). ولذا فإن القضية الأولى بالنسبة له هي معرفة كيفية التصرف لإيجاد المال اللازم للشراء. ولا توجد سوى سبل ثلاثة لذلك:
(١) التمويل الذاتي
وهي الموارد التي تستخلصها المنشأة، فهو مستريح البال بهذه الطريقة، ولا يتعين عليه أن يطلب شيئًا من أحد، كما يمكنه أن يتصرف كما يود بالمال الذي ربحه. ورجل الصناعة الذي يحب مهنته ويكره أن يربك نفسه في مسائل مالية يكتفي بذلك الوضع في أغلب الأحوال. ولكن المالي الحقيقي لا يقنع بذلك أبدًا لأن هذه الطريقة ليست سريعة والنمو الداخلي لا يكفيه، ويتعين عليه أن يبحث عن موارد خارجية لتنمية أعماله بأكبر سرعة ممكنة.
وكان التمويل الذاتي مسألة تقليدية ومعهودة بدرجة أكبر في البلدان الأنجلو-ساكسونية منها في البلدان الأخرى، ولكن ألمانيا تجاوزتها في هذا المجال، حيث يبلغ معدل التمويل الذاتي ٩٠٪. وعلى العكس، لا يزال ذلك التمويل الذاتي من أضعفه في اليابان (٪۷۰) بينما يتراوح هذا التمويل في البلدان الأوروبية الأخرى، وبالأخص فرنسا، بين النسبتين المئويتين لكل من ألمانيا واليابان. أما التمويلات الخارجية، وبالأخص الاقتراض، فليست إلا موارد مساعدة، اللهم إلا بالنسبة للذين يجيدون تخطي العقبات لكي يجمعوا الثروات بسرعة.
(٢) الاقتراض
إذا تركنا جانبًا التقنيات الجديدة المسماة تحويل القروض إلى أسهم، فإن المنشأة تقترض عادة إما من البنك الذي تتعامل معه، وإما بطرح سندات في سوق الأوراق المالية. وبقدر ما يتميز اللجوء إلى البنك بالسرية تقليديًّا، بقدر ما يتطلب اللجوء إلى البورصة أن يكون مصدر السندات معروفًا للمكتتبين ويحظى بتقديرهم، كما يستدعي التوسع في الدعاية بقدر أكبر طالما كان طالب القرض جديدًا على السوق.
وللاقتراض ثلاثة مساوئ. أولًا حجمه الذي يكون محدودًا تقليديًّا حسب إمكانات المقترض. فالناس لا يقرضون إلا الأغنياء. وثانيًا، تكلفة القرض مرتفعة في وقتنا هذا ما دام معدل الفائدة الحقيقي في البلدان المتقدمة يتجاوز منذ حوالي عشر سنوات كل الأرقام القياسية التي سُجلت خلال القرنين الماضيين. وأخيرًا فإن القروض نادرًا ما تكون مستديمة، أي إنه يتعين على المقترض لا أن يسدد فوائد ديونه فحسب، بل وتسديد الرأسمال الأصلي.
وهذه الأساليب الجديدة لا تهم المنشآت الكبيرة إلا في الحالات الاستثنائية نظرًا لمتانة مراكزها. ولكن إذا كنا بصدد شاب طموح وموهوب، فكيف يمكنه جمع ثروة شخصية بسرعة، ويسهم ذلك في «دمقرطة» (يتكرر استخدام هذه الكلمة باستمرار في جانب المدافعين عن الريجانية) اقتصاد مستبد يعاني من غفوة العمالقة المسيطرين عليه؟ لقد قدم رجل المال العبقري، رئيس ومدير عام مؤسسة دركسل بورنهام لامبرت، إجابة على هذا السؤال تعد في حد ذاتها حدثًا في التاريخ الاقتصادي والمالي، ويمكن تلخيص تلك الإجابة في استراتيجية تتكوَّن من ثلاث مراحل:
في المرحلة الأولى، عليك أن تبحث، بفضل ما أوتيت من موهبة، عن منشأة أسهمها هابطة للغاية، أي إن قيمتها في البورصة أقل بكثير من القيمة التجارية لأصولها.
وفي المرحلة الثانية يقدم لك المصرفي الذي تتعامل معه، ولا يقل عنك طموحًا وموهبة، ثلاث خدمات. فهو يبدأ بتعريف السوق بك والدعاية لك. ومن هنا يبدأ كل شيء:
المال والمجد اللذان يشكِّلان معًا ثنائيًّا لا غنى لأحدهما عن الآخر في هذا النظام وعندئذٍ يفتح لك المصرف حسابًا خاصًّا بإصدار تلك الأسهم «الرِّمة» الشهيرة، والتي أساءُوا ترجمتها بالفرنسية وأطلقوا عليها عبارة «الأسهم العفنة». وهي أسهم عوائدها مرتفعة لأن مجازفتها أكبر. وتنبع المخاطرة هنا من كون طارحها والمروج لها هو ذلك الشاب الطموح والموهوب، وإن كانت ثروته ضئيلة، مع كونه منفردًا أو شبه منفرد في تلك العملية المحفوفة بالمخاطر النابعة من طرحها بغية جني الثروة. ومن الطبيعي أن يطالبه المكتتبون، أي السوق بمعدلات فائدة أعلى بكثير من شركة أي. بي. إم … وبالطبع فإن هذه المرحلة التي تستدعي إقناع الجمهور بإقراضه مبالغ كبيرة بالذات في الوقت الذي يعوزه فيه توفر ضامن له، هي أصعب المراحل. ولذا فإن المصرفي الدينامي يقدم له خدمة ثالثة مصممة خصيصى للمرشحين للحصول على الثروة: قرض بمعدلات فائدة مرتفعة يقدم من خلاله مثالًا للأسواق يثبت به التزامه بالوقوف إلى جانب الشاب الطموح. وبهذا القرض يستطيع الأخير شراء منشأة بالرغم من ضآلة إمكاناته الخاصة، وذلك عن طريق عملية «الرفع» المشار إليها آنفًا. وما عليه بعدئذٍ إلا أن يجني ما يكفي من الأرباح لصالح المصرفي وصالحه هو!
ويتعين أن نعترف بأننا بصدد ابتكار فحواه الإقدام على مجازفة كبيرة مقابل معدل فائدة كبير هو أيضًا. ولا تلجأ البنوك التقليدية إلى تلك التفرقة في معدلات الفائدة إلا بحذر شديد، لأنها تنتهج سلوك المؤسسة التي تعطي الأولوية للتحكم في المخاطرة وتأمين ما تقدمه من قروض، أي تفضيل الأجل الممتد على الأجل القصير المدى. وعلى العكس، فمن يمنح قرضًا بمعدل فائدة مرتفع محفوف بمخاطر شديدة، يعطي الأولوية للفوائد التي سيحصل عليها عند حلول موعد صرفها، وللأرباح التي سيتمكن في الإعلان عنها دون أن يهتم بما سيحدث في الأجل البعيد. فالمستقبل لا يعنيه وكل ما يهمه أن تبدو العملية براقة وأن تغزو السوق وتكسب فورًا.
وعلى امتداد هذا الكتاب، سيتضح لنا أن المعركة بين الرأسماليين تدور رحاها هنا بالذات حول الصراع بين الأجلين القصير والبعيد، وبين الحاضر والمستقبل.
ولكن لنعد مرة أخرى إلى المرحلة الثالثة من تلك العملية التي لم يبقَ للفتى الذهبي المرتقب إلا أن يؤكد، بعد أن اقترض وحصل على الغنيمة، أنه مدفوع برغبة محمومة على غرار الباحثين عن الذهب، فينقض على فريسته ويتصرف كمغير. ولو أحسن التصرف بدفع سعر أعلى لمساهمي الشركة يزيد على قيمة أسهمهم في البورصة، وإن كان أقل من قيمة أصولها التجارية، فلن يبقى له إلا أن يُقسم الأصول. وفي هذه الحالة لا يتمكن فحسب من تسديد ما عليه، بل ويحقق ربحًا يتقاسمه فوريًّا مع المصرفي المتعامل معه. وتلك هي نهاية الفصل الأول من قصة نجاحه.
وهكذا أصبحنا في عالم هوليودي حقًّا. وقد علق على تكاثر العمليات من هذا النوع فليكس روهاتاين المدير الشريك بشركة لازار إخوان، وهو الرجل الذي أنقذ من قبل مالية مدينة نيويورك، فأعلن أن بورصة وول ستريت، أصبحت أسوأ من هوليود. فحتى لو أننا لم نرثُ لمصير المنشأة التي تم تفتيتها، ولحال العاملين لديها الذين شُتتوا، فإنه يجدر بنا أن نلاحظ أن هذا النوع من العمليات يؤدي إلى تأزُّم جانب كبير من النظام المالي الأمريكي. وقد قدَّم ميشيل-فرانسوا بونسيه، رئيس بنك باريبا بعض البيانات الهامة في هذا الصدد:
فبعد الانهيار المالي في يوم الجمعة الأسود، ۱۹ أكتوبر ۱۹۸۷م، قررت السلطات النقدية في البلدان المتقدمة فرض إجراءات احتياطية على بنوكها تحد من حجم القروض التي يمكنها أن تمنحها. ويتضح أثر هذا الإجراء بكل جلاء من خلال نصيب البنوك الأمريكية من إجمالي تمويل المنشآت الذي هبط من ٨٠٪ في عام ١٩٧٠م إلى ٢٠٪ في عام ١٩٩٠م. ومن النتائج المترتبة على ذلك أنه بينما كانت ثمانية بنوك أمريكية تدخل في إطار البنوك الخمسة والعشرين الأولى في العالم في عام ١٩٧٠م. أصبح بنك سيتي كورب، الذي يحتل المركز الأول في الولايات المتحدة، البنك الرابع والعشرين في عام ١٩٩٠م. ولكن بقدر ما كانت البنوك الأمريكية تحد من التزاماتها عن طريق القروض، بقدر ما كان يتعين عليها أن تلجأ إلى عمليات تحقق ربحية أعلى، أي ذات مخاطر أكبر، وهكذا فإن التزاماتها في عام ١٩٩٠م، من خلال عمليات «الرفع» كانت ١٩٠ مليار دولار، وهو ما يعادل ثلاثة أضعاف ما قد تواجهه من مخاطر من خلال مجمل قروضها للبلدان المتخلفة (٦٤ مليار دولار).
ومنذ الانهيار الاقتصادي في عام ١٩٨٧م والصحف المتخصصة لا تكف عن التعرض للنمو المنذر بالمخاطر لعدد حالات إفلاس المؤسسات المالية في الولايات المتحدة. فبعد الانخفاض الحاد في حجم نشاطات البنوك التجارية الأمريكية، تعيَّن عليها، بحكم مقتضيات النظام الرأسمالي الأمريكي أن تندفع في طريق تحقيق الأرباح بسرعة، أي النشاطات الأكثر تعريضًا للمخاطر، بدلًا من التصرف كمؤسسات متبصرة حريصة قبل كل شيء على تأمين المستقبل. وفي نهاية المطاف يتعين على دافع الضرائب الأمريكي أن يسدد الفاتورة.
(٣) زيادة رأس المال
ولكن لنعد من جديد إلى قصة بطلنا. إنه يتطلع إلى أن يصبح من سادة عالم المال. غير أن السادة الحقيقيين في هذا المجال هم أولئك الذين يتمكنون من الانضمام إلى صفوة بلاط الكبار، رغم أنهم بدءُوا من الصفر. وهؤلاء السادة لا يكتفون بالشراء بما لديهم من مدخرات ولا باقتراض أموال الغير، ولكنهم يتوصلون إلى زيادة رأس المال عن فقط، أي أموال تكاد تشبه المعجزة، فهي مستديمة وتكلفتها أقل.
ويكون ذلك المال مستديمًا لأن رأس مال الشركة لا يتم تسديده، على عكس الاقتراض الذي يستلزم تسديد فائدة يتراوح حدها الأدنى بين ٨ و١٠٪ في البلدان المتقدمة، بينما لا يتجاوز عائد السهم ٣ أو ٤٪ من قيمته، إلا في حالات نادرة. والمخاطرات التي يتعرض لها المساهم لا حدود لها. ولكن كيف يتأتَّى إذن له أن يكتتب بينما المؤسسة التي تصدر تلك الأسهم لا تتمتع بوضع متميز، ولم تثبت بعد جدارتها على مدى بعيد، وأنه بصدد شخص يتطلع إلى أن يكون من عباقرة المال؟ والإجابة على ذلك تتمثل مرة أخرى في هالة المجد التي تتوجه وفي قدرته على «بيع الآمال».
فالشراء بالمدخرات يكون دون المستوى، والاقتراض للشراء أقوى، أما الحصول على أرصدة عن طريق السوق بالاعتماد على صيت طارح الأسهم فمن صميم اختصاص آلهة المال. وهناك على أي حال آلهة آخرون، هم مصرفيو الاستثمار الذين لا يستثمرون أبدًا، ولا يعرضون أنفسهم إطلاقًا للمجازفات، ولكن مهمتهم التي تتمثَّل في دفع الآخرين إلى الشراء والبيع تفترض توفُّر موهبة أكبر في الإقناع وقدرة فائقة في مجال التوليفات المالية. فهم يحصلون على عمولة عن كل صفقة سواء بالبيع أو الشراء. ومما يبرر ذلك قيامهم بإسداء خدماتهم للباحثين عن مناجم الذهب، فهم يرشدونهم إلى حيث يجب أن ينقبوا ليكتشفوا التبر.
ذلك هو ببساطة المنبع الأصلي «للبراءات المالية» و«الرأسمال المالي» و«إضفاء الطابع المالي على الاقتصاد». إنها القيمة السيكولوجية التي تعلقها الأسواق على أمجاد أبطالها المفضلين. ولا قيام للمنشآت بدون ذلك الأمل. ولكن يتعين التزام جادة الصواب حتى في البورصة.
نوع من الهذيان
منذ الثمانينيات، والاقتصاديات الأنجلو-ساكسونية تتميز أكثر من أي وقت مضى، ومن أي مكان آخر، بحجم سوقها المالية الضخم، على عكس بلدان منطقة جبال الألب حيث تقوم البنوك بدور أساسي في تمويل المنشآت.
ومما زاد من الأهمية التقليدية للأسواق المالية فيما وراء الأطلنطي أن الأوضاع المالية كانت مواتية بشكل استثنائي خلال الثمانينيات. فقد تضاعف مؤشر داو جونز ثلاث مرات. أما الأسواق الآجلة الاختيارية فقد نمت بشكل هائل. ففي شيكاغو يتم التعامل في عمليات يبلغ حجمها ضعف بل ثلاثة أضعاف ما يتم في نيويورك. إنها اندفاعة البورصة وانطلاقة المالية العارمة، بطقوسها وأبهتها وسحرها … أما الوسطاء الماليون فقد تضاعف عددهم وازداد ثراؤهم بنفس الوتيرة. وغدت شركات مالية جديدة، لم تكن معروفة للجمهور إلا في حدود ضيقة، في مصاف نجوم وسائل الإعلام، وتكاثرت الريبورتاجات حولها. وقد خلعت من عروشها في آن واحد شركات تحمل أسماء لامعة مثل أي. بي. إم، وأبل، وكولجيت. ومن أشهر تلك الشركات المالية دركسل بورنهام لامبرت، وشيرسون ليهمان هوتون، وفاسرستاين باريللا … إلخ. وقد شاركت هذه المؤسسات في أسطورة تجمع بين سحر المضاربات في البورصة وأضواء الاستعراضات الساطعة وألوانها البراقة وملابسها المزركشة. وكما يحدث دائمًا في الولايات المتحدة، فقد رفع ذلك من شأن الانتصار الذي حققه المال على الصناعة، وأكد في الوقت نفسه المجد الذي يكلل دائمًا النجاحات الفردية الخاطفة التي تسلط عليها أضواء أجهزة الإعلام.
لم يتردد موريس آرليه، الحاصل على جائزة نوبل في الاقتصاد لسنة ١٩٨٨م، في أن يعلن أن هذا الاقتصاد «استسلم على ما يبدو لنوع من الهذيان المالي المعتمد على المضاربة، حيث تظهر دخول هائلة بلا أي أساس واقعي، تترتب عليها آثار مثبطة للهمم، يُساء تقدير مدى تأثيرها.»
ومما لا شك فيه أن اللجوء إلى عروض شراء المنشآت ودمجها معًا لم يكن ظاهرة جديدة بالنسبة للولايات المتحدة. فعلى عكس الفكرة الشائعة، كان عدد تلك العمليات يتراوح بين ألفين وثلاثة آلاف خلال الثمانينيات، بل وكان أقل من نصف عمليات الشراء والدمج في سنوات ١٩٦٨–۱۹۷۲م. أما الحد الأقصى التاريخي في هذا المجال فقد تحقق في عام ١٩٧٠م، إذ بلغ ستة آلاف عملية. ولكن إذا وضعنا في اعتبارنا تلك العمليات لا عددها، لتبين لنا أن «سنوات ريجان» سجلت تفجرًا حقيقيًّا، فقد كان مبلغها ٢٠ مليارًا في السنة في أعوام ١٩٦٨–۱۹۷۲م، وغدا ٩٠ مليارًا في أعوام ١٩٨٠–١٩٨٥م، و٢٤٧ مليارًا في عام ١٩٨٨م وحده. ومن حيث النسبة المئوية لعمليات الشراء أو الدمج من إجمالي الناتج القومي، فقد تضاعف حجمها مرتين خلال سنوات ۱۹۸۳–١٩٨٥م، بالمقارنة مع سنوات ١٩٦٨–۱۹۷۲م (عودة رأس المال، تحت إشراف بودوان بروت وميشيل روزن، الناشرة أوديل جاكوب، ۱۹۹۰م):
«عمليات الدمج والشراء ليست شيئًا جديدًا بالطبع، فمنذ ثلاثين سنة على الأقل تلجأ الشركات الأمريكية إلى توزيع المخاطر، وتحسين نتائج أدائها، والاستفادة في بعض الحالات الضريبية، وزيادة نصيبها من السوق. غير أن الأغلبية الساحقة من الدمج والشراء كانت تتم «بشكل ودي» أو على الأقل بموافقة مجالس إدارة الطرفين المعنيين؛ إذ إن قوانين مختلف الولايات كانت تجعل عمليات الهيمنة صعبة للغاية ومضرة جزئيًّا بالنسبة للمنشآت. ففي ولاية إيلينوي مثلًا كان القانون الخاص بالسيطرة على المنشآت يسمح للإدارة بالتدخل إذا كان ١٠٪ من المساهمين في الشركة المستهدفة مقيمين بالولاية. وعندما ألغت المحكمة العليا تلك التدابير في يونيو ١٩٨٢م، وأبطلت في الوقت نفسه قوانين أخرى مشابهة، تغير الوضع جذريًّا ويسر إلى حد كبير عروض الشراء العلنية المعادية.
وبينما كانت عمليات الدمج والشراء التقليدية تأتي من جانب مجمع يرمي إلى توسيع نطاق المجموعة، حتى لو أدى ذلك إلى انخفاض مؤقت في قيمة الأسهم، فإن عمليات الهيمنة الراهنة هدفها تجزئة الشركة المشتراة ببيع مختلف أقسامها بغية رفع سعر الأسهم».
تصاعد التكبر
ولا محل للدهشة في ظل تحوُّل المؤسسات المالية الحالية إلى نجوم المجتمع والدعاية لقصص نجاح قادتها، أن يجتذب قطاع المال الأمريكي جزءًا كبيرًا من طليعة المثقفين في البلاد. وقد وجه ذلك ضربة قاسية للصناعة التي كانت تجد أصلًا صعوبة في إلحاق المهندسين والماليين الذين تحتاجهم للعمل لديها، وهي ترى خير كوادرها والشباب الحاصل على المؤهلات العالية يلوذون بالفرار ليلتحقوا بالبنوك وبيوت السمسرة حيث المكسب وفير، ودون أن تتسخ أيديهم أو حتى أحذيتهم، كما هو الحال في المصنع.
ويجب ألا نتصور أن الأمر يتعلق هنا فقط بنوبات الهوس الأمريكي في الثمانينيات! إذ يكفي أن نستعلم هنا في باريس، عن مكافآت الأبطال الشبان في ميدان الأموال الصرف. إنهم يحصلون في الكثير من الأحوال على ضعف، بل وأحيانًا على ثلاثة أضعاف زملائهم السابقين في المدارس، والذين يعملون على مقربة منهم، بل وحتى في نفس المؤسسة المالية، ولكن في قطاعات أقل تخصصًا ومشاركة في المضاربات. إنهم حاصلون على نفس المؤهلات ولديهم نفس الكفاءات، ولكن المجازفات مختلفة. وتلك بالذات إحدى المجالات التي تدور فيها يوميًّا المعركة بين رأسمالية ورأسمالية أخرى.
وفي الولايات المتحدة تجمعت كل العناصر اللازمة لتقديم استعراض كبير متواصل عن طريق وسائل الإعلام، حول تلك العمليات الأكثر إثارة من الروايات البوليسية، المعتمدة على النجاحات المبهرة واجتذاب خير المواهب والكفاءات وحجم المبالغ التي يسيل لها اللعاب. وكان هذا الاستعراض المالي، على غرار ذلك الذي اجتاح وول ستريت فرصة ذهبية للإعلام. وسرعان ما احتلت المناورات والخبطات المالية مساحات في الصحف لم تألفها من قبل، فلا يمر يوم دون أن تنشر صحيفة يومية — بما في ذلك الوول ستريت جورنال — الوقورة، إحدى الحلقات المثيرة للغاية في ذلك الصراع الأشبه بصراعات رعاة البقر في أفلام الوسترن (الغرب): عرض شراء علني يقطر دمًا، أو أرباح أسطورية، أو خبطة بارعة أو مجازفة شديدة. هذا بالطبع عدا المشاكل الشخصية التي تخص ملوك البورصة الجدد، ذوي الحياة الخاصة المضطربة (ومنها مثلًا شجار دونالد ترمب اللانهائي مع زوجته المشاكسة التي تطالبه بالطلاق … وبنصف ثروته، والتي احتلت العناوين الرئيسية في العديد من المجلات). وهكذا أصبحت الأضواء مسلطة على الشئون المالية والحياة الاقتصادية، لحسن الحظ أحيانًا، ولكن لسوء الحظ في أغلب الأحوال.
وتجاوز ذلك البث الإعلامي نطاق وول ستريت، فغيَّر من ردود فعل رؤساء الشركات وكبار مديريها. فقد أصبحوا حساسين بشكل متزايد نتيجة لتعرض الصحافة لهم بوصفهم «القباطنة الكبار» في عالم الصناعة، وأبطال اللقطات التلفزيونية التي تصور مواجهتهم للنمور المخيفة وتغلُّبهم على الشدائد التي تضمرها لهم البورصة. وقد انتشرت خلال الثمانينيات مصطلحات خاصة، من المفيد دراسة إيماءاتها بعناية. فهي في أغلب الأحوال ذات طابع قتالي، ومن تعبيراتها: الفرسان البيض أو السود، والأقراص السامة، والأصفاد، والمظلات الذهبية، كما أن الاقتصاد والمالية يتم تشبيههما بحرب النجوم. وبالطبع فإن هذا المسلسل المسلي يدفع إلى متابعة أحداثه وروايتها للآخرين، على عكس البيانات حول إنتاج السيارات والاحتمالات المتوقعة لأحوال المعلوماتية في السوق الدولية.
وهؤلاء القادة الأبطال الذين يلتبس الأمر حولهم، والمشاركون في مبارزات البورصة أصبحوا أنصاف آلهة بالنسبة لوسائل الإعلام والرأي العام، فتحرروا من مشاكل الحياة اليومية التي يواجهها الناس، وراحوا يتداولون المليارات وأصول الشركات والمهن ويستخفون بالحدود بين الدول. فكيف لا يستسلم بعضهم لجنون العظمة؟ وكيف لا يغيرون تدريجيًّا أساليبهم في الإدارة لكي تتفق على نحو أفضل مع صورتهم التي تعكسها لهم وسائل الإعلام؟ ومن الخطأ الاعتقاد بأن عمليات الدمج والاستحواز وعروض الشراء تخضع دائمًا لمبررات عقلانية. فقد تكون هناك أحيانًا حاجة إلى «عملية رائعة» تحقق رضا «أنا» الرئيس، وتستأثر بعدد من العناوين البارزة المثيرة لخيلائه في الصحف، كما قد يحتاج الأمر لعملية أخرى لتجنب الحكم على إدارة منشأة من جانب العاملين بها الهيابين أو المحافظين. ثم إن عملية عرض للشراء من النوع الجيد قد تكون مفيدة لتحسين صورة منشأة ما.
وهذا التصاعد المتواصل للمجد، والتكبر، والنفوذ المالي، جر أمريكا وسنوات ريجان، جرها بالمعنى الحرفي الكلمة، وراء وول ستريت، فراح الرأسمال يحدد المسار أكثر مما كان يحدده في الماضي، كما تعين التضحية بكل شيء من أجله. وهكذا أصبحت السياسة الاقتصادية خاضعة لتقلبات مزاج وول ستريت. فعندما تتحرك المؤشرات وتتقلب المعدلات تنتاب الحمى أمريكا، وتصاب السوق بالذعر من جراء البيانات السيئة عن التجارة الخارجية أو بسبب ظهور بوادر اتجاهٍ نحو تزايد البطالة. وهكذا يصبح تأثير أي حدث على البورصة أهم من الحدث ذاته. فانخفاض الصادرات أو ركود الإنتاج لم يعد مشكلة في حد ذاتها، لأن ما يشغل بال الرأي العام هو رد فعل الأسواق.
قانون السوق
في ظل تلك الأوضاع، تصبح الصناعة أشبه بفرع الأسرة المغلوب على أمره، أو بابنة العم القادمة من الأقاليم وقد ارتدت فستانًا من طراز عفا عليه الزمن، يثير الابتسامات. ويؤكد التقرير الذي نشره معهد ماساشوستس للتكنولوجيا على مدى ندرة التفاهم بين الصناعة والمالية. فقد زعزعت بشدة موجة عروض الشراء العلنية ثقة الصناعة بنفسها. أما الجوارح المفترسة التي يمثلها هؤلاء المغيرون الذين تسلطت عليهم فكرة تحقيق الربح الفوري، فلا يمكن أن يأمل أحد في أن يرسموا استراتيجية صناعية. ويقول معهد ماساشوستس إن هذا الهوس المالي «ساهم في تركيز اهتمام المنشآت بشكل مفرط على الربح الفوري»، وهذا في الواقع مجرد تعبير ملطف!
لقد وصل الأمر بالسوق الحالية إلى حد ممارسة وصايتها على الاقتصاد بوجه عام وعلى المنشآت بشكل خاص. فهو يدفعها إلى اتباع سلوكيات واستراتيجيات تتباعد، من وجهة النظر الاقتصادية والصناعية البحتة عن العقلانية التي تنتمي إليها أصلًا.
فالبورصة تقتضي أولًا من المنشأة أن تستخلص حدًّا أقصى من الربحية من رصيدها. فقد أصبح يتحتم عليها أن تعمل على إرضاء المساهمين الذين تزايدت مطالبهم، خاصة وأنهم جعلوا في عدم إخلاصهم للمنشأة سلاحًا يلوحون به. ولذا ستحرص المنشأة على أن تدفع لهم عائدات منافسة. ومن جهة أخرى، فإن ارتفاع سعر السهم في البورصة سيكون خير وسيلة لتجنب عروض الشراء العدوانية، حتى يعدل المشترون المحتملون عن تنفيذ خططهم. ولذا ستعمل المنشأة على تحقيق أقصى حد من الأرباح في الأجل العاجل لكي تتمكن من تقديم نتائج مرضية لوول ستريت كل شهور ثلاثة، وهذا ما يسمى الآن «طغيان التقرير ربع السنوي».
ويعلم كل من يدير شركة أن الوسيلة الفعالة حقًّا لزيادة الأرباح في المدى القريب تتمثل في خفض الإنفاق الأقل إلحاحًا: الدعاية، والبحوث، والتأهيل، والدراسات المتعلقة بالمدى البعيد. .. إلخ، وللأسف فإن هذه النفقات هي التي تمكن المنشأة عادة الاستعداد للمستقبل، بتصميم منتجات جديدة، وتحسين تقنيات الإنتاج، وزيادة كفاءة العاملين لديها، والتخطيط لتسويق منتجاتها في المستقبل. وإذا تم استقطاع جانب كبير من تلك النفقات فإن المنشأة تصبح مهددة في المدى البعيد. وهنا يتعارض منطق المال بكل وضوح مع المنطق الصناعي.
مجد المهزومين
وهذه التكاليف المالية ليست الوحيدة المفروضة على المنشآت. فالتهديد بعروض شرائها أو الإغارة عليها تحوم باستمرار حول المسئولين فيها، مما يدفعهم إلى تكريس قدر كبير من الوقت والجهد لوضع استراتيجيات دفاعية، وخوض حرب عصابات ساحتها البورصة، وغير منتجة إطلاقًا على الصعيدين التجاري والصناعي. ولنا أن نتساءل بالطبع عما إذا كانت أولى اختصاصات رجل الصناعة أن يكون دائمًا في حالة تأهب متواصلة لوضع «أقراص مسمومة» أو إسقاط «مظلات ذهبية» (حسب اللغة الدارجة في بورصة نيويورك) بالتعاون مع كتيبة من رجال القانون الذين يحصلون على أتعاب فادحة للتصدي لمحاولات السيطرة العدائية … بدلًا من التفرغ للإنتاج والتسويق. ونحن لا نعلم كم من الوقت تم تكريسه لإعداد «مظلات ذهبية» بغية حماية شركة نابيسكو، ومديريها السابقين، من عواقب شراء KKR لمجموعتهم. غير أننا نعرف المبالغ التي دفعت لهم. فقد حصل القائدان من منشأتهما على ٥٣ مليون دولار للأول، و٤٥ مليون دولار للثاني. ولنتفحص ذلك بشكل ملموس. فاﻟ ٥٠ مليون دولار تساوي على الأقل ٢٥٠ مليون فرنك فرنسي، وهذا المبلغ يحقق لصاحبه إذا حوله إلى وديعة بمعدل فائدة ٪۱۰، ريعًا سنويًّا قدره ٢٥ مليون فرنك، وهو يعادل ما يتراوح بين خمسة أضعاف وعشرة أضعاف مرتبات رؤساء مجالس الإدارة والمديرين العامين الذين يحصلون على أعلى أتعاب. أليس هذا حقًّا ما يمكن أن نسميه «مجد المهزومين»؟
أما عدم إخلاص أصحاب الأسهم الذين يلهثون وراء من يقدم أعلى عرض، فأمامهم صفقة رابحة وفورية، تحولت بالنسبة لهم إلى قاعدة ذهبية جديدة.
ووفقًا لمنطق النموذج الرأسمالي الأنجلو-ساكسوني الجديد، فإن تخلي المساهم عن المنشأة التي اكتتب فيها، يعتبر مرادفًا للترشيد.
غير أن ذلك الترشيد يشكل بالأخص عائقًا كبيرًا تواجهه المنشآت التي لم يعد بإمكانها الاعتماد على رأس مال ثابت.
فالمساهم، ذلك «الملك المتوج» حسب تعبير الكسندر دي جونياك وستيفان ماير، لا يعنيه أمر المنشأة التي يستثمر أمواله فيها. فهو يريد الحصول على فوائض قيمة الأسهم وعوائدها. وهذا الاتجاه المفارق جلي بشكل ملحوظ لدى المستثمرين في مؤسسات مثل صناديق المعاشات وشركات التأمين ذات التأثير الهائل في السوق الأمريكية. فهي تملك في الواقع ما يتراوح بين ٤٠ و٦٠٪ من رسملة الفوائد في وول ستريت. ولكن على عكس ما يحدث في اليابان، وإلى حد ما في أوروبا، فإن هذه الأموال لا تقوم بدور «حارس» تلك الأرصدة في السوق أو «منظمها». فالمستثمرون الأمريكيون في تلك المؤسسات يسعون قبل كل شيء إلى زيادة عائد أسهمهم القصير الأجل إلى أقصى حد. وشاغلهم الوحيد هو تقديم نتائج قياسية للمدخرين عند حلول موعد كل استحقاق. فعليهم أن يتقمصوا مظهر المديرين الأكْفاء بتحسين ترتيبهم في الجداول التي تقارن بين مختلف المؤسسات، علمًا بأن تلك الجداول تتلاحق بشكل متزايد.
ويدفعهم تسلط فكرة ضرورة تحقيق نتائج في المدى القصير — في حالة تواجد عرض للشراء — إلى «الخيانة» بكل بساطة، كما كانوا يقولون في الماضي. فالعديد منهم يديرون معاشات مستخدمي الشركات الكبرى. وعندما تتعرض إحدى تلك الشركات للهجوم، يكون من مصلحتهم تمامًا الوقوف في صف المهاجم لكى يحققوا فوائض قيمة.
وأمثال هؤلاء المساهمين وتلك الاستراتيجيات تبعدنا عن المنشأة بمفهومها الأصلي كجهاز يضم أصحاب مصلحة مشتركة تجمع بين المساهمين والعاملين والمديرين من خلال علاقات اجتماعية متينة. وهكذا تتحول المنشأة إلى أداة للتدفقات النقدية تتقاذفها موجات السوق وتهددها عواصف المضاربة في السوق التي لا يمكن التنبؤ بموعد هبوبها.
رأسمالية بلا مُلاك
من الصعب ألا يشعر الأوروبيون، وبالأخص الفرنسيون المرتبطون في الكثير من الحالات بالمنشأة التي يتعاملون معها، وكأنها نوع من العلاقة الأسرية، بالحرج إزاء هذا المنطق. فالأمر يتعلق فعلًا بمنطق معين، ففي أمريكا لا تعتبر المنشأة في نظر المساهمين الجدد المسيطرين حاليًّا على السوق، سوى «حزمة أسهم» وفقًا للتعبير القديم الذي استخدمه كينز. وعلى أي حال فإن كل شيء قابل للبيع، حتى لليابانيين، والمسألة تنحصر فقط في الثمن المدفوع. وقد أوضح ذلك الفيلسوف الفرنسي ميشيل سير، الذي يدرس فيما وراء الأطلنطي؛ إذ قال: «في هذا البلد الثروة هي الهدف والأشياء هي الوسيلة. وفي أوروبا، على العكس، يمكن عمل أشياء بالثروة.» فمن المعتاد (والسهل) في هذا البلد شراء منشأة، كما تشتري عمارة أو لوحة فنية. وعليه يكون من المنطقي تمامًا أن يتصرف المساهم «الملك» كما يحلو له بالمنشأة التي اشتراها منذ قليل. فهو يجزؤها ليتخلص مما لا يهمه بالبيع، ويتصرف مع العاملين في المنشأة على غرار تعامله برأسماله، أي كما لو كانوا مجرد سلعة.
ولكن هل حسن سير النشاط الرأسمالي يقتضي، نعم أم لا، بأن يعامل العاملون كسلعة؟ هذا موضوع جدير بأن تدور حوله معركة! وهل تستطيع المنشأة أن تعيش بدون مالك، نعم أم لا؟ وهذا أيضًا موضوع جدير بمعركة، مع الفارق في أنه يمكن أن يعالج على أنه مفارقة على سبيل المزاح. وهذا ما أقدمت عليه مجلة الإيكونومست الأسبوعية البريطانية تحت عنوان «الرأسمالية الأنجلو-ساكسونية، هل لا تزال رأسمالية مُلاك».
«منشأة تطلب مُلاكًا»، «منشآت تبحث عن مساهمين ثابتين». هذان المطلبان كافيان لملء صفحات الجرائد بالإعلانات الصغيرة ضمن الإعلانات المبوبة. والواقع أن مجد رجال المال الجدد في ظل الرأسمالية الأنجلو-ساكسونية الجديدة يتمثل في التخلص من المُلاك بالقضاء على فكرة المساهمة الثابتة.
أرباح اليوم أم الغد؟
ولنتوقف للحظة عند مفارقة أخرى أشبه بغمزة من جانب التاريخ موجهة إلى كارل ماركس. ففي كل أنحاء العالم يعاد اكتشاف الطابع المشروع للربح، فهو روح الرأسمالية. وفي فرنسا انضم الاشتراكيون إليه منذ ١٩٨٢-۱۹۸۳م، بعد أن أولوا ظهرهم لأوهام البرنامج المشترك مع الحزب الشيوعي الفرنسي. وفي الشرق، أسفر انهيار الشيوعية عن إعادة اعتبار عامة للسوق بلا تحفظات. فالكل يعترف إجمالًا بالفكرة القائلة بأن السعي إلى الربح هو الحافز الأشد فعالية بالنسبة للمنشآت ورجال الأعمال. فالربح مشروع، بل إن المردودية والفوائد وحدَّ الربح تشكِّل معًا المحركات الحقيقية للاقتصاد الدينامي، بل والمحركات الوحيدة له. ولكن ها نحن نتلقى من أمريكا موطن الرأسمالية ذاته، درسًا ما كنا نتوقعه: «الربح قد يضعف المنشأة ويلحق الضرر بالاقتصاد ويعوق التنمية». فكما أن «الإفراط في فرض الضرائب يضعف الضرائب»، فبوسعنا أن نقول إن «العمل بإفراط من أجل الربح اليوم قد يلحق الضرر بربح الغد».
وباستثناء بعض المعجزات المرتبطة «بالمُودة» أو الحظ، فإن النجاح الثابت يتم يومًا بعد يوم، فهو يمر بعملية تصميم لأساليب إنتاج، وشبكة توزيع. ويتطلب النجاح إقناع العملاء وتأمين مواصلة تقديم الخدمة أو قطع الغيار، بعد ذلك. فالمعلوماتية الدقيقة لم تنتصر لدى الجمهور العريض إلا بعد ست أو سبع سنوات من بدء عرضها في الأسواق. أما الفيديو وكاميرات الفيديو فقد احتاجت إلى أكثر من عشر سنوات لكي تنتشر.
وبالطبع فإن ثبات العزيمة هذا تصحبه بالضرورة تضحيات مالية؛ إذ يتعين على المنشأة أن ترضى بتحمل خسائر قبل أن تجني أرباحها الأولى، وذلك ليس فقط من أجل تغطية تكاليف طرح السلعة في السوق. فكثيرًا ما يكون من الضروري البيع بأسعار «منخفضة للغاية» على حساب الربح لكسب السوق. وتلك استراتيجية أولية أصبح اليابانيون أبطالها. فهم يشنون هجومهم المكثف على السوق مع تركيز جهودهم على النوعيات الدنيا والقبول بتضحيات هائلة في الأسعار وبالتالي في الأرباح. وهكذا يبعدون منافسيهم ويغطون التكاليف الثابتة ويحسنون تدريجيًّا من نوعية منتجاتهم. ولنتذكر حال السيارات اليابانية منذ خمس عشرة سنة مضت، كانت صغيرة وضعيفة البنية ومفتقدة للجاذبية، ولكن أسعارها كانت منخفضة للغاية، أما اليوم فهي تنافس السيارات الألمانية القوية والإيطالية الأنيقة. وأصبح اليابانيون كما هو معروف في مقدمة منتجي السيارات في العالم. غير أن هذا النجاح جاء ثمرة استراتيجية دءُوبة اقتضت في بدايتها تضحيات جسيمة.
الربح المضاد للتنمية
وعلى عكس تلك الاستراتيجية، فضَّل الأمريكيون في الكثير من الحالات التركيز بشكل متزايد على المنتجات الصناعية التي تحقق أرباحًا فورية. فقد تخلَّوا بسرعة عن النشاطات التي تعرض فيها تفوقهم للتراجع أو عندما اتضح لهم أن الجهود المطلوب بذلها تحتاج إلى وقت طويل وتكاليف مرتفعة للغاية. كما أنهم لم يرسموا في الواقع سياسة صناعية وتجارية بعيدة المدى لكسب أسواق بأكملها أو استعادتها. ففي قطاع معدات التصوير الطبي وأجهزة السكانر وتسجيل الصدى مثلًا. كانت الشركات الأمريكية أول من أنتجها في البداية. ولكنها اكتفت بعد ذلك بالمنتجات الرئيسية التي تهم مراكز البحث الكبرى والمستشفيات الحديثة جدًّا، وتخلت بذلك في الوقت نفسه عن المنتجات الدارجة في هذا المجال لليابانيين الذين سرعان ما انقضوا على سوق المستشفيات الأقل فخامة، ثم اعتمدوا على ذلك الأساس لتحسين منتجاتهم، فأصبحوا الآن منافسين مباشرين للأمريكيين في الأجهزة التكنولوجية الرفيعة المستوى.
ويمكن ملاحظة اختلاف الاستراتيجية أيضًا في مجال الإلكترونيات بمختلف أنواعها، حيث أهملت الشركات الأمريكية المنتجات الموجهة إلى الجمهور العريض لتركز جهودها إما على التكنولوجيا العسكرية المتقدمة للغاية، وإما للانصراف إلى نشاطات أخرى تحقق أرباحًا أعلى (تأجير السيارات، الخدمات المالية).
وكان آكيو موريتا، رئيس ومدير عام سوني بالغ الصراحة في كتابه الشهير بوسع اليابان أن تقول لا (وهو لم يترجم أبدًا بالكامل، علمًا بأن هناك العديد من الترجمات المتداولة دون أن تكون قد حصلت على تصريح بالنشر). فقد انتقد قصر نظر أرباب العمل الأمريكيين قائلًا: «الأمريكيون يجمعون المال بالاندماج أو الشراء، ولكنهم لم يعودوا يعرفون كيف ينتجون أشياء جديدة. وبينما نخطط نحن لعشر سنوات، فإنهم لا يهتمون إلا بالأرباح التي سيحصلون عليها خلال الدقائق العشر القادمة، وبهذا الإيقاع، أصبح الاقتصاد الأمريكي مجرد شبح».
والحال ليس على هذا المنوال بالنسبة للمنشآت الأمريكية التي تعاني باستمرار من التزامها بإرضاء أصحاب الأسهم والمقرضين، والمقيدة بالتالي بالمشروعات التي تحقق عائدًا سريعًا. وبوسعنا أن ندرك لماذا يتردد أرباب العمل على ما يبدو في مثل تلك الظروف، إزاء فكرة تعريض أنفسهم لمجازفات صناعية، كما نوَّه بذلك تقرير معهد ماساشوستس المشار إليه من قبل. وتلك ملاحظة تثير الدهشة حقًّا، لأن الرأسمال والمنشأة مرادفان للمخاطرة بحكم تعريفهما. وكل الأساطير الأمريكية تشيد على أي حال بالمخاطرة. كما أنها صورت دائمًا المغامرة في المجال الصناعي على أنها استمرار لمجازفات الرواد الأوائل. فالحذر الشديد والسعي إلى الربح في المدى القريب، والاقتصار على النشاطات المضمونة لا يتفق بالذات مع الصورة التي أراد رونالد ريجان أن يحييها من جديد عندما أعلن مثلًا في عام ١٩٨٤م، أثناء زيارته للصين: «نحن شعب متفائل، وقد ورثنا مثلكم مساحات لا نهائية من الأرض والسماء، والجبال الشاهقة، والحقول الخصبة، والسهول الممتدة فيما وراء الأفق. وهذا ما يجعلنا نستكشف الممكن في كل مكان ويمنحنا الأمل».
ولكن تأثير الريجانية الضار، وهو من سخريات الثمانينيات القاسية، جعل طغيان المال ينال، ويا للمفارقة، من عقلية المشروعات. وهذا مؤسف حقًّا وخطر في الوقت نفسه. فقد أثبتت السنوات الأخيرة أن أهم النجاحات الصناعية كانت أصلًا من أكبر حالات الإقدام على المجازفة. وهناك أمثلة عديدة حول ذلك وردت في كتاب كايشا: المنشأة اليابانية (ج. ابيلجن وج. ستالك، نيويورك بوكس، ١٩٨٥م). ويدلل المؤلفان على مدى قدرة اليابانيين الاستثنائية على الإقدام على مجازفات مالية وصناعية. فلا يندر أن تنطلق شركات يابانية فورًا في الإنتاج على نطاق واسع قبل أن تكون متأكدة من أن إنتاجها سيباع. وهكذا يتم استهلاك التكاليف الثابتة فورًا، مما يتيح طرح المنتج بأسعار منافسة. وهناك مثال «الوكمان» الشهير الذي ابتكره آكيو موريتا، وتم إنتاجه على نطاق واسع قبل أن تطرح نسخة واحدة منه للبيع.
فالربح في نهاية الأمر أشبه بالوقود المحرك لموتور الرأسمالية، ولكن إذا كان الوقود «غنيًّا»، أو كانت نسبة تركيباته غير صحيحة، فقد يختنق المحرك أو ينفجر. ويحرص أرباب العمل اليابانيون على التأكيد على تلك الفكرة عندما ينتقدون أقرانهم الأمريكيين على غرار آكيو موريتا. وهم يقولون إن الأمريكيين يهملون العاملين معهم ويسدون الطريق أمام مقتضيات الإنتاج ويتسلط عليهم شبح وول ستريت. ويتبدى من خلال تلك الملاحظات انتقاد عام بخصوص إدارة الموارد البشرية حسب مفهوم أرباب العمل الأمريكيين لها. ويذكر تقرير رمسيس (المعهد الفرنسي للعلاقات الدولية) عدة دراسات أمريكية صدرت فيما وراء الأطلنطي، ويلاحظ في ملزمته الصادرة في عام ١٩٩٠م أن «توجيهات أرباب العمل الأمريكيين تتعارض في الواقع مع التجارب الأكثر فعالية ومع التحليلات المتعلقة بالعقبات الاجتماعية المعوقة للإنتاجية التي أُجريت في العديد من المواقع في الولايات المتحدة وفي الجامعات والمؤسسات الاستشارية. وهي تلتقي جميعًا حول الاستنتاجات التي تعمل بمقتضاها شركات مثل أي. بي. إم.، وثرى إم، وهيلويت باكار، وفحواها أن الإدارة المتواصلة لليد العاملة المستقرة تشكل عنصرًا حاسمًا في المنافسة».
فالسباق المسعور من أجل الربح يحرض على اتباع سلوكيات تتعارض مع الإدارة الرشيدة. وفي نهاية المطاف فإن إغراءات الربح بلا ضابط تعرض للخطر النسيج الاجتماعي في مجمله.
الأخطار الجديدة الناجمة عن هيمنة المال
كان المال والثروة على الدوام من أسس المجتمع الأمريكي، بينما كان المنشأ أو الثقافة أو الشرف من مقتضيات المجتمعات الأوروبية. وتلك ضريبة حداثة تلك الدولة الرأسمالية المنبت والجمهورية. فالدولة القائمة على الأخلاقيات البروتستانية تتوافق تمامًا مع الرأسمالية، كما أثبت ذلك ماكس فيبر. ومن نافلة القول التأكيد على أن أمريكا هي بلد المال المتوَّج ملكًا والدولار المظفر. وفي المقابل كثيرًا ما ننسى أن علو شأن الدولار وقسوة المنافسة الفردية في الولايات المتحدة بماديتها التي لا تتحرج في التمسك بها، تتوازن مع بعض القيم الراسخة والمؤسسات المتميزة. فأمريكا مرتبطة بالطبع منذ نشأتها بالدولار، ولكنها كانت تحتفظ بيد على الكتاب المقدس وباليد الأخرى على الدستور. وظلت مجتمعًا موغلًا في التدين يتجسد فكره العام في الدستور الذي تحيط به هالة من الهيبة أكبر مما يحظى الدستور عندنا في فرنسا. وكانت الأخلاقيات التقليدية تفرض التزامات وتملي سلوكيات لم تكن ذات طابع شكلي فقط. فقد كان روكفلر يقول: «من المخجل للرجل الثري أن يموت بصفته ثريًّا». كما أنه سبق لنا أن رأينا كيف أن النسيج الاجتماعي المترابط كان له دور كبير في الحد من الصدامات الاجتماعية. وهكذا كان المجتمع الأمريكي يحقق توازنه عمومًا بالتحكم في تناقضاته المواكبة لتأسيسه.
لقد بدأت أمريكا بأسرها تطرح لنفسها هذا السؤال، حتى إن بيزنس ويك الأسبوعية صدرت مؤخرًا وهي تحمل عنوانًا يقول: «ألا يحصل أرباب العمل على مرتبات مرتفعة أكثر مما ينبغي»؟ وقد أودع على أثر ذلك مشروع قانون على مكتب مجلس الكونجرس يرمي إلى الحد المكافآت التي يحصل عليها رؤساء ومديرو عموم الشركات الأمريكية. وأعلن السيد جراف كريستال، الخبير في هذا المجال أمام لجنة مجلس الشيوخ الأمريكي أن رئيس الشركة الأمريكية الكبيرة يربح في المتوسط ١١٠ ضعف ما يربح متوسط العاملين فيها. وهذا الفارق ذاته بين متوسط مرتب الرئيس ومتوسط أجر العاملين لا يزيد إلا ١٧ ضعفًا في اليابان و۲۳ ضعفًا في ألمانيا. فما هي الفائدة التي يمكن جنيها من تقاضيهم ما يعادل خمسة أو ستة أضعاف ما يحصل عليه الرؤساء الألمان أو اليابانيون؟ فلو كانت آليات السوق تعمل بشكل سليم لكان من الضروري أن تعبر تلك الفروق عن اختلاف في قدرات المنشآت على التنافس. ولكن الواقع يقول إن العكس هو الصحيح على نطاق كبير. فالسيادة، هنا ليست لقوانين السوق بل بالأحرى للحكم الملكي المطلق الذي يتمتع به المال.
وهكذا يهدد المال المتوج ملكًا بالقضاء على الأخلاقيات. فقد كانت «السنوات المجنونة» طوال الثمانينيات مصحوبة بكافة ضروب الاختلاس التي لا يتخيلها العقل، حتى إن قواعد الآداب المهنية لم تعد تراعى. فالشعار الشهير للمضاربين في البورصة «كلمتي هي التي تربطني» لم يعد له معنًى لدى أبطال الشئون المالية الحاليين. فكل الوسائل مقبولة لتحقيق المزيد من الكسب. فهناك مكافآت تدفع للمرشدين، ويتم استئجار خدمات مخبرين سريين خصوصيين للحصول على معلومات عن رؤساء المنشآت المراد شراؤها، وأصبحت وول ستريت توحي بقدر من الثقة يتناقص باستمرار في الوقت الذي تتعامل فيه هذه البورصة مع مدخرات وافدة من كافة أرجاء العالم وتحتاجها أمريكا.
وهنا تكمن المفارقة. فالأخلاقيات عمومًا، وعلى أي حال أخلاقيات عالم الأعمال لم تكن مجرد زخرفة أو رفاهية في هذا المجال. فهي ضرورية تقنية لحسن سير عمل الرأسمالية ذاتها. وقد أدركت ذلك جيدًا أوساط العمل في وول ستريت. وردود أفعال تلك الأوساط إزاء تجاوزات الأمس تتسم بالقسوة والصرامة، بشكل لا يتصوَّر في أوروبا. ومنها بالأخص ردود فعل لجنة الرقابة على تداول الأوراق المالية المقابلة للجنة التعاملات في البورصة في فرنسا، التي تتعقب الخروج على القوانين في الأسواق المالية. فالقضاة يصدرون أحكامًا قاسية. وفي نفس الوقت تنظم حاليًّا دراسات في أخلاقيات الأعمال في عدة جامعات، ومن بينها جامعة هارفارد. فهل هي «مُودة» جديدة أو إجراء وقائي؟ كما ظهرت أيضًا وصناديق استثمار أخلاقية، لا تستثمر أموالها إلا في شركات معروفة باستقامتها. وقد أصدرت حوالي أربعين ولاية أمريكية الآن تشريعات لمكافحة عروض الشراء. بل إن كونجرس ولاية بنسيلفانيا قرر في نهاية أبريل ١٩٩٠م أن أرباح أي مساهم يبيع استثماراته في غضون ثمانية عشر شهرًا على أثر عرض للشراء ستصادر بكل بساطة. وفي كافة أنحاء البلاد ينتشر تيار شعبي قوي ضد مضاربات المؤسسات المعتمدة في البورصة.
وبصفة عامة على أي حال، يبدو أن الولايات المتحدة بأسرها باتت تجتاحها موجة أخلاقية قوية ومناخ حملة تطهرية، لا تخلو من بعض التطرفات. فقد تحطم مستقبل العديد من نساء ورجال السياسة لما حام حولهم من شكوك حول فسادهم أو قلة حذرهم ماليًّا. ومن هؤلاء جيرالدين فرارو في انتخابات الرئاسة في عام ١٩٨٤م، ومايكل ديفر، السكرتير العام السابق للبيت الأبيض، وجون تاور الذي اختاره جورج بوش وزيرًا للدفاع، وجيم رايت «المتحدث» باسم مجلس النواب … إلخ، فقد أصبحت أمريكا حساسة للغاية إزاء المسائل المالية.
وبصفة عامة أصبحت الأخلاق ضرورة ملحة وبالتالي استثمارًا مجزيًا. فأمريكا تقاوم حيثما تشعر بالخطر. غير أن العودة إلى الأخلاق ليس إلا إحدى حلقات المعركة الكبيرة التي بدأت بين مفهومي الرأسمالية.
لقد ألحق المجد المالي الضرر بالاقتصاد والمجتمع في أمريكا. غير أنها تقاوم. فلا مجال لأن ننسى الحكمة القائلة: لا تبخس أمريكا حقها.