الفصل الثالث عشر
زارني صاحبي المخرج في اليوم التالي وقال لي في نبرة يخالطها شيء من السخرية الخفيفة: أرجو أن تكون قد نمت نومًا هنيئًا في سهرة البارحة.
فقلت له: لعل ذلك لم يضايق ضيوفك.
– مطلقًا … لو حدث ذلك من غيرك لكان له معنًى آخر.
أما أنت فتستطيع أن تفعل ما تشاء.
– ماذا تقصد؟
– أقصد أن للفنان حرية لا يتمتع بها الآخرون، لقد كان المصور الشهير «بيكاسو» يحضر بعض الحفلات الساهرة برداء العمل الملطخ بالأصباغ في حين أن الآخرين ما كان يباح لهم الحضور بغير «الفراك».
شكرًا على هذه الحجج الكريمة والأعذار الجميلة التي تنتحلها لي.
– بل هو الواقع … لم يكن لي عليك إلا مأخذ واحد!
– واحد فقط؟
نعم … لقد أثرت عن عمدٍ موضوع الحوار … وكنت أحسبك تتكلم قليلًا في الحاضرين.
فقاطعته: أنا أتكلم في الحاضرين؟! … من قال لك إن من طبيعتي أن أتكلم في حاضرين أو غائبين.
فقال وهو ينظر إليَّ مليًّا: كنت أجهل طبيعتك، أما الآن فقد فهمت … إنك لا تتكلم في الناس … ولكنك تصنع الحوار الذي ينبغي أن يتكلم به أشخاص قصتك.
فنظر إليَّ نظرات القلق وقال: أولا تستطيع ذلك؟
– لا أستطيع.
فبدا عليه أنه لم يفهم عني … ولبث ينظر إليَّ نظرات الاستفهام وينتظر إيضاحًا … فقلت له: لقد تبين لي شيء كنت أجهله قبل أن أراك: إن الكاتب الحق لا يمكن أن يلذَّ له العمل للسينما؛ ذلك أن السينما تُخضع كل شيء لإرادة المخرج … فمخرج السينما هو المنسق لكل شيء وهو الخلاق الذي يطبع العمل كله بطابعه … فما صانع السيناريو وما واضع الحوار وما مهندس المناظر والأصوات وما المصورون وما الممثلون … إلخ إلخ، إلا عناصر متفرقة وأجزاء أشتات، المخرج جامعها وموحدها وموجهها إلى حيث يصبها في القالب الذي يريد … مثله مثل الكاتب في ميدانه … فالكاتب الحقيقي هو أيضًا ذلك الذي يخضع كل شيء لمشيئته، هو الذي يجمع الصور والمشاهدات والملاحظات والتجاريب الشخصية وحوادث المجتمع وأخبار التاريخ وأساطير الأقدمين، ويستخلص من كل هذا أو من بعضه عناصر وأجزاء يؤلف من بينها عملًا فنيًّا واحدًا قائمًا بذاته … إن الكاتب الحقيقي ليس ذلك الذي يرصف في لغته جملًا فخمة وعبارات جميلة، إنما هو ذلك الذي يخلق عالمًا زاخرًا بالأشخاص التي تحيا وتسعى وتشعر … دون أن يحتاج في إنشاء هذا العالم إلى غير قلمه وحده … فشكسبير، وموليير، وجوته، كُتاب حقيقيون؛ لأن قَصصهم التمثيلي استطاع أن يبرز للإنسانية عوالم هائلة رائعة تقوم بنفسها بمجرد القراءة دون الالتجاء إلى مسرح وممثلين … ولو أن آياتهم وآثارهم احتاجت كل الاحتياج إلى التمثيل لتقوم على أقدامها لمَا سميناهم كُتَّابًا … الكاتب الحقيقي هو دائمًا كلٌّ لا جزء … بل إن طبقات الكتاب تختلف باختلاف قدرتهم على هذه الكلية وهذا التمام … فالكُتاب العظام في نظري هم أولئك الذين منحتهم السماء كل مفاتيح المشاعر البشرية، فهم قديرون على الإبكاء والإضحاك والارتفاع بالمشاعر والأفكار إلى قمم الخيال والشعر والتصوف، والهبوط بها إلى أرض الواقع والطبيعة الدنيا … من أجل ذلك كان أيضًا هؤلاء الثلاثة الذين ذكرتهم كُتابًا عظامًا كاملين؛ فشكسبير في كوميدياته ودراماته وشعره، قد طاف بكل ما عرفه الإنسان من مشاعر، وتألقت أعماله بكل أشعة الكون الفكري المعروف، وكذلك موليير قد أثبت في بعض قصصه أنه قدير على الجد قدرته على الهزل … أما جوته فهو العبقرية الجامعة الجاملة … في حين أن كثيرين غيرهم اقتصرت عظمتهم على ناحية من نواحي الإحساس الإنساني، فجاءت عوالمهم التي خلقوها كواكب رائعة باهرة سابحة هي الأخرى في الكون الفكري، ولكن أشعتها لا تحتوي على كل ما في قوس قزح، هذا الكون من ألوان وأضواء وأنوار … ثم إن الكاتب العظيم كالمخرج السينمائي يستطيع أن يضع طابعه على أعمال أجزاؤها ليست من صنعه … فشكسبير قد هبط على كثير من القصص الإيطالي، وموليير على كثير من القصص الإسباني، وجوته على كثير من أساطير القرون الوسطي … فالكاتب العظيم كالفاتح العظيم يقع أحيانًا على أرض ليست له، فيُخضعها لسلطانه، ويقر فيها نُظمه وأحكامه، ويصبغها بلون تفكيره وحضارته، ثم يضع عليها راية عبقريته ليعترف بها التاريخ.
وأطرقت في صمت … فالتفت إليَّ صاحبي قائلًا في صوت حزين: والنتيجة؟
فنهضت وأحضرت أوراق قصته فدفعتها إليه … وأخرجت دفتر الشيكات وقلت: النتيجة أن أرد مالكم ونفسخ العقد.
فوجم الرجل … وأطرق لحظة … ثم رفع رأسه وقال: أرجو أن تتريث قليلًا وأن تسمح لي أن أغلظ لك فأقول إنك أكسل من رأيت … وأن كل هذا الكلام الذي قلته الساعة ليس سوى حجج تؤلفها لتدفع عنك عبء هذا العمل … ولكني أحب أن تفكر في الأمر مليًّا … لأن انسحابك صدمة لي لن ترضيك.
ففكرت قليلًا ثم قلت: لعلك مصيب … وربما كان الحر والتعب وجهد العام … على كل حال … لا أمل لي في العمل هنا … وموعد السفر قد دنا … فإذا رأيت أن أحمل السيناريو معي إلى سويسرا: فإني واثق أن الحوار يتم في خلال أسبوعين فوق تلك الجبال الجميلة والبحيرات الرائعة والهواء النقي … وأن المواصلات بالطائرات يسيرة سريعة … فإذا شئت فإني أبعث إليك ما أصنعه أولًا بأول … فيصلك بعد يومين … وإذا شئت فإني ألتقي في فرنسا بعد ذلك بالمسيو «…» لأعينه على وضع النص الفرنسي … فما قولك؟
فتفكر الرجل لحظة … ثم قال: لا أستطيع أن أعدك بشيء … ينبغي أن أتدبر الأمر مع المصور والمساعدين … لأرى إذا كان في الإمكان مباشرة العمل بغير الحوار في بعض الأجزاء فنتجنب العطلة الطويلة.
ونهض وانصرف على أن يذهب إلى الريف في صباح الغد الباكر.