الفصل الخامس
تركت الجحش مع الغادة الشقراء مطمئنًّا واثقًا أنه قد وُضع بين يدين رحيمتين رقيقتين، أتمنى لو أوضع أنا نفسي بينهما … على أني غاليت بعض الشيء ودفعني بغضي لتحمل التبعات، فوطنت العزم على الهروب من وجه الفتاة حتى موعد الرحيل في عصر اليوم، خشية أن ترد عليَّ وديعتي قبل ذلك … فأضطر إلى حمل همها، وأنا أضيق بحمل هموم نفسي … فتركت الفندق … ورأيت أن أتغدى في مطعم بالمدينة ولا أعود إلا في الوقت المناسب.
ووافت الساعة الثالثة فآويت إلى حجرتي، وما كدت أستقر في مقعدي حتى دق التليفون يعلن قدوم المخرج، فدعوته إلى الصعود، فصعد، وإذا هو في ملابس الرحلات: ذلك البنطلون الكاكي القصير والقميص القصير الأكمام، والقبعة الكبيرة المصنوعة من الفل … وابتدرني قائلًا: كل شيء مهيأ للرحيل … والسيارة على باب الفندق في الانتظار.
فنهضت ونظرت إلى هيئتي في المرآة وقلت: منظري بينكم هكذا كالنغمة «النشاز»!
– اصنع مثلي!
– أين لي الآن بهذا الزي.
– تشتريه في الطريق.
– هلم!
وحملت في الحال حقيبتي الصغيرة وكنت قد عددتها وجهزتها في الصباح بما أحتاجه لقضاء ليلة في الخارج وقرعت الجرس أطلب خادم الطابق للنزول بها … فما إن حضر حتى ذكر لي أن الآنسة الشقراء قد قلبت الفندق رأسًا على عقب بحثًا عني.
وأنها تسأل عن حضوري في كل لحظة … فأدركت السبب … والتفت من فوري إلى المخرج قائلًا: لو سمحت أن أصطحب معي صديقًا عزيزًا.
فأجاب المخرج وكان قد سمع الخادم يذكر كلمة «المدمزيل».
– بالطبع … إن حجرتك في منزل الريف تتسع إذا شئت لسريرين!
وابتسم ابتسامة ذات مغزى … ففطنت لمراده … ووجمت قليلًا … ثم بادرت أقول: يحسن بي فيما أظن أن أقدم إليك هذا الصديق … ثم استأذنته لحظة في الذهاب إلى الحجرة المجاورة … فجلس في المقعد الكبير ينتظر عودتي … واتجهت مع الخادم إلى حيث الغادة … فطرقنا بابها في رفق … ففتحت … وما إن رأتني حتى صاحت بي باسمة: أخيرًا ظهرت! … لقد كدت أيأس من ذلك الرجل العجيب الذي ترك لي جحشه واختفى!
– معذرة يا سيدتي … إنما أردت أن أمتع جحشي بعطفك أطول وقت ممكن!
فابتسمت وقالت في قلق وحزن: لم أستطع مع الأسف أن أصنع له شيئًا … وقد سألت عنك لأخبرك أنه رفض كل الرفض أن يشرب اللبن بهذه الطريقة أيضًا … لا بد فيما أرى من أن يرضع من ثدي حمارة ولدت حديثًا … إني أرثي لهذا المسكين! … إنه سيموت حتمًا من الجوع إن لم يُتدارك الأمر سريعًا.
فقلت من فوري: سأدبر له ذلك في الريف … ومن حسن الحظ أنَّا سنرحل الساعة.
قلت ذلك وأنا أبحث بعيني عن الجحش، فأبصرته كما تركته أمام مرآتها الكبيرة يتأمل نفسه دائمًا … في صمت، تأملًا عميقًا … فقلت لها: أتأذنين لي في الانصراف بهذا «الفيلسوف»!
فقالت باسمة: حقًّا … يا له من فيلسوف!
فقلت وأنا أتقدم إليه: أشكرك يا سيدتي بالنيابة عنه … وبالأصالة عن نفسي على حسن ضيافتك … وأخشى أن يكون قد أثقل عليك كما يثقل الفلاسفة أكثر الأحيان على الغيد الحسان.
فقالت وهي تسلمني زمامه: على النقيض، لقد قضيت في صحبته وقتًا لطيفًا.
«جود باي»!
وأشارت بيدها إشارة وداع ظريفة للحيوان الصغير … وتركتها، ودخلت به على المخرج قائلًا: أقدم إليك صديقي.
فنهض الرجل في الحال والتفت فوجد الجحش … فدهش ثم ابتسم، ثم ضحك مسرورًا معجبًا … وأقبل عليه يمسح رأسه الصغير بكفيه … ويقول: مرحبًا به من رفيق! … لا شك أنه مصدر وحيك.
– أرجو ذلك.
– أطوارك تدهشني … ما اسمه؟
– لم أطلق عليه بعدُ اسمًا من الأسماء … لكني أحب لو دعوته «الفيلسوف»، فصاح الرجل: أصبت؛ ما من اسم يصلح له حقًّا غير هذا … هلم أيها «الفيلسوف»!
وأراد الخادم أن ينزل به من سلم الخدم فأبى المخرج إلا أن ينزل معنا … وقاده بنفسه وتقدمنا به إلى المصعد وهبطنا به إلى بهو الفندق أمام الجميع … واخترقنا المكان إلى الباب الدائر وأعين الحاضرين ترمقنا في عجب شديد … ولمحَنا مسيو «…» المدير فلم يصدق عينيه: جحش يسير على رخام بهو الفندق … هذا محال … ولم يدرِ ماذا يصنع … فعاجلته بابتسامة وعاجله صاحبي بابتسامة وانحناءة، والتفت إليه الحاضرون من سادة وسيدات في ابتسام وضحك وسرور.
فما تمالك المدير أن ابتسم مثل الجميع … وأسرعنا نحن إلى الخروج … فوجدنا سيارة كبيرة فيها سيدة في مقتبل العمر رشيقة مليحة، لكنها تضع على عينيها منظارًا ويدل مظهرها على النشاط وحب المخاطرة والرغبة في الانصراف إلى العمل … وهي ترتدي ثياب الرحلات … ثم رأيت في مكان القيادة من السيارة شابًّا مفتول العضلات، قوي الجسم، في ملابس الرحلات أيضًا … قدمهما إليَّ المخرج قائلًا إنهما مساعداه … وقد استقبلانا بالترحاب وخصَّا بعنايتهما «الفيلسوف» حتى كدنا نحن نهمَل إهمالًا مهينًا … وأفسحت «المساعدة» مكانًا أمامها للرفيق الصغير، فوقف في ذلك المكان من السيارة وأطل برأسه خارجًا … واتخذ كل منَّا مقعده» … وانطلقنا حتى بلغنا شارع فؤاد … فوقفنا أمام متجر كبير، أبتاع منه ملابس كملابسهم … ونزلت فاشتريت ما أردت وعدت فوجدت الزحام شديدًا حول السيارة، والمارة متكدسين في حلقة كبيرة ينظرون إلى الجحش وهو يطل عليهم برأسه.
وجاء عسكري المرور فشتَّت شمل الناس، وأنقذنا منهم وصاح فيهم: يالله يا جدعان انفضوا! … جرى إيه؟ … عمركم ما لقيتم حمير راكبة أوتمبيل؟!
فالتفتنا إليه من قلب السيارة وقلنا: متشكرين!
وانطلقنا إلى الجيزة ثم إلى الطريق الزراعي المتجه إلى البدرشين.