الفصل الحادي عشر
وأدركتنا تباشير الصباح فسكتُّ عن الكلام المباح … وانقضت حاجتي إلى إمساك صاحبي … فهو حر الساعة يذهب حيث شاء ويصنع ما يشاء … وأذن الفجر في زاوية القرية، وأبصرنا الفلاحين يهبُّون ناهضين فوق الأسطح، ويخرجون من الدور يسوقون الماشية إلى الغيطان … وسمعنا صوت المصور يصيح بنا من أسفل المنزل يدعونا إلى مشاهدة تصوير الشمس الطالعة … ووجدنا زوجته النشيطة قد قامت تأمر وتنهى الخدم، وتباشر غلي الحليب وإعداد الفطور.
وما كدنا نفرغ من تناول القهوة واللبن حتى نهضنا إلى العمل … وتذكرت الجحش فأوفدت في الحال من يطلبه في دار العمدة … فجاءوا به يقولون إنهم قد عرضوا عليه كل أتانة والدة وحبلى في القرية، فما قبِل أن يدنو من ثديها، وأصرَّ على هذا الصوم الصوفي، وأكدوا لنا أنه سيموت لا محالة، فصاح المخرج: أعدوا الكاميرا حالًا ولنلتقط «للفيلسوف»، صورة قبل أن تحضره الوفاة.
وأجلسوني في الجرن خلف كوم القمح ودفعوا «الجحش» الهزيل إلى جواري … فوقف المسكين كما أرادوا له أن يقف، دون أن يتململ أو يتحرك، ورأى أني قد بسطت كفيَّ مفتوحتين في حجري فتقدم ووضع رأسه بين هاتين الكفين، فصاح المخرج فرحًا: هذا موقف رائع … إن «الفيلسوف» يفكر مطرقًا واضعًا رأسه في كفيه.
فقاطعته محتجًّا: إنهما كفَّاي أنا.
فقال المصور وهو يلتقط المنظر: لا فرق، أعني … لا بأس … ولا ضرر.
لا فرق؟ … لا … بل إن هناك فرقًا … إن هذا «الفيلسوف» أجدر بهذا الاسم مني لو أني كنت حقًّا فيلسوفًا … فهو لا يبدو عليه أنه معني بما يُصنع به … إن منظر الكاميرا لم يثر استطلاعه ولا اهتمامه كما فعلت المرآة؛ فالمرآة تجعله يعرف نفسه بنفسه.
وهو كل ما يسعى إليه، وهو غرض الفلاسفة في كل زمان ومكان … أما الكاميرا فهي الصورة التي يأخذها الناس عنه … وماذا يهم الفيلسوف الحق أن يعلم رأي الناس فيه؟!
وفرغوا من أمر تصويرنا … وسلمنا «الفيلسوف» لأحد الفلاحين فأعاده إلى حيث ينتظر في سكونٍ قضاءَه المحتوم، وسرنا طول يومنا، نضرب في الحقول والغيظان … حتى كادت تنخلع مفاصلي … أما أصحابي فلم يبدُ عليهم تعب ولا كلال إنما هم جن وعفاريت قد سلطها الزمان على هذه القرية وعلى حيواناتها وعليَّ … فما من ثور أو جمل إلا صوروه … وما من محراث أو نورج إلا التقطوه … وما من شيخ غريب السحنة أو يافع قوي البنية أو فتاة غضة بضة إلا أوقفوها وصوروها وحيروها وأتعبوها … ثم نقدوا كل هؤلاء قروشًا جديدة لامعة أتوا بها خصوصًا لهذه الغاية … حتى اجتمع حولنا شيوخ القرية وفتيانها وفتياتها وأطفالها وثيرانها وخرافها وإبلها ودجاجها … كلٌّ يصيح قائلًا: «صورونا» «والنبي تصورونا! …» «هات قرش يا خواجة وصور العيال! …»
وتركتهم آخر الأمر يفعلون ما يريدون … وجلست القرفصاء على قارعة الطريق الزراعية … أنتظر ساعة الفرج … وأقول في نفسي: آه … لو طلت الأتوموبيل … ووضعت رجلي فيه.