الفصل الرابع
أمضيت العقد وقُضي الأمر … وجعل ذلك الرجل الأشقر الأنيق يختلف إليَّ كثيرًا … ولم أعرف على وجه التحقيق وظيفته في ذلك العمل … فهو كما فهمت مخرج ذلك الشريط أو المنوط به إدارة أعماله الفنية … وعلى هذا الاعتبار، رأى أن أخصص له وقتًا نجتمع فيه فحددت له بين الرابعة والسادسة من عصر كل يوم، وهو الوقت الذي يذهب عادة في الاستلقاء على المقعد الكبير … فكان يأتي في هذا الموعد، ونتجاذب حديثًا بسيطًا هينًا في شئون القرية المصرية … أساهم فيه بنصيبي من الكلام وأنا بين النوم واليقظة … فقد كنت قد دعوته إلى الاجتماع في شرفة حجرتي حيث النسيم ينشط الفكر بدلًا من بهو الفندق وقاعات استقباله حيث يشتد الحرُّ في تلك الساعة ويقل الهواء … وبهذا كنت ألزم مقعدي ولا أغير عادتي … على أن فتوري كلما بدأنا الكلام في مسألة الحوار لم يتغير … وجهلي المطبق بتفاصيل القصة التي سُردت عليَّ مرارًا لم يبرح، وكسلي عن مطالعة «السيناريو» حتى النهاية لم أجد له دواءً … ومضى أسبوع على هذه الزيارات والأحاديث … ولم تصنع شيئًا … وخجلت آخر الأمر من موقفي ومن ظرف المخرج وصبره، فقلت له ذات مرة، وأنا أغالب إغفاءةً دهمتني في يوم قيظ وهو أمامي يحلل لي شخصية بطل من أبطال قصته: أرجو المعذرة … إنك لا شك قد يئست مني … كما كدت أيأس من نفسي!
فأجاب في ابتسامة: أنا أيأس؟! … المخرج الذي ييأس لا ينبغي أن يسمى مخرجًا … ما صناعة السينما إلَّا صبر طويل … كلا لا تخشَ شيئًا … إني لن أيأس منك، كل ما في الأمر أني محتاج إلى شيء من الوقت … إن المخرج يجب أن يبدأ دائمًا بنسج الجو الذي يغمر فيه ممثليه وأعوانه … ينبغي أن يسير بهم خطوة خطوة إلى عالم القصة وزمانها ومكانها … ثم عليه بعد ذلك أن يُخضعهم خضوعًا خفيًّا إلى إرادته، كما يحدث في التنويم المغناطيسي.
فقلت له وأنا أتثاءب على الرغم مني.
– حقيقة، ها أنت ذا منذ أسبوع تأتي كل عصر لتنومني!
فالتفت إليَّ في الحال وقال باسمًا: تقصد أي نوع من النوم؟!
– معذرة … إن قصدي بالطبع.
– لا بأس … لا بأس.
– قالها ضاحكًا ثم مضى يقول: قد ننشط أكثر من ذلك لو تركنا هذه الحجرة ووضعنا أنفسنا في المكان الذي ينبغي أن تدور فيه القصة.
ثم أخبرني أنهم قد تخيروا بالفعل قرية صغيرة في طريق البدرشين على بعد نحو نصف ساعة بالسيارة من القاهرة.
وأنهم استأجروا فيها منزلًا جميلًا من طابقين يملكه أحد الأعيان، وهو الآن خالٍ … وقد أرسلوا من أعدَّه إعدادًا مقبولًا حتى يصلح مركزًا عامًّا لأعمال الشريط في الريف، وقال إنه لا بد له من أن يقيم هو نفسه أكثر أيام الأسبوع في ذلك المكان حتى يغمر نفسه في جو الريف، وينتقي مواقع القصة، وينتخب الأشخاص الصالحين من بين الفلاحات والفلاحين … ويجري أبحاثه التمهيدية الخاصة بزوايا التصوير … ثم ختم كلامه قائلًا: لو رافقتنا ولبثت معنا في هذه القرية.
فما تمالكت نفسي … وقلت من فوري: هذا محال … لدي عملي في القاهرة ولا أستطيع التخلف يومًا.
فأطرق الرجل أسفًا … ثم أراد أن يجد لذلك حلًّا فعرض أن يجعل سيارة تأتي وتذهب بي إلى القاهرة كل يوم … عليَّ أن أمضي معهم هناك أكثر الوقت … وجعل يؤكد لي أن أسباب راحتي في ذلك المنزل الريفي موفورة … وأنهم خصصوا لي أجمل الحجرات وذكر لي أن مصور «الكاميرات» وزوجته مقيمان في ذلك المنزل منذ استئجاره وأنهما سعيدان كل السعادة في ذلك المكان.
ومضى في ذلك القول … وأنا لا أريد أن أسمع ما يقول … فإن ذكر الريف والمبيت في الريف يزعجني منذ أن قضيت فيه أعوامًا لا تُنسى من حياتي … إن الصور التي أحملها لحياة الريف مؤلمة أشد الألم … ولئن كنت قد أحببت كثيرًا روح الريف البريئة ونفس الفلاح السمحة الكريمة … فإني كرهت وأكره مظاهر الريف القبيحة وحياة الفلاحين القذرة … فقلت للرجل: لا … لا لزوم لوجودي معكم … يكفيني نسخة القصة أمامي … وأنا أضع حوارها ها هنا على مكتبي … ولكن الرجل مضى في إطراقه … وأدركت من موقفي أن شيئًا آخر غير الحوار يعنيه من أمري وأمر وجودي بقربه دائمًا: هي تلك المعلومات والتفسيرات لأرض وناس يجهلهم، والمشورة الخبيرة التي يظن أني أستطيع أن أمده بها في كل مرحلة من مراحل هذا العمل … ولقد انتهى به الأمر أن أشار إلى ذلك إشارة صريحة، وحزن لموقفي … وطلب إليَّ أن أعينه في عمله بقدر ما أستطيع … لا للاتفاق الذي يربطني بهم، بل للفن، وللصداقة التي بدأ يحسها نحوي … فأثر قوله في نفسي وطفقت أفكر فيما يمكن عمله، فعرضت عليه أن أمضي ليلة الجمعة وصباح الجمعة من كل أسبوع معهم في ذلك الريف … وأن يراسلني أو يخاطبني بالتليفون عن كل ما يعنُّ له خلال الأسبوع، فقبل … وسألته عن موعد الرحيل.
فقال: إذا شئت فمن الخميس المقبل.
أي في عصر ذلك اليوم الذي قابلت فيه الجحش … وهكذا خطر لي أن أصحب معي ذلك اليوم إلى الريف ذلك الرفيق الصغير.