تفوق النموذج الرايني اقتصاديًّا
تتطلب الأوضاع الغريبة للغاية إعمال الذاكرة لكي يكون تقديرنا لها سليمًا. فلنتذكر كيف كانت حالة التوازن في العالم بعد الحرب العالمية الثانية. لقد حققت الولايات المتحدة نصرًا لا يشاركها فيه أحد، كما وقعت بطريقة مأساوية بقنبلتها الذرية على الوثيقة التي تفرض هيمنتها على العالم. فأمريكا تلك الدولة العسكرية الكبرى، التي لم تطلها الحرب على أراضيها كانت في الوقت نفسه قوة اقتصادية كبرى لم تحد من الأعباء الضريبية، بل استخلصت فائضًا من ميزانيتها لمساعدة أوروبا التي دمرتها الحرب، وذلك في إطار مشروع مارشال. ولم يكن الاتحاد السوفيتي قادرًا آنذاك على تحديها بشكل متواصل كما تجلَّى ذلك أثناء أزمة حصار برلين. وبهرت ثقافة المنتصر — أي أسلوب الحياة الأمريكي — العالم بأسره، وقد جاء به جنود البحرية الأمريكية عندما نزلوا على شاطئ أوماها. بل إن ذلك الإبهار شمل أيضًا ولأمد طويل أعداءها السابقين الذين تغلبت عليهم.
أما دولتا المحور الكبيرتان، ألمانيا واليابان، فقد دفعتا ثمنًا غاليًا للهزيمة التي لحقت بهما. إنها بلاد نزفت دماؤها، ومدن لحق بها الدمار، وصناعات خُربت، وأمم أصابتها في أعماقها صدمة المغامرة الدامية التي ساقها إليها قادتها. أما درسدن أو ناجازاكي، وبرلين أو هيروشيما فقد تحولت إلى مساحات شاسعة ومخيفة من الحجارة التي اكتوت بلهيب النار، لتؤكد بذلك مدى الكارثة الخطيرة التي يستعصي تحديد حجمها.
انتصار المهزومين
وبعد أقل من نصف قرن … في التاسع عشر من أكتوبر ۱۹۸۷م، هزت الأسواق المالية فجأة كارثة عمت البورصات. وفي نيويورك انتاب الدوار وول ستريت. وإزاء تلك الطامة الكبرى وتجنبًا للمزيد من التدهور، لجأت الحكومة الأمريكية إلى حقن الدوائر المالية بأموال سائلة. وبعبارة أخرى فقد فتحت صنبور الدولارات على آخره عن طريق الاحتياطي الفيدرالي. ولكن هل يعلم الناس أنها استشارت قبل الإقدام على هذه الخطوة … بنك اليابان والبنك المركزي الألماني، بل وحصلت على موافقتهما؟ إنه لانقلاب حقًّا في علاقات القوى: فالمهزومون بالأمس، يملون اليوم — بأدب جم — شريعتهما على من انتصروا عليهم بالأمس. وبعد ذلك بقليل، وبنفس الطريقة فرضت ألمانيا الاتحادية على العالم، بلا عناء، توحيد أراضيها، بأن «اشترت» تقريبًا الجمهورية الديموقراطية الألمانية التي أفلست. على أنها أثبتت في الوقت نفسه أن باستطاعتها أن تتحمل وحدها هذا العبء الاقتصادي. ففي نهاية عام ١٩٨٩م، لم تطالب حكومة بون أحدًا بمساندتها أو مساعدتها. بل إن الألمان وقعوا، على العكس وفي الوقت ذاته موسكو، اتفاقات للمساعدة الاقتصادية، فحواها تمويل ألمانيا لعمليات إعادة فرق الجيش الأحمر المعسكرة في ألمانيا الديموقراطية سابقًا إلى وطنها تدريجيًّا (بما في ذلك بناء ثكنات جديدة لهم في الأراضي السوفيتية!) وباختصار فإن ألمانيا صاحبة الثروات الطائلة، أصبح في متناول يدها ما يلزم لشراء استقلالها كاملًا وبالدفع نقدًا وعدًّا.
وهكذا أصبح المهزومان السابقان، اللذان تبنيا حديثًا الرأسمالية الراينية، قد أصبحا خلال أقل من جيلين العملاقين الاقتصاديين الكبيرين في العالم والمنافسين المباشرين للهيمنة الأمريكية السابقة. وبالطبع هناك لكل منهما دوافع خاصة هيأت لهما هذا التفوق. وبعبارة أخرى هناك سمات متميزة لكل من الاقتصاد الياباني والألماني، مختلفة عن بعضها ولا يمكن حصرها في تصميم واحد مشترك. ومع ذلك هناك سمات مشتركة كثيرة بين هاتين الرأسماليتين المنتصرتين تمكننا من التقدم بافتراض إجمالي لتفوق نموذج، بل وتفوقات عدة كما سيتبين لنا.
ولنبدأ بالاقتصاد، فهو المصدر الحقيقي للقوة اليوم. ففي هذا العالم الذي انتصرت فيه الرأسمالية، ولو من خلال هزيمة خصمها الأيديولوجي، ستنتقل السلطة إلى أيدي من سيعرفون أولًا كيف يمكنهم تحقيق أفضل مكسب اقتصادي. وفي هذا المجال يبدو تفوق النموذج الرايني أقوى فأقوى.
ومع أن الدولار لم يعد كما كان قبل عام ١٩٧١م — الذي شهد نهاية إمكانية استبدال قيمة الدولار بمقابله من الذهب كما تقررت أصلًا في بريتون وودز (١٩٤٦م) — إلا أن أمريكا لا تزال تتمتع بامتياز نقدي حقيقي ورثته من نفوذها السابق (انظر الفصل الأول). وهذا الامتياز حقيقي ولا يزال ساريًا. غير أنه يتعرض أكثر فأكثر للتهديد، من جراء انتقال ألمانيا واليابان إلى صف القوى النقدية. فالمارك والين يزحزحان شيئًا فشيئًا الدولار من مواقعه.
فهاتان العملتان تمثلان ٣٠٪ من أرصدة البنوك المركزية من العملات الصعبة. وقد تضاعف هذا الجزء من الاحتياطي الدولي ثلاث مرات خلال عشرين سنة، علمًا بأن البنك المركزي الألماني وبنك اليابان بذلا باستمرار الجهود من أجل الحد من انتشار عملتيهما عالميًّا حتى يتمكن كل منهما من الإبقاء على سيطرته على عملته. وبوسعنا أن نتصور ما كان سيحدث، ومدى ثقل كل من العملتين لو أن السلطات النقدية الألمانية واليابانية انتهجت سياسة أكثر مرونة.
على أن هذا الوزن الحقيقي الذي أصبح ضخمًا، يواكبه ما يمكن أن نسميه «الوزن السيكولوجي». والواقع أن العملتين تتمتعان فعلًا بوضع العملة الصعبة، دون التقيد في هذا الصدد بالشكليات. فالرأي العام يرى أن الأرصدة من الماركات، وأيضًا من الينات — ولو بدرجة أقل — تعني قيمًا مضمونة اقتصاديًّا. وهكذا تحول البلدان تدريجيًّا إلى مركزين لمنطقة نقدية جغرافية تدور في فلكها عملات البلدان المجاورة لها.
صاحب الجلالة المارك
-
(١)
تحجيم تقلبات أسعار العملات التي تلحق الضرر بالتبادل في إطار السوق الأوروبية المشتركة.
-
(٢)
فرض انضباط مشترك على كل بلد من البلدان الأعضاء التي سيتعين عليها انتهاج سياسة اقتصادية تتمشى مع ما التزمت به فيما يتعلق بمعدلات التبادل.
وقد تم التوصل إلى ذلك الهدف المزدوج، ومما لا شك فيه أن النظام النقدي الأوروبي حقق نجاحًا لا يمكن إنكاره. وبالطبع تطلب الأمر إجراء بعض التعديلات، ولكن بوسعنا أن نقول إن العملات ظلت ثابتة نسبيًّا في علاقة كل منها مع الأخرى في حدود هذا النظام. وفيما يتعلق بالانضباط الاقتصادي الذي التزم به كل بلد عضو، نذكر على سبيل المثال «التحول الصارم» الذي قررته الحكومة الاشتراكية الفرنسية في عام ١٩٨٣م، وكان قد أملاه أساسًا العزم على البقاء في إطار النظام النقدي الأوروبي، واحترام قيوده وإنقاذ الفرنك.
ومع ذلك فإن ألمانيا هي التي حققت أكبر كسب من النظام النقدي الأوروبي. كيف؟ هناك على الأقل ميزتين حصلت عليهما ألمانيا:
-
(١)
فقد أكد المارك أكثر فأكثر خلال كل تلك السنوات مركزه كعملة مرجعية في أوروبا. فكل العملات الأخرى في إطار هذا النظام النقدي الأوروبي يتم تعديل أسعارها بالرجوع إليه. وهكذا فإن السياسة النقدية لكل دولة تجد نفسها شاءت أم أبت، مقيدة إلى حد كبير بسياسة شريكها الألماني. ففي فرنسا مثلًا يراقب البنك المركزي يوميًّا، بل وساعة بعد ساعة أسعار التبادل بين المارك والفرنك. وعندما يتبين له أن الفارق بينهما كبير فإنه يتصرف فورًا على هذا الأساس. كما تفعل البنوك الأوروبية الأخرى نفس الشيء. وعليه يضطر في أغلب الأحوال جيران ألمانيا في الوحدة الاقتصادية الأوروبية إلى اقتفاء أثرها كلما قررت رفع معدل الفائدة لديها. كما أن تحقيق الوحدة الاقتصادية والنقدية الأوروبية، وهي مرحلة أساسية نحو تحقيق الوحدة السياسية الأوروبية يخضع إلى حد كبير لإرادة الألمان. وليس من باب المصادفة أن الأوروفد (EUROFED)، البنك المركزي الأوروبي المزمع إقامته في المستقبل يستعير أغلب هياكله وقواعد إدارته من البنك المركزي الألماني. وهو شرط فرضته ألمانيا لكي توافق على الوحدة النقدية.
-
(٢)
أما الميزة الثانية، فهي قدرة ألمانيا على الحفاظ على معدلات فائدة منخفضة نسبيًّا، نتيجة لقوة عملتها. فالإقبال الشديد على المارك في أنحاء العالم بسبب مكانته، لا يدعو بون إطلاقًا إلى رفع فائدة عملتها لاجتذاب رءوس الأموال الأجنبية. وهذا العامل إضافة إلى معدل التضخم المنخفض الذي يوفر للمارك قوة شرائية ثابتة، يفسر لنا كون معدلات الفائدة الألمانية أقل مما هي في الخارج. وعلى سبيل المثال، كان الفارق مع فرنسا ١٫٥ بنط في نهاية عام ١٩٩٠م وما بين ٦ و٧ أبناط مع بريطانيا. ومن السهل أن نتصوَّر أي مكسب كبير تحققه من ذلك المنشآت أو العائلات الألمانية التي ترغب في الاقتراض.
«القاعدة الخلفية» النقدية
وهناك ظواهر مماثلة في اليابان، حتى وإن كانت بدرجة أقل نظرًا لأن هذا البلد لا ينتمي إلى أي نظام تبادل ثابت. ففي طوكيو أيضًا يظل الين مقدرًا بأقل من قيمته، ومعدلات الفائدة منخفضة والنفوذ الياباني على الساحة الاقتصادية يتزايد. أما سويسرا البلد الصغير فلديها هي أيضًا عملة تحسدها عليها البلدان الأخرى. فالفرنك السويسري لا يزال العملة الاحتياطية الرابعة في العالم. فقد نشأ هذا الفرنك في نفس الوقت مع الفرنك الجرمينال الذي تم سكه في بداية القرن الثامن عشر، في إطار الإصلاح المالي، ولكن قيمته لم يتم قسمتها بأكثر من ٣٠٠، كما حدث مع قرينه الفرنسي! وجدير بالذكر أن معدلات الفائدة السويسرية هي من بين أقلها في العالم.
في كل هذه البلدان: ألمانيا، واليابان، وسويسرا … تشكِّل العملة المتينة قوة رادعة حقًّا. فهي تؤمن لرجال الصناعة ما يشبه «القاعدة الخلفية» المنيعة التي تنطلق منها الهجمات الاقتصادية التي يصعب تحجيمها.
والعملة القوية تسمح بالشراء من الخارج بأسعار أقل. ومن المعروف أن اليابانيين لا يحرمون أنفسهم من تلك الميزة، فيشترون في الولايات المتحدة وأوروبا أحسن الشركات الصناعية وأجمل العقارات. وتتوفر لدى الألمان نفس القدرات الشرائية. ولم يندهش أحد عندما تمكنت فولكس فاجن من تقديم عرض يفوق بدرجة كبيرة ما عرضته رينو لشراء مصانع سكودا التشيكية للسيارات. والمنشآت السويسرية التي لا تقل ديناميكية وقوة، بدءًا بالعملاقين نستله وسيبا-جيجي، تستثمر مليارات الدولارات في الولايات المتحدة.
وجميع تلك الاستثمارات في الخارج لها هدف أو عواقب. فهي تمكِّن البلدان الراينية من التحكم في أسواق التصدير. والاستراتيجية اليابانية في صناعة السيارات مثال واضح في هذا الصدد. فتحت تهديد ميول الكونجرس الأمريكي الحِمائية، لجأت شركات صناعة السيارات اليابانية إلى نقل مصانعها إلى أمريكا أو بريطانيا لتنتج سياراتها محليًّا. وقد أنتجت في عام ١٩٩٢م في الولايات المتحدة وحدها حوالي مليوني سيارة، أي ١٦٪ من إنتاج المصانع الأمريكية، وهذا «تحدي أمريكي» معكوس.
وبصفة عامة تفضل المنشآت من النوع الرايني عدم اللجوء في سياستها الاستثمارية الخارجية إلى عمليات الاستيلاء العنيفة أو المعتمدة على المضاربة. فهي تستقر في الخارج بالتدريج وبطريقة منهجية، وتقيم فروعها وفقًا لأساليبها وثقافتها وتحت قيادتها. وتنتج عن ذلك أحيانًا مشاهد طريفة وإن كانت تكشف عن مضمونها. ففى نورمانديا مثلًا، يؤدي العمال والمستخدمون الفرنسيون كل صباح تمارينهم الرياضية بكل دقة على الطريقة اليابانية قبل بدء يوم العمل. إنهم العاملون في مصنع أكاي حيث تم بالطبع تطبيق تقنيات الإدارة اليابانية … ويحقق ذلك نتائج مسلَّم بها ومدهشة أحيانًا. ففي الولايات المتحدة، حيث توجد نفس الظاهرة، نجح اليابانيون في خلق «مناخ» ياباني في فروعهم الأمريكية، مما مكَّنهم من تحسين الإنتاجية بنسبة ٥٠٪ بالمقارنة مع المصانع الأمريكية المقابلة. ولو تمعنا في الأمر لوجدنا أن هذه اللقطة لها دلالتها أيضًا لسبب آخر. فحرص هذه الشركات على تعزيز وضعها يعني أن الهدف من تلك الاستثمارات في الخارج ليس شراء أصول لبيعها في أقرب فرصة مع تحقيق ربح فوري.
وهذه الاستراتيجية شديدة الفعالية، فالتغلغل التدريجي للمنشآت من الطراز الرايني يعتمد على قاعدة مالية متينة وقوية. ويحقق لها ذلك ميزتين رئيسيتين:
-
(١)
يتم كسب السوق بشكل ثابت. فبعد عدة سنوات من الاستقرار، يصبح المستهلكون معتادين على العلامة التجارية والمنتج والمنشأة. وفي المقابل يتوفر لدى المنشأة نفسها عاملون ومواقع للإنتاج وشبكات توزيع، مألوفة لديها.
-
(٢)
يصبح من الصعب اتخاذ إجراءات حِمائية ضد هذه المنشآت التي استقرت. بل هل يمكن اتخاذ تلك الإجراءات؟ هذا هو الخلاف القائم بين الأوروبيين واليابانيين بخصوص «مصانع التجميع» التي يريد هؤلاء أن يقيموها في الوحدة الاقتصادية الأوروبية ليتعاملوا مع سوقها بلا قيود.
أما العوائد التي تستخلصها البلدان الراينية من استقرار عملاتها وقوتها المالية، فهي التوسع الدولي والنفوذ الاقتصادي والسياسي. غير أنها ليست العوائد الوحيدة.
فضائل دائرة العملة القوية
هذا التعبير الشائع لدى رجال الاقتصاد يشير إلى كافة الآثار الإيجابية المترتبة على حيازة بلد ما عملة قوية. وقد تبدو تلك الآثار مفارقة. فقد يميل المرء إلى الاعتقاد في الوهلة الأولى أن العملة القوية تشكل عائقًا اقتصاديًّا لأنها تجعل تكلفة المنتجات القومية أكبر في الخارج، مما يجعل التصدير أصعب. والبلدان التي تضحي بتخفيض قيمة عملاتها «لتنشيط» صادراتها تعلم ذلك تمامًا. ألن يكون من المنطقي إذن أن نتكلم بالأحرى عن «فضائل دائرة العملة الضعيفة»؟ قد تبدو تلك الملاحظة مجرد نادرة من النوادر. وهذا ليس صحيحًا. فالمسألة تتحكم في الواقع في أغلب الرهانات الدولية خلال التسعينيات، ولذا فهي تستحق بالتالي أن تعالج باختصار.
بماذا تفيدنا النظرية الاقتصادية بخصوص خفض قيمة العملة؟ إنها تسفر فورًا عن أثرين معروفين تمامًا بالنسبة للميزان التجاري: فالواردات تصبح أغلى بالعملة الوطنية، بينما تنخفض أسعار المنتجات المصدرة لقاء العملات الأجنبية. ويؤدي ذلك منطقيًّا إلى وضع يمر بمرحلتين:
-
(١)
في المدى القصير للغاية، يتأثر الميزان التجاري بشكل سلبي؛ إذ يجب أن يدفع فورًا ثمن المستوردات المرتفعة الثمن، بينما لم يدرك بعد المشترون الأجانب أن الصادرات الموجهة إليهم أصبحت أرخص. والمدة التي يستغرقها رد الفعل تكون في صالح اتجاه واحد لا الاتجاه الآخر، ويعاني الميزان التجاري من ذلك.
-
(٢)
غير أن الميزان يستقيم في المدى المتوسط. فالبلاد تشتري كمية أقل من المنتجات الأجنبية التي ارتفع ثمنها وتتحسن صادراتها في الوقت نفسه. ويتم ذلك عادة بسرعة، وتؤدي آثاره إلى تعويض التدهور الأصلي. وعليه يكون من الممكن فعلًا تعزيز الوضع الاقتصادي الدولي في البلد المعني.
وهذا خطأ. فهذا المنحنى البديع الذي يبدو وكأنه ينطلق نحو المستقبل المشرق بفوائضه التجارية لم يعد يفي بوعوده. وهذا البناء الرائع لم يعد يصمد أمام تجارب الواقع ولا حتى أمام النقد النظري. أما الواقع فهو يثبت أن ألمانيا (قبل التوحيد) واليابان، وهما من البلدان ذات العملة القوية، لا يكفان عن تكديس الفوائض التجارية. ولكن فرنسا وإيطاليا، اللتان كثيرًا ما لجأتا على العكس إلى تخفيض قيمة العملة، لا تتوصلان إلى تحسين رصيدَيهما التجاري بشكل ثابت. أما الولايات المتحدة، فمن المعروف للجميع أن الانخفاض المنتظم لقيمة الدولار منذ عام ١٩٨٥م لم يؤدِّ إلى تحسين مبادلاتها الخارجية. كيف كان ذلك ممكنًا؟ وكيف يمكن أن يكذِّب الواقع بهذا الشكل المدهش تلك الآلية التي تبدو في غاية الدقة على الورق؟
أولًا، في حالة تخفيض قيمة العملة، لا يوجد ما يثبت أن أسعار الواردات يزيد وأن أسعار المنتجات المصدرة ينخفض بنفس نسب تخفيض قيمة العملة. فقد يتخذ المستوردون والمصدرون في الواقع سلوكيات تسير في عكس اتجاه الآثار المتوقعة. فمن الممكن مثلًا أن يستغل المصدرون العلاوة التي حصلوا عليها لكي يرفعوا أسعارهم. أما المستوردون، فلا يستبعد أن يفضلوا القبول بتضحيات في الأسعار لكي يحافظوا على نصيبهم في السوق من هذا المنتج أو ذاك. وهذا ما حدث تقريبًا في فرنسا خلال سنوات ۱۹۸۱–۱۹۸۳م، فقد استغلت المنشآت الفرنسية تخفيض قيمة الفرنك لترفع أسعارها وعوضت بذلك الأعباء الإضافية التي فرضتها عليهما الإجراءات الاشتراكية، بينما ضغط المستوردون أسعارهم لكي لا يفقدوا زبائنهم.
وثانيًا، كثيرًا ما يؤدي خفض قيمة العملة إلى ما يسميه المنظرون «التضخم المستورد». فارتفاع أسعار الواردات ينعكس على مجمل المنتجات. وتلك هي الحالة بالطبع فيما يختص بالبترول والمواد الأولية والمعدات. وفي المدى الأبعد يتم الرجوع إلى نقطة البداية، وذلك في أحسن الأحوال، وإلى تسريع التضخم في أسوأ الأحوال. وعندئذٍ لا تجد الحكومة أمامها أي ملجأ آخر إلا ترك عملتها تنخفض من جديد لكي تنقذ ما يمكن إنقاذه. وهكذا يتراكم العجز تباعًا.
وثالثًا، لكي يفيد خفض قيمه العملة حقًّا في رفع التصدير، يتعين أن تكون لدى المنشآت القدرة، وبالأخص الإرادة اللازمة لكسب أسواق جديدة، وإلا ما أمكنها الاستفادة من الفرصة التي أتيحت لها، ولا تم التقويم المنتظر للميزان التجاري. وليس ذلك مجرد افتراض نظري. فعلى سبيل المثال، فإن قصور الصناعات الأمريكية حال منذ عام ١٩٨٥م دون استفادتها من انخفاض قيمة الدولار واستعادة الأسواق التي فقدتها واستفاد منها اليابانيون والأوروبيون.
والاستنتاج الذي يمكن التوصل إليه من كل ما جاء هو بكل بساطة: هبوط قيمة العملة ليس علاجًا، بل مخدر خفيف يتم التعود عليه. وهو خطر لأنه لا يعفي من يدمنه من مواجهة جوانب ضعفه الحقيقية. فهو أشبه بالإكسير السحري الذي ينتج آثارًا عابرة تعطي الإحساس الوهمي بالتحسن. وهو بداية لحلقة مفرغة يعرف الفرنسيون تمامًا مصيرها المحتوم، فقد ظلوا أسرى له من عام ١٩٧٠م إلى عام ۱۹۸۳م.
وعلى العكس قد تبدو استراتيجية العملة القوية من النظرة الأولى صعبة وقاسية، إن لم نقل ضربًا من البطولة. فهي تشكِّل تحديًا ترهبه المنشآت التي ستتضرر بذلك صادراتها، بينما قد تأتي المنتجات الأجنبية الأرخص لتنافسها في عقر دارها. كما أن هذه الاستراتيجية تشكِّل أيضًا تحديًا بالنسبة للبلاد نفسها؛ إذ قد يتم ذلك التشدد النقدي على حساب ميزانها التجاري. غير أن التحديات لها جوانبها الطيبة في الاقتصاد وفي غيره، فهي تسهم في تعبئة الجهود، وتحول دون الاستسلام للسهولة، وتبشر بوعود. ولنلاحظ على أي حال أن «استراتيجية العملة القوية» هذه متبعة من جانب البلدان التي تفوقت: ألمانيا، واليابان، وسويسرا، وهولندا … وليس ذلك مجرد صدفة.
فالعملة القوية لا تُمَكن فقط من الإفلات من العواقب الضارة لتخفيض قيمة العملة، والتي أوردناها، بل إنها تضمن مزايا ثمينة في المدى الطويل.
كما أن العملة القوية تدفع بعد ذلك المنشآت على التخصص في إنتاج السلع ذات المستوى الراقي التي تتميز عن غيرها لا من حيث السعر حقًّا، ولكن من حيث النوعية والابتكار والخدمة بعد البيع. فكل الأشياء التي تتطلب بذل الجهود المتواصلة في مجال البحث، تكون مجزية للغاية بالنسبة للمنشأة. والآلات الألمانية مثال جيد في هذا السياق. فهي مرتفعة الثمن، ولكنها أفضل ما يتوفر في الأسواق. كما أن ديملر-بنز وبي. إم. في اللتان تخصصتا في صناعة السيارات الفاخرة تتمتعان بصحة جيدة. (فمنذ عام ١٩٨٩م، أصبحت القيمة الإجمالية للسيارات التي باعها الألمان لليابانيين أكبر من قيمة السيارات اليابانية المباعة في ألمانيا، وهو إنجاز لا يمكن التغاضي عنه!).
ألا يوجد ما يدعو إلى أن نلاحظ بالمناسبة، أن هذين البلدين اللذين كانا قبل عام ١٩٤٠م موطني السلع الرديئة الصنع، أصبحا الآن مشهورين بكونهما بطلا الصناعة الراقية؟ أوليس ذلك دليلًا جديدًا على وجود نموذج ألماني-ياباني في تحويل طاقته الحربية السابقة إلى استبسال في الغزو الصناعي عن طريق الانضباط النقدي؟
فالطريق الوعر — بصفة عامة — الذي تسلكه العملة القوية، والذي يتطلب جهودًا، ومثابرة، وقدرة على الإبداع، هو خير وسيلة للتفوق وعدم التراخي، وهكذا، فإن دائرة العملة القوية الفاضلة تكون حقًّا مجزية.
وقد تبدو كتابة هذا الاستنتاج الآن مجرد تحصيل حاصل. حسنًا! ولكن يجب ألا يُنسينا ذلك، أن العقول الراجحة، التي تذخر بها فرنسا، أوضحت طوال جيل، أن تحويل الفرنك الفرنسي إلى عملة قابلة للذوبان، يتم تخفيض قيمتها كل سنتين، هو الإجراء الأكثر فعالية لتحقيق التنمية الاقتصادية. وتوصلت مفاهيمهم الكينزية المزعومة حتى عام ١٩٧٢م إلى الاستهزاء «بالصرامة الغبية» التي جعلت هؤلاء الألمان المتثاقلين يحرمون أنفسهم من راحة التضخم المحسوب لتسريع التنمية الاقتصادية.
ولقد حاربت طوال خمس سنوات، إلى جانب ريمون بار، من أجل قضية العملة القوية التي طال الحط من قدرها وتشويه سمعتها. وانتصرت هذه القضية عام ۱۹۸۳م، بعد أن ساندها تباعًا وزراء المالية: جاك ديلور، وإدوار بالادور، وبيير بريجوفوا. ومما لا شك فيه أن المثال الذي قدمه النموذج الرايني لفرنسا هو خير هدية نالتها فرنسا.
أسلحة القوة الحقيقية
منذ عدة سنوات أصبحت إنجازات الاقتصاديات الراينية تحتل مركز الصدارة في صحفنا. والاحتفاء الذي لا يكل ولا يمل بهذا النجاح يستخدم كمقابل لاذع للمصاعب المتزايدة التي تصادفها الاقتصاديات الأنجلو-ساكسونية، أسيرة العجز والتضخم. ولذا تطرح الصحف باستمرار ذلك السؤال المنطقي تمامًا: كيف يتصرفون؟ وما هي الأسلحة الحقيقية لتلك القوة؟ وأنا أحاول الإجابة على هذا السؤال بالذات على صفحات هذا الكتاب. ولكن لنضف هنا ملحوظة. إن قوة الاقتصاديات تعتمد قبل كل شيء على قدرة صناعية فريدة وعدوانية تجارية عنيدة.
وصناعة البلدان الراينية هي أفضلها في العالم. وهذا واقع لا يمكن إنكاره، وله وزنه. فنصيب الصناعة النسبي في اقتصاد ألمانيا أو اليابان أو السويد أكبر مما هو في بقية بلدان منظمة التجارة والتنمية الاقتصادية. وهو يمثل حوالي ٣٠٪ من إجمالي الدخل القومي ومن اليد العاملة في الحالة الأولى وأقل من ٢٥٪ في الحالة الثانية. ونصيب الصناعة في الولايات المتحدة أقل من ٢٠٪. وإلى جانب الأرقام، هناك النوعية كما سبق أن ذكرنا. والبلدان الراينية تسيطر على أغلب القطاعات الصناعية، فهي متأصلة بقوة في الفروع التقليدية، وتكرس جهودًا استثنائية لصناعات المستقبل. فهناك أغلبية كبيرة من البلدان الراينية متواجدة في المنشآت العالمية العشرة الأولى في قطاعات الصلب والسيارات والكيمياء والنسيج وبناء السفن والكهرباء والزراعات الغذائية، سواء كانت يابانية أو ألمانية أو هولندية أو سويسرية (تويوتا، نيسان، دملر-بنز، ميتسوبيشي، باير، هوكست، باسف، نستله، هوفمان لاروش، سييمنز، ماتسوشيتا … إلخ).
على أن هذه البلدان أقل قوة بالطبع من الأمريكيين في قطاعات المستقبل التي لا يزالون مسيطرين عليها. ولكن إلى متى؟ فقد حققت الصناعات اليابانية والألمانية في مجالات الملاحة الجوية والمعلوماتية والإلكترونيات والبصريات، تقدُّمًا مدهشًا. ففي مجال المعلوماتية مثلًا، الذي يظل حقًّا مجالًا للتفوق الأمريكي (سبع منشآت أمريكية من بين المنشآت العشر الأولى) بدأ التغلغل الياباني يثير قلق واشنطن. فقد أصبح اليابانيون متمكنين بالكامل تقريبًا في الأطراف (الشاشات، الأقراص، الطابعات) وغدوا شبه محتكرين للذاكرات والمكونات. فالعقول الإلكترونية لا تزال أمريكية، ولكن كل ما يوجد داخلها ياباني.
وتعتمد الدينامية الاستثنائية المميزة للصناعات في النموذج الرايني على عوامل ثلاثة رئيسية:
-
(١)
الاهتمام الخاص بالإنتاج. فالألمان واليابانيون والسويسريون والسويديون يعملون باستمرار على تحسين منتجاتهم، وتخفيض التكاليف مع زيادة الإنتاجية. وتتطلب تلك الجهود استثمارات متواصلة تُخصَّص للآلات والمعدات. والبلدان الأربع المذكورة أعلاه تتميز بمعدلات استثمار تعتبر من أعلاها بين بلدان منظمة التجارة والتنمية الاقتصادية. (ولنذكر بهذا الصدد أن اليابانيين الذين يقل حجم اقتصادهم مرتين بالمقارنة مع الولايات المتحدة، يستثمرون أكثر من الأمريكيين منذ عام ١٩٨٩م). وهذه السياسة المتبعة في الإنتاج والإدارة تعتمد على أساليب إدارة حديثة للغاية. «فحلقات النوعية» (اجتماعات لأفراد كل ورشة لدراسة واقتراح إمكانات تحسين الإنتاج وزيادة الإنتاجية)، و«المخزون صفر» (مصانع السيارات لا يوجد لديها عادة سوى مخزون مكونات السيارات يكفي ثلاثة أيام، بينما يتسلم سائقوها بانتظام مختلف المكونات من مقاولي الباطن ويسلمونهم بيانًا بالكمية المطلوبة في المرة التالية) الذي يستخدم حاليًّا في ستروين لإنتاج الطراز XM، والرينو ١٩. وهذه الأساليب تستدعي بالطبع مشاركة وذكاء كل الأفراد، كما تتطلب بالضرورة أن تكون القاعدة المتبعة حدًّا أدنى من التوافق والاستماع للقائمين بالعمل والإنصات لما يقترحون.
-
(٢)
وهذه الأساليب التي قطعت علاقاتها نهائيًّا مع التيلورية الكاريكاتورية لشارلي شابلن والأزمنة الحديثة، حيث كان كل عامل مجرد منفذ ميكانيكي لحركات متكررة، تفترض تكريس جهود خاصة للتأهيل، كما سبق أن قلنا (الفصل الخامس). ونظام التعليم المهني هذا، الذي يجمع بين التمرن والتأهيل المستمر، تخصص له البلدان الراينية مبالغ تصل إلى ضعف ما ينفق بهذا الخصوص في أي بلد آخر. غير أن هذا المجهود فعال، فلا يوجد أي نقص في عدد المهندسين سواء في ألمانيا أو اليابان. والتدريب من العوامل الرئيسية للديناميكية الصناعية في البلدان الراينية .
-
(٣)
مستوى جهود البحث والتطوير التي تبذلها المنشآت. وتلك أحد النقاط التي يتجلى فيها التباين الصارخ بين النموذج الأمريكي والنموذج الرايني. فلا مجال للمقارنة في مجال الاستثمار من أجل البحوث والتطوير، حيث إنه يبلغ عمومًا ٣٪ من إجمالي الناتج القومي في ألمانيا واليابان والسويد. كما أنه مخصص أولًا للبحوث المدنية وموجه نحو التكنولوجيات الأساسية المستخدمة في كل الصناعات. وعلى عكس ذلك تخصص الولايات المتحدة ٢٫٧٪ من إجمالي الناتج القومي للبحوث والتطوير، ولكن أكثر من ثلث تلك النسبة (١٪) مكرس لصناعة الأسلحة.
ولنلاحظ أن تحرك السلطات العامة في البلدان الراينية غزير للغاية. فالمساعدات التي تقدم من أجل البحوث والبرامج التكنولوجية المدنية تتطلب مبالغ هائلة. ووزارة التجارة الخارجية اليابانية تضع قائمة بعشرة برامج لها الأولوية يتعين على المنشآت الخاصة أن تعبئ جهودها حولها. ومن أشهر تلك البرامج ذلك المتعلق بالإنسان الآلي والذي بدأ العمل به منذ حوالي عشرين سنة، مما أتاح لليابان إمكانية تبوء مركز الصدارة على نطاق العالم في هذا المجال وإنتاج أعداد من الإنسان الآلي يزيد عما ينتجه مجموع شركائه في منظمة التجارة والتنمية الاقتصادية.
وحصيلة هذه العوامل مجتمعة تفيد بأن الدول الراينية تمتلك إذن أقوى صناعة. وتخدم قوة الإنتاج هذه بشكل خاص «قوة ردع» تجارية في غاية الفعالية. وعليه، فلا غرابة في مثل هذه الأحوال أن تكون البلدان الراينية بطلة التصدير. وظلت ألمانيا الأولى في هذا المجال لأمد طويل ولم تعد اليابان الآن تحسدها في شيء. فالدراسة المتأنية لقدرات الإنتاج تكشف مثلًا عن أن صادرات الصناعات الألمانية الرئيسية (السيارات، الكيمياء، والمنتجات الميكانيكية والإلكترونية) تشكل ٤٥٪ من رقم مبيعاتها في الخارج. أما في الولايات المتحدة فإن الجانب المخصص من إجمالي الناتج القومي للتصدير لا يتعدى ١٣٪، وتعاني الصناعات الأمريكية مما سماه معهد الخارج ماساشوستس للتكنولوجيا «التعصب المحلي».
وهكذا نجد الآن في كافة الأسواق العالمية شركة أو عدة شركات ألمانية ويابانية وسويسرية تزاحم الأمريكيين، وكذلك بعض الشركات الفرنسية والإنجليزية.
الثقافة الاقتصادية
عندما يراد استخدام كلمة واحدة لوصف مجموع السلوكيات الفردية التي يشارك فيها أكبر عدد من الأشخاص، وتساندها مؤسسات وقواعد معترف بها من الجميع، وتراث مشترك، فإنه يتعين أن نقول إننا بصدد «ثقافة». وهناك فعلًا ثقافة اقتصادية خاصة بالنموذج الرايني، يمكننا أن نذكر سماتها الرئيسية.
وقد اعتبر دائمًا كبار المفكرين الليبراليين أن معدلات التقدم ترتبط بالقدرة على الادخار. وهذه القدرة، التي تتوقف عليها معدلات الفائدة، مرتبطة هي أيضًا بعوامل ثقافية، وبإحساس جماعي قد يتغير حسب الظروف. وكان الاقتصادي إيرفينج فيشر قد ذكر أحد هذه العوامل في عام ١٩٣٠م في جامعة ييل فقال: «السبب الرئيسي في انخفاض معدلات الفائدة (وبالتالي زيادة المدخرات) هو حب الإنسان لأطفاله ورغبته في توفير الرفاهية لهم. وكلما بهتت تلك الأحاسيس، كما حدث في نهاية الإمبراطورية الرومانية، يميل نفاد الصبر ومعدلات الفائدة إلى الارتفاع، وعندئذٍ يصبح الشعار «بعدي الطوفان» ويتم تبديد المال بشكل محموم».
ودون أن ندعي استخلاص استنتاجات متعجلة بخصوص «حب الأطفال»، فلنلاحظ أن الادخار تطور بين عامي ۱۹۸۰ و۱۹۹۰، في اتجاهين متعارضين في البلدان الراينية والولايات المتحدة. فقد ارتفع في الحالة الأولى فانتقل من ٣١ إلى ٣٥٪ من إجمالي الناتج القومي في اليابان، ومن ٢٢ إلى ٢٦٪ في ألمانيا، بينما انخفض في الولايات المتحدة فهبط من ١٩ إلى ١٣٪ في نفس الفترة (المصدر: منظمة التجارة والتنمية الاقتصادية).
ولنلاحظ جيدًا هذا التعارض بين الرأسمالية المبذرة التي تعيش يومًا بيوم، والرأسمالية الحريصة التي تستعد اليوم للغد. وربما ارتبط ذلك بأهم القضايا الأساسية في نهاية هذا القرن وبأخلاقيات حضارتنا.
وبوسعنا أن نلاحظ أيضًا أن هناك إدراكًا من جانب كل الأهالي لأهمية الاقتصاد ويخلق ذلك مناخًا عامًّا يحقق التعبئة المدنية ولا يمكن إنكاره. ويسخر البعض أحيانًا سلوك اليابانيين الذين يتعقبون تلقائيًّا أي معلومات قد تفيد منشآتهم، وذلك عندما يسافرون خارج البلاد. ويرى البعض أنه نوع من الجاسوسية الصناعية «الملطفة»، بينما يجب أن ننظر إلى هذا السلوك باعتباره عقلية خاصة وإخلاصًا للمنشأة. وهو ما لا يعوز الألمان أيضًا. وهذا الاهتمام من جانب الجمهور بالاقتصاد القومي تنميه مؤسسة معينة وترعاه وتنسقه. ففي ألمانيا مثلًا، تقدم البنوك بشكل منتظم لعملائها تحليلات اقتصادية متنوعة وكاملة. وفي اليابان تجمع وزارة التجارة الخارجية والبيوت التجارية من كافة أنحاء العالم المعلومات التي قد تكون مفيدة بالنسبة للمنشآت. وبصفة عامة تبذل المنشآت جهودًا متواصلة ومنتظمة لتحليل ما يدور في الخارج، وخاصة في معامل البحوث عند المنافسين. فكيف يمكن نعت حب الاستطلاع هذا اليقظ والانفتاح على الخارج إلا بأنه «ثقافة اقتصادية»؟
ومما لا شك فيه أن هذه «الثقافة» المشتركة تفسر لنا الطريقة التي حررت بها هذه البلدان اقتصادياتها من الحتميات الاقتصادية أو السياسية المعروفة. فتداول الأحزاب للسلطة السياسية الذي يتطلب نفقات إضافية قبل الانتخابات، والعودة فورًا إلى المزيد من الصرامة شبه مستبعدين. فالبنك المركزي في كل من ألمانيا وسويسرا يتمتع مثلًا باستقلال كامل تقريبًا إزاء السلطة السياسية، وهو ما يؤمن له، رغم كل شيء، وضعًا نقديًّا مستقرًّا، حتى أن الوثيقة التأسيسية للبنك المركزي الألماني تملي هذا الواجب على قادته. ومشروع القانون الرامي إلى تعزيز استقلالية بنك فرنسا، الذي قدمته حكومة بلادور، مستوحى في جانب كبير منه من الحلول التي تبنتها ألمانيا الاتحادية، ومنها تشكيل مجلس للسياسة النقدية لا يجوز عزل أعضائه، وتعيين المحافظين ومساعدي المحافظين لمدد طويلة مع عدم جواز عزلهم هم أيضًا، والتخلي عن علاقة التبعية بين بنك فرنسا والخزينة الفرنسية. وتتمتع مؤسسات التنبؤ الاقتصادي الكبرى في ألمانيا هي أيضًا بنفس الاستقلالية، وتعتبر الإحصائيات التي تصدرها مرجعًا مسلمًا به سواء بالنسبة للحكومات أو أرباب العمل أو العاملين.
وهذه «الثقافة» تفسر لنا أيضًا الطريقة التي تخضع بها السلطات العامة سياستها للحرص الدائم على تعزيز الوضع الدولي للاقتصاد. «فالجابان انكوربوريتد» هي التي جعلت من اليابان مؤسسة هائلة منطلقة لكسب الأسواق الدولية.
كما تفسر لنا نفس تلك «الثقافة» الوضع الخاص والمتميز الذي تتمتع به المنشأة في النموذج الرايني. فهي لا تعتبر أبدًا مجرد لقاء مؤقت بين مصالح متلاقية ولا أداة للتدفقات النقدية، بل ينظر إليها كمؤسسة ورابطة ثابتة يتعين حمايتها، على أن تتكفل هي بدورها بحماية أعضائها.