الفصل العاشر
رفع صاحبي رأسه والتفت إليَّ قائلًا: هل أسمعت المرأة المصرية آراءك هذه؟
فقلت من فوري: إني لا أترك مناسبة دون أن أُسمعها آرائي فيها … فإني من أشد الكتاب عناية بشئونها … إذ ينبغي أن أقول لك شيئًا: في المصرية فضيلة كبرى: هي أنها قديرة على التطور السريع الصامت … لذلك سمحت لنفسي دائمًا أن أصارحها إلى حد العنف كما ذكرت، حتى ألفت نظرها إلى ما فاتها رؤيته أثناء خطوها الواسع … يخيل إليَّ أن السهولة التي تتطور بها المصرية سببها بسيط؛ إنها تحتفظ دائمًا بطبيعة المصرية القديمة تحت ثياب الجارية العثمانية … فما علينا إلا أن ننبهها إلى خلع هذه الثياب شيئًا فشيئًا؛ لتبدو حقيقتها الأولى المجيدة: تلك التي كانت تحسن إدارة البيت والمملكة، وتُعنى بأمر الفنون، وتضع أسس الحضارة … سأتكلم دائمًا هذا الكلام ولن أكف عنه، وإن تعرضت للسخط العام، حتى أرى المرأة المصرية قد نفضت عنها رداء العبيد والجواري البيض لتظهر من تحته سليلة نفرتيتي وحتشبسوت!
فقال صاحبي: ألم يخطر لك، بدلًا من تنقلك في الفنادق، أن تتزوج لتخلع أنت بيديك هذا الرداء؟
فقلت لصاحبي في شبه صيحة: أنا أستطيع أن أخلع رداء أحد؟ … آه يا صاحبي … إنك لا تعرفتي … لقد وددت حقًّا لو أتزوج بمصرية … ولكن شيئًا واحدًا يمنعني: هو: أشفق عليها من طبيعتي المتعبة … ما أنا إلا «حالة عسيرة»، كما يقول الأطباء، قد يستعصي أمرها حتى على الأوروبية المحنَّكة التي اعتادت أن تفهم زوجها في هذه الحالة، وتدرس خلقه وطباعه في صبر وسكون وتهيء له نوع الحياة التي تلائمه … كلا … إني على الرغم من خشونتي في القول للمرأة المصرية، شديد العطف عليها … ولست أحب أن أدفعها إلى مثل هذا الامتحان العسير.
أخشى أن تكون مبالغًا.
إني لا أبالغ … إن الحمل سيكون ثقيلًا عليها والتبعة جسيمة … فأنا رجل «مطلَق»، يعيش في جو «المطلَق»، … قد أستطيع أن أدير الأشياء من علٍ في إجمالها، لا في تفاصيلها، فمن أراد أن يشاركني الحياة عليه أن يتحمل هو جميع الأعباء والمسئوليات، ولا يترك لي غير مظاهر الشركة، أو على الأقل مسائلها الكبرى … ينبغي بالاختصار لزوجتي أن تجعل مني «ملكًا دستوريًّا يملك ولا يحكم»، … على أني في ذلك أيضًا أحتاج إلى يد بارعة تخفي سلطانها في قفاز من المخمل الناعم وإلى سياسة حاذقة لا تشعرني بحقيقة الواقع … أشعروني دائمًا أني مطلق الحرية … وأني صاحب الأمر والنهي، واسْلبوني بعد ذلك ما شئتم من حرية ونفوذ في أسلوب لطيف غير منظور … الويل كل الويل لمن يدفعه سوء الطالع أو الحمق وقلة التبصر إلى أن يضع في قدمي قيدًا أشعر بوخزه! … ولكن النجاح حليف من يعرف كيف يربطني، دون أن أتنبه، بخيط حريري دقيق طويل، أتحرك فيه على راحتي ولا أحس له وجودًا! … إني رجل لا أحب أن أكذب على نفسي، ولكني أحب أن يكذب عليَّ الناس.
… فضحك صاحبي وقال: لا أظن بُغيتك مما يستحيل العثور عليها … ولكنك فيما أرى لم تكلف نفسك حتى عناء البحث.
البحث؟! … أنا الذي يبحث عمن يضع في يدي قيدًا! … لم يُخلق بعد العصفور الذي يبحث عن الصياد؟! … ومع ذلك.
– ومع ذلك؟
لفظها صاحبي في لهفة وحب استطلاع … فقلت له وأنا أحاول التذكر: كنت موشكًا على الزواج منذ عشر سنوات … لكن … ثم كرَرت بفكري راجعًا إلى ذلك العهد وابتسمت؛ فقد مرَّت برأسي صورة ما حدث وما ثنى عزمي عن المضي في ذلك الأمر.
– كنت ذات عصر راكبًا عربة يجرها حصانان … وإلى جانبي أحد المهتمين بشئوني … فرأينا السائق يهوي بسوطه على أحد الجوادَين … فمال من الألم على شريكه كأنه يشكو إليه، والتقى رأسَا الجوادين كأنهما يتسارَّان … فجعلنا نتحدث في ذلك ونقول: إن مركبة الحياة كذلك لا يهون من أوجاعها غير أن يربط إليها شريكان يشدان عجلاتها … ويشجع أحدهما الآخر كلما سلط عليه القدر سوطًا من سياطه … ثم قلنا: من يدري لعل هذا سر ذلك الحظْر الذي نراه في بعض المدن على من يستعمل مركبة ذات جواد واحد … ثم مضينا في الاستطراد حتى قلنا: ولماذا لا يسري الحظر على مركبة الحياة … وعند ذاك اتجه الكلام إليَّ … وصارحني من معي بأن مركبة حياتي لا ينبغي بعد اليوم أن أجرها بمفردي … فإنها قد تحمل فوق ما أطيق؛ وأنا رجل غريب الأطوار، قد أسير بها سيرًا غير مألوف فأتخبط بها في طرقات غير ممهدة لا أحفل بسوط سائق … بل من يدري، لعلي جمحت مرة فأسقط سائقي في الأوحال، وجعلت أنطلق منفردًا بمركبة بلا نور، أركض بها على غير هدى حتى أرتطم في جدار … وانتهى الأمر بصياح ذلك المهتم بشأني: لا بد من زواجك.
فقلت له هو أيضًا: لا … إني لست جوادًا من هذه الجياد … إنما أنا حمار وحشي من تلك الحمر الوحشية ذات النقوش الطبيعية السوداء البيضاء … ما أجمل منظرها حقًّا لو شدت إلى عربات المدن! … ولكنها لا تطيق أن يمس رءوسها لجام! … إنها خلقت لتمرح في الغابات وتعيش في حرية الطبيعة المتوحشة … معجزة واحدة تستطيع أن تجعل منها مخلوقات طيِّعة هادئة نافعة: غادة فاتنة في يدها سوط من حرير تروضها في صبر طويل … وترقص على ظهورها في حلبة «سيرك» تعزف فيه الموسيقى بحلو الأنغام!
فإلى أن توجد المصرية التي تروِّض حُمُر الوحش في غاباتنا الأفريقية فإن أمَلي في الزواج قليل.
فصاح المهتم بشأني: يا أخي لا تعقِّد المسائل! … حمار وحشي أو حمار «حصاوي» … أهم كلهم حمير! … وتزوجوا وعاشوا وخلفوا صبيان وبنات في أمان الله أربعة وعشرين قيراط! … دا شيء مكتوب علينا جميعًا … أرجوك تسمع نصيحتي وتسعى جديًّا في الموضوع!
– في الحالة الحاضرة … وقتي ضيق.
فقاطعني صائحًا: اترك لي المسألة.
ولم يمضِ شهر حتى وجدت ذلك الشخص الكريم قد خلا بي ووضع في يدي صورة فوتوغرافية لفتاة ظريفة وقال لي: تعجبك؟
فتأملت الصورة مليًّا ثم قلت: من أي وجه؟
فصاح بي: اعمل معروف لا داعي للفلسفة … إن كان شكلها مناسب؟
– مناسب.
انتهينا.
ثم مدَّ يده إليَّ وقال: وصورتك بسرعة … آخر صورة لك.
– الصورة الوحيدة الموجودة عندي … هي صورة جواز السفر.
– ما تنفعش! … قم بنا نعمل لك صورة «جواز» فقط!
وسحبني من يدي … وذهب بي إلى محل «مصور فوتوغرافي» معروف … فوضعني ذلك المصور أمام لوحة من قماش تمثل ستارة سوداء، وأراد أن ينزع من يدي العصا، ليضع هذه اليد فوق «درابزين»، مزيف قد أتى به، فأبيت ذلك عليه، فردَّ إليَّ عصاي … ونظر من معي إلى وقفتي فلم ترقه فصاح في المصور: هو واقف على إيه!
فقال المصور: على سلم.
فصاح به: وإيه مناسبة السلم والدرابزين! … اجعل وقفته في جنينة وحط الورد حواليه، وارفع الستارة المحزنة من جنبه وانصب بدلها خميلة ياسمين أو تكعيبة عنب! … بالاختصار مناظر مفرحة … ثم مال على المصوِّر، فأسرَّ في أذنه كلامًا … فتهلل وجه المصور وقال: فهمت الطلب.
ثم أسرع فأحضر ستائر حمراء ومناظر خضراء وأصص أزهار ورياحين وهو يقول: إن شاء الله أطلعه يحاكي البدر في سماه!
فأردت أن أُظهر عجبي لهذه المعجزة إذ صحت … فأسكتني وأوقفني بين المناظر الرائعة والخضرة الزاهرة … ودخل هو في … شيء يشبه «البطانية» السوداء يغطي جهاز تصويره ولبث فيه لحظة ثم خرج يصيح: واحد، اثنين … تلاتة! … مبروك!
فتركت موقفي … وأقبلت على المصور أوصيه: الصورة تكون طبيعية … إياك تعمل «رتوش»! … فما شعرت إلا والمتولي شأني قد انتزعني انتزاعًا من بين يديه ودفعني بعيدًا وأقبل على المصور يقول له: إياك تسمع كلامه!
ثم التفت إليَّ قائلًا: حد في الدنيا يقول للمصوراتي ما يعملش رتوش؟ … خصوصًا لحضرتك!
فقلت: على كل حال، لا بد من كوني أطلع على «البروفة» قبل كل شيء! … فقال المصور إن تجارب الصورة يمكن الاطلاع عليها في صباح اليوم التالي … فغادرناه على أن نعود إليه في الغد … ومضى النهار … وجاء الغد … فانسللت بمفردي إلى حانوت المصور. أطلع خفية على تجارب الصورة … فعرضها عليَّ … فتأملت وجهي فيها … فلحظت أن شاربيَّ غير متساويين في الطول … وأن شاربًا أقصر من شارب … فتباحثنا في علاج ذلك … وقلت له إن «الرتوش» الوحيدة التي آذن بها هي أن يمد ريشته إلى الشارب القصير فيطيله حتى يساوي أخاه … وانصرفت … وانتصف النهار … وقابلت بعد ذلك المهتم بشأني … فقصصت عليه ما حدث من أمر الشارب … فما راعني إلا قوله إنه مر هو الآخر بحانوت المصور عقب انصرافي. فلما علم بمسألة الشوارب، أمر المصور أن يزيلها كلها وكفى المؤمنين شر القتال … فما إن سمعت منه ذلك حتى صحت في وجهه: يزيلها كلها!
– إيه المانع؟
أنا بشوارب، تعملوني من غير شوارب، هذا العمل اسمه تزوير.
– يعني لا سمح الله قمنا زورنا في كمبيالة!
– هو التزوير لا بد يكون في كمبيالات؟!
– كان غرض حضرتك إن أهل العروسة يقولوا مقدمين لنا عريس «بشنب ودقن»؟!
– نقوم نلجأ للغش؟!
– وانت فاهم إن صورة العروسة خالية من الغش؟
– شيء عجيب!
– مؤكد … شيء مفهوم مقدمًا … وفي المستقبل يتضح لك أن ما عملناه أقل ما عملوه بمراحل … اطمئن!
فقلت من فوري: الحمد لله اطمأنيت … إذا كان مجرد «الشكل» وضعناه على هذا الأساس، يبقى «الموضوع».
فقاطعني: لا … «الموضوع» مضمون أربعة وعشرين قيراط، ثروتها معروفة وتحرياتنا صحيحة … وانت حالتك المالية واضحة.
– دا كل قصدكم من «الموضوع»؟
طبعًا … فيه شيء غيره؟
فلم أطق صبرًا، فقمت دون أن أجشِّم نفسي مشقة الجواب … وذهبت … وقد ذهبت عني فكرة الزواج إلى اليوم … ولم يعد شبحها يظهر إلا مقترنًا بذكرى هذا الحوار بنصه وألفاظه كما سمعتها، فكانت ذكراه تقصيني من فوري عن المضي في التفكير … فهذه الشركة النبيلة بين روحين تعاهدا على السير جنبًا إلى جنب في طريق الحياة الشاقة الطويلة، ما زالت تقام في أغلب الأحيان على هذا النحو المخجل … وإذا صلحت هذه الطريقة لكثير من الناس … فهل تصلح لشخص مثلي قد تتأثر حياته الفكرية وإنتاجه الذهني إلى حد كبير بشخصية الشريك … لذلك آثرت السلامة … وأحجمت عن المغامرة، خشية الوقوع في غلطه تفسد عليَّ الحياة كلها.
ورجعت إلى وحدتي … تلك الوحدة الباردة التي تحيط بي من كل جانب … فما أنا في الحقيقة دائمًا سوى كوخ مقفر وسط صحراء من الجليد، وضعتْ داخله يد المصادفة إناءً يغلي … ويتصاعد منه بخار؛ هو تلك الأفكار، التي تخرج من نافذتي إلى حيث تصل أحيانًا إلى جموع الناس … فإذا دخلت امرأة هذا الكوخ فمن يضمن لي ما سوف تلقيه في هذا الإناء وما يتصاعد من جوفه بعد ذلك!
•••
وهكذا قضيت حياتي متنقلًا، تائهًا ليس لي مكان معروف … ولا عنوان دائم … فما تركت فندقًا لم أنزله ولا نُزلًا لم أهبطه … حتى ضجرت ذات يوم وتبرمت بهذه الحال، واستنكفت أن أعيش دائمًا هكذا كما تعيش الفكرة الهائمة والروح الحائرة … فأردت أن أجرب الحياة المستقرة في مسكن ثابت اخترته في بقعة جميلة من بقاع القاهرة … يشرف على النيل، وترى من نوافذه القلعة والأهرام … وعنيت بأثاثه، وأعددت فيه مكتبًا أنيقًا وخزائن للكتب … واقتنيت سيارة … وأقمت بمفردي وحولي خادم وطاهٍ وسائق.
فماذا حدث؟ … لم أتحمل الحياة فيه عامًا … فقد كاد الخدم الثلاثة يُذهبون البقية الباقية من عقلي … فالخادم النوبي جعل يكسر «أسطواناتي»، الثمينة … وتحريت أمره فعلمت أنه يتربص بي حتى أخرج في الصباح، فيدير «الجراموفون»، ويضع ما يقع في يده من أعمال «بيتهوفن» و«موزار» … ولا يحلو له تنظيف «الباركيه» وطلاؤه إلا على هذه الأنغام.
أما الطاهي فقد كان يبدي الابتكار في ألوانه أول الأمر … ثم قصَّر وتراخى حتى صار الطعام ضربًا من «الروتين»، لا طعم له … فكنت أحيانًا أتركه بما أعدَّ لي فيه وأذهب إلى مطاعم المدينة … ولقد كان للخدم دائمًا طعام غير طعامي … هو في أكثر الأحيان ألذ وأمتع … ولطالما أمرت الطاهي أن يحضر لي مما في قدورهم ويحمل كل هذه الألوان التي نسقها تنسيقًا ظاهرًا دون أن يضع فيها روحه وقلبه.
وليس هذا كل شيء … فقد علمت أن الطاهي يعد على حسابي قدرًا كبيرًا من الطعام يقدمه بالأجر إلى بوابي الجيران، وأن الخادم يدعو جميع زملائه النوبيين كل عصر عقب انصرافي إلى تناول الشاي … ولم يدهشني ذلك؛ فإن نفقاتي بمفردي كانت دون أن أدري نفقات أسرة مكونة من عشرة أعضاء، وما نبهني إلى ذلك إلا ضيف عابر … على أن كل هذا لم يغضبني كثيرًا … إنما الذي أثارني حقًّا هو مسمار صغير وجدته يومًا في لون من ألوان الطعام، كدت أزدرده … هنالك لم أطق صبرًا … وعلمت أن الخدم بلا رقابة هم خطر من الأخطار العامة … وما ملكت نفسي عن الصياح فيهم يومًا: «والله لاتزوج لكم وأمري إلى الله! …»
أما السائق فلا يريد أن يصغي إلى رجائي كلما طلبت إليه ألا يسرع … فأنا أبغض السرعة … إنها تمنعني من التفكير، ولطالما أكدت له أني لست متعجلًا شيئًا … ولا شيء في الوجود يستعجلني … فأنا عدو الزمن والوقت ولم أحمل ساعة قط … فالوقت عندي ليس من ذهب بل من تراب كأجسامنا … ولكنه ينطلق بي رغم ذلك، كأنما يريد أن يطرحني في أسرع وقت، ليخلص مني وينصرف إلى شأنه … فكنت أتركه أحيانًا يقف منتظرًا في جانب الطريق … وأسير مفكرًا حرًّا حيث أشاء … ثم أدرك أخيرًا أني لا أحب السهر، وأني شديد الكسل، وأني أكتفي بعبارة أقولها له كل عصر … «اطلع جهة فيها هواء نقي» «فين؟ …» «أي جهة تختارها»، فيمشي بي حيث يريد هو، دون أن أعترض … ويقف بي أحيانًا حيث يشاء ويقدِّر أن المناظر جميلة والهواء منعش، فلا أتكلم … فإن فكري منصرف دائمًا عنه، ما دام لا يسرع بي ولا يقول لي: «تفضل»، إلا أن يرى أن الأوان قد آن للتحرك فيقودني إلى حيث أتناول الشاي أو العشاء في الأماكن المعتادة … فإذا أمرته في المساء أن يذهب بي إلى السينما … فقد عرفت ألا يسألني: أيها؟ … بل يمضي بي طائفًا على جميع الدور … فيقف أمام كل باب من أبوابها لحظة، فإذا نزلت فقد انتهت مهمته، وإذا لم أنزل فإنه يتحرك إلى غيرها … وإذا مر بجميعها فلم أغادر السيارة فإنه يعود بي من تلقاء نفسه إلى المنزل ويقول لي: «تفضل»، فأنزل في صمت … وقد شعرَ بقدر هذه السلطة الواسعة في يده فاستغلها آخر الأمر استغلال الطاغية لحرية الشعب … فكان إذا أراد أن يفرغ من عمله مبكرًا ويخلص إلى شأن من شئونه، طاف بتلك الأماكن طوافًا سريعًا لا يكفي لإيقاظي من تأملاتي أو إخراجي من ترددي ثم ردني إلى منزلي ولما تدق التاسعة قائلًا: «تفضل»، فأنزل دون أن أتنبَّه لما حدث … وفطنت ذات ليلة إلى إرادته … وكانت بي رغبة في السهر … فما تمالكت أن ثرت لحريتي المسلوبة وصحت.
– «إنت غرضك تنومني المغرب؟! … قسمًا بالله العظيم ما انا نازل».
•••
هكذا كان شأني في المسكن الخاص بين أولئك الخدم … وقد لبثت على هذه الحال زمنًا … اختمرت فيه داخل نفسي جراثيم الثورة الكبرى على هذا النظام فبيَّت النية ذات ليلة على خلع نير هؤلاء الذين يسمُّون أنفسهم خدمًا لي … فلما كان الصباح أعددت حقائبي … واستدعيت البواب وطلبت إليه أن يبحث عمن يحل محلي في هذا المسكن بأثاثه ورياشه … فأتى إليَّ برجل إنكليزي وزوجته فتركت في عهدتهما كل شيء، حتى كتبي … وغادرت ما في البيت من أشياء خصوصية ومن مئونة حتى زجاجات المياه المعدنية وعلب الجبن والمربة والزبد واللبن والشاي والفطائر، وطردت خدمي … واستغنيت عن سيارتي … وانطلقت بمفردي حرًّا من جديد … أتنقل في الفنادق وأطوف بالشوارع، وأتقفز إلى عربات الترام وسيارات الأتوبيس، وأختلط بالناس، وأمتزج بالجماهير … فأحسست كأن الدم يعود حارًّا إلى عروقي وأن قدمي قد فرحتا بلمس الأرض من جديد، وأن فكري قد عاد إلى انطلاقه ونشاطه مع السير الحر بالأقدام في كل مكان، وملاحظتي الناس في الطرقات قد أخصبت ذهني الذي حبس طويلًا خلف الزجاج … وجعلت أقف على بائع الذرة وهو يشوي كيزانه على عربته الصغيرة فأحادثه وأباسطه، لا يتعجلني سائق ولا تنتظرني سيارة، وأصغي إلى حديثه الطويل في ذلك الليل مع كناس الجهة … فأشترك معهما في الحديث والسمر … ورأيت الكناس يسامر البائع طمعًا في كوز … والبائع لاهٍ عنه لا تخطر له العزومة على بال؛ «فإن الشغل شغل» في عرف التجار … فشريت أنا كوزين أعطيت الكناس واحدًا واستبقيت لنفسي الآخر … فدعا لي الكناس الدعوات الصادقات … وجعل يأكل ويقص عليَّ مما عنده من أحاديث العامة البريئة اللذيذة.
عرض هذا الشريط كله في رأسي عندما سألني المخرج ذلك السؤال … ولم أجبه بشيء غير تلك الابتسامة التي أثارتها هذه الذكريات.