التفوق الاجتماعي للنموذج الرايني
لنلاحظ أولًا أن هذا التعبير به لبس. فلا يمكننا أن نتكلم عن «التفوق الاجتماعي» بنفس الطريقة التي نتحدث بها عن «التفوق الاقتصادي»، وذلك لسبب بسيط وهو أن أغلب المعايير هنا لا يمكن تحديدها بالكم. فالإنجازات الاجتماعية التي يحققها نموذج اقتصادي ما، لا تقدر فقط بالرسم البياني أو إحصاءات أو مؤشرات أو نسب مئوية. فكل حكم على المزايا الاجتماعية في هذا البلد أو ذاك ينطوي على معاملات ذاتية هامة. ونوع المجتمع المعني، والقيم المشتركة بين أهالي البلد، والتنظيم الاجتماعي (أو الأسري)، كل ذلك يؤدي إلى تشوهات يعرفها تمامًا رجال الاقتصاد. ولذا علينا أن نتقدم بحذر في هذا الحقل …
كيف يمكننا أن نحدد رغم كل ذلك بعض معايير المقارنة المعبرة حقًّا؟ أقترح ثلاثة معايير تتميز بالبساطة والوضوح:
-
(١)
درجة الأمن التي يوفرها كل نموذج لمواطنيه. والطريقة التي تتحقق بها حمايتهم من المخاطر الكبرى: المرض، والبطالة، واختلال التوازنات العائلية … إلخ.
-
(٢)
الحد من ضروب عدم التساوي اجتماعيًّا، والطريقة المتبعة لتصحيح حالات الحرمان الصارخة، وحجم ونوعية المساعدة المقدمة للمعدومين.
-
(٣)
الانفتاح، ويقصد به مدى الإمكانية المتوفرة بحد أو آخر للارتقاء إلى مختلف المراتب الاجتماعية والاقتصادية.
وهناك حقيقة واضحة تفرض نفسها من الوهلة الأولى: ففي المجالين الأول والثاني يتغلب النموذج الرايني بكل جلاء على النموذج الأمريكي الجديد. وأقول هنا الأمريكي الجديد، لا الأنجلو-ساكسوني. فبريطانيا مختلفة في الواقع عن الولايات المتحدة في المجال الاجتماعي، إذ إنها تتبع منذ أمد طويل نظامًا للتأمين الاجتماعي غير متواجد أصلًا في أمريكا.
وإذا تركنا تلك التحفظات جانبًا، سنجد أن المقارنة بين النموذجين محتفظة بقيمتها، خاصة وأن التفوق الاجتماعي في النموذج الرايني لا تصحبه، كما هو معتقد في الكثير من الأحوال، أي تكاليف مرتفعة تلحق الضرر بقدرة الاقتصاد على المنافسة. والعدالة الاجتماعية لها بالطبع ثمن، ولابد أن تمولها الموارد العامة. ولكن الذين يعتقدون أن هذه النفقات لا يمكن إلا أن تكون على حساب الاقتصاد مخطئون. وسنرى، على العكس أن القدرة على المنافسة يمكن أن تتمشى مع التضامن الاجتماعي.
صحة ليست في متناول اليد
هناك واقعتان بليغتان. أورد أولهما الصحفي الفرنسي جان-بول ديبوا (نوفيل أوبسر فاتير). وقد حدث ذلك في مركز ديد الطبي بميامي (ولاية فلوريدا). فهناك رجل يعاني من مرض خطير إلى حد ما منذ ثلاثة أيام، وقد ارتفعت درجة حرارته. ولما كان اليوم يوم أحد وجميع العيادات الطبية مغلقة، فقد توجه إلى مستشفى يقع في لوجون بولفار. وقد حولوه هناك إلى قسم الطوارئ حيث سألته العاملة في مكتب الاستقبال عن اسمه وطلبت منه دفع ۲۰۰ دولار مقدمًا قائلة: «إنها كفالة تحت الحساب. فإذا لم يودعك الطبيب في المستشفى، فلن تدفع سوى ثمن الاستشارة ونرد إليك الباقي». وقد أوضح لها أنه لا يملك ذلك المبلغ، فأبدت له أسفها قائلة له إنه يتعين عليه أن يبحث عن مكان آخر.
أما الحادثة الثانية، فقد جرت في مدينة صغيرة على الشاطئ الشرقي. وهي تتعلق بمستخدم في منشأة محلية يعاني آلامًا مبرحة من الأسنان، وهو يتساءل ما إذا كان سيتوجه إلى طبيب الأسنان. فلو توجه إليه فسيتعين عليه بالضرورة أن يخلع السنة التي تؤلمه. لماذا؟ هل أطباء الأسنان الأمريكيون عاجزون عن تقديم علاج آخر؟ لا، ولكن الرجل ليس لديه تأمين طبي شخصي، وتركيب سنة أخرى يفوق طاقة ميزانيته: ولذا لا يوجد أمامه سوى حلين: أما أن يفقد سنته أو أن يتحمل آلامه.
والمثلان لا غرابة فيهما. وهما يتفقان مع ما سبق أن أوردناه بخصوص «ازدواجية» المجتمع الأمريكي (انظر الفصل الثاني). ولكنهما يوضحان أنه لا يوجد في الولايات المتحدة نظام عام للرعاية الاجتماعية. فالنفقات العامة المخصصة للصحة تقل نسبيًّا مرتين عن مثيلتها في البلدان الغربية الكبرى. فلا وجود للتأمين الطبي الإجباري فيما وراء الأطلنطي. وعلى كل فرد أن يعتمد على تأمين فردي حسب موارده، ويقدر عدد الذين لا يتمتعون بأي تأمين من هذا النوع ﺑ ٣٥ مليون نسمة.
وعليه، فإن النظام الاجتماعي في النموذج الأمريكي الجديد غير كافٍ وناقص بكل وضوح. وهو يعاني فضلًا عن ذلك من عائقين معروفين تمامًا:
-
(١)
لوثة الإجراءات القانونية التي مست الطب في الصميم (انظر الفصل الثاني). فالصحف تشير يوميًّا إلى الغرامات الهائلة التي يحكم بها على أطباء وإخصائيي تخدير، وأطباء أسنان نتيجة شكاوى مرضى حرضهم على تقديمها محامون تخصصوا في اصطياد نسبتهم من التعويض. وقد أصبح من الجارية فعلًا في الولايات المتحدة أن يستشير الشخص محاميه قبل أن يتوجه إلى طبيب أو المستشفى. وفي المقابل يكون أول شخص يقابله المرء في المؤسسات الصحية في الكثير من الأحوال محامي الأطباء أو المستشفى. وهكذا يتخذ أبسط علاج يتلقاه المرء صبغة حرب عصابات قانونية، لا تدعو نتائجها إلى الاغتباط. ولذا يتعين على الأطباء والعيادات أن يؤمنوا أنفسهم ضد احتمالات رفع قضايا تعويض من جانب عملائهم، وعليهم أن يجدوا شركات تأمين مستعدة لذلك، أو أن يخصصوا اعتمادات كبيرة لمحاميهم. وبالطبع ترتد كل هذه النفقات على تكاليف العلاج التي تصبح مستعصية بالنسبة للكثيرين.
-
(٢)
وعلى عكس ما قد نتصور فإن نظام التأمين الاجتماعي الخاص ليس أقل تكلفة اقتصاديًّا بالمقارنة مع نظم التأمين الجماعية في أوروبا. ففى الواقع تبلغ نفقات الصحة في الولايات المتحدة ١١٪ من إجمالي الناتج القومي. وهي أعلاها في العالم. ومن المفارقات حقًّا أن من بين بلدان منظمة التجارة والتنمية الاقتصادية تنفق بريطانيا، وهي بلد الرعاية الاجتماعية الشاملة والمجانية، أقل من ٧٪ من إجمالي دخلها القومي في مجال الرعاية الصحية.
مظلات التأمين الراينية
تأسست التأمينات الاجتماعية في ألمانيا على يد بيسمارك. وكان اللورد بيفريدج أشهر من سار على دربه؛ إذ إنه أقام النظام الصحي القومي المعروف في بريطانيا. وقد بدأ تعميم الرعاية الاجتماعية في عام ١٩٤٦م في فرنسا بالاعتماد على مبدأ مماثل في هذا المجال، حيث يطبق حاليًّا نظام التأمين ضد المرض على ٩٩,٩٪ من القادرين على العمل، وعلى هذا النمط، لا يتمتع بالرعاية الاجتماعية سوى قطاع ضئيل من السكان، في بلدان أخرى مثل ألمانيا، والسويد، وسويسرا، واليابان.
والألمان مؤَمَّنون على نطاق واسع ضد المخاطر الرئيسية (المرض، وحوادث العمل والبطالة) ويتمتعون بنظام تقاعد مجزي للغاية. ووضع السويد، وطن الاشتراكية الديموقراطية، مماثل. فالمواطنون يتمتعون هناك بنفس الرعاية المتوفرة في ألمانيا، وتتم مساعدة العاطلين عن العمل بواسطة نظم فعالة تتضمن برامج تدريب وتأهيل. أما التأمين الصحي في اليابان فهو من أسخي التأمينات حقًّا في العالم؛ إذ إن العلاج الطبي هناك مجاني بالكامل ومعمم بالنسبة للجميع.
وعلى أي حال فمن الواضح أن البلدان الراينية تعرف عمومًا كيف تجمع أحسن، من غيرها، بين العدالة الاجتماعية، والتكفل الجماعي بالنفقات، وفعالية الإدارة. وهذا الاستعداد الخاص يعتمد على مجموعة من القيم والأولويات ليست نفس القيم والأولويات في أمريكا. ففكرة المسئولية الجماعية مثلًا متأصلة بعمق في العقلية العامة وتضمها المنظمات السياسية والنقابية في اعتبارها، ويواكبها الانضباط الذاتي الملحوظ بدرجة أكبر مما نتصور أحيانًا. وبالطبع هناك حالات غش وتجاوزات وبطالة كاذبة وميل الإفراط في الاستهلاك الطبي. ولكن يظل الناس مدركين عمومًا للمخاطر التي قد تنجم عن المطالبة بالرعاية الاجتماعية بإسراف شديد. ففي اليابان مثلًا حيث كبر السن أصبح مسألة مقلقة، تم وضع برنامج لتأجيل سن التقاعد. ولنفس هذه الأسباب رفض المواطنون في سويسرا عن طريق استفتاء عام تقديم سن ٦٥ سنة إلى ٦٢سنة، وذلك بأغلبية ٦٤٪ من الأصوات.
وهناك بالإضافة للمسئولية الجماعية، انضباط لا تواجه السلطات العامة مصاعب في فرض احترامه. ففي ألمانيا تطالب الحكومة الشركاء الاجتماعيين (النقابات، أرباب العمل، الأطباء، والمتمتعين بالتأمين، وصناديق التأمين) بأن يتفقوا معًا على الحد من النفقات الصحية. وفي السويد، لا مجال لأن يرفض العاطل عن العمل الوظائف التي تعرضها عليه التأمينات ضد البطالة. وهناك مثال آخر بلغ الحد الأقصى في هذا المجال في سويسرا، حيث لا تعتبر الإعانة العامة للمعوزين حقًّا مكتسبًا أو إحسانًا بل دينًا يجب الوفاء به بمجرد تحسن أحوال من حصل عليه.
ولنراجع الآن النقاط السابقة، الواحدة تلو الأخرى، ونتساءل عما إذا كانت فرنسا تستحق أن تدرج في هذا المجال بين البلدان الراينية. والإجابة بالنفي إلى حد كبير، بكل أسف. ففي مجال التأمين الصحي يعتبر نظامنا من أضعفها، نظرًا لأن كل شخص يسحب تقريبًا بحرية شيكات على التأمينات الاجتماعية، ولكن أحدًا لا يتصور حقًّا أن يدفعها، فأنا أحدد شخصيًّا بحرية عدد الاستشارات والعلاجات، التي أطلبها من أطبائي، وهم يحددون بدورهم بكل حرية تذاكر الأدوية التي سأتناولها، وكل ذلك مجانًا تقريبًا. وهذا لا يوجد في أي بلد آخر. ومع مضي الوقت يصبح من الواضح أن في ذلك خلطًا بين الرأسمالية والاشتراكية مغريًا بشكل خاص في المدى القصير، ولكنه فاسد في المدى البعيد.
الانزلاقات الأمريكية
وإذا كانت الحكومة في الولايات المتحدة تضاعف الجهود للحد من تزايد نفقات الصحة، إلا أن ذلك يكون بلا جدوي في الكثير من الحالات. وهناك مثال جيد لذلك الفشل يقدمه الإصلاح الذي تم تنفيذه في المستشفيات بغية تحسين الإدارة والحد من قيام البرامج بتسديد النفقات. ففي عام ١٩٨٤م حاول الكونجرس الحد من تزايد نفقات العلاج التي يمولها برنامج علاج المتقدمين في السن. والطريقة محددة بكل دقة ولكنها معقدة للغاية مما ييسر الغش. فهي تتيح مثلًا تكرار بعض الإجراءات الخاصة بنفس المريض (الفحص بالأشعة مثلًا) لزيادة المبالغ التي يجب أن يسددها البرنامج، حتى بات من المستحيل بالنسبة للمسئولين فيه أن يميزوا، إزاء تكرار الإجراءات العلاجية، ما إذا من المفيد تنفيذها من عدمه. ومن جهة أخرى، لم تكن التسعيرات متفقة دائمًا مع التقنيات الجديدة، مما كان يسمح لبعض الأطباء بالحصول على أجور عالية أكثر من اللازم. فعلى سبيل المثال كانت العملية الخاصة بالحاجز الغضروفي الليفي محسوبة على أساس أنها تستغرق ساعتين، في حين أن استخدام المنظار لم يعد يستلزم سوى عشر دقائق فقط لإجراء تلك العملية.
وبغية تصحيح تلك الأوضاع، قرر الكونجرس وضع نظام للتسديد لا على حسب كل إجراء ولكن على حسب الحالة المرضية. فكل مريض يُسدَّد عنه الآن سعر محدد حسب الحالة: ألف دولار لعملية الزائدة الدودية و١٠٠ ألف دولار لعلاج مرض سيولة الدم … إلخ، وعلى المستشفى أن يتكيف مع تلك التسعيرة، فإذا كانت إدارته سيئة والتكلفة التي يتحملها أكبر، فهذا من شأنه. وعلى العكس إذا كانت التكاليف أقل فسيحصل على ربح. ويعتمد هذا النظام بالطبع على حقيقة تأكدت إحصائيًّا، وهي أن ٩٥٪ من الأمراض يمكن حصرها في ٤٦٥ حالة محددة بدقة، ويمكن تحديد تسعيرة لكل منها حسب متوسط تكلفة قياسية. وقد يبدو ذلك بسيطًا، وواضحًا ويسهل رقابته، كما أن التسديد حسب التكلفة الكاملة للعلاج يبدو طريقة منطقية تدفع إلى حسن الإدارة.
غير أن غياب المسئولية الجماعية الحقة جعل تنفيذ النظام الجديد عسيرًا. فقد واجهت فورًا بعض المستشفيات السيئة الإدارة مصاعب مالية كبيرة. ولذا حاول بعضها التخصص في الحالات المرضية المجزية أو تلك التي تتميز بقدراتها على المنافسة فيها. وهناك مستشفيات أخرى — أندر لحسن الحظ — عمدت إلى التعرُّف على المرضى الذين يعرضونها «لمجازفات» لكي تستبعدهم. فما المانع في الواقع في ظل أوضاع تضفي الشرعية على الكسب السريع، من تحقيق أقصى قدر من الربح يمكن استخلاصه من تسديد التكاليف من التأمينات الصحية؟ إنه أمر منطقي تمامًا في ظل البلد الذي تتوج فيه المال ملكًا. وهكذا دب الفساد في إصلاح كان يبدو محكمًا. وهكذا، وبالرغم من النتائج الأولى المشجعة، لم يتباطأ تزايد نفقات العلاج الطبي في الولايات المتحدة.
فالإصلاح عظيم ولكن النتيجة صفر. لماذا؟ فما كان بوسع الفرنسيين أن يقيموا نظامًا للتأمين الاجتماعي كما فعلوا لو أنهم استعلموا مقدمًا عما تحقق من قبل في الخارج، فإن أصحاب هذا الإصلاح نسوا على الأرجح أن يدرسوا ما تفعله البلدان الراينية في هذا الصدد. فهناك في الواقع نوع من «الانسلاخ عن الواقع» عند الأمريكيين. فالبعض هناك لا يتصورون أبدًا أنه يمكن أن يتواجد ما هو أكثر فعالية من اقتصاد السوق، خاصة وإن كان خارج الولايات المتحدة.
منطق المساواة
سبق أن رأينا أن البلدان الراينية تحقق مساواة نسبية. فالتفاوت بين الأجور ليس بدرجة اتساعه في البلدان الأنجلو-ساكسونية. وعلى الصعيد العام، يلاحظ أن الطبقة المتوسطة أكبر إحصائيًّا مما هي في الولايات المتحدة التي كانت فيما مضى بلد الطبقة المتوسطة. ولو عرَّفنا الطبقة المتوسطة بأنها مجموع الأفراد الذين يقترب دخلهم من المتوسط القومي، فإنها لا تمثل إلا حوالي ٥٪ من سكان أمريكا في مقابل ٧٥٪ في ألمانيا و٨٠٪ في السويد أو سويسرا. ويتبين من عمليات التقصي التي جرت في اليابان منذ ثلاثين سنة أن ٨٩٪ من اليابانيين يعتبرون أنفسهم من الطبقة المتوسطة، وهو تقدير ذاتي وإن كان له مغزاه.
ونجد نفس الأيديولوجية ونفس المصطلحات عند مسز تاتشر. فهذا النموذج الذي يجب أن نصفه بأنه نموذج «ريجاني تاتشري» ليس مجرد تعبير في السياسة الاقتصادية، بل تعبير عن أخلاقية جديدة أوجدها الكسيبة — الأثرياء — المحسنون من أجل أنفسهم. ولكي ندرك مدى التغير الذي طرأ بهذا الصدد، يكفي أن أحد اقتراحات التقدم الاجتماعي التي دارت حولها أكثر المناقشات في الولايات المتحدة قبل عام ١٩٧٥م كانت «الضريبة السلبية على الدخل»، أي الحد الأدنى من الدخل المضمون. وبينما قررت فرنسا مؤخرًا تطبيق هذا النظام، فإن الفكرة ذاتها تبدو غريبة للغاية هناك حتى إن كلمة التقدم الاجتماعي نفسها كادت تحمل المعنى العكسي.
والحق أن إضفاء الشرعية على اللامساواة من جانب أصحاب نظرية اقتصاد العرض، مثل جورج جيلدر، يردد من الواقع من جديد خطابًا ليبراليًّا قديمًا للغاية. ففي منتصف القرن التاسع عشر، كان دينوفر يؤكد أن «جهنم الفقر» ضرورية للانسجام العام لأنها تجبر الناس على «حسن السلوك» والعمل الشاق. ولا يعبر جليدر عن شيء آخر عندما يكتب قائلًا: «فرض ضرائب أعلى على الأغنياء يضعف الاستثمار، وفي المقابل فإن إعطاء المزيد للفقراء يحد من الحث على العمل. ولا يمكن أن تؤدي مثل هذه الإجراءات إلا إلى خفض الإنتاجية» (الثراء والفقر — الناشر للترجمة الفرنسية ألبان ميشيل، ۱۹۸۱م).
وقد استخدمت تلك الحاجة لتبرير التخفيضات الشديدة التي نالت من البرامج الاجتماعية. وتفسر تلك التخفيضات «جيوب» الفقر الفسيحة التي ظهرت من جديد في الآونة الأخيرة (انظر الفصل الثاني). كما أنها كانت مبررًا أيضًا لمختلف عمليات إلغاء القواعد السارية، مما أدى إلى الحد من حماية العاملين بالأجر، وذلك لكي تستعيد المنشآت ديناميكيتها، ولتحسين العمالة، على حد زعمهم.
وموقف المجتمع إزاء الفقر في ألمانيا الاتحادية مختلف جذريًّا، حتى إننا نستطيع أن نقول، من باب التعليق الكاريكاتوري، إن الفقر شبه ممنوع تمامًا بمقتضى القانون الاتحادي حول المعونات الاجتماعية. فبمقتضى هذا القانون يتعين على المجتمع المحلي أن يوفر المسكن والغذاء والعلاج والاحتياجات الاستهلاكية الأساسية لمن لا تتوفر لديهم الإمكانات لذلك. وتبلغ المخصصات المكرسة لهذا الغرض ٢٨ مليار مارك ألماني. كما أنه يوجد أيضًا ما يشبه الحد الأدنى للأجور محدد ﺑ ١٢٠٠ مارك في الشهر. وقد كتب مراسل جريدة لوموند في بون، لوك روزنسفيج يقول بخصوص الفقر في ألمانيا: «هناك حاليًّا ۳٫۳ مليون شخص، أي ٥٪ السكان، يتلقون معونات من مكتب الإعانة الاجتماعية. ومع ذلك فإن هذا الفقر الذي تقرره الإحصاءات يكاد لا يُرى في البلاد الاجتماعية، حيث إن ما يلفت النظر حقًّا هو بالأحرى تلك البحبوحة التي تعيش في ظلها الأغلبية العظمى من السكان. والمتسول نوع من البشر في طريقه إلى الزوال في شوارع المدن الألمانية الكبرى، باستثناء بعض الصعاليك «البونك» في برلين أو هامبورج الذين يمدون أيديهم، كنوع من الرياضة، لا من أجل حاجة حيوية» (الموند، ٧ أغسطس ١٩٩٠م).
ولنذكر مفارقة غير معروفة إلى حد كبير أوردتها نفس الجريدة، وهي أن تزايد حالات الطلاق، والإنجاب خارج الزواج، والفقر، في ألمانيا اليوم، بات قبل كل شيء مشكلة نسائية، إذ إن ٦٥٪ من الأمهات اللاتي يتولين تربية طفل وحدهن (وعددهن يتزايد باستمرار) لديهن دخل يقرب من حد الفقر.
وفي السويد تسمى سياسة الأجور «تضامنية». فهدفها المزدوج هو ضمان قدر من المساواة الاجتماعية والحد من فروق الأجور بين مختلف قطاعات النشاط.
ومما يعزز طابع النموذج الرايني الأقل لامساواة، النظام الضريبي الذي يضمن توزيعًا أفضل لأعبائها كما سبق أن قلنا. ولنذكر بهذا الصدد واقعًا محددًا له دلالته. فالشريحة الضريبية العليا أعلى في فرنسا (٥٧٪)، والسويد (حيث بلغت ٪۷۲)، وألمانيا واليابان (وتزيد عن ٥٥٪) بالمقارنة مع بريطانيا (٤٠٪) والولايات المتحدة (٣٣٪). هذا عدا الضريبة المفروضة على رأس المال، وهي لا تزال قائمة في البلدان الراينية، بما في ذلك سويسرا.
واللامساواة في البلدان الراينية ليست أقل فقط، بل ومقبولة بشكل أفضل لأنها تقوم على معيارين مستوعبين جيدًا من جانب العاملين. وهما الأقدمية والكفاءات. ففي البنك الياباني، يتعين على خريج أحسن الجامعات الجديد أن ينتظر خمس عشرة سنة ليصبح رئيسًا للقسم الذي يعمل به، رغم أنه الوحيد في هذا القسم الذي يتكلم الإنجليزية. وعليه أن ينتظر خمس عشرة سنة أخرى لكي يصبح مديرًا. وفي المؤسسات الألمانية والسويسرية، يحدد تفاوت الكفاءات بدقة تدرج الوظائف والمرتبات. وهكذا تكون اللامساواة النسبية قائمة على مبررات مشروعة وتلقى هي أيضًا قبولًا عامًّا قويًّا.
نداء الأحلام وتأثير الظروف التاريخية
والنموذج الرايني أكثر تشددًا بالمقارنة مع النموذج الأمريكي الجديد. فالتعبئة القومية في ظله تتم بسرعة أقل، والنجاح الفردي أقل بريقًا. ولكن أذلك ميزة أم عائق؟
أما أمريكا فقد كانت دائمًا ولا زالت، مجتمع الأحلام. فالمهاجرون الذين توافدوا من كافة أنحاء العالم ليهبطوا من السفن التي أقلتهم في جزيرة أليس، المدخل إلى الفردوس الأمريكي، كانوا محملين بالأحلام (والمتاعب). إنها أحلام الحياة الجديدة، وأحلام الحرية والثروة، وإرادة النجاح المحمومة، وجميعها جزء لا يتجزأ من الحلم الأمريكي. فكل أمريكي له من بين أسلافه مهاجر قدم من أيرلاندا، أو بولندا، أو إيطاليا، وصادف المصاعب والبؤس والعمل الشاق، «ولكنه تغلب على كل ذلك» كما يقولون.
وأمريكا ليست فقط مجتمع الأحلام، بل وأيضًا مجتمع الرجل العصامي الذي صنع نفسه بنفسه ولا يمتنع عليه نظريًّا أي نجاح. فكما كان كل جندي من جنود نابليون يحمل في جرابه عصا المارشالية الخاصة به، فإن كل أمريكي بوسعه أن يأمل العثور في آخر الطريق على أول «مليون دولار» أو أن يدخل ذات يوم البيت الأبيض … وبعبارة أخرى فإن التحرك الاجتماعي ليس أقوى فقط في الولايات المتحدة بالمقارنة مع أي بلد آخر، بل إنه جزء من أسطورة تأسيس هذا البلد.
وبالطبع. فإن مبدأ الاندماج الكامل الذي قامت أمريكا على أساسه. له حدود، ولم يعد يتم على أي حال كما كان في الماضي (انظر الفصل الثاني)؛ ومع ذلك تظل قدرة المجتمع الأمريكي على الدمج والاستيعاب أكبر إلى أبعد حد بالمقارنة مع البلدان الراينية (بما في ذلك اليابان).
ومما ييسر التحرك الاجتماعي إمكانية تحقيق الثراء بسرعة في أمريكا. ومن وجهة النظر هذه، يكون المال ميزة، بل المقياس الرئيسي للقيم، وهو يشكِّل المعيار الاجتماعي الفظ، وإن كان سهلًا وفعالًا. فبياع الهامبورجر الصغير يمكنه أن يصبح روكفلر آخر … والثروات الخرافية التي حققها البعض بفضل مضاربات الثمانينيات، تتفق في العديد من الحالات مع التحرك الاجتماعي القياسي!
ولنضف إلى ذلك أن ردود الفعل المعادية للأجانب تتصاعد وسط اليمين المتطرف الألماني، وأن موجة الهجرة الوافدة من الشرق (من بولندا بالأخص) زادت من تلك التوترات.
وظروف المهاجرين في اليابان القادمين من بلدان آسيا المجاورة (كوريا الجنوبية والفلبين والصين) أدنى. وفي سويسرا كانت الهجرة محكومة دائمًا رغم أن عدد المهاجرين ١٫٥ مليون مقابل ٦٫٥ مليون من أهالي البلاد. وتحد سويسرا بصرامة من إقامتهم ولا تتردد في إعادتهم إلى بلادهم، كما أنها تستخدم عددًا كبيرًا من سكان البلاد المجاورة الذين يعبرون الحدود كل يوم للذهاب إلى عملهم، دون أن يستقروا عندها. ولم تتوصل حتى السويد التي لا يوجد بها عدد كبير من المهاجرين، إلى حل المشاكل التي تثار حولهم.
أما بريطانيا، فهي في وضع أوسط. وكانت منفتحة أصلًا ومارست الفردية التي تتيح عقد العديد من الزيجات المختلفة واستقرار عدد كبير من السكان ذوي الجنسية البريطانية في أراضيها، وإن كانوا من أصول إفريقية وباكستانية وهندية وجامايكية. وهي تمنح الجنسية عادة، بخلاف ألمانيا. ومع ذلك يلاحظ إيمانويل تود «يبدو أننا نشهد في بريطانيا أكثر من فرنسا ظهور أحياء مغلقة (جيتوهات) لمختلف الأجناس، وانطواء جماعات من أصول جامايكية، ومسلمة، وهندية، على نفسها […] ويبدو أن الممارسة البريطانية تعود من جديد إلى الفصل على الطراز الألماني».
وعمومًا فإن الإثراء الفردي الخاطف للأبصار ليس سهلًا في البلدان الراينية كما هو في العالم الأنجلو ساكسوني. وعلى أي حال فإن البورصة تهيئ إمكانات أقل والمضاربة العقارية لا تزال محدودة، باستثناء اليابان. وبلدان النموذج الرايني أقل مرونة اجتماعيًّا. فالمواقع التي يتم إحرازها تظل كذلك طويلًا، والتطورات بطيئة. والمجتمع أقل تعرضًا للتغيرات العنيفة والتأثيرات الخارجية. هل هذا قوة أم ضعف؟ ما هو الأفضل، استقرار المجتمعات النصف مغلقة أو عدم استقرار المجتمعات المنفتحة؟ ووفقًا لإجابة المرء على هذا السؤال فإنه يقف مع أحد معسكري معركة رأسمالية ضد رأسمالية أخرى.
معركة الاستقطاعات الإجبارية
سبق أن رأينا أن النفقات الصحية تمثل ١١٪ من إجمالي الناتج القومي في الولايات المتحدة و٧٪ في بريطانيا. غير أن الرقمين لا يمكن عقد المقارنة بينهما. فالنفقات الصحية في الولايات المتحدة خاصة أساسًا ولكنها عامة في بريطانيا، حيث لم تتمكن مسز تاتشر من خصخصتها.
وفي وجهة النظر الاقتصادية الشاملة، لا تهم تكلفة هذا النظام في الولايات المتحدة نظرًا لأن المستهلكين هم الذين يتكفلون بتمويله وليس هناك ما يمنع من أن ينفق هؤلاء المزيد على الصحة بدلًا من السفريات أو الملابس أو الأثاث. وعلى العكس فإن تمويل النظام البريطاني العام أساسًا (والنظام الفرنسي أيضًا إلى حد كبير) يجب أن يتم عن طريق استقطاعات إجبارية تدخل في إطار الإنفاق العام في البلاد وتؤثر على القدرة القومية على التنافس.
وقد بدأت معركة الاستقطاعات الإجبارية في مستهل الثمانينيات انطلاقًا من ذلك التحليل.
وجاء الهجوم من الجانب الريجاني-التاتشري، فأصبحت الاستقطاعات مسئولة عن كل المثالب. فهي متهمة بإنزال العقاب على المنشآت، وبتثبيط الهمم الفردية، وإخماد نضالية المنشآت والاقتصاديات. وفي عهد التشاؤم الأوروبي، صورت الاستقطاعات الإجبارية المرتفعة في بلدان الوحدة الاقتصادية الأوروبية بالمقارنة مع الولايات المتحدة، على أنها عبء لا يطاق تنوء أوروبا تحت وطأته ويحول دون أن تخوض المعركة بأسلحة متكافئة على حلبة التجارة الدولية التي لا تعرف الرحمة. وقد استعاد الآن اتجاه التفاؤل الأوروبي مكانه، دون أن يجري تخفيضًا محسوسًا على الاستقطاعات الإجبارية.
ولكن هل القضية المثارة حول الاستقطاعات الإجبارية رابحة؟ ألا تميل الإنجازات الاقتصادية المصحوبة في البلدان الراينية بإنجازات اجتماعية إلى التدليل على أن القضية معقدة وأنه لا يكفي أن يتم التأكيد بأنه كلما قلت الضرائب في بلد كان اقتصاده أكثر ازدهارًا؟ فإلى جانب مستوى الاستقطاعات الإجبارية، يجب أن نضع في اعتبارنا بالأخص بنية تلك الاستقطاعات.
ولنذكر معطيات القضية. فمن المعروف أن الاستقطاعات الإجبارية تتكوَّن من الضرائب والرسوم والاشتراكات الاجتماعية، التي تستخدم في تمويل النفقات الجماعية.
وقد تزايدت تلك الاستقطاعات منذ نهاية الحرب العالمية الثانية بنسب كبيرة، مع تبني أوروبا لما سُمي «الدولة الراعية». وكان الهدف هو تمويل تدخلات الدولة المتزايدة والتوسع تدريجيًّا في المظلة الاجتماعية. وكانت تلك الزيادة ضخمة وسريعة للغاية حتى إن بعض الاقتصاديين، ومنهم فاجنر، كانوا يتوقعون أن يصبح ذات يوم نمو النفقات العامة، بهذا الإيقاع، أكبر من نمو الثروة القومية. وكان هذا يعني بوضوح أن عبء الإدارات العامة على كاهل الاقتصاد سيتزايد حتمًا إلى ما لا نهاية حتى يبلغ نسبة ١٠٠٪. فهو إذن نظام جماعي زاحف.
وكرد فعل على ذلك التطور، الذي بدا للاقتصاديين الليبراليين أنه سيؤدي إلى ما سماه فردريك فون هايك طريق العبودية، فإنهم لم يكفوا أبدًا عن انتقاد عبء الاستقطاعات الإجبارية المفرط الذي سيسفر عن نتائج عكسية. وهناك مثلًا المنحنى الشهير للاقتصادي الأمريكي لافر الذي يبين أن مردود الضرائب يتناقص عندما يتجاوز معدلًا معينًا في فرضها. فعندما يقال إن «الإفراط في الضرائب يقتلها» فإن المقصود بذلك أن فرضها بإفراط، أيًّا كان شكل الضريبة لن يوجد لدى دافعي الضرائب مبررًا للعمل أكثر ما دامت الدخول الإضافية ستصادر.
وعلى هذا الأساس، نما تيار فكري مارس نفوذًا سياسيًّا متزايدًا خلال الثمانينيات. وأُجري العديد من الإصلاحات الضريبية، بوحي من هذا التيار. وخفضت بريطانيا والولايات المتحدة بشدة معدلات فرض الضرائب على الدخول والشركات. وتعهدت فرنسا بتحجيم الاستقطاعات الإجبارية ثم تخفيضها. وفي السويد وألمانيا وهولندا أجرت الحكومات الليبرالية إصلاحات مشابهة.
وإذا كانت الحجة المناهضة للاستقطاعات قد لاقت آذانًا صاغية فذلك لأنها تضمنت جانبًا من الحقيقة، خاصة في بلدان أوروبا ذات الاتجاه الاشتراكي الديموقراطي. والحق أن مستوى الاستقطاعات في السويد وبريطانيا كان قد بلغ مدًى ناء بثقله — بشكل خطير — الاقتصاد والمجتمع. ولعلنا نتذكر أن بعض الإنجليز أو السويديين، من أكثرهم ديناميكية وقدرة على الابتكار والإبداع — ومنهم مثلًا المخرج انجمار برجمان — فضلوا الاغتراب. ولم تكن الاستقطاعات مغالى فيها فقط، بل كانت تؤدي إلى تحقيقات شبه بوليسية من جانب سلطات فرض الضرائب، مما أوجد مناخًا خانقًا تفوح منه الريبة. ومن جهة أخرى مال الجهاز الإداري الضريبي إلى التحول إلى آلة معقدة وبيروقراطية، أي باهظة التكاليف وغير فعالة في الوقت نفسه. وقد تأثرت بذلك «مردودية الضريبة» وتبدد جزئيًّا مال دافع الضرائب.
ومن جهة أخرى، من الواضح أن الأعباء المرتفعة للغاية تلحق الضرر بقدرة المنشآت على المنافسة، في الوقت الذي تحتدم فيه المنافسة الدولية. وكما يلجأ بعض دافعي الضرائب إلى الاغتراب، فإن بعض المنشآت خاصة في قطاعي النسيج والإلكترونيات لم تجد حلًّا لذلك سوى نقل جزء من نشاطها للحصول خارج حدود بلادها على ظروف ضريبية اجتماعية مقبولة بدرجة أكبر.
وهكذا كانت الانتقادات مبررة جزئيًّا، ولكنها تمادت في طريقها، حتى إن الاستقطاعات الإجبارية تحولت إلى شيطان رجيم مسئول عن كل المصاعب الاقتصادية. كما تركزت تلك الانتقادات على مستوى الاستقطاعات بإلحاح يكاد يكون ضربًا من الوسواس، اعتمادًا على تحليل قصير النظر. فمن الخطأ في الواقع إقامة علاقة آلية بين بعض مستويات الاستقطاعات الإجبارية ومستوى أداء اقتصاد ما. ويكفي أن نورد بعض الأرقام لكي نقتنع بذلك. فمعدل الاستقطاعات الإجبارية في الولايات المتحدة يمثل ٣٠٪ من إجمالي الناتج القومي في مقابل ٤٤٪ في فرنسا و٤٠٪ في ألمانيا، و٥٢٪ في السويد.
واليابان حالة خاصة، أقرب إلى الولايات المتحدة بمعدل يبلغ ٢٩٪، ولكن لجوء الليبراليين إلى ذلك المثال يأتي من منطلق خاطئ في أغلب الأحوال، وذلك لأسباب ثلاثة: (۱) لو كان التركيب السكاني مماثلًا، أي بنفس نسبة السكان المتقدمين في السن، لبلغ هذا المعدل ٪۳۲؛ (۲) الجانب الأكبر من المعاشات لا يدخل في إطار هذا المعدل لأن الأجهزة العامة لا تتولى صرف تلك المعاشات، بل إن مصدرها صناديق خاصة لا تدخل في حسابات الاستقطاعات الإجبارية؛ (٣) وأخيرًا، فإن مستوى الاستقطاعات يتزايد باستمرار في اليابان منذ عشرين سنة.
فرنسا التي أضحت مبذرة
يتبين لنا بكل وضوح من الأرقام الواردة عاليه أن الإنجازات الاقتصادية الألمانية توافقت مع معدلات استقطاع مرتفعة. وعلى العكس فإن تخفيض الضرائب وضغط المصروفات الاجتماعية في الولايات المتحدة لم يكبحا التدهور الاقتصادي ولا حسَّنا المنافسة الأمريكية في مواجهة اليابان. ولم يعد أحد في أمريكا يستطيع أن يلقي مسئولية ذلك الكساد على النقابات أو الإدارة أو «العاطلين المزيفين». والعمال الأمريكيون الذين كانوا فيما مضى في طليعة التقدم الاجتماعي يعاملون حاليًّا بمستوى أقل من أغلب زملائهم الأوروبيين. وإذا كانت الولايات المتحدة تتخلف فإن الإفراط في الليبرالية هو الذي يجب أن يحاسب على ذلك. وأمريكا بلد ليست لديه عقد بخصوص المال، بل إنه فخور بذلك بالأحرى. ولهذا السبب بالذات بدأت تشعر بعقد النقص بخصوص قدرتها المنافسة. كما أن أمريكا العنيفة التي لا توجد لديها عقد بخصوص قيمة الإنسان، هي التي بدأت تشعر بأن ذلك سيكلفها غاليًا.
كيف يمكن تفسير هذا التناقض الظاهري؟ من خلال واقع محقق اليوم، وهو أن الأمر لا يتوقف على مستوى الاستقطاعات الإجبارية بقدر ما يتوقف على هياكلها. فالمسألة لا تتعلق فقط بالمبلغ الذي يدفع، ولكن أيضًا بمن يدفع وكيف يدفع. ومن المدهش حقًّا أن نلاحظ، من وجهة النظر هذه، التشابه القائم بين البلدان الأوروبية المندرجة تحت النموذج الرايني وتعارضها مع النموذج الأنجلو-ساكسوني.
ففي البلدان الراينية مثلًا تمثل التأمينات الاجتماعية نسبة ٣٥٪ من الاستقطاعات بينما لا تمثل سوى ٢٨٪ في الولايات المتحدة. ومن جهة أخرى، فإن الأعباء الاجتماعية المقتطعة من الأجور (في مقابل ما تدفعه المنشآت في هذا المجال) أشد وطأة في البلدان الراينية (حوالي ٤٠٪) بالمقارنة مع البلدان الأنجلو-ساكسونية (٢٥٪). وعليه فإن نصيب الأجر الذي يحصل عليه العامل مباشرة أقل في البلدان الراينية. وهذا يعني بكل وضوح أن هناك أساسًا تضامنيًّا لصالح من هم أقل حظًّا، يتم تحويله بشكل جماعي من مجموع الأجور. أليس ذلك عدلًا؟
إن تواجد نظام اجتماعي متقدم يستدعي تكاليف باهظة تشكِّل بالضرورة عائقًا اقتصاديًّا. بل إننا نستطيع أن نقول إنه عكس ذلك أحيانًا، دون أن نرضخ للمفارقات. فبوسع الاقتصاد أن يستخلص من ذلك مكسبًا ملموسًا. فالإيرادات العامة تستخدم لتمويل البرامج المخصصة لتحسين الفعالية الاقتصادية، كما هو الحال في ألمانيا: برامج التأهيل بالطبع، وكذلك الاستثمارات في مجال البحوث، وتحسين المرافق العامة الأساسية … إلخ. وهناك أيضًا كم من النفقات العامة «غير المرئية» (الطرق، البريد، التليفون، السكك الحديدية، الموانئ …) وهي كلها تفيد المنشآت، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، مع أنها نادرًا ما تؤخذ في الاعتبار. غير أن ذلك يتجلى، على العكس، في الولايات المتحدة من خلال تدهور الخدمات العامة التي تحولت إلى مصادر للتلوث.
ولهذا فبوسعنا أن نكون متأكدين بأن البلدان الأنجلو-ساكسونية ستكون الساحة القادمة لمعركة الاقتطاعات الإجبارية. ولن تفلت بريطانيا والولايات المتحدة بالأخص من فرض زيادات ضريبية جديدة.
وهناك بلد آخر سيحتدم فيه أوار المعركة، ولكن في الاتجاه العكسي، وأقصد بذلك فرنسا. فبالمقارنة مع بلدان من نفس المستوى، تخضع فرنسا لأشد الاستقطاعات الإجبارية وطأة (٤٤,٦٪ في مقابل ٤٠٪ في ألمانيا وبريطانيا). ومع أن الحكومة الفرنسية تتحكَّم بشكل جيد في ميزانيتها، إلا أن النفقات الاجتماعية ترتفع بسرعة متزايدة بالنسبة للصحة، وبالأخص بالنسبة للمعاشات الإجبارية. وبوسع الحكومة الفرنسية أن تبتهج لتوصلها إلى تسديد ديونها الخارجية بالكامل ولتوصلها إلى تحجيم دينها الداخلي بقوة. غير أن عدم تكوين احتياطي لتمويل المعاشات، جعل المنشآت الفرنسية مدينة (خارج موازنتها) بما يصل إلى ١٠ آلاف فرنك عن كل فرد، وهو ما يمثل التزاماتها إزاء المتقاعدين في المستقبل، والذين يتعين أن يتم تمويل معاشاتهم باشتراكات إجبارية، سيتزايد تأثيرها على قدرة المنشآت الفرنسية على المنافسة.
غير أن فرنسا تشكِّل هنا أيضًا حالة قائمة بذاتها لا يمكن تشبيهها بأي من طرازي الرأسمالية. فقد لجأت تلك الدول، بما في ذلك النموذج الأمريكي الجديد، الذي يهمل مع ذلك المدى البعيد، إلى تكوين احتياطي لتمويل معاشات العاملين. ومع أن فرنسا كانت بلد الادخار والتدبير، إلا أنها بدأت تكتشف أنها تتصرف بلا تبصر.
ويتعين أن ننوه، على صعيد أعم، بالأهمية الحاسمة في الأجلين المتوسط والبعيد، لما يمكن أن نسميه تماسك مجتمع ما، وتجانسه، وانسجامه. وهذا العامل غير مادي، وبالتالي يستحيل تقديره كمًّا. ولكن الإحساس بأهميته لا يحدث إلا عند افتقاده. فقسوة مجتمع ما، وتفسخ «نسيجه»، والتواترات التي تكمن في أحشائه، كلها حقائق مكلفة بالمقاييس الاقتصادية.
وهذه إحدى العواقب الضارة للامساواة التي لا يضعها في عين الاعتبار الليبراليون المتطرفون من أنصار «اقتصاد العرض». وفي المجتمعات الأكثر تجانسًا، يكون الأهالي متعلمين بدرجة أكبر ومؤهلين بشكل أحسن، وقادرين بالتالي على التأقلم مع التغيرات التي تطرأ على العالم ومتطلبات التقدم. ولذا فإن المجتمعات الأكثر انسجامًا على الصعيد الاجتماعي تكون اقتصادياتها أقدر في أغلب الأحوال على تحقيق إنجازات أكبر.
وهذه الأفكار التي يجد المحافظون الأمريكيون مشقة كبيرة في وضعها في الاعتبار في تفكيرهم، لا تدعو للدهشة. فهي تلتقي مع ملاحظة شومبتر الشهيرة التي تقول ما معناه إن السيارات تسير بسرعة أكبر لأنها مزودة بكوابح. ووضع الرأسمالية مشابه لذلك. فبفضل القيود التي تفرضها عليها كل من السلطات العامة والمجتمع المدني، وبفضل التصحيحات التي يدخلها المجتمع على القوانين الآلية للسوق، تصبح هذه الرأسمالية أقدر على الإنجاز.
وعند هذه النقطة، نصل إلى مفارقتين:
أولهما ذلك الخبر السعيد الذي نكتشفه شيئًا فشيئًا مع التقدم في عملية التقصي هذه، وهو أنه ليس صحيحًا أن الفعالية الاقتصادية يجب أن تتغذى بالضرورة بالمظالم الاجتماعية. ومن الخطأ الاعتقاد بأن التناقضات الجديدة ستجعل النمو الاقتصادي في تعارض مع العدالة الاجتماعية. فالتوافق بين الفعالية والعدالة متوفر أكثر من أي وقت مضى. وقد صادفناه في كل بلدان النموذج الرايني.
غير أن هناك مفارقة أخرى، فهذا الواقع مجهول إلى درجة أن هناك ظاهرة تحدث منذ بضع سنوات في أنحاء العالم. ففي الوقت الذي يتضح فيه أن النموذج الأمريكي الجديد أقل فعالية من النموذج الرايني فإن الأخير غير قادر مع ذلك على دفعه إلى التقهقر، سواء سياسيًّا أو أيديولوجيًّا.