تراجع النموذج الرايني
بما أن التفوق الاقتصادي والاجتماعي للنموذج الرايني قد اتضحت معالمه، فمن الواجب إذن أن نراه منتصرًا في المجال السياسي. فالبلدان الراينية القوية بنجاحاتها يجب أن تكون محصنة منطقيًّا، ضد التأثيرات «والفيروسات» الوافدة من خارجها. كما يتعين على أي حال ألا تستهويها إغراءات ما وراء الأطلنطي أو أن يثيرها حقًّا الضجيج البراق لاقتصاد الكازينو.
غير أن المفارقة العجيبة قضت بأن يحدث العكس. فالنموذج الرايني يخضع بشكل مباشر للتأثيرات السياسية، والإعلامية، والثقافية لمنافسه الأمريكي. كما أن الواقع يشير إلى أنه لا يكف عن التقهقر سياسيًّا. ولا ينطبق ذلك فقط على البلدان المترددة أو الموزعة بين النموذجين، بل عليه أيضًا وفي عقر داره.
فالاستجابة للإغراء الأمريكي تظل قوية حتى إن البلدان التي تجسد النموذج الرايني وتتمتع بنجاحاته تستسلم لسحره وتصبح ضحية لأوهامه. وهذا يعني أن هناك تطورات في هذه البلاد «وانسياقات» اقتصادية ومالية واجتماعية ملحوظة، ترمي إلى زعزعة أسس هذا النموذج ذاتها. وسأكتفي هنا بإيراد بعض الأمثلة.
فخ اللامساواة
لقد سبق أن قلنا أكثر من مرة إن النموذج الرايني أميل نسبيًّا إلى المساواة بالمقارنة مع منافسه فيما وراء الأطلنطي، وهذا الواقع يجعله متماسكًا إلى حد كبير، كما يسهم في الحفاظ على التفاهم الاجتماعي الذي يحقق له المزيد من الفوائد. بيد أن هذه المساواة النسبية القائمة تتراجع شيئًا فشيئًا. ويظهر الثراء الجديد المصحوب بالضجيج، والذي يتم جمعه بسرعة. وهذا واضح بشكل خاص في اليابان، حيث سجلت تلك الظاهرة خروجًا غير مألوف على الماضي.
والواقع أن النمو الاقتصادي المدهش في اليابان، بعد الحرب، أفاد على نطاق واسع أكبر عدد من سكان البلاد، مع أن أغلب الثروات الكبيرة قد دمرها النزاع. وقد تمت دمقرطة التعليم في حركة عريضة للتدرب على الديموقراطية ومحاكاة أمريكا. ونشأت بالتدريج الطبقة المتوسطة اليابانية، حتى إن النهضة الاقتصادية قامت في اليابان على أسس المساواة النسبية. وبالطبع استفاد البعض من إعادة البناء أكثر من غيرهم، وظهرت ثروات جديدة، غير أنها ظلت غير صارخة ومقبولة. فقد اكتسبت مشروعيتها إلى حد ما من خلال قسوة عمليات إعادة التعمير والجدارة الشخصية، الحقيقية منها أو المفترضة، وهي لم تنل من التفاهم الياباني المحتشم والمتقشف، حتى منتصف الثمانينيات.
على أن الوضع لم يعد كذلك الآن. فقد ظهرت طبقة من الأغنياء الجدد، ارتمت في أحضان الاستهلاك والبذخ وراحت تتباهى به. وهناك في المقام الأول ملاك الأراضي الذين جنوا ثروات طائلة عن طريق موجة ارتفاع أسعار العقارات والأرض الحضرية، والمقاولات، والمضاربات في البورصة. ويرى الخبراء أن هاتين السوقين — العقارات والبورصة — حققتا فائض قيمة بلغ ٤٠٠ ألف مليار ين (٢٠ ألف مليار فرنك فرنسي). وبالطبع لم يستفد من مصدر الإثراء هذا سوى البعض.
والثروات الجديدة التي تحققت في اليابان ليست مقبولة بسهولة كما كان الحال في الماضي، وذلك على الأقل بسبب ظهورها شبه المفاجئ. فهي لم تتمتع، بعبارة أخرى، بالشرعية التي يضفيها عليها الزمن. فالمالك يستطيع أن يحصل حاليًّا على مليارات الينات في زمن قياسي، بل وحتى دون أن يضطر إلى بيع الأرض ليحصل على فائض قيمة. فثروته الطائلة تسمح له باقتراض المال بسعر مناسب والاستفادة من المضاربات المالية، وهو ما لا يمكن أن يصل إليه من لا يملك. ولذا فإن كبار دافعي الضرائب في اليابان ملاك تضاعفت أرصدتهم عشر مرات بل مائة مرة خلال بضع سنوات.
ويتعارض ذلك بشكل مدهش مع تقاليد هذا البلد، الذي ارتبطت فيه الرأسمالية دائمًا بالعمل والجدارة والجهد. وأغنياء الثمانينيات الجدد لا يلقون قبولًا.
وضروب اللامساواة هذه التي أصبحت صارخة أكثر من أي وقت مضى لم تعد مقبولة، وتشعر نسبة كبيرة من اليابانيين أنها أصبحت مقصاة. وقد أجاب ٦٢٪ من اليابانيين الذين وجهت لهم صحيفة أساهي شيمبون السؤال التالي في استطلاع للرأي: «هل حياتك ميسرة؟» أجابوا بالنفي. ويرى ٦٠٪ منهم أن اللامساواة ستتزايد بشكل خطير. والواقع أن الأغلبية الصامتة غدت تدريجيًّا أقل استعدادًا لقبول أسلوب الحياة التقليدي المتمثل في العمل والادخار والإخلاص للوطن.
وظواهر التأمرك هذه التي تنتشر بالأخص وسط الشباب قد تترتب عليها عواقب ملموسة بالنسبة للاقتصاد الياباني. فالتعلق بكل جديد والأولوية التلقائية التي تحظى بها المنتجات الأجنبية الفاخرة تنالان من الروح القومية التي تميز بها الاقتصاد الياباني، وكانت خير ضامن لفائضها التجاري. كما أن العادات الجديدة المكتسبة تؤثر سلبيًّا على اعتياد العائلات على الادخار، وهو كما جاء من قبل، أحد مصادر قوة الاقتصاد. وقد بدأ هذا الهبوط على أي حال؛ إذ انخفض معدل الادخار بالنسبة لإجمالي الدخل المتاح من ٢٤٪ في عام ١٩٧٠م إلى ١٦٪ في عام ١٩٨٩م. وبردت همة أعداد كبيرة من اليابانيين في الادخار لأسباب عديدة، خصوصًا صعوبة امتلاك مسكن.
أما الإخلاص الكامل للمنشأة وعبادة العمل، اللذان لا يزالان يثيران دهشة العالم الخارجي، فقد تأثرا بالاكتشاف التدريجي للملذات والاستهلاك على نطاق واسع. وقد وصل الأمر بالفعل إلى حد السخرية أحيانًا من تفاني الكوريين في عملهم. والبلدان الصناعية التي تتهددها الصادرات اليابانية تراقب تلك التطورات التي يشهدها المجتمع الياباني ببعض الآمال، وترى أنها بوادر ضعف لا مفر منه سيحل بمنافسها الرئيسي.
تعرض الوفاق للأخطار
يتعرض الوفاق الاجتماعي المعهود في العديد من بلدان النموذج الرايني للتراجع. فالوفاق والأولويات التي يقوم على أساسها تعتمد على تفوق المصلحة العامة على المصلحة الخاصة، وقوة النقابات والتنظيمات الاجتماعية، وأسلوب إدارة المنشآت.
وتقهقر الإحساس الجماعي أمام تصاعد الفردية واضح بشكل خاص في السويد، فقد غدت الدولة الراعية تلقى الاعتراض، وقد تعرضت العديد من الكتابات في السنوات الأخيرة ﻟ «نهاية النموذج السويدي». ويرى العديد من رجال الاقتصاد، ومن بينهم التابعون للحكومة، أن الرعاية الاجتماعية شبه الكاملة تكلف الاقتصاد ثمنًا باهظًا بكل تأكيد. فالاستقطاعات الإجبارية الشديدة الوطأة تدفع دائمًا العناصر الأكثر دينامية إلى ترك البلاد، وتحمل المنشآت على الاستثمار في الخارج. وقد تزايد تدفق الاستثمارات السويدية في الخارج بشكل ضخم؛ إذ ارتفع من ٦٫٩ مليار فرنك في عام ١٩٨٢م إلى ٥١٫٦ مليار في عام ١٩٨٩م. ومن جهة أخرى لا يشجع النظام الضريبي إطلاقًا على الادخار، وبات معدل ادخار العائلات سلبيًّا.
ولنذكر بهذه المناسبة أن ما يجري في السويد سابقة تستحق التمعن فيها بالنسبة لفرنسا، فالبلد الذي يكون معدل الاستقطاعات الإجبارية فيه، وبالأخص الاشتراكات في التأمينات الاجتماعية المبنية على الأجور، أعلى بدرجة كبيرة بالمقارنة مع البلدان المجاورة، يجب أن يتوقع خسائر جوهرية من هذا النوع.
وتقهقر الروح المدنية يجعل العاملين بالأجر أكثر فأكثر ميلًا إلى إساءة استغلال سخاء النظام الاجتماعي. وكما يقول السويديون أنفسهم: البلد حقق رقمين قياسيين: الرقم القياسي في سلامة الصحة، والرقم القياسي في الإجازات المرضية. فهذه الإجازات تبلغ ٢٦ يومًا لكل عامل في السنة الواحدة. ولا محل للعجب بهذا الصدد لأن التأمينات تدفع بالكامل أجر أيام الإجازات المرضية، ولأنه لا توجد عمليًّا أي رقابة على تلك الإجازات. كما أن الغياب يحقق هو أيضًا أرقامًا قياسية في المنشآت الكبيرة، وكثيرًا ما يصل إلى نسبة ٢٠٪ التي لا تعقل.
وبصفة عامة بدأ السويديون يتجهون نحو الاستفادة من النظام دون أن تشغلهم عواقب سلوكهم على مصيره، وقد جاء في دعابة لاقتصادي سويدي: «التأمينات الإجبارية تعمل بشكل جيد للغاية طالما لم يتعلم الناس كيف يستفيدون منها».
وسرعان ما ظهرت ردود فعل ذلك الانزلاق. فقد أعلنت حكومة السيد كارلسون الاشتراكية الديموقراطية في ٢٦ أكتوبر ١٩٨٩م عن تخفيض نفقات الدولة بحوالي ١٥ مليار كرونة سويدية (١٣٫٥ مليار فرنك فرنسي)، وبدأت في تحرير الاقتصاد، فخفضت الضرائب وألغت القواعد المنظمة لعمل البنوك وللتحركات الدولية لرءوس الأموال، وخفضت الدعم المقدم للزراعة … إلخ.
والواقع أن «النموذج السويدي» الشهير يواجه مصاعب، بعضها يعود إلى بداية الستينيات. وقد كتبت الفايننشيال تايمز تقول في ۲۹ أكتوبر ۱۹۹۰م: «الواقع أن الاقتصاد السويدي بدأت تظهر عليه أعراض جمود مثيرة للقلق. فقد كان معدل نموه أسرع من كافة بلدان العالم — باستثناء اليابان — منذ نهاية القرن التاسع عشر، ولكنه راح يتباطأ، فقد ضعف نمو الإنتاجية، وسجل ميزان المدفعوات عجزًا […] غير أن ارتفاع الأسعار والأجور في سوق العمل المحدود قضيا على قدرة البلاد على المنافسة».
بيد أن أهمية حالة السويد تمكننا من تقدير الجانب الحقيقي على نطاق العالم في الثورة المحافظة الجديدة الريجانية-التاتشرية. لقد أدركت السويد الاشتراكية الديموقراطية الآن، على غرار إنجلترا العمالية، أنها تمادت في الاتجاه التضامني الذي يبدأ بنوايا طيبة وينتهي بالتردي في اللامسئولية وبعض التكاسل الذي يؤدي، كما حدث، إلى انخفاض مستوى المعيشة نسبيًّا، والتضخم، وعدم التوازن الخارجي. ففي المعركة بين الرأسماليتين كانت السويد أول من لحقت به الهزيمة في المعسكر الرايني.
الفردية وتعداد السكان
قد ندهش لإدراج مشاكل التعداد السكاني في الفصل الخاص بتراجع النموذج الرايني. هل هناك ما يبرر ذلك؟ نعم إذا ما وافقنا على أن انخفاض عدد السكان يعبر دائمًا عن تقدم الروح الفردية ويصحبها، فكل بلدان النموذج الرايني تواجه اليوم انخفاضًا في عدد سكانها يثير القلق. فليس هناك معدل مضمون لتجدد السكان (۲٫۱ طفل عن كل امرأة). والنتيجة المترتبة على ذلك هي تقلص عدد السكان في اليابان وألمانيا عدد مع تضاعف عدد غير القادرين على العمل بالنسبة للعاملين ١,٥ مرة ليصلوا إلى ٦٠٪ من السكان.
وهذا التطور يجري في كل البلدان المتقدمة، ولكنه ملحوظ بشكل خاص في هذين البلدين. ولعل تفسير ظاهرة الهبوط المستمر الذي تسجله كل من اليابان وألمانيا، ربما كان سببه قدرًا أقل من الأمل في المستقبل، والرغبة في التمتع بحياة مريحة، والميل الملحوظ أكثر فأكثر إلى إيثار الفردية. لقد جاء في عنوان لجريدة الموند في ٢٥ أبريل ۱۹۸۹م: «ألمانيا تخشى المستقبل». وفي اليابان، تدفع الضغوط الاقتصادية والمالية والاجتماعية (كالمسكن) هي أيضًا الأسر إلى الحد من عدد الأطفال.
وكثيرًا ما تم وصف العواقب شبه الحسابية لتلك التراجعات في عدد السكان على حيوية الاقتصاد: نقص في أعداد اليد العاملة، وارتفاع تكلفة غير القادرين على العمل، والأزمة التي تترتب على ذلك بالنسبة لنظام المعاشات، وتزايد تكلفة الرعاية الاجتماعية نتيجة لتناقص عدد المشتركين … إلخ. على أنه يتعين أن نضيف إلى ذلك قدرًا أقل من فعالية البحث الذي يحتاج إلى أعداد أكبر من العلميين، ومخاطر تراخي الاقتصاد بوجه عام، والميل إلى الانطواء الناجم عن المجتمعات التي تدب فيها الشيخوخة. ويملي المنطق على البلدان الراينية التي تتعرض لتناقص عدد سكانها أن تضع في اعتبارها المصلحة العامة، وأن تنتهج سياسات نشطة في مجال تشجيع الإنجاب.
ولم يحدث ذلك. وتتردد الحكومات في اتخاذ إجراءات لن تكون معهودة بالضرورة ولا يوجد ضمان لفعاليتها.
غير أن هذه التوقعات تغيرت بشكل عميق نتيجة للضغط الشديد الذي يمارسه المرشحون للهجرة القادمون من الشرق.
عادات ومطالب جديدة
وهناك مثل آخر لتطور العادات تقدمه لنا العلاقات القائمة حاليًّا بين البلدان الراينية والعمل. لقد علمنا من قبل أن ساعات العمل في ألمانيا من أقلها بين بلدان منظمة التجارة والتنمية الاقتصادية. ولا يزال هدف النقابات في المدى المتوسط جعل ساعات العمل الأسبوعية ٣٥ ساعة. والظاهرة تبدو مثيرة للانتباه بدرجة أكبر لأنها جديدة نسبيًّا.
ففي هذا البلد الذي كان العمال يضحون فيه حتى عهد قريب بكل شيء من أجل عملهم ومنشآتهم، بدأ يظهر إحساس بالسأم والفتور. واليابانيون يحصلون حاليًّا على أسبوع إجازة واحد في السنة، ولكن الأجيال الجديدة تطالب بالمزيد: أسبوعين أو ثلاثة على الأقل. وعلى أي حال فإن الحكومة تشجع هذه الحركة، واقترحت تخفيض ساعات العمل من ٤٤ ساعة إلى ٤٢ ساعة في الأسبوع، دون أن تنجح. ومن علامات تحولات الزمن أن الصناعات الترفيهية تسجل نموًّا استثنائيًّا منذ بضع سنوات. وبدأ يظهر اتجاه في الرأي العام يدين بمزيد من القوة مساوئ الإفراط في العمل. وتنشر الصحف تحقيقات صحفية ودراسات حول عواقب الإجهاد في العمل: التواترات، والموت المبكر، واضطراب الحياة العائلية … إلخ. وأجرت وزارة الصحة دراسة يتضح منها انتشار ظاهرة «الموت المفاجئ» وسط العمال المجهدين. ووفقًا لتلك الدراسة فإن ١٠٪ من البالغين من الذكور الذين يموتون كل سنة «قتلوا أنفسهم» بالعمل، كما جاء حرفيًّا في هذا الدراسة.
وعلاوة على العواقب الفسيولوجية البحتة، يتزايد القلق في اليابان إزاء العواقب الاجتماعية لذلك الواقع. فساعات العمل الطويلة والإجهاد المزمن يدفعان إلى الانتحار والطلاق وإدمان الكحوليات. وهنا تبدت حدود المعجزة اليابانية. ويرفض الشباب بمزيد من العلنية أسلوب الحياة الذي تفرضه تلك المعجزة. والحق أنه لم تعد تحركهم نفس الدوافع مثل آبائهم الذين كانوا مهمومين، شأنهم شأن الألمان، بإعادة تعمير بلدهم المهزوم الذي أضعفته الحرب وأذلته. أما الآن وقد عاد الرخاء وانتصر الين، وأصبح اليابان يواجه الفوائض التجارية والمالية، فقد تبدت الرغبة في التمتع بالحاضر. وبالطبع لن يكون ذلك التطلع بلا عواقب على سير عمل «النموذج الياباني» وعلى مجتمع راح يتعلم الحياة في ظل حريات فردية ليست مألوفة لديه.
وإلى جانب الوهن الذي أصاب الإحساس الجماعي، هناك انحسار نسبي — نسبي للغاية بالمقارنة مع الحالة في فرنسا — حل بالحركة النقابية وبإجراءات التفاوض الجماعي في بلدان النموذج الرايني، وتلك مسألة منطقية إلى حد ما. ومن المعروف بالطبع أن تقلص الحركة النقابية ظاهرة دولية، وقد أصابت كلًّا من الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا والسويد واليابان، بل وحتى ألمانيا حيث فقد اتحاد النقابات ٨٠٠ ألف عضو غير أن هذا الاتجاه له مغزًى مختلف في البلدان الراينية، حيث تشكل النقابات دومًا أحد دعائم التفاهم القومي.
والتخلي عن عضوية النقابات ملحوظ بشكل خاص في السويد مثلًا، حيث لحق الضرر بالمركز النقابي العام «اللو» نتيجة لتحرير سوق العمالة، مما جعل إجراءات التفاوض الجماعي لامركزية. (فأرباب العمل والعاملون هم الذين يلتقون الآن للتفاوض، على صعيد كل منشأة، لا على الصعيد القومي). ومن مفارقات السوق أن تلك المرونة الجديدة ساهمت في انفلات الأجور الذي نجم عنه التضخم، وأساءت إلى القدرة التنافسية السويدية. وهذا يعني أن الانضباط السابق في مجالي الانتماء النقابي والأجور الذي كان اتحاد «اللو» يؤمِّنه أصبح في مهب الرياح. ونظرًا لغياب التنسيق والترابط تنساق المفاوضات في الكثير من الحالات وراء المزايدات التي يشجع عليها نقص اليد العاملة. ويقدم لنا ذلك صورة جلية لمغبة ضعف النقابات، مما يوفر دليلًا إضافيًّا على أن المرونة وترك النقابات لا يعنيان دائمًا المزيد من الفعالية.
وإذا كانت النقابات تضعف في العديد من البلدان الراينية فإن أساليب إدارة المنشآت تتعرض هي أيضًا للانتقاد. فالتسلسل التدريجي المقنن بكل دقة حسب الأقدمية (وقد أوضحت من قبل مزاياه) يكون أحيانًا سببًا في شل النشاط. ولم يعد العديد من الشباب الياباني، الذي حصل على مؤهلات عالية مستعدًّا لقبول الانتظار خمس عشرة سنة لكي يصبح رئيسًا، ومثلها أيضًا لبلوغ منصب المدير. وبصفة عامة ترتفع الأصوات لشجب تلك الشكلية الكاريكاتورية إلى حد ما التي تحكم العلاقات الهرمية. وبدأت تلك الأصوات تلقى آذانًا صاغية. فقد ألغت تويوتا، وهي منشأة نموذجية، لقب الرئيس الذي تشتم منه أبوية الأزمنة الغابرة. وفي ألمانيا تخلت سيمنز بنفس الطريقة عن عدة مراتب هرمية لتسريع تبادل المعلومات واتخاذ القرارات. أما نظام المجلس الإداري ومجلس الرقابة فهو يتعرض بدوره لانتقادات شديدة ويؤخذ عليه بطؤه وثقله.
وهناك اعتراضات مماثلة فيما يتعلق بنظام الأجور، وهي تكشف عن تأثير مباشر أو غير مباشر للنموذج الأمريكي الجديد. فالشباب الألماني أو الياباني الحاصل على مؤهلات عالية وتلقى تعليمه ولو جزئيًّا في الجامعات الأمريكية، يتلقى عروضًا من جانب الشركات الأجنبية التي تنشط في بلديهما، وينفد صبرهم إزاء التدرج الهرمي للمرتبات المعتمد على الأقدمية والمؤهل. ويطالب هذا الشباب بأجور أعلى، وبسرعة، وبإيقاعات أسرع، كما يشتد رفض النموذج التقليدي في المنشآت التي تنمو بسرعة أكبر. فالكوادر الشابة تفضل بصراحة الإدارة التي تحقق قصص النجاح حسب الأسلوب الأمريكي، على «خطط الترقية» الجرمانية أو اليابانية المتسمة بالتعقل والبطء.
وهنا أيضًا يتألق بريق الأضواء الأمريكية من بعيد. وهذا التأثير — الذي قد يأسف له البعض أو لا يأسف البعض الآخر — يتبدى أيضًا على صعيد آخر، ربما كان أساسيًّا.
إغراءات النشاط المالي
في كل مرة أكدت فيها، في الفصول السابقة، على المزايا التي تتوفر لمنشآت النموذج الرايني عن طريق إمكانية الاستفادة من تواجد مساهمات ثابتة وتمويلات مصرفية مأمونة، رحت أفكر في رد فعل صغار أصحاب الأسهم الذين سيقرءُون ذلك.
والواقع أنهم يفضلون، من جهة، الارتباط بالمنشآت التي يستثمرون فيها أموالهم، ولكنهم يرون من جهة أخرى أن أي «عرض علني للشراء»، هو عرض موجه لهم بالذات، وبوسعهم أن يحققوا ببيع أسهمهم المنشودة «الخبطة» الوحيدة التي أتيحت لهم.
وهذا هو بالذات موضوع التشريع الخاص بعروض الشراء العامة، أي إتاحة الفرصة لتلبية المصالح المشروعة لصغار أصحاب الأسهم بجعلهم يستفيدون من عرض أعلى من أسعار البورصة، وهو الميزة التي تنفرد بها عادة نخبة المساهمين التي تملك حصصًا كبيرة من الأسهم.
وأنا على دراية تامة بالفكرة القائلة بأن عدم تواجد عروض عامة بالشراء يعني قدرًا قليلًا من المردودية. ونظرًا لأنني غدوت في وضع المستجوب بهذا الخصوص، فقد أجريت تحت إشرافي حسابًا لفترة ممتدة لتطورات مؤشرات الأسهم بسعرها النقدي في أربع بورصات من النموذج الرايني؛ وهي بورصات فرانكفورت وزيورخ وأمستردام وطوكيو، وبورصتين أنجلو-ساكسونيتين كبيرتين. ففي مقابل مائة دولار أودعت في كل واحدة من تلك البورصات، ومعها أيضًا بورصة باريس في ٣١ ديسمبر ١٩٨٠م، إليكم قيمة هذه الأسهم بعد عشر سنوات.
طوكيو | ٣٣٤٫١ |
أمستردام | ٢٥٢٫٤ |
فرانكفورت | ٢٣٨٫٥ |
باريس | ٢١٣٫٩ |
لندن | ١٧٣٫٣ |
نيويورك | ١٧٢٫٢ |
زيورخ | ١٧٢٫٠ |
والنتائج مثيرة للدهشة حقًّا؛ فعلى الرغم من الغليان السائد في أسوق الأوراق المالية الأنجلو-ساكسونية طوال الثمانينيات، فإن الغلبة كانت بشكل واضح للأسواق الراينية (باستثناء زيورخ التي يرجع ركودها منذ عام ١٩٨٦م إلى مشاكل خاصة بسويسرا في مواجهة السوق الأوروبية الموحدة).
ومع ذلك فإنني أقدم هذه النتيجة مع تحفظي لأن الأرقام الواردة عاليه ليست سوى حصيلة حسابات شخصية، لا بحث علمي يفترض على الأقل المقارنة بين عينات المؤشرات. ومن جهة أخرى فإن هذه النتيجة جزئية فقط لأنها لا تشمل عوائد الأسهم (وهي أعلى في البلدان الأنجلو-ساكسونية) ولا تشمل أسعار العملات أو الضرائب. غير أن ذلك يعود على الأقل بفائدة، ألا وهي طمأنة صغار حملة الأسهم، والتأكيد على أن النتيجة هي على أقل تقدير التعادل بين فريقي المباراة.
وهناك بالطبع استثناء واحد فيما يتعلق باليابان، حيث تحولت أحيانًا صحوة البورصة منذ بداية الثمانينيات إلى حالات جموح حقًّا ترتب عليها ارتفاع قياسي لأسعار المؤشر الشهير نيكاي. وبلغت علاقة أسعار الأسهم بأرباح الشركات حوالي ٦٠، مما يمثل ٤ إلى ٦ أضعاف ما يلاحظ في الولايات المتحدة أو بريطانيا. وهكذا حققت بنوك الأعمال اليابانية الكبرى مكاسب هائلة. وفي العالم المالي الدولي الصغير يعرف الكل اليوم نومورا، وداى-ايتش، وسوميتومو ودايوا، وهي جميعًا أسواق عقود آجلة أو اختيارية فتحت أبوابها في اليابان، ومقتبسة من أسواق شيكاغو ولندن وباريس. وبالطبع سجلت سوق الأوراق المالية اليابانية انخفاضًا كبيرًا منذ عام ١٩٩١م؛ مما أعادها إلى مستوى الولايات المتحدة وأوروبا.
وفي ألمانيا انطلقت البنوك الكبيرة في الأسواق الدولية الجديدة في وقت متأخر، وهو أمر يؤسف له؛ لأنه ليس جزءًا من مفاهيمها. لقد استيقظ عالم المال تحت تأثير ذلك «الحفل الأمريكي». فكأن بذخ وأضواء الاستعراضات الصاخبة أثرا مع مرور الزمن على فضيلة مدرسة داخلية للراهبات. ومن الواضح أن البورصة في فرانكفورت وطوكيو تريد أن تثأر لنفسها.
وعلى أي حال فقد تسببت عمليتان جرتا مؤخرًا في إحداث شرخ في التقاليد المالية الحمائية التي يتميز بها النموذج الرايني.
جرت العملية الأولى في بداية عام ١٩٩١م، حيث اقترحت نات-ند، وهي أكبر شركة تأمين هولندية، عرض تبادل عام بين أسهمها وأسهم بنك «إن. إم. بي»، ثالث البنوك الهولندية، بغية تحقيق اندماج لم تكن له أي سابقة في البلاد. وقد احتج فورًا صغار أصحاب الأسهم، الذين تضمهم رابطة، على شروط التبادل باعتبارها غير كافية. ومن جهة أخرى، كانت مجموعة التأمينات «أيجون» تمتلك ١٧٪ من أسهم نات-ند، غير أن جهود صغار حملة الأسهم مجتمعة لم تتمكن، بعد رفع سعر العرض الأصلي، من منع ذلك الاندماج الذي كان بمثابة رمز لتغلغل النموذج الأنجلو-ساكسوني على ضفاف نهر الراين.
والعملية الثانية تخص بيريللي-كونتيننتال، وهي ملفتة للأنظار لأنها تتعلق بتدخل شركة إيطالية في ألمانيا. فقد اشترت تلك الشركة المتخصصة في صناعة الإطارات المطاطية، وهي خامس شركة عالمية في سوق تتميز بتركزها الشديد، اشترت شيئًا فشيئًا ٥١٪ من أسهم شركة جومي وركه المنافسة لها. غير أن ذلك لم يمنحها عمليًّا أي سلطة لأن لائحة شركة جومي وركه تقرر، كما هو شائع في ألمانيا، أن عدد حقوق التصويت لا يتعدى اﻟ ٥٪ أيًّا كان حجم حصة المساهم، وهكذا رفضت بالطبع إدارة جومي وركه اقتراح الدمج الذي عرضته بيريللي.
غير أن الجديد في الأمر هو توصل أصحاب الأسهم إلى الدعوة لاجتماع استثنائي للجمعية العمومية قام بإلغاء الشرط الخاص بالحد الأقصى لحقوق التصويت في حدود ٥٪. وتم إلغاء ذلك الشرط ﺑ ٦٦٪ من الأصوات. وانهزم المجلس الإداري وانتصر حملة الأسهم. ويسجل هذا التحول في التاريخ المالي للرأسمالية الألمانية تصاعد نفوذ حملة الأسهم على حساب المديرين، وهو لا يمكن إلا أن يسهم في بث الحيوية في البورصة.
وتترتب عاقبة أخرى على تصاعد نفوذ الأسواق المالية في البلدان الراينية، وهي الفقدان النسبي لاستقلالية السلطات النقدية الوطنية وكذلك استقلالية السلطات العامة على وجه العموم. والظاهرة منطقية بالطبع. فكلما أصبحت الأسواق المالية والنشاطات المالية دولية، غدت البنوك المركزية وقيادات الخزينة واقعة تحت تأثير تحركات رءوس الأموال الدولية وردود فعل الأسواق الداخلية، ولم تعد تتصرف بنفس الحرية بخصوص المتغيرات الاقتصادية الكبرى: الضرائب، ومعدلات الفائدة، والكتلة النقدية … إلخ.
وتجربة الاستقطاع من المنبع التي حاول المستشار هلموت كول أن يفرضها في ألمانيا الاتحادية، واضطر إلى التخلي عنها نتيجة لهروب رءوس الأموال بالجملة مثال واضح لتلك التبعية الجديدة. ورغم أن البنك المركزي الألماني انفرد في يناير ۱۹۹۱م برفع معدلات الفائدة، مناقضًا بذلك القرار الذي اتخذه قبل ذلك بعشرة أيام السبعة الكبار، إلا أن البنكين المركزيين الياباني والألماني مضطران إلى مواءمة تطورات معدلات الفائدة عندهما مع التطورات الخاصة باليورو-دولار، التي تتوقف بدورها وبشكل وثيق على القرارات التي يتخذها الاحتياطي الفيدرالي. وهذه الاستقلالية الأدنى التي تتمتع بها السلطات النقدية اليابانية والألمانية تعبر عن استقلالية أدنى للسياسات الاقتصادية المناقضة لقوة هذين البلدين في إطار الاقتصاد العالمي.
وهل يتعين أن ندرج أخيرًا في هذا الفصل الخاص بالعدوى المالية الخاصة بالنموذج الأمريكي الجديد، ظهور تصرفات مريبة تقع تحت طائلة القانون وترتبط بشكل وثيق «باقتصاد الكازينو»؟ فاختلاسات الأموال، وجريمة استغلال الأسرار الاقتصادية والتزوير باتت تحتل العناوين الرئيسية في الصحف. فقد ثارت ضجة شديدة في ألمانيا، على أثر فضيحة ذات مغزًى مست فولكس فاجن، فقد تبين أن أحد كوادر الشركة الكبار كان يضارب بأموالها في الأسواق المالية. وعلى العكس فإن أي شركة أمريكية ما كانت ستسمح لنفسها على الأرجح أن تسهم، كما فعلت ألمانيا، في بناء مصنع كيماويات في العراق. ومن ذا الذي يمكنه أن يبدي أسفه لاضطرار البنوك السويسرية إلى التخلي عن الأسرار «المقدسة» المتعلقة بحساباتها السرية تحت الضغط الأمريكي، وهو الأمر الذي أثار غضب صدام حسين، عندما تم تجميد ٢٠ مليار دولار يمتلكها العراق في خزائن بنوك جينيف وبازل وزيوريخ؟
وفي اليابان تتعرض أخلاقيات الكابوتو شو (البورصة) للمطاعن. فهناك العديد من العمليات المالية التي تنم عن تصرفات من المافيا أو عن تلاعبات بمعدلات فائدة غير قانونية تمامًا. ولم تحرم اليابان نفسها من الفضائح المالية، فقد سقط رئيسان للوزارة في قضية شركة ريكروت كوزموس، كما هو معروف.
وباختصار فإن المال «السهل» بدا يتغلغل شيئًا فشيئًا في قلب اقتصاديات النموذج الرايني. ومما يدعو للأسف أن هذه البلاد غير محصنة، على عكس البلدان الأنجلو-ساكسونية، ضد مثل تلك الأوضاع، ولا تتوفر لديها النظم الضرورية لذلك ولا وسائل التقصي. غير أن كل هذا ليس سوى القليل من الزبد الذي يطفو فوق تلك الموجة العارمة المسماة الشمولية المالية.
ومما لا شك فيه أن المالية هي إحدى أقوى وسائل الترويج للنموذج الأمريكي الجديد. وقد تبين دورها في تطور الرأسمالية الأمريكية وتأثيرها على الرأسماليتين اليابانية والألمانية. والواقع أن المالية أداة ذات قدرة فائقة لنشر الأفكار الرأسمالية وتعزيز دور السوق في المجال الاقتصادي، والوصاية التي يفرضها على المنشآت.
وقد اشتدت وطأة السوق المالية منذ خمس عشرة سنة بشكل ضخم لم يعهد من قبل في مجمل البلدان الرأسمالية. إنها ظاهرة الشمولية المالية التي أصابت العالم بقوة لا سابق لها. وتعتمد تلك الشمولية على اتجاهات خطيرة ليست عابرة، بل موجة عارمة صادرة من الأعماق: التجديد، والتدويل، وإلغاء القيود. وقبل أن نتدارس تلك العناصر الأساسية يتعين أن نعود إلى تاريخ ظاهرة الشمولية المالية للتعرف على التصدعات التي أدت إلى ذلك النمو الخرافي لعالم المالية.
التصدعات
من العسير تحديد تاريخ ظهور الشمولية المالية؛ إذ إن التحركات الدولية لرءوس الأموال موجودة منذ قرون. فالمصرفيون اللومبارديون هم الذين كانوا يمولون أوروبا النهضة، كما يشهد على ذلك «معدل الفائدة اللومبار»، وهو معدل الفائدة الذي يقرره البنك المركزي الألماني أو لومبار ستريت، وهو أحد الشوارع الرئيسية في لندن. وفيما بعد عمد الإنجليز والفرنسيون إلى تصدير رءوس أموالهم في القرن التاسع عشر على نطاق العالم بأسره، وبالأخص في إمبراطوريتيهما الاستعماريتين. فالادخار الفرنسي والإنجليزي كانا الممول للقروض الروسية ولديون تركيا.
وبعد الحرب العالمية الأولى أصبحت القدرة المالية البريطانية هائلة على الصعيد الدولي، حتى وإن كان نفوذ الولايات المتحدة بدأ يظهر. وقد أثبتت أزمة ١٩٢٩م مدى نفوذ التحركات المالية؛ إذ إن الصدمات التي تعرضت لها البورصات انتقلت عن طريق القنوات المالية الدولية. وبدا أن النظام المالي الدولي قد أصبح رصينًا بشكل ثابت غداة الحرب العالمية الثانية، وأن الدول حريصة على الحفاظ على استقرار ودوام الترتيبات التي تم الاتفاق عليها.
غير أن ذلك التكوين الجميل لم يصمد أمام التقلبات المالية والنقدية التي أصابت الاقتصاد العالمي الذي تعرض لثلاثة تصدعات أساسية؛ أولها: تدهور الهيمنة الأمريكية بسرعة والدولار في أعقابها. ثم تتغلب أوروبا واليابان على تخلُّفها، وتصبح عملات أخرى دولية: المارك، والفرنك السويسري، والين.
وثانيا: ينهار نظام بريتون وودز في أحد أيام شهر أغسطس ۱۹۷۱م، وبالضبط في ١٥ منه، عندما أعلن الرئيس نيكسون نهاية قابلية تحويل الدولار إلى ذهب. وانخفضت قيمة الدولار بنسبة ٨٠٪. وتقرر بمقتضى اتفاقيات جامايكا في عام ١٩٧٦م التخلي نهائيًّا عن نظام المبادلات الثابتة والاعتماد على نظام التعويم. ومن جهة أخرى فشل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي في تحقيق أهدافهما، لعدم توصلهما أبدًا إلى إلزام الدول بالالتزام بانضباط جماعي. وعلى أي حال كان مقضيًّا على اتفاقيات بريتون أن تفشل بحكم تناقضاتها هي نفسها. فقد كان الدولار خاضعًا لضرورتين متناقضتين بحكم أهميته في تمويل الاقتصاد العالمي: فكان عليه من جهة أن يزود العالم بأموال سائلة كافية لكي تدور الآلة، أي الإبقاء في الواقع على عجز ميزان المدفوعات الأمريكية لتوفير الدولارات اللازمة، ومن جهة أخرى كان يتعين على السلطات الأمريكية أن تضمن قابلية تحويل عملتها إلى ذهب والحد من عجزها الخارجي لأسباب جلية. وهكذا تبدى المأزق في حل من اثنين: إما خنق الاقتصاد العالمي، أو التمادي إلى ما لا نهاية في العجز وفي كم الدولارات المتداول، مع عجز الولايات المتحدة عن تنفيذ التزاماتها. وهكذا تحطمت اتفاقيات بريتون وودز وأودت معها بكل ما بدا نظامًا وانضباطًا جماعيًّا منذ عام ١٩٤٥م. وبدأت العملات تعوم حسب تيارات تنقلات رءوس الأموال الصاخبة بقدر أو آخر.
والتصدع الأخير الذي أدى إلى انطلاق المالية يتمثل في اختلالات الموازين الدولية. فقد ساد الاضطراب في العالم منذ عام ۱۹۷۳م مع صدمات البترول، وصدمات الدولار، واختلالات الموازين التجارية، وديون العالم الثالث. وتمثل ذلك في تذبذبات مذهلة وعنيفة للغاية شملت المتغيرات المالية الرئيسية: معدلات الفائدة، وتبادل العملات، وأسعار الأسهم والسندات في البورصة. فالتغيرات التي طرأت مثلًا على معدلات الفائدة خلال الشهور الأربعة الأولى من عام ۱۹۸٠م تجاوزت عشرة أبناط.
وفي مواجهة تلك التشككات لا يجب أن ندهش عندما نجد أن المضاربين عمومًا حاولوا حماية أنفسهم، مما ساهم في انتشار الأسواق الآجلة والاختيارية. ولنا أن نتصوَّر مدى المجازفات التي يتعرض لها مستثمر فرنسي يتفق على عملية في الولايات المتحدة تمتد خمس أو عشر سنوات. فلو هبط سعر الدولار بنسبة ٥٠٪ (وهذا ما حدث فعلًا مرتين خلال عشر سنوات) لذهبت كل مردودية ذلك الاستثمار هباءً. كما أن أي تغير بهذا المدى في الاتجاه السيئ يكون بمثابة كارثة محققة بالنسبة لمستورد ينحصر ربحه في نسبة مئوية محدودة. ولكن تلك التغيرات أضحت يومية. وهكذا تكوَّنت كتل مالية هائلة تدور حول الكرة الأرضية بخصوص منتجات غير مادية بالكامل، ومفترض فيها أن تغطي مجازفات لم يعد أحد يدركها، وإن كان يتعين على الكل أن يتحملها. ويدفعنا ذلك إلى التعرض لأول تلك الاتجاهات الأساسية التي تسببت في ظاهرة الشمولية المالية، ألا وهي الابتكارات.
الابتكارات: وسيلة في خدمة المالية
ما كان يمكن أن تحدث ظاهرة الشمولية المالية بمثل تلك الأبعاد لولا الوسائل التكنولوجية والقانونية. فعلى الصعيد التكنولوجي زودت المعلوماتية والاتصالات السريعة بالأجهزة الحديثة، زودت الأسواق المالية بأسلحتها وقدراتها. فالمعطيات المالية تتداول بكل حرية في أنحاء العالم ويمكن التعامل بها فورًا، وذلك بفضل العقول الإلكترونية والأقمار الصناعية والكابلات. وهكذا أتاح استخدام التكنولوجيات الحديثة خفض تكلفة التعاملات بنسبة ٩٨٪. فالفتيان الذهبيون الجالسون أمام الشاشات يتدخلون بشكل متواصل في مختلف أسواق العالم. وسندات الخزينة الأمريكية تتداول في باريس. ويتم التفاوض على أسهم إلف-أكيتان في لندن أو طوكيو. وكان أول تعامل بالإيكو الأوروبي في بورصة شيكاغو. وهكذا قدَّمت التكنولوجيا وسيلة النقل التي ساعدت على التوسع المالي.
وهكذا فإن ذلك التدويل للمجال المالي جاء نتيجة مباشرة لنموه. كما أنه بشكل أساسي أيضًا انعكاس للطابع العالمي للاقتصاد، الذي شمل كافة المجالات ودفع معه المالية.
وتنتشر هذه الظاهرة في بدايتها عن طريق التجارة، وتلك حقيقة واضحة أقدم من الرأسمالية. أما الجديد في الأمر فهو انطلاقة التجارة العالمية مع حلول عام ١٩٤٥م. فقد نمت التجارة بوتيرة أسرع مرتين من نمو الإنتاج العالمي، وفي ذلك دليل على تزايد نسبة المنتجات والخدمات التي يتم تبادلها على الصعيد الدولي، إلى تلك التي تبقى داخل البلاد، فالاقتصاديات التي تنفتح على الخارج يتزايد استيرادها بالنسبة لإجمالي الناتج القومي. وقد تضاعف مثلًا الاستيراد في الولايات المتحدة من عام ١٩٧٠م إلى عام ١٩٩٠م فأصبح بنسبة ١٤٪ منه، وهو يبلغ في فرنسا نسبة ٢٣٪ في عام ١٩٩٠م مقابل ١٥٪ في عام ١٩٦٠م.
ودينامية التجارة الدولية قوية للغاية، وهي تؤدي إلى تدويل الصناعة تحت تأثير حركتين. فهناك من جهةٍ المنشآت التي تسعى إلى كسب أسواق جديدة وتستقر بقدر الإمكان على مقربة من العملاء، وذلك هو موقف الشركات المتعددة الجنسيات. ومن جهة أخرى يتعين على بعض المنشآت أن تنقل جزءًا من إنتاجها لكي تخفض تكلفة اليد العاملة. وهكذا تنتج الصناعات الإلكترونية جزءًا كبيرًا من العناصر الأساسية في الأجهزة في جنوب شرق آسيا.
ويُحدث التدويل التجاري والصناعي تدفقات مالية دولية هائلة؛ إذ يتعين تمويل التجارة العالمية والاستثمارات الدولية، وتغطية المخاطر وتحويل الفوائد … إلخ، وهكذا تتغذى الدينامية المالية عن طريق تزايد الحاجة إلى رءوس أموال عبر الحدود.
وتضاف إلى ذلك التحركات المالية الناجمة عن فوائض البترول الخاصة بمنظمة البلدان المصدرة للبترول أو الفوائض اليابانية أو الألمانية التي يتم توظيفها في المناطق المحتاجة لرءوس أموال.
وبصفة عامة، تمثل رءوس الأموال الدولية كمًّا هائلًا في حركة متواصلة في أنحاء العالم أجمع. وفي أسواق الصرافة يبلغ حجم التعاملات اليومية حوالي ٩٠٠ مليار دولار، أي ما يعادل إجمالي الناتج القومي السنوي في فرنسا، علمًا بأن إجمالي احتياطيات البنوك المركزية يصل إلى حوالى ٧٠٠ مليار دولار. وتعبر رءوس الأموال الحدود والمحيطات والصحاري في ثوانٍ، وتُستثمر في آنٍ واحد في كافة أسواق العالم بلا توقف أو هوادة. وعندما تغلق بورصة طوكيو أبوابها تنتقل الحركة إلى لندن التي تفتح أبوابها، ومن بعدها نيويورك لتعود من جديد إلى طوكيو في غضون ساعات. ويتعين على الوسطاء الماليين، ومنهم البنوك بالأخص، أن يقيموا شبكات لهم تغطي الأقطاب المالية الثلاثة الكبرى: الولايات المتحدة واليابان وأوروبا. وهكذا نقل نومورا، بنك الأعمال الياباني الكبير، مركز قيادة عملياته في الأسواق إلى لندن، ولم تعد هناك سوى سوق واحدة عالمية للمالية.
إلغاء القيود أم فرضها؟
وقد انتشر إلغاء القيود تحت تأثير أمريكا وإنجلترا. وخففت الأسواق المالية المختلفة من قيودها وأزالت الحواجز وحطمت المتاريس حتى تظل مشاركة في السباق. وفي فرنسا أُلغيت قيود الأسواق المالية على نطاق واسع لكي تلحق بسوق لندن، حتى لا يلحق الضرر بباريس.
وهكذا يحمل المجال المالي في طياته منطقًا مزدوجًا. فهو ينتشر، من جهة، متجاهلًا الحدود والدول، وذلك هو منطق التدويل. ولم تعد المالية تقنع بالإطار القومي الضيق للغاية، والذي لم يعد كافيًا. وهي تقضي على الحدود وتجبر الدول على الرضوخ لها. وقد كتب موريس آليه، الحاصل على جائزة نوبل، يقول: «لقد أصبح العالم كازينو كبيرًا توزعت موائد اللعب فيه على كل خطوط الطول والعرض». ويتضمن المجال المالي من جهة أخرى منطق السوق الصارم. فهو بلا حدود ولا ضابط أو رابط، ومصحوب بفيض من الابتكارات، وأيضًا بمخاطر الانهيار والعمليات المريبة.
وبذلك أصبحت الشمولية المالية الأداة الرئيسية والفائقة القوة للترويج للنموذج الليبرالي المتطرف. ولم يعد نيله من الثقافات الاقتصادية الأفضل تركيبًا، ومنها بالأخص ثقافات البلدان الراينية، أمرًا مستغربًا. وهكذا فإن النموذج الأمريكي الريجاني الجديد أصبح لديه إلى جانب الدعاية الواسعة النطاق والنجاحات التي أحرزها، أنصاره في صفوف المعسكر المناهض له.