لماذا يتغلب الأقل إنجازًا؟
ولنا أن نحدد ونُعمل ذهننا في هذه المرحلة من التحليل حول المفارقة الرئيسية، فمن بين طرازي الرأسمالية الأمريكية والراينية نجد أن الطراز الأخير أقدر عمومًا على الإنجاز من النموذج الأول، وذلك سواء على الصعيد الاجتماعي أو في المجال الاقتصادي حصرًا. ولكن كما رأينا فإن الطراز الأول هو الذي يحرز التقدم سيكولوجيًّا وسياسيًّا منذ بداية الثمانينيات، حتى لدى منافسيه في ألمانيا والسويد، بل وأيضًا في اليابان، وكذلك بالطبع في العديد من بلدان نصف الكرة الأرضية الجنوبي، بدءًا بأمريكا اللاتينية، حيث يتعين أن ننوه بأن نجاح المفاهيم الأمريكية، سواء في مجال السياسة الاقتصادية (إلغاء القيود، والخصخصة) أو في إدارة المنشآت، كان العامل الرئيسي في التقدم الاقتصادي في بلدين صاعدين؛ شيلي والمكسيك.
ولكن لنعد إلى صلب الموضوع، ألا وهو صراع النفوذ بين الرأسماليتين في البلدان المتقدمة. ولو لجأنا إلى الكاريكاتور لتصوير الوضع دون تشويهه، لقلنا إن الأقل جودة يطرد الأفضل في مختلف الأماكن، على غرار قانون جريشام القديم الذي نص على أن العملة الرديئة تطرد العملة الجيدة، فالأقل إنجازًا يتغلب شيئًا فشيئًا على خصمه رغم أن الأخير أكثر فعالية. وهذا التناقض الغريب يحدث بالذات في عصر تحتل فيه عبادة الاقتصاد أعلى المراتب. وفي الوقت نفسه يؤكد النموذج الأمريكي الجديد تقدمه السيكولوجي وتقهقره الاقتصادي، بما يشبه إلى حد ما أن يحرز إعجاب الجمهور في سوق السيارات طرازًا معينًا من السيارات فاخرًا في مظهره وإن كان محركه يعاني من ضيق التنفس، وعلى العكس فإن ما يحققه النموذج الرايني من فعالية يخسره في مجال الجاذبية.
ولتتصور عملية تقصي للآراء في البلدان المتخلفة حول السؤال التالي: «إذا كان بوسعك الاختيار، أين تفضل الإقامة: في أمريكا الشمالية أو أوروبا؟» مما لا شك فيه أن الأحوال المادية للمهاجر (الشرعي) مريحة بقدر أكبر في أوروبا الغربية، فالأجور متساوية مع الأجور في الولايات المتحدة، ومع ذلك فإن أغلبية فائقة الحد ستفضل الولايات المتحدة بكل تأكيد، خاصة وسط الشباب. وهذا مفهوم بالنسبة لأمريكا اللاتينية وآسيا، حيث لا يعرف أحد تقريبًا ظروف المعيشة في أوروبا، كما أن من المؤكد بقدر أكبر أنه لا يوجد بلد في العالم تحظى فيه الولايات المتحدة بأكبر قدر في الشعبية أكثر من الصين الشيوعية. وحتى في إفريقيا وشرق أوروبا، يبدو أن الأغلبية ستختار أمريكا الشمالية: فكندا مثلًا مفضلة بقدر أكبر من البلدان الاسكاندينافية. لماذا؟
غير أن الرأسمالية الراينية المتمسكة بالفضيلة، والحريصة على المساواة والحذرة والرزينة تعوزها الجاذبية. بل إن هذا الوصف مخفف، ولنقل بالأحرى، كما كان الفكر الأوروبي يتصورها قبل «مشروع السوق الكبيرة» في عام ١٩٩٢م الذي عُبئت القوى حوله، مجرد صفر على الشمال من حيث الدعاية لها. فهي تبذل كل الجهود لتنجح دون أن تفعل أي شيء لإثارة الإعجاب بها! أما منافسها الأمريكي فيؤجج حماس المتفرجين ويتمتع برضا الجمهور، وقد تزين بالريش وبدا متعلقًا بالرومانسية وتسبقه ألف أسطورة وأسطورة.
كل ما يلزم لإثارة الإعجاب
والحق أن الرأسمالية الأمريكية هوليودية بالمعنى الصحيح للكلمة. فهي تجمع بين الاستعراضات وقصص المغامرات. وكل المصطلحات التي استُخدمت وأثريت في عهد ريجان مدموغة بهذه التصورات. فهل كان إطلاق المصرفيين لقب «الملك» على مايكل ميلكن، مخترع الأسهم «الرمة»، والمحكوم عليه بالسجن عشر سنوات شاملة النفاذ، وثلاث أخرى مع إيقاف التنفيذ، جاء محض صدفة؟ وقد حمل من قبل إلفيس بريسلي المعبود الأول العالمي للاستعراضات الغنائية لقب «الملك». وينوه ب. م هيرش (مجلة السوسيولوجيا الأمريكية، يناير ١٩٨٦م) بخصوص الرموز التي يقتبس أغلبها الأشكال المتوفرة في الثقافة «الشعبية»: نموذج أفلام رعاة البقر (الأخيار/ الأشرار؛ والكمائن) والقرصنة والعلاقات الغرامية، والقصص الخرافية، والألعاب الرياضية.
ولكن الرأسمالية الأمريكية لا تكتفي فقط بالتذكير بالجمال البري الآسر للأدغال وللكفاح من أجل البقاء. إنها توحي أيضًا بالأحلام الوردية والمال السهل، والثروات المفاجئة، وقصص النجاح الجذابة، لا بالازدهار الصبور والمتعقل المميز للنموذج الرايني. وعبارة «تكوين ثروة» لا تنتمي أبدًا للتقاليد الراينية. ولكنها كامنة في جوهر الرأسمالية الأمريكية التي توفر لنا لاس فيجاس صورة كاريكاتورية لها. فالصناعة الإعلامية الجديدة لحلم «الإثراء بسرعة» لم تنشأ أو تزدهر في فرانكفورت، وكذلك الولع بالإبهار عن طريق الكسب، بل في شيكاغو ونيويورك. ولا يحول ذلك الآن دون أن يتساءل الناس حتى في فرانكفورت أو زيوريخ عما إذا لم يحن بعد الأوان للقيام بجولة في كازينو الاقتصاد. وها هم أرباب العائلات ينظرون من طرف العين نحو المراقص والملاهي الأمريكية. إنهم صغار أصحاب الأسهم الألمان والسويسريين الذين يودون هم أيضًا على الأقل كسب الجائزة الكبرى في سباق الخيل، إن لم يكن خوض اللعبة الكبرى والسيطرة. غير أن بوادر التطلع إلى تكوين ثروة وكسب الشهرة تظهر بالأخص بين المديرين من الجيل الجديد في سويسرا وألمانيا واليابان الذي لم يعرف الحرب.
الانتصار الإعلامي
تظل الرأسمالية الأمريكية نجمًا إعلاميًّا حقيقيًّا رغم إخفاقاتها وديونها ولامساواتها والضعف الذي حل بصناعاتها. إنها الرأسمالية «كما يجب» رغم الهجوم الذي يشنه ضدها أعداؤها (الذين لم يعودوا كثيرين)، فقد أصبحت أسطورة على لسان المدافعين عنها، ويواصل كتَّاب السيناريوهات بلا كلل رواية ملحمتها والإشادة بمآثرها. ورغم كل ضروب الفشل، تحتل الرأسمالية الأمريكية مركز القمة في مجال الإعلام؛ وهذا لأن الإعلام الذي يعكس بصدق مزاج جمهوره يحب التشويق، والأبطال المبهرين، والبهلوانيات المالية، والمعارك بين العمالقة والفرسان البيض أو السود، وصراع الخير مع الشر والمظاهر الخارجية للجاه. وهذا الانتصار الصحفي الذي تحققه الرأسمالية الأمريكية ليس ظاهرة عارضة أو ثانوية قد يرى بعض رجال الاقتصاد أنها ليست هامة، فهي تفسر على العكس مصدر انتشارها الواسع النطاق.
فمن المعروف أن وسائل الإعلام تقوم بدور متنامي في الحياة الاقتصادية. وذلك على الأقل لسبب بسيط مرتبط بسير أعمال البورصة. فالمنشأة التي تريد أن تحصل على تمويل تلجأ إلى الإعلان والصورة والاستعراض، اللهم إلا إذا كانت مؤسسة شهيرة لها وزنها في السوق. فلم يعد كافيًا للمنشأة أن تكون متواجدة، بل يجب أن تظهر. وقد سجلت الثمانينيات انطلاقة هائلة للعلاقات العامة وتسارع لجوء الاقتصاد بشكل خاص إلى الإعلام.
ويصبح الضالعون في النشاط الاقتصادي شخصيات رئيسية في المسلسلات كما سبق أن رأينا، وينتظر المشاهدون منهم أن يكونوا على مستوى السيناريو. فالرئيس الجيد لمنشأة ما لا يمكنه أن يكتفي في ظل تلك الظروف بأن يكون مديرًا قديرًا؛ إذ يجب أن يكون أيضًا — على مرأى الجميع — غازيًا يزيد باستمرار في قوته، ويجندل أعداءه، ويشن «غارات» ناجحة، ويعرف كيف يتخذ الوضع الملائم أمام المصورين، وقد وضع قدمه فوق غنيمته. فصورته التي سيعرضها ستكون بمثابة تعريف بهوية المنشأة. ومظهره المستغَل إعلاميًّا لن يكون أقل أهمية من حسابات المنشأة وحصتها في السوق. وعلى العكس كيف يمكن أن تبدي وسائل الإعلام حماسها بشكل تلقائي لأحد أعضاء مجلس إدارة شركة ألمانية، وهو الرجل المتقشف والقليل الكلام؟ أو أن تلتهب مشاعرها إزاء رزانة مصرفي من زيوريخ أو فرانكفورت؟
فالإعلام له قوانينه، إنها قوانين الاستعراض المتواصل والتشويق، وهي تعرض على الأشخاص الذين تقدمهم للمشاهدين أن يلتزموا بدورهم بقواعد العرض. وهكذا يعمل الإعلام الكاريكاتوري الخاص بالنموذج الأمريكي الجديد في الاتجاهين. وهو بلا شك أحد مفاتيح نجاح هذا النموذج سيكولوجيًّا، ولكنه يزيد في الوقت نفسه في قيوده وعيوبه؛ إذ يتعين على رؤساء المنشآت والمغيرين والذئاب الشابة الذين تقدمهم وسائل الإعلام أن يحتفظوا من الآن فصاعدًا بصورتهم العامة أمام الجمهور، على غرار نجوم هوليود، وبشكل مثير للسخرية أحيانًا، فكم من القرارات المغامرة إلى حد أو آخر، وكم من الاختيارات المقدامة قد تقررت بغية إرضاء وسائل الإعلام وإشباع النرجسية دون الاعتراف بذلك أبدًا؟ فاقتصاد الكازينو يستغل العرض الذي يقدمه عن ذاته، ولكنه يصبح أسيرًا له في الوقت نفسه.
وكما هو معلوم، فقد عبر هذا الإعلام الاقتصادي المحيط الأطلنطي مع النموذج الأمريكي الجديد. واكتشف أرباب العمل الأوروبيون، شاءُوا أم أبوا، أن مظهرهم له أهميته، وأن الأداء السيئ على شاشة التلفزيون أو جملة صغيرة جاءت على لسانهم أمام المكروفون قد تكلفهم ثمنًا باهظًا. وقد تعين عليهم أن يعتادوا إدراجهم في قوائم الإعلام مثل المغنين والرياضيين، وتوجب عليهم أن يكونوا أعضاء كاملي الأهلية في «مجتمع العروض». أما الشركات نفسها فقد اضطرت إلى الاستعانة، بقدر أقل أو أكثر من التوفيق، بمستشارين في العلاقات العامة مكلَّفين بتلميع صورتها.
بيع الآمال بالمليارات
لنكن واقعيين. ما الذي يتطلع إليه الرأسمالي، وبالأخص المرشح الرأسمالي من الجيل الجديد؟ وما هو هدفه من الحياة؟ تكوين ثروة بالطبع!
وهذا أمر واضح تمامًا اليوم، ولكنه لم يكن كذلك بالأمس، فمن بين كبار رجال الصناعة في فرنسا (أمثال جاك كالفيه، رئيس مجلس إدارة ومدير عام بيجو، وديديبه بينو. فالانسيان، رئيس مجلس إدارة ومدير عام مجموعة شنايدر، وأنطوان ريبو، رئيس ومدير عام شركة دانون) الذين نسوا أن يكوِّنوا لأنفسهم ثروات، ولا يشغلهم سوى نجاح منشآتهم. وتلك هي القاعدة في ألمانيا. أما في الولايات المتحدة فهو أمر لا يمكن تصوره؛ فنجاح المنشأة والمكاسب التي ربحها رئيسها من ذلك النجاح مسألتان مترابطتان بشكل وثيق.
فالمطلوب إذن تكوين ثروة وبسرعة. وهناك قاعدة بهذا الخصوص: «الشراء أرخص من البناء»، وقد لاحظنا من قبل تطبيقاتها العديدة. وتقودنا تلك القاعدة إلى التمييز بين وسيلتين فقط يمكن الجهر بهما:
الوسيلة الأولى هي اختراع وبيع منتج ما أو خدمة أو مفهوم (مثل جيلبير تريجانو ونظامه السياحي، كلوب ميديتيرانيه؛ ودارتي وعقد الثقة الخاص بالبيع بالتقسيط). غير أن من مصلحة المبتكر — بل قد يتفق ذلك مع استعداداته الشخصية في الكثير من الحالات — أن يلجأ إلى وسائل الإعلام، أو بعبارة أخرى أن «يبيع نفسه» لكسب جمهور عريض.
أما الوسيلة الثانية، وهي أكثر رشاقة وبراعة، فتتمثل في جني الأموال من الأسواق المالية. وبوسع المؤسسات القائمة أن تحقق ذلك بدون ضجيج. ولكن الفرد الذي يعمل لحسابه الشخصي يتعين عليه أن يعرف الناس به لكي يجتذب المدخرات بعد ذلك باسمه. فيا لمتعة إظهار القدرة على بيع مليارات الآمال لصغار أصحاب الأسهم!
ولنعالج مجال القيم انطلاقًا من المنطق المالي. وينوه جان كازانوف (الإنسان، مشاهد التلفزيون، الناشر: دينويل-جونتييه، ١٩٧٤م) بأن النجومية لا تضفي فقط المكانة، ولكن الثروة أيضًا. ففي عالم العروض تكون المكانة نفسها مصدر الثروة، وهي التي تضفي الشرعية على السلوك، لا العكس كما في الوضع الكلاسيكي.
ومما لا شك فيه أن التوسع الإعلامي على نطاق عام، وتلك الأهمية الزائدة عن الحد للعلاقات العامة مرتبطان باقتصاد أصبح بحكم طابعه اقتصاد الإعلام. ولكن يجب أن نعرف أن الرأسمالية الأمريكية مسلحة في هذا المجال أكثر من خصمها ألف مرة. فالظروف كلها مهيئة على الصعيد الدولي لضمان فوز صورتها. وهيمنة أمريكا الثقافية تزداد وضوحًا من وجهة النظر هذه … الجماهير في جاكارتا، وليما، وريو دي جانيرو ولاجوس مولعة بالمسلسلات الأمريكية من إخراج هوليود، وباللقطات الإعلانية والرسوم المتحركة القادمة عبر المحيط الأطلنطي. والأمر على هذا المنوال أيضًا في الجامعات بعد انهيار الماركسية. ومما لا شك فيه أننا قد نثير دهشة المثقف في أي بلد متخلف لو كشفنا له أنه يوجد نوع آخر من اقتصاد السوق، وأثبتنا له بالأدلة التي في متناول أيدينا أن الرأسمالية الراينية تخضع لقواعد أخرى خلاف تلك التي يراها عمليًّا في مسلسل دالاس المصحوب بترجمة على الشريط، وأن نتائجها أفضل عمومًا.
الإعلام الاقتصادي وأزمة وسائل الإعلام
لقد كشف النموذج الرايني عن عجزه في مجال الإعلام وفي تصدير تصوراته، فترك لمنافسه الساحة بخصوص ما يمكن أن نسميه «المفارقة أس ٢»، والتي يمكن توضيحها في بضع جمل. لقد سبق أن رأينا أن اقتصاد الكازينو يستمد جزءًا من قوته عن طريق الجاذبية الصحفية. وهو في المقابل خاضع لتأثير الإعلام مما لا يخلو من متاعب. غير أن تعميق التحليل يبين لنا أيضًا أن وسائل الإعلام نفسها انتقلت إليها عدوى المضاربة، وتسلطت عليها الحاجة الملحة إلى تحقيق مردودية سريعة نظرًا للدكتاتورية التي يفرضها المال.
وليس الصحفيون آخر من يدين القلق السائد منذ سنوات وسط مهنتهم. ويرجع ذلك إلى حد كبير إلى وطأة حكم المال ومقتضيات المردودية في الأجل القريب، مما يزيد من الضغوط، أي إننا في الواقع بصدد الصيغة الإعلامية لاقتصاد الكازينو. فعندما لا تكون وسائل الإعلام سوى سلعة خاضعة لقوانين السوق الصارمة، وعندما تكون وسائل الإعلام مهتمة ببيع القراء أو المشاهدين لأصحاب الإعلانات، أكثر من تزويدهم بالمعلومات، فسرعان ما تفسد آداب المهنة. ويجب أن نلاحظ أن البلد الذي يحتل في هذا المجال المركز الطليعي للنموذج الأمريكي الجديد ليس الولايات المتحدة، بل فرنسا.
فالواقع أن هناك تقاليد شبه طائفية في البلدان الأنجلو-ساكسونية تحقق استقلالية الصحفيين إزاء الصحف التي يعملون لديها، ويساندهم في ذلك قراء متعلمون، خاصة في المسائل الاقتصادية والمالية، مما يحول إلى حد كبير دون الإعلام الصاخب حول الاقتصاد، كما هو الحال الآن في فرنسا، خاصة بعد خصخصة قناة التلفزيون الرئيسية.
ومن هنا تنبع الملاحظات التي تتكرر بأقلام الإخصائيين الفرنسيين في مجال الإعلام، والذين يبدون قلقهم من الأزمة الحقيقية التي تعانيها آداب المهنة.
وأخيرًا نشر آلان كوتا، وهو من الاقتصاديين الرئيسيين الذين لم يكفوا أبدًا عن تأييدهم لاقتصاد السوق، كتابًا مفزعًا في فبراير ۱۹۹۱م عنوانه الرأسمالية بكافة أحوالها (فايار)، خصص ثلاثة فصول من فصوله الخمسة لمعالجة التطور الأخير للرأسمالية:
-
الرأسمالية الإعلامية.
-
الرأسمالية تحت قبضة المالية.
-
الرأسمالية الفاسدة.
«لا يمكن فصل انتشار الفساد عن اندفاعة النشاطات المالية والإعلامية. فعندما الإعلام الفرصة لتكوين ثروة في دقائق، بينما يستحيل الحصول عليها حتى بالعمل المكثف طوال الحياة، وذلك بمناسبة العمليات المالية من كافة الأنواع — وبالأخص الاندماجات ونقل الملكية وعروض الشراء العلنية — فإن الإغراء بشرائها أو بيعها أمرًا لا مفر منه. فالعمولة تجتذب الفساد، كما تأتي السحب الكثيفة بالرعد».
وكلما أصبح من اليسير على البعض الكسب دون أن يعملوا، كلما صورت نجاحاتهم على أنها أعمال جليلة، وتزايد عدد المرشحين للحصول على رشاوى أو للمشاركة في عمليات تهريب المخدرات. وعندما يتعين على وسائل الإعلام أن تخضع لقانون الربح الفوري (ولا شك أن البلدان الراينية ستكون آخر من سيحتفظ بقنوات تلفزيونية عامة بلا إعلانات، على غرار البي. بي. سي)، فستلجأ بالتبادل إلى عدم معالجة الحياة الاقتصادية والمالية إلا من خلال الخروج على القوانين والتعدي على الزمن. ويضيف آلان كوتا قائلًا: «لكي تكون التسلية التلفزيونية تامة، يتعين عليها رفض الوقت الذي ينقضي وتركيز الكائن على اللحظة التي تكون هي أيضًا تناسيًا لضغوط الحياة، وفي مقدمتها الموت. فالوقت الذي يستغرقه المسلسل التلفزيوني يتدارك الزمن بإعطاء الانطباع بأنه ليس هناك إطلاقًا شيء يتوقف». إنه الحاضر الخالد والربح من أجل الحاضر.
الربح من أجل الحاضر
كشفت الأوضاع الثقافية في الثمانينيات عن كونها مرحبة للغاية بهذا الجانب من النموذج الأمريكي الجديد. فقد كانت تلك السنوات في الواقع فترة أزمة عامة لأنظمة النموذج الفكر وتمجيدًا للفردية والتسلية وانتصارًا لما أسماه جيل ليبوفتسكي «عهد الفراغ».
فهذا المفهوم للعالم والذي يقتصر فقط على تحقيق الأنا، والمصلحة الفردية، والإعجاب بالتحرر الشخصي، وتسلط الجسد والجنس … يدفع إلى الإفراط في استثمار الخاص، وبالتالي تسريح الحيز العام» (عهد الفراغ، الناشر جاليمار، ١٩٨٦م).
غير أن هذا المناخ الفردي بشكل كاريكاتوري، والذي خابت فيه الآمال، يوفر للنموذج الأمريكي الجديد ميزة تقديم فكرة قوية وبسيطة ورسالة مطمئنة. فالشيوع الآن للحد الأقصى من الربح وفورًا، وتحقيق المصلحة الفردية العليا، والتفضيل المنتظم للأجل القصير، وعدم الثقة في أي مشروع جماعي … هذا عدا المنطق الأعوج، والوقاحة المتوارية، والتواطؤات الإعلامية، وكلها تجعل تلك الصيغة المقتبسة من النموذج الأمريكي الجديد أشبه إلى حد ما، وبشكل مفارق حقًّا، بالنموذج الشيوعي الذي تمكن هو من التغلب عليه.
وهذا النموذج متوافق على أي حال مع المناخ السائد. فعبادة الربح مهما كان الثمن تتميز ببساطتها الغاشمة وبالوضوح، ومما يزيد من قوتها أنها تتجلى كعلامة وحيدة ثابتة وسط ضباب عدم التيقن والبلبلة وضياع القيم الأخلاقية التقليدية.
وإضفاء الشرعية على النجاح الفردي وتحويل المنتصر إلى أسطورة يداعبان الفردية الشائعة. فالأولوية للأجل القصير، وﻟ «بعدي الطوفان»، وللجوء بلا حرج للاقتراض والاستدانة، كل ذلك يتفق مع مذهب اللذة الآنية. وبالطبع فإن فترات خيبة الأمل المعنوية والفلسفية، عندما تكون أنظار كل فرد متجهة نحو الحاضر لا المستقبل، لا تساعد على البرهنة على ضرورة الادخار وأهمية الأجل الطويل. أما قانون الغابة فهو الذي يظل من سائدًا في نهاية الأمر عندما يتم التشكك في كافة «القوانين» الأخرى وكل أشكال التنظيم الجماعي. إنها العودة إلى «قاعدة الحقائق» بعد إفلاس الأيديولوجيات.
وتقاس عبادة الربح خلال الثمانينيات بتضاعف أعداد معابدها. فلم يحدث أبدًا من قبل أن أقيم مثل هذا العدد من مدارس «البزنيس» التي تردد كافة كتبها نفس المبادئ المقدسة التي ترمز إليها جائزة الامتياز (إنتر ايديسيون، ۱۹۸۳م). لماذا الامتياز؟ من أجل الربح طبعًا! وما العمل بهذا الربح؟ لا توجهوا هذا السؤال بالأخص، وإلا تم استبعادكم من قدس الأقداس لتشككم في البند الأول من قانون الإيمان الجديد: غاية الربح هي الربح. ولا مجال للتساهل هنا. فالمبدأ القاطع يقضي باستبعاد قضية الغائية «الفلسفية» والاكتفاء بدراسة تقنية الوسائل. وهكذا تصب هذه الدراسة بدورها في تصور الرأسمالية الأمريكية الجديد: الحاضر من أجل الربح، والربح من أجل الحاضر.
فالسفسطة كثيرًا ما تكون رائجة في دراسة النظام الاقتصادي الذي تحول إلى مبدأ يقود المجتمع، فحواه أن ما ينجح يكون فعالًا، وما يكون فعالًا فهو حقيقي، إذن فما ينجح هو الحقيقي.
ولنلاحظ مع ذلك أن بوادر تقهقر تلك الأفكار «الواصلة» التي راجت خلال الثمانينيات، بدأت تظهر. فالنشوة المتعجلة التي سرت في نفوس المديرين الذين لا تعذبهم ضمائرهم، والفعالية الواثقة بنفسها أكثر من اللازم بدأتا تتلاشيان. وظهرت من الآن «مودة» جديدة، «مودة» الأخلاقيات، وسط المديرين المسايرين لعصرهم، مما يقرر حدود نفعية الأمس. وهذه الريح الجديدة تأتينا هي أيضًا من أمريكا. ويهمني أن أنوه بذلك لسببين: الأول، أن كل فكرة «صنع في أمريكا» مباعة مقدمًا، خاصة في فرنسا. وإذا كان هناك ثمة هدف لهذا الكتاب فهو أن الرأسمالية لن تتمكن من الإسهام في تقدم المجتمع ما لم تُخضع نفسها لأخلاقيات ومبادئ القانون الدولي. والسبب الثاني هو أن الشعب الأمريكي ينظر إلى الأخلاقيات بجدية، والحال ليس كذلك أبدًا في البلدان اللاتينية بصفة عامة.
مفاتن فينوس وعفة جونون
سينتشر على الأرجح رفض مستحدثات الماضي في السنوات القادمة. مع ذلك فإن المناخ الجاري وتأثير اللحظة لا يزالان مواتيان إلى حد كبير بالنسبة للنموذج الأمريكي الجديد. ولا يمكننا أن نقول نفس الشيء بخصوص النموذج الرايني. فما يؤاخذ عليه هو سيره في عكس التيار على كل الأصعدة تقريبًا. والتفاهم الاجتماعي الذي يعتمد عليه لا يتفق إطلاقًا مع تصفية النقابات والأزمة العامة التي تمر بها المؤسسات الجماعية. كما أن تمسكه بالأجل الطويل لا يتفق، ظاهريًّا على الأقل، مع الاستهلاك المسعور والفوري. والمفهوم العضوي والجماعي للمنشأة الذي يقوم هذا النموذج على أساسه لا يتمشى مع الفردية المحمومة السائدة. وارتيابه إزاء المضاربات في البورصة وخطط الترقية البطيئة والمنتظمة التي يوفرها لكوادره، تفوح منها رائحة الوعظ الأخلاقي الذي عفا عليه الزمن. أما الرعاية الاجتماعية والأمن اللذان يتباهى بتوفيرهما للعاملين، فهما لا يتمشيان إطلاقًا مع الأحلام الرائجة التي تحبذ حياة البطولة والمغامرة.
ولو تمسكنا بالمظاهر وحدها لكانت الرأسمالية الراينية بالأصح «مسطحة» فهي تفتقر إلى «الأناقة»، ولا تنشر الأحلام واللهو، كما أنها ليست أخاذة. ولنقلها بصراحة، النموذج الرايني ليس «مثيرًا». فبينما يجتذب النموذج الأمريكي الجديد بمفاتنه الشبيهة بمفاتن فينوس، فإن النموذج الرايني يذكرنا بشرعية العفة التي تتحلى بها جونون. ولكن من يعرف جونون؟ وأين هم المصورون أو النحاتون العظام الذين ألهمتهم؟ وأين هم أساتذة الاقتصاد الذين يعرضون الدروس التي يجب استخلاصها من التقدم الاقتصادي والاجتماعي الفائق الذي حققته ألمانيا؟ وأين هم الساسة الشبان الذين يقدمونه كنموذج لناخبيهم؟
على أنه من الخطأ مع ذلك الاعتقاد بأن عدم نجاح الرأسمالية الراينية سيكولوجيًّا يرجع فقط وبكل بساطة لسوء الترويج لها إعلاميًّا أو لعدم تمشيها مع القيم — بل بالأحرى للَّاقيم — الرائجة الآن. فالأمر يرجع أساسًا إلى كون التيارات الفكرية والقيم التي انبثقت منها تقابل بالتجاهل على نطاق واسع أو بالمعارضة.
فدور التعاليم الاجتماعية للكنائس في إعداد «اقتصاد السوق الاجتماعي»، الذي جمع أساسًا تأثير الكاثوليك داخل الحزب الديموقراطي المسيحي، وتأثير البروتستانت جمع داخل الحزب الاشتراكي الديموقراطي، دور مجهول. وهذا الجهل مثير حقًّا للدهشة، خاصة وأن السلطة المعنوية للكاثوليكية تعززت من عهد البابا يوحنا الثالث والعشرين حتى عهد البابا يوحنا-بولس الثاني، مع تعمق التعاليم الاجتماعية للكنيسة باكتشافها وتقديرها لوظيفة المنشأة الخلاقة. وجدير بالملاحظة أن من بين العناصر التي تقرب البلدان الراينية من اليابان التشابه الكبير فيما يتعلق بالوظيفة الجماعية للمنشأة، وكذلك التشابه بين الفلسفة الكونفيشيوسية والفكر الكنسي بخصوص تنظيم المجتمع. ويظل ذلك مجهولًا هو أيضًا. ومع ذلك فإن «فراغ» ما بعد الشيوعية يدعو المسيحية الاجتماعية إلى استرداد الدينامية والنفوذ اللذين ظلا محصورين إلى حد كبير منذ جيل في إطار البلدان الراينية.
والتيار الاشتراكي الديموقراطي العريض، في أوروبا على الأقل، ليس غريبًا عن نموذج الاقتصاد الاجتماعي للسوق، رغم المعارضة التي يلقاها. بل يمكن القول على غرار بيير روزنافالون، أن ما سميته في هذا الكتاب النموذج الرايني ليس بعيدًا للغاية عن التطلع إلى المثل الأعلى الاشتراكي الديموقراطي بعد تحديثه وتعديله، بيد أن الاشتراكية الديموقراطية التي قدمت البلدان الاسكاندينافية، وخاصة السويد خير تجسيد لها، تتقهقر بسرعة على الصعيد الفكري. والواقع أنها فقدت جانبًا كبيرًا من حيويتها منذ عشرين سنة بعد أن استسلمت للانحراف نحو نوع من العمالية البيروقراطية الكسولة. فردًّا على سؤال وجهه زائر لمدير مصنع سويدي: «كم عدد من يعملون هنا؟» أجاب قائلًا: «النصف تقريبًا.» ومن هنا أصبحت معدلات الفائدة، والتضخم، والاستثمار غير متلائمة مع مقتضيات المنافسة الأوروبية.
وقد أدرك السويديون ذلك وراحوا يصلحون بطريقتهم الخاصة التوازنات الاقتصادية الكبرى في نهاية الثمانينيات، إلى حد ما كما تصرف قبلهم العديد من الاشتراكيين الأوروبيين: بينيتوكراسكي في إيطاليا، وفيليبه جونزالس في إسبانيا، وماريو سوارس في البرتغال، وبالأخص ميتران في فرنسا.
وهل ستستعيد الاشتراكية الديموقراطية عنفوانها؟ هذا غير مؤكد، خاصة وأنها عانت بشكل خطير من التقهقر الشديد، بل والانهيار الذي حل باشتراكية الدولة.
فراغ كبير في الشرق
لن أتوسع هنا فيما سماه فرانسوا فوريه «لغز تحلل الشيوعية» (مذكرة مؤسسة سان سيمون، في أكتوبر ۱۹۹۰م)، أي في تلك الهزة الأيديولوجية العنيفة، الغربية وغير المتوقعة، والتي لم ننتهِ بعد من حصر كافة عواقبها. وقد نوه في بداية هذا الكتاب بأن ذلك التحلل يترك الرأسمالية بشكل خطير في مواجهة نفسها. ويلقي ذلك التحلل الضوء في نهاية الأمر على الفترة التي أسعى إلى توضيحها في صفحات هذا الكتاب. فنهاية الشيوعية والمواجهة بين الشرق والغرب لا تسجل فقط انتصار نظام (ليبرالي) على نظام (حكومي). فهذا السقوط يجر معه في دوامة هائلة مجموعة كبيرة من الأفكار، وردود الأفعال، والحساسيات، والتحليلات التي ما كانت تستحق أن تزول بأكملها. ومما لا شك فيه أن التاريخ سيُجري في المدى الطويل عملية فرز. ويحب أن نعترف بأن هذا الفرز لم يتم بعد.
والواقع أن هذا الفراغ المفاجئ الذي حل بشرق أوروبا أشبه إلى حد ما بحمولة فوق باخرة العالم، تفككت أربطتها فجأة فمالت بالباخرة على جانب واحد. فالأمر لا يقتصر فقط على سقوط الشيوعية بصيغتها الستالينية أو البيروقراطية بشكل لم يعد من الممكن تداركه، بسبب ذلك الفشل التاريخي، بل إن كل ما يرتبط من قريب أو بعيد بالمثل الأعلى الاشتراكي الإصلاحي أو الاجتماعي ببساطة، قد تعرض هو أيضًا للأذى بلا جريرة.
ويتعين أن نقيس مدى فداحة هذا الإقصاء الذي لا يمكن وقف تياره الذي لا تعوزه حاليًّا التفاصيل. ففي بلدان أوروبا الشرقية وحتى في الاتحاد السوفيتي، استهلكت تمامًا بعض المفردات الدارجة في اللغة وتضررت نتيجة لتجنيدها تحت راية الشيوعية، حتى إن أحدًا لم يعد مستعدًّا لاستخدامها. وينطبق ذلك مثلًا على كلمات مثل «الحزب» و«الجماعة» و«العاملين». ولذا فضلت أغلب الأحزاب السياسية التي ظهرت من جديد في أوروبا الشرقية أن تطلق على نفسها تسميات مثل «المنتدى» (تشيكوسلوفاكيا)، و«التحالف» (المجر)، و«الاتحاد» (بولندا). وعبثًا سنحاول العثور في الصحافة الديموقراطية المجرية أو التشيكية عن أي ذكر لكلمات الماضي — العاملين، الخطة، الأهداف الاستراتيجية — التي دفنت مع النظام نفسه.
وبالطبع لم نصل إلى هذا الحد في الغرب فيما يتعلق بمفردات اللغة. ولكن ليس من المؤكد أن عواقب الاندحار الشيوعي تختلف أساسًا عن ذلك بالنسبة للأفكار. فهناك مفاهيم مثل الحد من ضروب اللامساواة، وحقائق مثل النقابية، وتطلعات مثل الانضباط الجماعي، ومؤسسات مثل الخطط أو حتى الضريبة المباشرة، ومراجع مثل الاشتراكية الديموقراطية، أصبحت كلها تحمل ضمنيًّا علامة «ناقص»، وتثير الشكوك. لقد تسبب إذن «الفراغ الكبير» في فراغ كبير عندنا لدى اليسار واليسار الوسط نتيجة لما يسمى التطور الجدلي للأفكار.
لقد أصيبت الحياة السياسية الأوروبية من وجهة النظر هذه بشلل نصفى. وحل الفتور الحتمي باليسار. وتذكرنا هذه الظاهرة، ولكن بعكسها، بما جرى عندنا غداة التحرير. فقد أدى تواطؤ جزء في اليمين الفرنسي مع حكومة فيشي والتعاون مع العدو إلى التنصل لأمد طويل من تلك التوجهات السياسية والثقافية بل والأدبية. وهكذا تمتع اليسار لمدة ثلاثين سنة تقريبًا، باحتكار فِعلي عم الثقافة والجامعات.
أما اليوم فقد أصبح اليسار، بل وحتى الوسط، يتيمًا ومعاقبًا ومحرومًا من مراجعه وقناعاته. أي إنه تم دفعه نحو ظلمات الفشل التاريخي. ولم تمس هذه الظاهرة فرنسا وحدها. فقد انتقل مركز الثقل السياسي في أوروبا اليوم نحو التوجه المحافظ الصريح أو المتواري.
وبالطبع يستفيد النموذج الأمريكي الجديد، الذي يُعتبر الصيغة القوية والمتشددة للرأسمالية، من ذلك التحول الهائل. وعلى العكس فإن النموذج الرايني المشبع بالأفكار الاجتماعية والقريب الصلة بالاشتراكية الديموقراطية، يصطدم بشكل مباشر بالتوجهات الجديدة الليبرالية المتطرفة.
وفضلًا عن ذلك يبدو النموذج الأول عفيًّا وشفافًا وغير متساهل، ومحترفًا حقًّا. أما النموذج الآخر فهو معقد ومائع إلى حد ما، ومعتم إن لم يكن غامضًا، ويخلط في نهاية الأمر بين المتطلبات الاجتماعية والمقتضيات المالية، وبين تراث الماضي والتطلع إلى المستقبل، بنوع من الهواية الحسنة النية، مما أفقده «جاذبيته». ولكن لن يمضي وقت طويل حتى ينعكس على نطاق واسع وبعنف لا يقارن بما جرى في شرق أوروبا، ذلك الصدع القائم بين الأغنياء الجدد والفقراء الجدد الذي يتميز به المجتمع الأمريكي اليوم. وعندئذٍ سيتعين إبداء الاهتمام بتلك «الرأسمالية ذات الوجه الإنساني»، كما ظهرت بوادر ذلك في بولندا، وهي تلك الرأسمالية التي أحاول أن أحددها إجمالًا وبشكل تقريبي على أنها النموذج الرايني.
والنجاح السيكولوجي والإعلامي والسياسي الذي أحرزته الرأسمالية الأمريكية ليس مفارقًا إلى ذلك الحد الذي قد نتصوره في الوهلة الأولى. بيد أنه تترتب عليه تأثيرات ضارة. فعندما «تُستورد» تلك الرأسمالية الأمريكية، وتعبر المحيط الأطلنطي لتتغلغل في النموذج الرايني وتغوي بريطانيا أو تجعل فرنسا تستسلم للأحلام، فإنها لا تحضر معها «مضاداتها» التي تحد بقدر ما من تجاوزات «قانون الغابة»، ومنها الشرعية الشديدة التدقيق، والأخلاق المستوحاة من العقائد الدينية، والروح الوطنية، وعقلية المشاركة … إلخ.
والخلفية الثقافية في أوروبا وفي أي بلد من النصف الجنوبي من الكرة الأرضية مختلفة عن الخلفية الثقافية الأمريكية. فالكوابح والموازنات والتصحيحات التي يمكننا أن نلاحظها في الولايات المتحدة، لا توجد أو لا تعمل بنفس الطريقة. ولذا فإن صيغة الرأسمالية الأمريكية «المصدرة» التي يكن لها الاحترام بعض الليبراليين المتطرفين في أوروبا، قد تبين أنها أشد قسوة وأقل توازنًا وأشبه «بالغابة» بقدر أكبر من الصيغة الأصلية. وتطبيقها بلا حذر أشبه بالدواء الشديد المفعول الذي يراد استخدامه دون توفر المضادات التي تدرأ آثاره الجانبية. وبلدان شرق أوروبا معرضة لخوض تجربة من هذا النوع من النقل الفظ.
عاشت الشركات المتعددة الجنسيات!
بيد أن هناك استثناءً هامًّا بالنسبة للاتجاه الجديد الذي يؤدي إلى تغلب النموذج الأقل إنجازا. وهو يتعلق أساسًا بالشركات الكبرى المتعددة الجنسيات. وتلك مفارقة حقًّا. فهل هناك ما هو أمريكي أكثر من أمريكان أكسبريس، وكوكا كولا، وسيتي كورب، وكولجيت، وفورد، وآي. بي. إم، أو مكدونالد؟ فهي جميعًا تابعة من حيث المبدأ للنموذج الأمريكي. ولكن إذا نظرنا إليها عن كثب لوجدنا أن الوضع مختلف تمامًا؛ فالشركات الأمريكية الكبرى المتعددة الجنسيات مختلفة الأمريكي الجديد في مسألتين أساسيتين:
فقد تطورت تلك الشركات أساسًا عن طريق نموها الداخلي من خلال مشروع صناعي يعتمد على الابتكار التكنولوجي أو التجاري. فهي لم تكف إذن عن التفكير على المدى البعيد، وهي التي ابتكرت التخطيط في إطار المنشأة، ونجاحها في هذا المجال أدى إلى إضافة التخطيط للمنشأة إلى المناهج الدراسية في معاهد إدارة الأعمال.
كما أن هذة الشركات اضطرت إلى اختيار عاملين من العديد وتدريبهم حسب مفاهيم إدارية متماسكة، وثقافة خاصة بالمنشأة، حتى تتمكن من الانتشار في كافة القارات. وهذا لا يتم بين عشية وضحاها. ولذا تضطر هذه الشركات المتعددة الجنسيات إلى تركيز الجانب الأساسي من سياستها على العلاقات الإنسانية خارج سوق العمل، وعلى توفير التدريب المتواصل للعاملين لديها وضمان استمرارهم وتقدمهم في عملهم.
وتنتمي الشركات الأمريكية الكبيرة المتعددة الجنسيات بالأحرى من هاتين الزاويتين، إلى النموذج الرايني لا إلى النموذج الأمريكي الجديد.
ولنلقِ نظرة الآن على الشركات المتعددة الجنسيات الأوروبية الأصل، ومنها على سبيل المثال باير، ونسلة، ولوريال، وشلومبرجر، وشل. وهي تتميز بنفس سمات الشركات الأمريكية المتعددة الجنسيات بل وأكثر.
وتستحق حالة شركة شل أن ننوه بها لأسباب ثلاثة: أولًا، كان من المفترض بشكل طبيعي، أن تكون معوقة منذ نشأتها لأنها تخضع بنسبتي ٤٠٪ و٦٠٪ للمصالح الإنجليزية والهولندية. وهذا التوازن المالي التقريبي يُعتبر عادة عامل عجز. ومع ذلك فقد ارتقت شل إلى المرتبة الأولى في أرباحها العالمية. ويرجع ذلك أساسًا إلى امتياز تنبؤاتها الاقتصادية. وقد اتضح لي أن اقتصاديي شل ربما كانوا الوحيدين في العالم الذين توقعوا الصدمة البترولية قبل وقوعها بسنوات، واستطاعوا إقناع قادتها برسم استراتيجيتهم على أساس ذلك التنبؤ. وأخيرًا، فرغم أن شل من أصل أوروبي، إلا أنها تمسكت دائمًا بقواعد أخلاقية صارمة بشكل خاص ومقبولة من العاملين لديها.
ومجموع الشركات الأخرى المذكورة آنفًا، يتميز بسمتين مشتركتين تهيئان للمستقبل آفاق توليفة أفضل تجمع بين نموذجي الرأسمالية.
فمهما كانت قوة هذه الشركات، إلا أنها ظلت بمأمن من القوانين الكونية لبيولوجيا المنظمات التي تقضي بأنه كلما تضخمت وتقدم بها العمر، كلما زادت احتمالات ترهلها بسبب الطفيلية البيروقراطية لقيادتها المفرطة العدد، وانحسار الحافز لدى العاملين في تلك الشركات الكبيرة الغنية.
لماذا كان وضع الشركات المتعددة الجنسيات استثناءً بالنسبة لتلك القاعدة؟ لأنه بالرغم من قوتها إلا أن أسهمها المطروحة في البورصة تجعلها تابعة لسوق المال التي تعتبر مدرب الأبطال الصارم والمحافظ الأمثل على اللياقة الأولمبية. بل إن تزايد قوة هذه الشركات وتوسعها في نموها وتكاثر حاجاتها إلى الاستثمار، واللجوء بالتالي إلى زيادة رأسمالها في البورصة، يفترض أن أصحاب الأسهم فيها أناس محظوظون.
ومع أن الشركات متعددة الجنسيات تابعة لسوق المال إلا أنها لا تخضع لنزواته؛ فرأسمالها موزع دائمًا على نطاق واسع، ولا يملك أي مساهم نصيبًا يمنحه قوة خاصة. وبالأخص فإن الحجم المالي لتلك الشركات يبلغ حدًّا يحميها من أي غارة خارجية وأي عرض علني للشراء. ويستمر ذلك، من حيث المبدأ، طالما ظلت مردوديتها مصانة وتزايد العائد الذي توزعه على أصحاب الأسهم.
ورغم أن متطلبات السوق الطبيعية تلاحقها كل يوم، فهي تظل رابطة الجأش في مواجهة تقلباته الاعتباطية. وبوسعها، بل ويتوجب عليها أن تكرس كل منها كافة جهودها لتطوير استراتيجيتها الصناعية على نطاق كل القارات، وعلى المدى البعيد. وتتولى تلك المهمة نخب تقدرها وتوزعها في مختلف أنحاء العالم. والواقع أنها بقدر ما تتمكن من أن تصبح حقًّا متعددة الثقافات، بقدر ما تحقق نموًّا متعدد الجنسيات فعلًا. وبينما يميل النموذج الرايني إلى التقليل من شأن الدور المنشط للسوق المالية، فإن الشركات الأوروبية المتعددة الجنسيات تقدر إسهامه في تحقيق نجاحاتها.
والشركات المتعددة الجنسيات، سواء كانت أمريكية أو أوروبية الأصل، تقدم، من خلال تلك السمات، صورة لتركيبة أفضل تتجاوز في آن واحد احتمالات الحمائية المتضمنة في الرأسمالية الراينية، ومخاطر الإدمان المالي لدى الرأسمالية الأمريكية الجديدة.