الفصل الثاني
بلغْنا الفندق … فأومأت إلى أحد الخدم الواقفين ببابه … فأقبل نحوي … وهو نوبي أمين اعتاد أن يقوم بخدمتي ويُعنى بأمري، واعتدت أن أسخوَ عليه وأبذل له في العطاء … فلما دنا مني أريته الجحش في يد «السمسار» … وطلبت إليه همسًا أن يحمله بين ذراعيه ويصعد به «سلم الخدم» ويضعه خفيةً في حمام حجرتي … فحملق الرجل في وجهي بعينيه … فأخرجت من جيبي قطعة فضية دسستها في كفه، أفاقته من عجبه، وهيأته لصنع المستحيل … فأطبق على الجحش واحتضنه وذهب به وهو يتلفت يمينًا وشمالًا خشية أن يراه من يشي به لدى مدير الفندق.
ونظرت إلى بائع الصحف فرأيته يفرك كفيه في انتظار الأجر … فدفعت إليه هو الآخر قطعة فضية لثمها سرورًا … وانصرف وهو يرفع يديه إلى السماء ويقول: ربنا يهنِّيك به! … ربنا يبقيه لك! … ربنا ما يحرق لك عليه كبد!
وغاب عن عيني في منعطف الطريق … وأنا أنظر إليه ولا أدري إن كان يسخر مني أم يقول جدًّا.
ودخلت الفندق من بابه الكبير الدائر ووقفت في البهو قليلًا أتصفح وجوه النازلين فيه من سائحين وسائحات، ثم ارتقيت بالمصعد إلى حجرتي في الطابق الخامس، ودخلتها فألفيتها كما تركتها، كل شيء فيها قائم في مكانه على أحسن ترتيب … كتبي وورقي فوق المكتب وملابسي في الخزانة وفوق المشجب … و«جراموفوني» وأسطواناتي … وأواني الزهر فوق المناضد … وأصص الورد على حاجز الشرفة … لا شيء مطلقًا يدل على أن في هذا المكان «دابة ركوب» … واتجهت إلى الباب الصغير الموصل إلى الحمام الملحق بحجرتي وفتحته وإذا أنا أمام الجحش واقفًا رزينًا مطرقًا على عادته … فتأملته لحظة في إعجاب، ثم تركته إلى هدوئه وصفائه، وعدت إلى الحجرة وضغطت على زر الجرس ثم ارتميت في مقعدي الكبير إلى جوار باب الشرفة … وما لبث بابي أن طُرق عليَّ … ثم ظهر خادم الطابق.
فابتدرته قائلًا: واحد قهوة لي، وواحد لبن ﻟﻟ … وأشارت عيني على الرغم مني إلى جهة الحمام … ولكني لم أستطع أن أُتم الكلام … فهذا الخادم ليس عنده بعدُ علم بالموضوع.
فقال سائلًا في أدب: لمين!
– ﻟ … بعدين تعرف.
قلتها على عجل وأنا أومئ إليه بيدي لينصرف إلى تلبية الأمر … وذهب الخادم ثم عاد بعد قليل يحمل صينية جميلة من «الكريستوفل» عليها فنجانان نظيفان وإبريقان لامعان … ووضع أحد الفنجانين مع إبريق القهوة أمامي ثم وضع الآخر مع إبريق اللبن تجاهي وجذب كرسيًّا من ركن الحجرة وضعه أمام الفنجان الثاني، فما تمالكت نفسي من الابتسام … وخرج الرجل وأغلق خلفه الباب في لباقة وكل شيء فيه يدل على أنه قد فهم … فهم ما قد يخطر على بال خادم فندق اعتاد أن يحضر «طلبات» المواعيد اللطيفة، في الخلوات الظريفة.
وما كدت أخلو إلى نفسي، حتى أسرعت إلى الحمام بفنجان من اللبن وضعته على «سجاد الفلين» تحت فم الجحش … وانتظرت أن يرشف هذا الصديق من اللبن رشفة أو رشفتين … فإذا هو جامد لا يتحرك وإذا عيناه تنظران إلى الفنجان في غير اكتراث … كما تنظر عين الزاهد إلى لذات الحياة … فعجبت وقلت في نفسي: هذا مستحيل … مهما يبلغ زهد هذا الفيلسوف فإن فنجانًا من اللبن لا يعد من الترف في شيء، ولا أحسب بعدُ أن هذا المخلوق الصغير يستطيع أن يتحمل الصوم وقتًا طويلًا … لا بد من علةٍ في الأمر … وأعجزني معرفة السبب … فأنا حديث عهد بمعرفة طباع هذا النوع الطريف من المخلوقات؛ فإن جُلَّ معارفي منحصرة في ذلك النوع المبتذل الذي يسمونه النوع «الإنساني» … وهو على ما رأيت منه لا يأبى مطلقًا التهام ما يقدم إليه مما يؤكل ومما لا يؤكل … حتى لحم أخيه … وهو دائمًا جوعان … عطشان إلى شيء … وهو لا يصنع شيئًا إلا لغاية ومأرب، حتى صلاته وصيامه … ورأيت آخر الأمر أن أسترشد بالحلاق؛ فهو فيما خُيل إليَّ عليم بما لا أعلم من هذا الأمر … فتركت حجرتي وهبطت إلى الطريق سريعًا … ومشيت إلى حانوت الحلاق … وإذا بي أعثر «بالسمسار» فما كاد يراني حتى صاح بي باسمًا: إزاي حال «اسم الله عليه»؟
فضحكت وقلت له: اسمع يا … إنت اسمك إيه؟
– محسوبك دسوقي.
– اسمع يا دسوقي … إنت مش قلت إنه يشرب لبن؟
– معلوم يشرب لبن.
– وإيه رأيك إنه مارضاش حتى يلتفت للفنجان!
فحملق الرجل في وجهي وقال: فنجان؟!
فقلت: أيوة … طلبت له واحد لبن.
فقاطعني الرجل صائحًا: طلبت له واحد لبن! … هو من غير مؤاخذة سواح من السواحين! … دا يا سيدنا البك جحش ابن يومين بالكتير بيرضع من بز أمه … دا لازم له من غير مؤاخذة «بزازة» من الأجزاخانة!
فأدركت في الحال مقدار جهلي وغباوتي وقلت: آه، صحيح … عندك حق!
وتركته … وأسرعت إلى أجزاخانة قريبة فدخلتها وطلبت من فوري «بزازة».
فسألني الأجزجي: الولد عمره أد إيه؟
فارتبكت وقلت: والله … مش ولد.
فقال الأجزجي: البنت.
– ولا بنت.
فحملق الرجل في وجهي كالمخاطب لنفسه: لا ولد ولا بنت! … يبقى إيه … فيه نوع ثالث جديد ما اعرفوش؟!
فأردت أن أوفر عليه مئونة العجب فبادرت قائلًا: هو في الحقيقة.
– آه مفهوم … مش ابن حضرتك.
– ابني؟! … طبعًا لا، مش ابني، دا جحش صغير.
– جحش؟ … آه … أنا آسف … لا مؤاخذة!
وظهر على الأجزجي الحرج وأسرع يحضر لي ما طلبت، وقدم إليَّ زجاجة كبيرة في طرفها ثدي من المطاط وقال: دي بزازة كبيرة تنفع لجحش كبير.
لا مؤاخذة!
فابتسمت وقلت له: العفو، لا داعي للمؤاخذة.
وأنقدْته الثمن … وخرجت أحمل «البزازة» عائدًا بها إلى الفندق … وصعدت إلى حجرتي … فوجدت بابها مفتوحًا … وذكرت أني تركته كذلك سهوًا عند ذهابي … واتجهت من فوري إلى الحمام، ففطنت إلى أني نسيت إغلاق بابه أيضًا قبل انصرافي … وألقيت من فوري نظرة في أنحاء المكان فلم أجد أثرًا لصاحبي فأسقط في يدي … وحرت في أمري … أين وكيف اختفى؟ … أتراه خُطف أم تسرَّب؟ … وخرجت إلى بهو الطابق … فإذا بي أسمع ضحكات رقيقة تنبعث من إحدى الحجرات … فمشيت نحو الصوت … فألقيت نفسي أمام حجرةٍ بابها مفتوح … وأبصرت الجحش واقفًا أمام مرآة طويلة لخزانة ملابس يتأمل نفسه مليًّا، وإلى جانبه الغادة الشقراء تضحك عن ثغر يسطع نورًا.
لم أدرِ ماذا أصنع … فلزمت موقفي أنظر ولا أنبس إلى أن حانت من الفتاة التفاتة شطر الباب، فرأتني ورأت «البزازة» في يدي … فأدركت ونشطت نحوي تقول: عفوًا يا سيدي … أهو …؟
– نعم يا سيدتي … هو.
وأومأت برأسي إيماءة تفصح عن صلتي بالجحش، فضحكت وأقبلت عليَّ تقول: لقد كاد يحدث ثورة في الطابق منذ قليل ولكنها ثورة لطيفة … لقد جعل يسير في البهو بكل اطمئنان، ويدخل كل حجرة يجد بابها مفتوحًا، ويتجه توًّا إلى كل مرآة يصادفها، فيطيل النظر إلى نفسه … لقد سمعت قاطن الحجرة المجاورة يلفظ صيحة دهش … فقد كان أمام مرآته يعقد رباط رقبته وإذا هو فجأة يرى في المرآة أن بين ساقيه جحشًا … قالت الفتاة ذلك وأغرقت في الضحك … فضحكت أنا أيضًا … ثم سألتها: وكيف استقر به المطاف في حجرتك؟
فأجابت: بعين الطريقة … يبدو لي أنه انطلق من بين قدمَي الجار منفزعًا من صيحته، واتجه إلى بابي، فدخل عليَّ بغير استئذان، وتأمَّل صورته في مرآتي بغير أن يعيرني التفاتًا.
فقلت: يا له من أحمق! … شأن أكثر الفلاسفة! … يبحثون عن أنفسهم في كل مرآة ولا يعيرون الجميلات التفاتًا!
فابتسمت عن ثغرها البديع ابتسامة رضا … وقالت وقد اتخذ وجهها هيئة الجد فجأة: حقًّا لست أدري ما شدة اهتمامه بهذا الأمر.
فقلت: لقد نسي فيما أرى شأن جسده وأنكر أمر «المادة» فهو لم يطعم شيئًا حتى الساعة.
فأشرت إلى «البزازة» في يدي: ألم تقدم له شيئًا من اللبن؟
– قدمت له ذلك فلم يعجبه.
وقصصت عليها ما فعلت، فضحكت مني كما ضحك السمسار من قبل … وقالت: يبدو يا سيدي أنك لم تكن قط أبًا.
فقلت: صدقت فراستك يا سيدتي … ذاك أول عهدي بالأبوة! فمدت يدها نحو «البزازة» وقالت: إذا أذنت فإني أتولى عنك هذه المهمة … فإن المرأة على كلٍّ أحذق … بمثل هذا العمل وأجدر.
إنها منة عظيمة وفضل منك يا سيدتي … لا أنساه.
قلت ذلك وتركت لها الجحش وأداة إطعامه، وقدرًا من اللبن، أمرت بحمله إليها … وانصرفت إلى شأني حامدًا شاكرًا.