معركة العربات الضخمة
لكن «فهد» الذي كان يجلس إلى عجلة القيادة، كان منتبهًا تمامًا. فقد ضغط قدمَ البنزين، فكادت السيارة أن تطير لسرعتها. وتجاوزَت المنطقة في نفس اللحظة التي وصلَت فيها عربةُ النقل الضخمة، وفجأةً سمع الشياطين صوتَ انفجار رهيب، وعندما نظر «عثمان» من الزجاج الخلفي، فَهِم كلَّ شيء؛ فقد اصطدمت عربةُ النقل الضخمة بالعربة الأخرى التي كانت تَتْبعُهم.
قال «أحمد»: ينبغي أن نلحق بالعربة الأمامية قبل أن يختفيَ «جان بريم».
قال «فهد»: سوف نلحق بها حالًا، وهم لن يستطيعوا إخفاءَ «جان بريم» مرة أخرى.
قال «عثمان»: إنَّهم يمكن أن يُلقوه من العربة بين الزرع، وقد يقفز أحدهم معه، ويهرب منَّا في النهاية.
كانت العربة الأمامية لا تزال في انطلاقها المخيف، فقال «مصباح»: إنَّ هذه العربة يمكن أن تُحدث كارثة بسرعتها الجنونية.
ضغط «فهد» قدَمَ البنزين أكثر، فارتفعَت سرعةُ السيارة وأخذَت المسافةُ تضيقُ، فجأةً انفتح باب العربة الخلفي، وسقطَت عدةُ صناديق، في نفس الوقت الذي كانت فيه سيارة الشياطين قد اقتربت تمامًا.
لكن «فهد» كان يقظًا؛ فقد استطاع في اللحظة الأخيرة، أن يتفادَى الصناديق ببراعة. وقال «عثمان»: إنهم سوف يُكرِّرون هذه الحكاية مرة أخرى.
وردَّ «فهد»: لقد كنت أتوقع ذلك فعلًا.
مرة أخرى، ضاقت المسافة بين السيارتَين، حتى كادَتْ مقدمةُ سيارة الشياطين أن تُلامس مؤخرة عربة النقل، ولم تكن العربة لضخامتها تُعطي سيارة الشياطين فرصة المرور، وكلما حاول «فهد» أن يمرَّ، أغلقَت العربةُ الطريقَ.
قال «عثمان»: ينبغي أن تبتعدَ عن العربة قليلًا، فلو أنَّها توقَّفت فجأةً، فسوف نصطدم بها بشكل مروعٍ.
وكانت هذه وجهةَ نظرٍ صائبة، لكنها من جانب آخر، كانت تُعطي الفرصة لتكرار عملية الصناديق وهذا ما حدث فعلًا. عندما أبطأ «فهد» من سرعة السيارة، حتى انفتح الباب الخلفي للعربة وسقطَت عدةُ صناديق أخرى. وفي هذه المرة لم يستطع «فهد» أن يفعل شيئًا، سوى أن داسَ فرملة السيارة بقوة، إلا أنَّها مع ذلك اصطدمَت بها، غير أنَّ الصدمة لم تكن قوية، لكنها في النهاية عطَّلت السيارة … كانت العربة تبتعد، وهي لا تزال في سرعتها العالية.
قال «أحمد»: يجب أن نُجرِّب شيئًا آخر، ما دُمْنا لا نستطيع المرور من العربة.
كان «فهد» قد تراجع بسرعة، ثم تجاوز الصناديق التي اعترضَت طريقه وتقدَّم مرة أخرى. قال «أحمد»: سوف أحاول القفز فوق العربة، أو التعلق بها.
قال «عثمان»: هذه مغامرة غير مأمونة؛ فسرعةُ السيارتَين لن تُعطيَك الفرصة لتحقيق ما تريد.
غير أنَّ «أحمد» قال: سوف أحاول ولو استطاع «فهد» أن يُثبِّت سرعة السيارة، على سرعة العربة، فسوف تكون المحاولة ممكنة.
ضغط «فهد» قدَمَ البنزين أكثر، وبدأَت المسافة تضيق، حتى أصبحَت مقدمةُ سيارة الشياطين خلف مؤخرة العربة تمامًا. فتح «أحمد» بابَ السيارة. كان الهواء قويًّا نظرًا لارتفاع السرعة حتى إنَّه كان يدفعه إلى الخلف، حاول مرة أخرى، لكنه لم يستطع.
قال «مصباح»: حاول الخروج من النافذة.
فتح «أحمد» زجاجَ النافذة، ثم أخرج نصفَه العلوي، وداسَ بقدمِه على حافة النافذة؛ فأصبح جزؤه العلوي فوق مقدمة السيارة، نزل بهدوء، وهو يزحف على مقدمة السيارة، حتى اقترب من نهاية المقدمة، كانت المحاولة تحتاج قفزةً واحدة، حتى يتعلَّق في الذراع الحديدية، التي تُغلق بابَ العربة.
كان «فهد» حذرًا جدًّا، وهو يجري بنفس سرعة العربة؛ فجأةً، أبطأت العربةُ من سرعتها، حتى إنَّ سيارة الشياطين اصطدمَت بها، لكن الصدمة لم تكن عنيفةً إلا أنَّها أعطَت «أحمد» فرصةً، فقد دفعَتْه الصدمةُ إلى الأمام، بينما كان يستعدُّ للقفز، وبرشاقةٍ تعلَّق في الذراع الحديدية، غير أنَّ العربة ظلَّت تتأرجح يمينًا وشمالًا، حتى لا تُعطيَ «أحمد» فرصةَ تكملةِ المحاولة، فظلَّ يتأرجح هو الآخر معها. فجأةً، توقَّفَت عربةُ النقل، فصرخَت عجلاتُها في الليل الهادئ. إلا أنَّ «فهد» كان ينتظر هذه الخدعة أيضًا. ومع ذلك، فلم يكن أمامه إلا الاصطدام بالعربة بالرغم من أنَّه داسَ الفرامل حتى نهايتها. كانت الصدمةُ عنيفة هذه المرة، حتى إنَّ الشياطين اصطدموا أكثر من مرة بجوانب السيارة، إلا أنَّ «أحمد» ظل متشبِّثًا بالذراع الحديدية فلم يُصَب بسوء. توقَّفت سيارةُ الشياطين نتيجة الصدمة كما توقَّفت عربةُ النقل. وفي لمْحِ البصر، كان الشياطين يقفزون من سيارتهم في اتجاه العربة، إلا أنَّ السائق كان ماهرًا فعلًا، فقد انطلق فجأةً قبل أن يَصِل الشياطين إليه. وبسرعة ارتدُّوا إلى سيارتهم، بينما كانت العربة تبتعد، كان «أحمد» لا يزال معلَّقًا بالذراع الحديدية التي كانت مدلاة من الجانب الأيمن للعربة.
كان يفكِّر: هل أُدخل صندوقَ العربة وأَصِل إليهم من النافذة الداخلية؟ أم أَصعد فوق صندوق العربة وأهاجم من الأمام؟
لكنه لم يتخذ قرارًا. مرة أخرى فكَّر: إنني أستطيع استخدام قنابل الدخان …
لكنَّه تراجع عن هذا القرار، فقد خشيَ أن تحدث كارثةٌ إذا فقد سائقُ العربة سيطرتَه على عجلة القيادة. ويمكن أن ينتهيَ «جان بريم» إلى الأبد. كان بقيةُ الشياطين يحاولون إدارةَ السيارة، لكن شدة الصدمة عطَّلت السيارة. فتح «عثمان» غطاءَها، ثم بدأ يُجري عدةَ أشياء. في نفس الوقت، كان «فهد» يُراقب عربةَ النقل التي كانت قد ابتعدَت.
قال «مصباح»: إنَّ «أحمد» وحده الآن، وهذه مسألة مزعجة.
ردَّ «فهد»: إنَّه يستطيع التصرف؛ فالسيارة ليس فيها سوى رجلين فقط، مع «جان بريم» الذي يمكن أن ينضمَّ إليه.
كان «أحمد» قد قرَّر قراره الأخير؛ أن يقفز فوق سطح العربة، فهو إن دخل الصندوق، يمكن أن يسيطروا عليه؛ ولذلك استجمع قوتَه ثم كوَّر جسمه وكأنَّه ثعبان ضخم، وقفز قفزةً رائعة، فأصبح فوق الصندوق. كان الهواء عنيفًا؛ لشدة سرعة العربة، لكنه تشبَّث بالسقف، وهو يلتصق به أخذ يزحف في بطءٍ، حتى لا يؤثر الهواء على حركته. لكن فجأة، توقَّفت العربة، فتراجع بعنف حتى كاد أن يسقط، إلا أنَّه بالكاد استطاع أن يتشبَّث بحافة الصندوق، بينما كان جسدُه معلَّقًا في الهواء. نظر أسفله إلى الطريق، وكانت الصدفة معه، ففي نفس اللحظة، كان الرجلان قد نزلَا من السيارة وتقدَّمَا إليه؛ كان أحدهما يتقدَّم من يمين العربة، والآخر من شمالها، فوقعَت عينَا «أحمد» على رجل اليمين. وفي سرعةٍ طوَّح نفسه في الهواء، ثم ضرب الرجل ضربةً عنيفة، فأغمض الرجل عينَيه ووضع يدَه على وجهه، أسرع إليه، وثنَى إحدى ذراعَيه خلف ظهره، ثم وقف خلفه … كان الرجل الآخر قد ظهر، وهو يحمل مسدَّسًا، صوَّبه في اتجاه «أحمد»، إلا أنَّه لم يستطع إطلاقه؛ لأن الطلقة كانت ستُصيب زميلَه.
قال الرجل: لقد وضعْتَ نفسَك في مأزق، إنني أستطيع أن أُطلقَ الرصاص عليكما معًا.
قال «أحمد» في هدوء: أطْلِق إن استطعت، فسوف ينتهي زميلُك حالًا.
قال الرجل في غِلظة: إن الزميل لا يساوي شيئًا الآن.
فابتسم «أحمد» وقال: إذن، عليك بإطلاق الرصاص.
نظر له الرجل لحظة … كان «أحمد» يفكِّر: إذا وصل الشياطين الآن، فسوف تكون كارثة؛ لأن الرجل ساعتها لن يكون أمامه إلا إطلاق الرصاص.
قال الرجل بعد لحظة: إذن، استعدَّ، فسوف تنتهيان معًا.
جذَب زناد المسدس إلى الخلف استعدادًا للإطلاق، إلا أنَّ الرجل الذي يقف خلفه «أحمد» صاح: «جاكو» ماذا تفعل؟
تردَّد «جاكو» ثم قال: آسف يا عزيزي «بوش»، إنَّ هذه تقاليد العمل، فماذا أفعل؟
قال «بوش»: هل يمكن أن تُطلق الرصاص عليَّ؟!
ردَّ «جاكو»: ماذا أفعل؟! ليست هناك وسيلة أخرى.
صمَت لحظة، كان يبدو حائرًا، ثم أضاف: أعتذر يا «بوش»، إنني لا أستطيع أن أخالف التقاليد وإلا ضِعْنا نحن الاثنين.
دار حوارٌ بين «جاكو» و«بوش» واستغرق بعض الوقت. وكانت هذه فرصة جيدة. استغلَّها «أحمد»، ففي هدوء ألقى عند قدمَيه عدةَ كرات من الغاز ثم أزاحها في اتجاه «جاكو»، لاحظَ «جاكو» الحركةَ فأطلق طلقةً بجوار قدَمِ «أحمد» الذي لم يهتزَّ.
وقال «بوش»: دَعْنا نتفق مع الزميل!
ردَّ «جاكو»: على ماذا؟!
تردَّد «بوش» قليلًا ثم قال: على أيِّ شيء؟! فأنت لا يمكن أن تُنفذ ما فكرت فيه.
كانت كرات الغاز قد بدأ مفعولُها. عطس «جاكو» مرة، فعطس «بوش» أيضًا، وقال «جاكو» بصوت خفيض، وكأنَّه يتحدَّث إلى نفسه: يبدو أنني أُصبت بالبرد.
إلا أنَّه أخذ يَسعُل عدة مرات، جعلَت قدرتَه على التحكم في المسدس صعبة. وبسرعة، تصرَّف «أحمد»؛ دفع «بوش» بقوة في اتجاه «جاكو» الذي كان يَسعُل في هذه اللحظة، ثم قفز في اتجاه «جاكو»، وضرب المسدس من يده بقدمه، فطارَ في الهواء، إلا أنَّ سرعة الرياح خفَّفت من تأثير الغاز. واستطاع «جاكو»، أن يشتبك مع «أحمد». في نفس الوقت الذي أسرع فيه «بوش» إلى العربة، وقفز فيها، ثم انطلق، بينما كان «أحمد» قد ضرب «جاكو» ضربةً عنيفة تلقَّاها «جاكو» بمهارة، فلم تؤثر فيه. إلا أنَّ «أحمد» عاجلَه بضربة أخرى جعلَتْه يهتزُّ، فأتبعَها بضربةٍ أخرى أقوى، أوقعَتْه على الأرض، ولم تمضِ دقيقة، حتى كان «جاكو» ممدَّدًا بلا حَراكٍ. لكن العربة كانت قد ابتعدَت تمامًا وأصبحت على مسافة لا يظهر منها سوى أنوارها الخلفية.